المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الحشر بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الحشر) مدنية في قول - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٩

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة الحشر بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الحشر) مدنية في قول

‌سورة الحشر

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الحشر) مدنية في قول الجميع. قال سعيد بن جبير-رضي الله عنه: قلت لابن عباس-رضي الله عنهما: سورة (الحشر) فقال: قل: سورة بني النّضير، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون عليه السلام، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظارا لمحمد صلى الله عليه وسلم، وكان من أمرهم ما نص الله عليه في القرآن. وهي أربع وعشرون آية، وأربعمئة، وخمس وأربعون كلمة، وألف وتسعمئة، وثلاثة عشر حرفا. انتهى. خازن.

هذا؛ وروى ابن عباس-رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الحشر، لم يبق شيء من الجنة، والنار، والعرش، والكرسيّ، والسموات، والأرض، والهوام، والرّيح، والسحاب، والطير، والدوابّ، والشجر، والجبال، والشمس، والقمر، والملائكة، إلا صلّوا عليه، واستغفروا له، فإن مات من يومه، أو من ليلته؛ مات شهيدا» . خرجه الثعلبي.

وخرج الثعالبي عن يزيد الرقاشي، عن أنس-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ آخر سورة الحشر: {لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ} إلى آخرها فمات من ليلته مات شهيدا» .

وروى الترمذي عن معقل بن يسار-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يصبح ثلاث مرّات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر؛ وكّل الله به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتّى يمسي، وإن مات في يومه؛ مات شهيدا، ومن قرأها حين يمسي؛ فكذلك» . قال: حديث حسن غريب. انتهى. قرطبي.

بسم الله الرحمن الرحيم

{سَبَّحَ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}

الشرح، والإعراب لا حاجة إلى المزيد عما ذكرته في الاية رقم [1] من سورة (الحديد).

{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2)}

الشرح، قال المفسرون: نزلت هذه السورة في بني النضير، وهم طائفة من اليهود، وذلك:

ص: 585

أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما دخل المدينة صالحه بنو النّضير، وغيرهم من قبائل اليهود على أن لا يقاتلوه، ولا يقاتلوا معه، فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما وقعت غزوة بدر، وانتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على المشركين؛ قال بنو النّضير: والله إنه النبي الأمي، الذي نجد نعته في التوراة، لا ترد له راية، فلما حصلت غزوة أحد، وهزم المسلمون؛ ارتابوا، وأظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركب كعب بن الأشرف (عربي تهود) في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة، فأتوا قريشا، فحالفوهم، وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد صلى الله عليه وسلم، ودخل أبو سفيان في أربعين من قريش، وكعب بن الأشرف في أربعين من اليهود المسجد الحرام، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين أستار الكعبة، ثم رجع كعب-أخزاه الله- وأصحابه إلى المدينة، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما تعاقد عليه كعب، وأبو سفيان، وأمره بقتل كعب بن الأشرف، فقتله محمد بن مسلمة-رضي الله عنه-غيلة.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية الرجلين المسلمين، اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري-رضي الله عنه-في منصرفه من بئر معونة، فهموا بطرح حجر على النبي صلى الله عليه وسلم من الحصن، فعصمه الله منهم، وأخبره بذلك، وقد تقدمت القصة في سورة (المائدة) فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير، وكانوا بقرية يقال لها: زهرة، فلما سار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف، فقالوا: يا محمد! واعية على إثر واعية، وباكية على إثر باكية؟! قال:«نعم» . فقالوا: ذرنا نبك شجونا، ثم ائتمر أمرك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«اخرجوا من المدينة» . فقالوا: الموت أحب إلينا من ذلك، ثم تنادوا بالحرب، وأذّنوا بالقتال، ودسّ المنافقون عبد الله بن أبيّ وأصحابه ألاّ تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم؛ فنحن معكم، ولا نخذلكم، ولننصرنكم، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم، فدرّبوا على الأزقة، وحصّنوها.

ثم إنهم أجمعوا على الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا إليه أن اخرج إلينا في ثلاثين رجلا من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حتى نلتقي بمكان نصف بيننا وبينك، فيسمعوا منك، فإن صدقوك، وآمنوا بك؛ آمنا كلنا، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثين من أصحابه، وخرج إليه ثلاثون حبرا من اليهود، حتى كانوا في براز من أصحابه، فقال بعض اليهود لبعض: كيف تخلصون إليه، ومعه ثلاثون رجلا من أصحابه، كلهم يحب الموت قبله، ولكن أرسلوا إليه كيف نفهم، ونحن ستون؟ اخرج في ثلاثة من أصحابك، ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا، فيسمعون منك، فإن آمنوا بك؛ آمنا بك، وصدقناك.

فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة من أصحابه، وخرج ثلاثة من اليهود، معهم الخناجر، وأرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير، إلى أخيها، وهو رجل من

ص: 586

الأنصار، فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أخوها سريعا حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فسارّه بخبرهم، قبل أن يصل إليهم، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان من الغد؛ صبحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب، فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح، فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به، فقبلوا ذلك، فصالحهم على الجلاء. وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من أموالهم، إلا الحلقة، (وهي السلاح) وعلى أن يخلوا لهم ديارهم، وعقارهم وسائر أموالهم.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: على أن يحمل كل أهل بيت على بعير ما شاؤوا من متاعهم، وللنبي صلى الله عليه وسلم ما بقي. وقيل: أعطى كل ثلاثة نفر بعيرا، وسقاء، ففعلوا، وخرجوا من ديارهم إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام، إلا أهل بيتين منهم: آل أبي الحقيق، وآل حيي بن أخطب، فإنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة بالحيرة، فذلك قوله عز وجل:{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ} يعني بني النّضير، {مِنْ دِيارِهِمْ} يعني: التي كانت لهم في المدينة. قال ابن إسحاق: كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وفتح قريظة مرجعه من الأحزاب، وبينهما سنتان. انظر فتح موطن بني قريظة في سورة (الأحزاب) تجد ما يسرك ويثلج صدرك.

{لِأَوَّلِ الْحَشْرِ:} الحشر الجمع. قال تعالى في سورة (النمل) رقم [17]{وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ..} . إلخ.

و (يحشرون) بالياء، والتاء في كثير من الايات بمعنى: يساقون، ويجمعون، والمراد بأول الحشر هنا: طردهم وإجلاؤهم من المدينة المنورة إلى بلاد الشام، وغيرها، والمراد بالحشر الثاني: طردهم من خيبر، وجميع الجزيرة العربية في عهد عمر-رضي الله عنه-إلى أذرعات، وأريحا، وغيرها. وقيل: ما تقدم هذا أول الحشر من المدينة، ونحوها، والحشر الثاني: نار تحشرهم يوم القيامة من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا.

والمعتمد الأول.

{ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا:} لشدة بأسهم، ووثاقة حصونهم، وكثرة عددهم، ووفرة عدتهم.

خرجوا؛ وهم مهانون ذليلون. {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ} أي: وظن بنو النضير: أن حصونهم الحصينة تمنعهم من بأس الله، وتدفع عنهم عذابه، وانتقامه. هذا؛ وحصونهم هي:

الوطيح، والنّطاة، والسلالم، والكتيبة. وفي قوله:{ما ظَنَنْتُمْ..} . إلخ طباق السلب. {فَأَتاهُمُ اللهُ} أي: أمر الله، وعذابه، وعقابه. {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا:} من حيث لم يظنوا، ولم يخطر ببالهم، وفي كثير من الايات قوله تعالى:{وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} . {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} أي: الخوف الشديد بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، وقذفه: إثباته في قلوبهم.

وفي البخاري ومسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب من مسيرة شهر» . فكيف لا ينصره بالرعب مسيرة ميل من المدينة المنورة إلى محلة بني النضير؟ وهذه خصّيصى لمحمد صلى الله عليه وسلم دون غيره.

ص: 587

{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} قال الزهري: وذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالحهم على أن لهم ما أقلت الإبل، كانوا ينظرون إلى الخشب في منازلهم، فيهدمون، وينزعون منها ما استحسنوه منها، فيحملونه على إبلهم، ويخرب المؤمنون باقيها. وقيل: كانوا يقلعون العمد، وينقضون السقوف، وينقبون الجدران، لئلا يسكنها المؤمنون حسدا منهم، وبغضا. وقيل: كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها، ويخربها اليهود من داخلها، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: كانوا كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها، لتتسع لهم المقاتل، وجعل أعداء الله ينقبون دورهم من أدبارها، فيخرجون إلى التي بعدها، فيتحصنون فيها، ويكسرون ما يليهم، ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. خازن. فإن قيل: ما معنى قوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} الذي هو مال النظم؟ أجيب بأنهم لما عرّضوا المؤمنين لذلك، وكانوا السبب فيه صاروا كأنهم أمروهم به، وكلفوهم إياه. انتهى. جمل نقلا من الخطيب. وفي القرطبي: وكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير في ربيع الأول أول السنة الرابعة من الهجرة، ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: سفيان بن عمير، وسعيد بن وهب، أسلما على أموالهما، فأحرزاها.

{فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} أي: اتعظوا يا أصحاب العقول، والألباب، فيكون {الْأَبْصارِ} جمع: بصيرة، وهو غير معروف في اللغة؛ لأن جمع البصيرة: بصائر، فالأولى اعتباره جمع:

بصر بمعنى العلم، والمعنى: تأملوا فيما نزل بهؤلاء، أو السبب الذي استحقوا به ذلك العقاب، فاحذروا أن تفعلوا مثل فعلهم، فتعاقبوا بمثل عقوبتهم، وهو دليل على جواز القياس. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة، لا محل لها. وقيل: حالية. ولا وجه له. {أَخْرَجَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {الَّذِينَ:} مفعول به، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْ أَهْلِ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و {مِنْ} بيان لما أبهم في الموصول. وقيل: متعلقان بفعل محذوف، تقديره:

أعني، والأول أقوى، و {أَهْلِ} مضاف، و {الْكِتابِ} مضاف إليه. {مِنْ دِيارِهِمْ:} متعلقان ب: {أَخْرَجَ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {لِأَوَّلِ:} متعلقان ب: {أَخْرَجَ} أيضا، واللام بمعنى: عند، و (أول) مضاف، و {الْحَشْرِ} مضاف إليه.

{ما:} نافية. {ظَنَنْتُمْ:} فعل، وفاعل. {أَنْ يَخْرُجُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» ، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤول من:{أَنْ يَخْرُجُوا:} في محل

ص: 588

نصب سد مسد مفعولي {ظَنَنْتُمْ،} والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَظَنُّوا:} الواو: حرف عطف. (ظنوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله. {أَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {مانِعَتُهُمْ:} خبر (أنّ). {حُصُونُهُمْ:} فاعل ب: {مانِعَتُهُمْ} . هذا؛ ويجوز اعتباره مبتدأ مؤخرا، و {مانِعَتُهُمْ} خبرا مقدما، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (أنّ)، والهاء في محل جر بالإضافة وأن واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي (ظنوا)، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب: {مانِعَتُهُمْ} .

{فَأَتاهُمُ:} (الفاء): حرف عطف. (أتاهم): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والهاء مفعول به. {اللهِ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{مِنْ حَيْثُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {حَيْثُ} مبني على الضم في محل جر. {لَمْ يَحْتَسِبُوا:}

فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {حَيْثُ} إليها. {وَقَذَفَ:} الواو: حرف عطف. (قذف): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {فِي قُلُوبِهِمُ:} متعلقان بما قبلهما. {الرُّعْبَ:} مفعول به، وجملة: (قذف

) إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{يُخْرِبُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، وقال البيضاوي، مفسرة ل:{الرُّعْبَ} . {بُيُوتَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِأَيْدِيهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، {وَأَيْدِي:} معطوف عليه مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء للثقل، و (أيدي) مضاف، و {الْمُؤْمِنِينَ} مضاف إليه مجرور

إلخ. {فَاعْتَبِرُوا:} (الفاء): هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ما ذكر واقعا، وصحيحا؛ {فَاعْتَبِرُوا}. (اعتبروا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل؛ لأنها جواب للشرط المقدر ب:«إذا» . (يا): أداة نداء تنوب مناب أدعو. (أولي): منادى مضاف منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و (أولي) مضاف، و {الْأَبْصارِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية الندائية، لا محل لها كالجملة الفعلية قبلها.

{وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النّارِ (3)}

الشرح: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ:} قضى، وقدر الله عليهم الخروج من ديارهم.

{لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا} أي: في القتل والأسر، كما فعل ببني قريظة بعد سنتين، وقد علم الله أنهم

ص: 589

يبقون مدة، فيؤمن بعضهم، ويولد لهم من يؤمن. {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النّارِ} أي: سواء قتلوا، أو لم يقتلوا؛ فلهم عذاب جهنم المؤبد، الذي لا يخرجون منه. وهذا إن ماتوا على كفرهم.

قال الإمام الفخر الرازي: الجلاء أخص من الخروج؛ لأنه لا يكون إلا للجماعة، والإخراج يكون للجماعة، والواحد. وقال بعضهم: الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج لا يتقيد بذلك. وفي المختار: الجلاء بالمد والفتح: الأمر الجلي، تقول منه: جلا الخبر، يجلو جلاء: وضح. والجلاء أيضا: الخروج من البلد، والإخراج أيضا، وقد جلوا عن أوطانهم، وجلاهم غيرهم يتعدى، ويلزم. انتهى. جمل. هذا؛ وخذ قول سحيم بن وثيل الرياحي، وهو الشاهد رقم [289] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» . [الوافر] أنا ابن جلا وطلاع الثّنايا

متى أضع العمامة تعرفوني

الإعراب: {وَلَوْلا:} (الواو): حرف استئناف. (لولا): حرف امتناع لوجود. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {كَتَبَ:} فعل ماض في محل نصب ب: {أَنْ} . {اللهُ:} فاعله. {عَلَيْهِمُ:}

جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْجَلاءَ:} مفعول به، و {أَنْ} والفعل {كَتَبَ} في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ، والخبر محذوف؛ أي: ولولا الكتب موجود. والأولى: ولولا كتب الجلاء عليهم موجود. {لَعَذَّبَهُمْ:} اللام: واقعة في جواب (لولا). (عذبهم): فعل ماض، والهاء في محل نصب مفعول به، والفاعل يعود إلى الله، والجملة الفعلية جواب (لولا) لا محل لها، و (لولا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {وَلَهُمْ:} الواو: حرف استئناف. (لهم):

جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِي الْآخِرَةِ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. {عَذابُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {النّارِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)}

الشرح: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ} أي: ذلك الجلاء، والعذاب بسبب: أنهم خالفوا الله، وعادوه، وعصوا أمره، وارتكبوا ما ارتكبوا من جرائم، ونقض للعهود في حق رسوله. {وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ:} هذا وعيد، وتهديد، وفحواه: أن ما وقع بهم في الدنيا من الطرد، والإخراج من المدينة المنورة شيء قليل بجانب ما أعد الله لهم في الاخرة من العذاب الأليم، والعقاب الشديد. هذا؛ و {يُشَاقِّ} هنا بالإدغام. وفي سورة (الأنفال) رقم [13] بالفك، وقرئ هنا بالفك، وفي (الأنفال) بالإدغام أيضا، ففي الايتين قراءتان: الفك، والإدغام. ولم أر من تعرض للفرق بينهما، ولا أرى سوى: أنهما قراءتان، والقراءة توقيفية، والقواعد النحوية تجيز في المضارع المضعف المجزوم بجازم الفك، والإدغام. هذا؛ وللشقاق معنيان: أحدهما: الخلاف

ص: 590

كما في هذه الاية، ومنه قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [35]:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما..} .

إلخ. والثاني: العداوة مثل قوله تعالى في سورة (هود) رقم [89]: {وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي..} .

إلخ، وقوله تعالى في سورة (الحج) رقم [53]:{وَإِنَّ الظّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ،} وقوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [176]{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} .

الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {بِأَنَّهُمْ:} (الباء): حرف جر. (أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {شَاقُّوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:}

منصوب على التعظيم. {وَرَسُولَهُ:} الواو: حرف عطف. (رسوله): معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{شَاقُّوا..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ؛ أي: ذلك وقع بهم بسبب كونهم شاقوا

إلخ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{وَمَنْ:} (الواو): حرف استئناف. وقيل: عاطفة، والأولى أولى. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُشَاقِّ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وحرك بالكسرة على أصل التقاء الساكنين، وقرئ بالفك في سورة (الأنفال) رقم [13]، والفاعل يعود إلى (الله). {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {فَإِنَّ:} (الفاء): واقعة في جواب الشرط. (إنّ):

حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {شَدِيدُ:} خبرها، وهو مضاف، و {الْعِقابِ} مضاف إليه، من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها؛ إذ التقدير: شديد عقابه، والجملة الاسمية:{فَإِنَّ..} .

إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. هذا؛ وقد اختلف في خبر المبتدأ، الذي هو (من) فقيل: هو جملة الشرط. وقيل:

هو جملة الجواب، وقيل: هو الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين. هذا؛ ولا بد من تقدير رابط في جملة الجواب؛ أي: شديد العقاب له. هذا؛ وإن اعتبرت الجواب محذوفا، التقدير:

من يشاق الله؛ يعاقبه، فتكون الجملة الاسمية:{فَإِنَّ اللهَ..} . إلخ مفيدة للتعليل، لا محل لها.

{ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)}

الشرح: سبب نزول هذه الاية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل ببني النضير، وتحصنوا بحصونهم؛ أمر بقطع نخيلهم، وإحراقها، فجزع أعداء الله عند ذلك، وقالوا: يا محمد زعمت: أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر، وقطع النخل؟! وهل وجدت فيما زعمت: أنه أنزل عليك الفساد في الأرض؟! فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم، وخشوا أن يكون ذلك فسادا،

ص: 591

واختلفوا في ذلك، فقال بعضهم: لا تقطعوا، إنه مما أفاء الله علينا، وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعه، فأنزل الله هذه الاية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم، وأن ذلك كان بإذن الله؛ أي: بأمره، فعن ابن عمر-رضي الله عنهما. قال: حرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير، وقطع، وهي البويرة، فنزل قوله تعالى:{ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} . البويرة: اسم موضع لبني النضير، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت-رضي الله عنه:[الوافر] وهان على سراة بني لؤيّ

حريق بالبويرة مستطير

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: النخل كلها لينة ما خلا العجوة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع نخلهم إلا العجوة، وأهل المدينة يسمون ما خلا العجوة من التمر: الألوان. وقيل: النخل كلها لينة إلا العجوة والبرنيّة. وقيل: اللينة: النخل كلها من غير استثناء، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: في رواية أخرى عنه: هي لون من النخل. وقيل: كرام النخل. وقيل: هي ضرب من النخل يقال لتمرها: اللون، وهو شديد الصفرة، ويرى نواه من خارجه، يغيب فيه الضرس، وكان من أجود تمرهم، وأعجبه إليهم، وكانت النخلة الواحدة ثمنها ثمن وصيف، وأحب إليهم من وصيف، فلما رأوا المسلمين يقطعونها شق عليهم ذلك، وقالوا للمؤمنين: إنكم تكرهون الفساد، وأنتم تفسدون، دعوا هذا النخل قائما، فهو لمن غلب عليه، فأخبر الله: أن قطعها كان بإذنه. انتهى. خازن بحروفه. هذا؛ وياء: {لِينَةٍ} منقلبة عن واو لكسر ما قبلها، كالديمة.

روي: أن رجلين كانا يقطعان، أحدهما يقطع العجوة، والاخر اللون، فسألهما الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما: تركتها لرسول الله، وقال الاخر: قطعتها غيظا للكفار، فلم ينكر عليهما النبي صلى الله عليه وسلم عملهما. وقد استدل به على جواز الاجتهاد، وعلى جوازه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهما بالاجتهاد فعلا. واحتج به من يقول: كل مجتهد مصيب. انتهى. كشاف، وقرطبي بتصرف.

{وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ} أي: ليذل بني النضير، ويهينهم لخروجهم عن طاعة الله، ومخالفتهم، ومحاربتهم لرسوله. هذا؛ والفعل (يخزي) من الإخزاء، وهو الإذلال. قال ذو الإصبع العدواني (شاعر جاهلي):[البسيط] لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب

عني، ولا أنت ديّاني فتخزوني

هذا هو الشاهد رقم [260] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ، ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه: يخاطب به من هشم وجه النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد: [الطويل] فأخزاك ربّي يا عتيب بن مالك

ولقاك قبل الموت إحدى الصّواعق

مددت يمينا للنّبيّ تعمّدا

ودمّيت فاه قطّعت بالبوارق

وهو على هذا من: الرباعي من أخزى، يخزي، وهو من الثلاثي: خزي، يخزى خزابة بمعنى: استحيا، وخجل. قال نهشل بن حريّ الدارميّ من قصيدة يرثي بها أخاه مالكا، وكان قد

ص: 592

قتل بصفين مع الإمام علي، كرم الله وجهه، وهذا هو الشاهد رقم [324] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل] أخ ماجد لم يخزني يوم مشهد

كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه

ومصدره: خزي، يخزى خزاية. قال ذو الرمة:[البسيط] خزاية أدركته بعد جولته

من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب

هذا؛ و {قائِمَةً} أصله: قاومة؛ لأنه اسم فاعل من: قام، يقوم، فقلبت الواو ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها، ولم يعتد بالألف الزائدة لكونها حاجزا غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية منهما همزة. ومثله قل: في بائع، فإنه أصله: بايع.

الإعراب: {ما:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب مفعول به لفعل شرطه؛ إذ التقدير: أي شيء قطعتم

فبإذن الله. {قَطَعْتُمْ:} ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. {مِنْ لِينَةٍ:} متعلقان بمحذوف حال من {ما،} و {مِنْ} بيان لما أبهم فيها. {أَوْ:} حرف عطف. {تَرَكْتُمُوها:}

فعل، وفاعل، ومفعوله الأول، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {قائِمَةً:}

مفعول به ثان، وفاعله مستتر فيه. {عَلى أُصُولِها:} متعلقان ب: {قائِمَةً،} و (ها) في محل جر بالإضافة. {فَبِإِذْنِ:} (الفاء): واقعة في جواب الشرط. (بإذن): متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: فقطعها بإذن، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، و (إذن) مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله. {وَلِيُخْزِيَ:} (الواو): حرف عطف. (ليخزي): مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى الله. {الْفاسِقِينَ:} مفعول به، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف معطوف على ما قبله التقدير: وقطعتم، أو أذن لكم في القطع لإخزائهم. أو هما متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: وقطعها، أو إذنه بقطعها؛ لإخزائهم. وهو أولى؛ ليكون العطف عطف جملة اسمية على مثلها.

{وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)}

الشرح: {وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ} أي: وما أعاده عليه، بمعنى: صيره له، أو ردّه عليه، فإنه كان حقيقا بأن يكون له؛ لأنه تعالى خلق الناس لعبادته، وخلق ما خلق في الدنيا لهم،

ص: 593

ليتوسلوا به إلى طاعته، فهو جدير بأن يكون للمطيعين؛ والنبي صلى الله عليه وسلم رأسهم، ورئيسهم، وبه أطاع من أطاع، فكان أحق به. {مِنْهُمْ:} من بني النضير، أو من الكفرة. {فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ:}

أوضعتم عليه، والإيجاف: الإيضاع في السير، وهو الإسراع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الإفاضة من عرفات:«ليس البرّ بإيجاف الخيل ولا إيضاع الإبل على هينتكم» . يقال: وجف الفرس: إذا أسرع، وأوجفته أنا؛ أي: حركته، وأتعبته. ومنه قول تميم بن مقبل:[الطويل] مذاويد بالبيض الحديث صقالها

عن الركب أحيانا إذا الرّكب أوجفوا

{مِنْ خَيْلٍ:} الخيل: اسم جمع لا واحد له من لفظه، ويجمع على: خيول، والخيل مؤنثة؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الادميين، مثل: خيل، وغنم، وإبل؛ فالتأنيث لها لازم، وإذا قالوا: خيلان، وغنمان، وإبلان، فإنما يريدون قطيعين من الخيل، والغنم، والإبل، وسميت الخيل خيلا لاختيالها في مشيها؛ أي: فإنها تمشي مشية المختال؛ أي: المتكبر.

{وَلا رِكابٍ:} الركاب: الإبل، واحدتها: راحلة من غير جنسها؛ أي: إنه اسم جمع لا واحد له من لفظه. وقيل: واحدتها ركوبة، والركب: أصحاب الإبل في السفر دون الدواب، وهم العشرة فما فوقها، والركبان: الجماعة منهم. قال القحيف العقيلي وهذا هو الشاهد رقم [173] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» : [الوافر] فما رجعت بخائبة ركاب

حكيم بن المسيّب منتهاها

{وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ} أي: إن سنة الله تعالى جارية على أن يسلط رسله على من يشاء من أعدائه تسليطا غير معتاد من غير أن يقتحموا مضايق الخطوب، ويقاسوا شدائد الحروب. {مَنْ يَشاءُ} أي: من أعدائه يقذف الرعب في قلوبهم. {وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ:}

قادر، مقتدر، فيفعل ما يشاء من انتقام من أعدائه، ومن إمهال لهم إلى الاخرة. ومعنى الاية:

أن ما خوّل الله رسوله من أموال بني النضير شيء، لم تحصّلوه بالقتال، والغلبة، ولكن سلطه الله عليهم، وعلى ما في أيديهم، كما كان يسلط رسله على أعدائهم. فالأمر فيه مفوض إليه، يضعه حيث يشاء. ومجمل القول: أنه لا يقسم قسمة الغنائم؛ التي قوتل عليها، وأخذت عنوة، وقهرا. وذلك: أنهم طلبوا القسمة، فنزلت الاية الكريمة، وبينات ما ذكر، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئا، إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم: أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصّمة.

عن مالك بن أوس النضري-رضي الله عنه: أن عمر-رضي الله عنه-دعاه؛ إذ جاءه حاجبه يرفأ: فقال: هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير،

ص: 594

وسعد يستأذنون؟ قال: نعم، فأدخلهم. فلبث قليلا، ثم جاء يرفأ، فقال: هل لك في عباس، وعلي يستأذنان؟ قال: نعم، فأذن لهما، فلما دخلا. قال العباس-رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! اقض بيني وبين هذا. (يعني عليا-رضي الله عنه) فقال القوم: أجل يا أمير المؤمنين اقض بينهما، وأرح أحدهما من الاخر-قال مالك بن أوس: يخيل إليّ: أنهم قدّموهم لذلك- فقال عمر: اتئدوا، أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء، والأرض، هل تعلمون: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» يريد بذلك نفسه. قالوا: نعم.

ثم أقبل عمر على العباس، وعلي، وقال: أنشدكما بالله الذي تقوم السماء، والأرض بإذنه، أتعلمان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» ؟ قالا: نعم. قال عمر: إن الله خص رسوله صلى الله عليه وسلم بخاصّة لم يخصص بها أحدا غيره، فقال:{فَما أَوْجَفْتُمْ..} . إلخ فقال: فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير، فو الله ما استأثرها عليكم، ولا أخذها دونكم، فقد أعطاكموها، وقسمها فيكم حتى بقي هذا المال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه نفقة سنة، ثم ما بقي يجعله مجعل مال الله، فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السّماء، والأرض أتعلمون ذلك؟ قالوا: نعم. قال: ثم أنشد عباسا، وعليا بمثل ما نشد القوم أتعلمان ذلك؟ قالا: نعم.

قال: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو بكر: أنا وليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضه أبو بكر، فعمل فيه بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم حينئذ. وأقبل على عليّ وعباس-رضي الله عنهما-وقال:

أتذكران أن: أبا بكر عمل فيه كما تقولان. والله يعلم إنه لصادق، بارّ راشد، تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر، فقلت: أنا وليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فقبضته سنتين من إمارتي أعمل فيهما بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، والله يعلم إني فيه لصادق بارّ راشد، تابع للحق، ثم جئتماني كلاكما؛ وكلمتكما واحدة، وأمركما جميع، فقلت لكما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» . قلتما: ادفعه إلينا، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما. قلت: إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيه بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وما عملت فيه منذ وليت، وإلا فلا تكلماني، فقلتما: ادفعه إلينا بذلك، فدفعته إليكما، أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك، فو الله الذي بإذنه تقوم السماء، والأرض لا أقضي فيه بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة! فإن عجزتما عنه فادفعاه إليّ، فإني أكفيكماه: متفق عليه. انتهى. خازن.

الإعراب: {وَما:} (الواو): حرف استئناف. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَفاءَ اللهُ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: والذي أفاء الله. {عَلى رَسُولِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، العائد على

ص: 595

الموصول، و (من) بيان لما أبهم في الموصول. {فَما:} (الفاء): واقعة في جواب الموصول.

(ما): نافية. {أَوْجَفْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، وزيدت الفاء فيها؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم. هذا؛ ويضعف اعتبار (ما) هنا وفي الاية التالية شرطية. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ:} حرف جر صلة.

{خَيْلٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {وَلا:} (الواو): حرف عطف. (لا): صلة لتأكيد النفي.

{رِكابٍ:} معطوف على لفظ {خَيْلٍ،} والجملة الاسمية (ما أوجفتم

) إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَلكِنَّ:} (الواو): حرف عطف. (لكن): حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها {يُسَلِّطُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لكنّ)، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها، وقيل: في محل نصب حال، ولا وجه له.

{رُسُلَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {عَلى مَنْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والجملة الفعلية صلة {مِنْ،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: على الذي، أو على شخص يشاؤه، {وَاللهُ:}

(الواو): حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {عَلى كُلِّ:} متعلقان ب: {قَدِيرٌ} بعدهما، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {قَدِيرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: (الله

) إلخ مستأنفة، لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال؛ فلست مفندا.

{ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاِتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)}

الشرح: {ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ:} انظر الاية السابقة. {مِنْ أَهْلِ الْقُرى} يعني: من أموال أهل القرى. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هي قرى قريظة، والنضير، وفدك، وقرى عرينة، وينبع. هذا؛ واختلف في قسم الفيء، فقيل: يسدس لظاهر الاية، ويصرف سهم الله في عمارة الكعبة، وسائر المساجد. وقيل: يخمس؛ لأن ذكر الله للتعظيم، ويصرف الان سهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإمام على قول، وإلى العساكر، والثغور على قول، وإلى مصالح المسلمين على قول. وقيل: يخمس خمسه كالغنيمة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم الخمس كذلك، ويصرف الأخماس الأربعة كما يشاء، والان على خلاف المذكور. انتهى. بيضاوي.

وفي القرطبي: وقال قوم، منهم الشافعي: إن معنى الايتين واحد؛ أي: ما حصل من أموال الكفار بغير قتال، قسم على خمسة أسهم: أربعة منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الخمس الباقي على

ص: 596

خمسة أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا، وسهم لذوي القربى، وهم بنو هاشم وبنو المطلب؛ لأنهم منعوا الصدقة، فجعل لهم حق في الفيء، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. وأما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالذي كان من الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف عند الشافعي في قول إلى المجاهدين المترصدين للقتال في الثغور؛ لأنهم قائمون مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي قول آخر له: يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثغور، وحفر الأنهار، والسدود، وبناء القناطر، والجسور، يقدم الأهم فالأهم، وهذا في أربعة أخماس الفيء. فأما السهم الذي كان من خمس الفيء، والغنيمة، فهو لمصالح المسلمين بعد موته صلى الله عليه وسلم بلا خلاف، كما قال صلى الله عليه وسلم:«ليس لي من غنائمكم إلا الخمس، والخمس مردود فيكم» .

وروى ابن وهب عن الإمام مالك رحمه الله في قوله تعالى: {فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ} بني النضير، لم يكن فيها خمس، ولم يوجف عليها بخيل، ولا ركاب، كانت صافية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمها بين المهاجرين، وثلاثة من الأنصار، حسب ما تقدم. وقوله تعالى:

{ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى} هي قريظة، وكانت قريظة والخندق في يوم واحد. قال ابن العربي-رحمه الله تعالى-: قول مالك: إن الاية الثانية في بني قريظة، إشارة إلى أن معناها يعود إلى آية الأنفال رقم [41] ويلحقها النسخ، وهذا أقوى من القول بالإحكام، ونحن لا نختار إلا ما قسمنا، وبينا: أن الاية الثانية لها معنى مجدد، وفائدة جديدة. انتهى. قرطبي.

هذا؛ و {الْقُرى} جمع: قرية، وهي اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم، وهو يطلق على المدينة الكبيرة، وغيرها، كيف لا؛ وقد جعل الله مكة المكرمة أم القرى في قوله تعالى:{وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها} الاية رقم [92] من سورة (الأنعام)؟! كما تطلق على الضيعة الصغيرة، وهي مأخوذة من: قريت الماء في المكان: جمعته، وفي «القاموس المحيط»: القرية: بكسر القاف، وفتحها، والنسبة إليها قرويّ بفتح القاف وكسرها، وقرئيّ، والفتح أقوى. {وَلِذِي الْقُرْبى:} وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، لما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم سهم ذوي القربى عليهما، فقال له عثمان وجبير بن مطعم: هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم، أرأيت بني إخواننا من بني المطلب أعطيتهم، وحرمتنا، وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة، فقال صلى الله عليه وسلم:«إنهم لم يفارقونا في جاهليّة، ولا في إسلام، وشبّك بين أصابعه» . وقيل: هم بنو هاشم وحدهم.

وقيل: جميع قريش، والغني والفقير سواء. وقيل: هو مخصوص بفقرائهم كسهم ابن السبيل.

وانظر آية (الشورى) رقم [23]، وانظر آية (الأنفال) رقم [41] ففيها فضل بيان.

(اليتامى): جمع يتيم، وهو من الحيوان من فقد أمه فقط، ومن بني آدم من فقد أباه، أو أمه، أو فقدهما معا، والمراد بهم هنا: من فقدوا معيلهم، وهو الأب، وهناك يتيم العلم، والعقل، والتربية، والخلق، والدين، وهو أسوأ حالا من الأول، وإن كان قد بلغ من العمر الستين، والسبعين، ويملك من الأموال الملايين، ولله در القائل:[البسيط]

ص: 597

ليس اليتيم الّذي قد مات والده

إنّ اليتيم يتيم العقل والأدب

ومنه من أهمل أبوه، وأمّه تربيته مع كونهما موجودين، وخذ قول الاخر:[الكامل] ليس اليتيم من انتهى أبواه من

همّ الحياة، وخلّفاه ذليلا

إن اليتيم هو الذي تلقى له

أمّا تخلّت أو أبا مشغولا

(ابن السبيل): هو المسافر المنقطع في سفره بسبب نفاد ماله بسرقة منه، أو غيرها، يعطى من مال الفيء، ومن مال الصدقات على أنواعها ما يكفيه مؤونة سفره؛ حتى يصل بلده، وإن كان له مال كثير في بلده. {كَيْ لا يَكُونَ:} مال الفيء. {دُولَةً:} بضم الدال: اسم للشيء الذي يتداول من الأموال. قاله أبو عبيدة وأبو عمرو بن العلاء. تقول: تداول القوم الشيء، وهو في يد هذا تارة، وفي يد ذاك أخرى. قال تعالى في سورة (آل عمران) رقم [140]:{وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ} وجمع دولة: دولات. قال الراجز، وهو الشاهد رقم [282] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الرجز] علّ صروف الدهر أو دولاتها

تديلنا الّلمّة من لمّاتها

هذا؛ والدّولة بفتح الدال: الغلبة، والظفر في الحرب. وقيل: هما بمعنى واحد. قال فروة بن مسيك المرادي، وهو صحابي مخضرم، وهو الشاهد رقم [24] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الوافر] فما إن طبّنا جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا

{دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ} والمعنى: فعلنا ذلك في هذا الفيء، كي لا تقسمه الرؤساء والأغنياء والأقوياء بينهم دون الفقراء، والضعفاء؛ لأن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا؛ أخذ الرئيس ربعها لنفسه، وهو المرباع، ثم يصطفي منها أيضا بعد المرباع ما شاء، وفيها قال شاعرهم، وهو عبد الله بن عنمة الضبي يخاطب بسطام بن قيس:[الوافر] لك المرباع منها والصّفايا

وحكمك والنشيطة والفضول

والنشيطة: ما أصاب الرئيس في الطريق قبل أن يصل إلى مجتمع الحي، والفضول: ما فضل من القسمة مما لا تصح قسمته على عدد الغزاة، كالبعير، والفرس، ونحوهما.

{وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} أي: من مال الفيء، والغنيمة. {وَما نَهاكُمْ عَنْهُ} أي: من الأخذ منه، والغلول وغيره. {فَانْتَهُوا:} وهذا نزل في أموال الفيء، وهو عام في كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، أو نهى عنه من قول، أو عمل، من واجب، أو مندوب، أو مستحب، أو نهي عن محرم، أو مكروه، فيدخل فيه الفيء، وغيره، والمعنى: مهما أمركم به؛ فافعلوه، ومهما نهاكم عنه؛ فاجتنبوه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بخير، ولا ينهى إلا عن شر. هذا؛ والفعل:{آتاكُمُ} وإن

ص: 598

جاء بلفظ الإيتاء، وهو المناولة، فإن معناه الأمر بدليل قوله تعالى:{وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فقابله بالنهي، ولا يقابل النهي إلا بالأمر، والدليل على فهم ذلك ما ذكرناه قبل مع قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا أمرتكم بأمر؛ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء؛ فاجتنبوه» . أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة-رضي الله عنه.

وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: أنه قال: «لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمّصات والمتفلّجات للحسن، المغيّرات خلق الله» . فبلغ امرأة من بني أسد، يقال لها: أم يعقوب، وكانت امرأة تقرأ القرآن، فأتته، فقالت: ما حديث بلغني عنك؟ قلت: كذا، وكذا، وذكرته. فقال عبد الله-رضي الله عنه:(وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله تعالى) فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحيه، فما وجدته فقال: إن كنت قرأته؛ فقد وجدته، أما قرأت:{وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قالت: بلى! قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه. هذا؛ وخذ قوله تعالى في كثير من الايات: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} .

هذا؛ والوشم: غرز العضو من الإنسان بالإبرة، ثم يحشى بكحل، ونحوه. والواشمة: هي التي تفعل ذلك. والمستوشمة: هي الطالبة أن يفعل بها ذلك. والنامصة: هي التي تنتف الشعر.

والمتنمصة: هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك. والمتفلجة: هي التي تتكلف تفريج ما بين ثناياها بصناعة. هذا؛ وفي كتاب «الترغيب والترهيب» للحافظ المنذري أحاديث كثيرة في ترهيب الواصلة، والمستوصلة، والواشمة، والمستوشمة، والنامصة، والمتنمصة، والمتفلجة، وكلها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن أسماء بنت أبي بكر، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة-رضي الله عنهم أجمعين-. هذا؛ ولا تنس المقابلة بين {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وبين {وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .

الإعراب: {ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ:} {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والجملة الفعلية صلتها، والعائد محذوف، التقدير: الذي أفاءه الله على رسوله. هذا؛ وإن اعتبرت {ما} شرطية، فهي مفعول به أول، والفعل {أَفاءَ} فعل شرطها. {مِنْ أَهْلِ:}

متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف العائد على {ما} على اعتبارها موصولة، أو منها نفسها؛ إن كانت شرطية، و (من) بيان لما أبهم فيها على الوجهين، وهناك مضاف محذوف، انظر تقديره في الشرح، و {أَهْلِ} مضاف {الْقُرى:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {فَلِلّهِ:} (الفاء): واقعة في جواب (ما) على اعتبارها شرطية، وصلة على اعتبارها موصولة. (لله): متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: فهو لله، والجملة الاسمية في محل جواب الشرط، أو في محل رفع خبر (ما) على اعتبارها موصولة، وجملة:

{ما أَفاءَ اللهُ} تفسير لسابقتها، أو هي بدل منها، ولذا لم تقترن بعاطف، وانظر ما ذكرته في سورة (يس) رقم [21]. {وَلِلرَّسُولِ:} الواو: حرف عطف. (للرسول): معطوفان على ما قبلهما.

ص: 599

{وَلِذِي:} الواو: حرف عطف. (لذي): معطوفان أيضا، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة. و (ذي) مضاف، و {الْقُرْبى:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، {وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ:} عطف على ما قبلهم، و (ابن) مضاف، و {السَّبِيلِ:} مضاف إليه.

{كَيْ:} حرف مصدري، ونصب. {لا:} نافية. {يَكُونَ:} فعل مضارع ناقص منصوب ب: {كَيْ} واسمه مستتر يعود إلى: «الفيء» . {دُولَةً:} خبر {يَكُونَ} . هذا؛ وقرئ: «(يكون دولة)» برفع دولة على اعتبار الفعل تاما، المعنى كيلا تقع دولة جاهلية، و (كي) والفعل يكون في تأويل مصدر في محل جر بلام تعليل محذوفة، التقدير: لكيلا

إلخ. هذا؛ وأجاز ابن هشام في مغني اللبيب اعتبار {كَيْ} حرف جر، والنصب ب:«أن» مضمرة بعدها. انظر موجز الكلام في: «كي» والشواهد المتعلقة بها في كتابنا: «فتح القريب المجيب» فإن سبقت: «كي» بلام التعليل، لا يجوز تقدير:«أن» بعدها، كما في قوله تعالى:{لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ} رقم [23] سورة (الحديد)، وقوله جل شأنه:{لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ} رقم [37] من سورة (الأحزاب). وعلى الاعتبارين فالجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، التقدير: جعل الله الفئ لمن ذكر لأجل ألاّ يكون لو ترك على عادة الجاهلية دولة. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صفة {دُولَةً،} و {بَيْنَ} مضاف، و {الْأَغْنِياءِ:} مضاف إليه. {مِنْكُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من {الْأَغْنِياءِ،} والجملة المقدرة: «جعل الله الفيء

» إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَما:} (الواو): حرف استئناف. (ما): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب مفعول به ثان مقدم. {آتاكُمُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر في محل جزم فعل الشرط، والكاف مفعول به أول. {الرَّسُولُ:} فاعل. {فَخُذُوهُ:} (الفاء): واقعة في جواب الشرط. (خذوه): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط. هذا؛ وإن اعتبرت (ما) موصولة فالجملة الفعلية بعدها صلتها. وجملة (خذوه) خبرها، وزيدت الفاء في خبره؛ لأنه يشبه الشرط في العموم، والأول أقوى هنا، بخلافه قوله تعالى:{ما أَفاءَ..} . إلخ كما رأيت، والجملة على الاعتبارين مستأنفة، لا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق.

{وَاتَّقُوا:} (الواو): حرف عطف. (اتقوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهُ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {شَدِيدُ:} خبر (إنّ)، وهو مضاف، {الْعِقابِ:}

مضاف إليه من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ مفيدة للتعليل لا محل لها.

ص: 600

{لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ (8)}

الشرح: {لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ} أي: مال الفيء للفقراء المهاجرين؛ الذين تركوا الديار، والأموال، والأوطان حبا لله، ولرسوله، ونصرة لدين الله، أخرجهم الكفار مما ذكر؛ بسبب إيذائهم لهم، ومضايقتهم؛ حتى إن الرجل منهم كان يعصب الحجر على بطنه؛ ليقيم به صلبه من الجوع. {يَبْتَغُونَ:} يطلبون. {فَضْلاً مِنَ اللهِ:} رزقا: غنيمة، وغيرها في الدنيا. {وَرِضْواناً:}

ثوابا في الاخرة مقرونا برضا الله. {وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ:} ببذل أرواحهم، وأموالهم في سبيل الله. {أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ:} في إيمانهم، وقولهم، وفعلهم، ونياتهم.

فعن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنّة بأربعين خريفا» . خرجه مسلم. وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبشروا صعاليك المهاجرين بالنور التّامّ يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم، وذلك خمسمئة سنة!» . أخرجه أبو داود. وهذا في حق فقراء المهاجرين، وهو غير قاصر عليهم بل هو يشمل فقراء المسلمين إلى يوم القيامة. وخذ ما يلي:

فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا» . فقيل: صفهم لنا. قال: «الدّنسة ثيابهم، الشّعثة رؤوسهم، الذين لا يؤذن لهم على السّدات، ولا ينكحون المنعمات، يوكّل بهم مشارق الأرض، ومغاربها، يعطون كلّ الذي عليهم، ولا يعطون كلّ الذي لهم» . رواه الطبراني في الكبير، والأوسط، ومعنى يوكل بهم: نفوسهم خاضعة لله خاشعة، فانية في ذكره.

وينبغي أن تعلم: أن المراد بالفقراء: الصابرون منهم، المؤدون ما أوجب الله، المنتهون عما نهى الله عنه، وأما إذا كان الفقير مهملا ما أوجب الله، ورسوله عليه، وهو كذاب منافق، وهم الكثيرون في هذه الأيام؛ فمأواهم جهنم، وبئس المصير، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«وإنّ أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا، وعذاب الاخرة» . أخرجه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-وأن المراد بالأغنياء: الشاكرون منهم، وهم الذين يكسبون المال من حلال، وينفقونه في حلال، ويؤدون زكاته على الوجه الأكمل، ويمتثلون أوامر الله في كل ما أمر به، وكل ما نهى عنه.

(الفقراء): جمع فقير، وأصله: الذي انكسر فقار ظهره، ثم أطلق على المعدم؛ الذي لا يجد حاجته من المال؛ لأنه يشبه الذي انبتّ ظهره، وعدم الحول، والقوة، وهو أسوأ حالا من

ص: 601

المسكين عندنا معاشر الشافعية، ويدل عليه قوله تعالى في سورة (الكهف):{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ..} . إلخ فسماهم مساكين مع كونهم يملكون سفينة يتجرون فيها، وينقلون بضائع للناس من صقع إلى صقع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله المسكنة، ويتعوذ به من الفقر، فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمّ أحيني مسكينا، وتوفني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين! وإنّ أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدّنيا وعذاب الاخرة» . رواه ابن ماجه، وروى الترمذي مثله عن أنس-رضي الله عنه، والعكس عند أبي حنيفة.

{دِيارِهِمْ:} جمع دار، وهي مأوى الإنسان، ومسكنه في الدنيا، وهي مؤنثة، وقد تذكّر، أصلها: دور بفتحتين، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها، وانفتاح ما قبلها، وجمعها: ديار، ودور، وأدؤر، وأدور، وأدورة، وأدوار، ودورات، وديارات، ودوران، وديران، وأصل ديار دوار، قلبت الواو ياء؛ لأنها وقعت عينا في جمع على وزن فعال لمفرد اعتلت عينه بالقلب. هذا؛ والدار أيضا: البلد، والقبيلة، ودار القرار: الاخرة، والداران: الدنيا والاخرة، ودار الحرب:

بلاد العدو.

هذا؛ وقال أبو حاتم: إن الديار العساكر، والخيام، لا البنيان، والعمران، وإن الدار البنيان، والعمران، وعليه قوله تعالى:{فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ} أي: في عساكرهم، وخيامهم ميتين، وقال جل شأنه:{فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ} أي: في مدينتهم المعمورة، ولو أراد غير ذلك؛ لجمع الدار، فعلم من كلامه: أن الديار مخصوصة بالخيام. انتهى. قال صاحب الخزانة: وهذه غفلة عن قول الشاعر، وهو مجنون ليلى:(أقبل ذا الجدار) وهو حائط البيت، وذلك في قوله:[الوافر] أمرّ على الدّيار ديار ليلى

أقبّل ذا الجدار، وذا الجدارا

وما حبّ الديار شغفن قلبي

ولكن حبّ من سكن الدّيارا

أقول: ولو استشهد بما في هذه الاية، وفي قوله تعالى:{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ} رقم [40] من سورة (الحج)، ومثلها في (الأحزاب) رقم [27]، ومثلها في البقرة [84] و [243] و [246] وغيرها كثير؛ لكان أولى.

أما (أموالهم) فهي جمع: مال. قال ابن الأثير: المال في الأصل يطلق على ما يملك من الذهب، والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى، ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها أكثر أموالهم، وقال الجوهري: ذكر بعضهم: أن المال يؤنث، وأنشد لحسان-رضي الله عنه:

المال تذري بأقوام ذوي حسب

وقد تسوّد غير السّيد المال

ص: 602

وعن المفضل الضبي: المال عند العرب الصامت، والناطق، فالصامت: الذهب، والفضة، والجواهر. والناطق: هو البعير، والبقرة، والشاة. فإذا قلت عن حضري: كثر ماله؛ فهو الصامت. وإذا قلت عن بدوي: كثر ماله فالمراد: الناطق. والنشب: المال الثابت، كالضياع، ونحوها، فلا يقال للمنقول المذكور آنفا: نشب. قال عمرو بن معد يكرب الزبيدي-رضي الله عنه: [البسيط] أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

وانظر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من تواضع لغني لغناه فقد ذهب ثلثا دينه» . في الاية رقم [23].

الإعراب: {لِلْفُقَراءِ:} جار ومجرور بدل من قوله: {وَلِذِي الْقُرْبى} وما عطف عليه. وقيل:

متعلقان بفعل محذوف، تقديره اعجبوا. قاله الجلال. و (الفقراء) صفة لموصوف محذوف.

{الْمُهاجِرِينَ:} صفة ثانية للمحذوف، فهو مجرور، وعلامة جره الياء

إلخ. {الَّذِينَ:} مبني على الفتح في محل جر صفة ثالثة للمحذوف. هذا؛ ويجوز فيه القطع عن الموصوف، على تقدير مبتدأ، أو على تقدير فعل. {أُخْرِجُوا:} ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْ دِيارِهِمْ:}

متعلقان بما قبلهما. {وَأَمْوالِهِمْ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة.

{يَبْتَغُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط. {فَضْلاً:} مفعول به. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب: {فَضْلاً،} أو بمحذوف صفة له. {وَرِضْواناً:} معطوف على {فَضْلاً،} وجملة: {وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {دِيارِهِمْ:} ضمير فصل، لا محل له.

{الصّادِقُونَ:} خبر {أُولئِكَ} . هذا؛ وإن اعتبرت الضمير مبتدأ، و {الصّادِقُونَ} خبرا له؛ فالجملة الاسمية تكون في محل رفع خبر {أُولئِكَ،} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}

الشرح: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ:} المراد بهم: الأنصار الذين توطنوا المدينة، واتخذوها سكنا. {مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: من قبل الفقراء المهاجرين؛ الذين أتوا إليها من مكة. هذا؛ وتبوءوا الدار: اتخذوها منزلا. يقال: بوأته منزلا، وبوأت له، كما يقال: مكنته، ومكنت له،

ص: 603

والمبوأ: المنزل الملزوم. ومنه بوّأه الله منزلا؛ أي: ألزمه إياه، وأسكنه فيه. قال الرسول صلى الله عليه وسلم:

«من كذب عليّ متعمّدا؛ فليتبوأ مقعده من النار» . أخرجه البخاري عن أبي هريرة-رضي الله عنه. هذا؛ ومعنى يتبوأ: ينزل، ويحلل. قال الشاعر:[المنسرح] وبوّئت في صميم معشرها

فتمّ في قومها مبوّؤها

والإيمان لا يتبوأ؛ لأنه ليس بمكان، وفي ذلك تأويلات؛ أحدها: حمله على حذف المضاف، كأنه قيل: تبوءوا الدار ومواضع الإيمان. والثاني: حمله على ما دل عليه «تبوأ» كأنه قال: لزموا الدار، والإيمان، فلم يفارقوهما. والثالث: على تقدير فعل محذوف التقدير:

والذين تبوءوا الدار، واعتقدوا الإيمان، وأخلصوه. وإلى ذلك أشار ابن مالك-رحمه الله تعالى- في ألفيته:[الرجز] والفاء قد تحذف مع ما عطفت

والواو إذ لا لبس وهي انفردت

بعطف عامل مزال قد بقي

معموله دفعا لوهم اتّقي

هذا؛ ومثل هذه الاية قوله تعالى في سورة (الفرقان) رقم [12]: {إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً،} والاية رقم [20] من سورة (الحج): {يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ،} ومن شواهده الشعرية قول الراعي النميري، وهو الشاهد [665] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الوافر] إذا ما الغانيات برزن يوما

وزجّجن الحواجب والعيونا

إذ التقدير: زججن الحواجب، وكحلن العيونا، وقول الاخر، وهو الشاهد رقم [1074] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الرجز] علفتها تبنا وماء باردا

حتّى شتت همّالة عيناها

إذ التقدير: علفتها تبنا، وسقيتها ماء، وأيضا قول لبيد-رضي الله عنه-من معلقته رقم [6]:[الكامل] فعلا فروع الأيهقان وأطفلت

بالجلهتين ظباؤها ونعامها

إذ التقدير: أطفلت ظباؤها، وباضت نعامها، ولولا الإطالة عليك لذكرت لك الكثير من ذلك.

{يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ} وذلك: أنهم أنزلوا المهاجرين في منازلهم، وأشركوهم في أموالهم، وأراد أحدهم أن يتنازل عن إحدى زوجتيه لأخيه المهاجر محبة دينية. {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً} أي: حزازة، وغيظا، وحسدا على المهاجرين. {مِمّا أُوتُوا:} مما أعطوا، وخصوا به من مال الفيء وغيره، وفيه تقدير مضافين محذوفين، المعنى: مسّ حاجة من فقد ما أوتوا. وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة.

ص: 604

وكان المهاجرون في دور الأنصار، فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير؛ دعا الأنصار، وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم في أموالهم، ثم قال:«إن أحببتم؛ قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم، وبينهم، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم، وأموالكم. وإن أحببتم؛ أعطيتهم، وخرجوا من دوركم» . فقال السيدان السعدان-سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة رضي الله عنهما: بل تقسمه بين المهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادى الأنصار جميعهم-رضي الله عنهم: رضينا، وسلمنا يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اللهمّ ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار!» . وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين-ولم يعط الأنصار شيئا إلا الثلاثة الذين ذكرناهم. انتهى. قرطبي بتصرف.

هذا؛ وإطلاق لفظ الحاجة على ما تقدم من إطلاق الملزوم على اللازم على سبيل الكناية؛ لأن هذه المعاني لا تنفك عن الحاجة غالبا، وأصل حاجة ما يحتاج، وتجمع على حاج، وحوج بوزن عنب، وحوائج على غير قياس، وحاجات. قال الشاعر:[الطويل] أرى الدهر إلا منجنونا بأهله

وما صاحب الحاجات إلا معذّبا

وهذا هو الشاهد رقم [117] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» .

{وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ:} فقر وحاجة إلى ما يؤثرون به غيرهم، والإيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية، رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة، يقال: آثرته بكذا؛ أي: خصصته به، وفضلته، وخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني مجهود.

فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى الأخرى، فقالت: مثل ذلك؛ حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، فقال:«من يضيف هذا الليلة رحمه الله؟!» . فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله! فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعلليهم بشيء، فإذا أرادوا العشاء؛ فنوميهم، فإذا دخل ضيفنا؛ فأطفئي السراج، وأريه أنا نأكل، فقعدوا، وأكل الضيف، وباتا طاويين، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«قد عجب الله من صنيعكما الليلة بضيفكما» . ونزل قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ} رواه مسلم وغيره.

وقال ابن عمر، وأنس بن مالك-رضي الله عنهما: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة، وكان مجهودا، فوجه به إلى جار له، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر، حتى تداوله سبعة أبيات، ثم عاد إلى الأول. ذكره الثعلبي، وقصة حذيفة العدوي في وقعة اليرموك مشهورة مسطورة لا أطيل الكلام فيها.

{وَمَنْ يُوقَ:} من الوقاية، وهي التحرز من الوقوع في المهالك، والمعنى: ومن حماه الله، وحفظه، وسلم من الشح؛ فقد أفلح، ونجح. {شُحَّ نَفْسِهِ:} حرصها على المال، والشح في كلام العرب: البخل مع الحرص، وقد فرق العلماء بين البخل والشح، فقال: البخل نفس

ص: 605

المنع، والشح: هو الحالة النفسانية؛ التي تقتضي ذلك المنع، روي: أن رجلا قال لابن مسعود رضي الله عنه: إني أخاف أن أكون قد هلكت. قال: وما ذاك؟ قال: إني أسمع الله يقول:

{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وأنا رجل شحيح، لا يكاد يخرج من يدي شيء.

فقال ابن مسعود: ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله في القرآن، ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلما، ولكن ذلك البخل، وبئس الشيء البخل. وقيل: الشح هو الحرص الشديد الذي يحمل صاحبه على ارتكاب المحارم، وخذ قول عمرو بن كلثوم التغلبي من معلقته رقم [4]:[الوافر] ترى اللّحز الشحيح إذا أمرّت

عليه لماله فيها مهينا

هذا؛ وفي الكشاف: الشح بالضم والكسر، وقرئ بهما: اللؤم، وأن تكون نفس الرجل كزة حريصة، كما قال الشاعر:[الطويل] يمارس نفسا بين جنبيه كزّة

إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا

وأضيف الشح إلى النفس؛ لأنه غريزة فيها، والكزازة: اليبس، والانقباض، ورجل كز اليدين: إذا كان بخيلا، يصف الشاعر رجلا بالبخل، والشح المطاع، وأنه إذا هم يوما أن يجود بشيء. قالت له نفسه: مهلا، فيطيعها، ويمتنع عن الخير. وأين هذا من قول المتنبي؟:[الطويل] إذا كان ما تنويه فعلا مضارعا

مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم

هذا بالإضافة لما ذكرته بشأن البخل في آخر سورة (محمد صلى الله عليه وسلم وفي سورة (الحديد) رقم [24] أذكر هنا ما يلي: فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «إياكم والظلم! فإن الظلم ظلمات يوم القيامة. وإياكم والفحش والتفحش! وإياكم والشح! فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالقطيعة، فقطعوا، وأمرهم بالبخل، فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا

» إلخ. رواه أبو داود، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمع غبار في سبيل الله، ودخان جهنم في جوف عبد أبدا، ولا يجتمع شحّ، وإيمان في قلب عبد أبدا» . رواه النسائي وغيره. وفي حديث أنس-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث كفارات، وثلاث درجات، وثلاث منجيات، وثلاث مهلكات، فأما المهلكات؛ فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه» . رواه البزار والبيهقي، وغيرهما.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} (الواو): حرف عطف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل جر معطوف على (الفقراء) فهو من عطف المفردات، أو هو في محل رفع مبتدأ، وخبره يأتي، فيكون من عطف الجمل. {تَبَوَّؤُا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {الدّارَ:} مفعول به. (الإيمان): معطوف على ما قبله، أو هو مفعول به لفعل محذوف، كما رأيت في الشرح. {مِنْ قَبْلِهِمْ:} متعلقان بمحذوف حال

ص: 606

من واو الجماعة، والهاء في محل جر بالإضافة. {يُحِبُّونَ:} فعل مضارع، والواو فاعل، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة على اعتبار الموصول معطوفا على ما قبله، وفي محل رفع خبره على اعتباره مبتدأ. {مِنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به.

{هاجَرَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من)، وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {إِلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.

{وَلا:} (الواو): حرف عطف. (لا): نافية. {يَجِدُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {صُدُورِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، وهما المفعول الثاني، تقدم على الأول، والهاء في محل جر بالإضافة. {حاجَةً:} مفعول به.

{مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {حاجَةً،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {أُوتُوا:} ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: من الذي، أو من شيء أوتوه. {وَيُؤْثِرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {عَلى أَنْفُسِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَلَوْ:} (الواو): واو الحال.

(لو): وصلية، وقيل: شرطية ولا وجه له ألبتة. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {بِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ،} تقدم على اسمها. {خَصاصَةٌ:} اسم {كانَ} مؤخر، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{وَمَنْ:} (الواو): حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُوقَ:} فعل مضارع مبني للمجهول فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، ونائب الفاعل يعود إلى (من) وهو المفعول الأول. {شُحَّ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {نَفْسِهِ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَأُولئِكَ:} (الفاء):

واقعة في جواب الشرط، وإعراب الجملة مثل:{أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ} وهي في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما رأيت في الاية رقم [4] والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)}

الشرح: {وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ:} من بعد المهاجرين، والأنصار، وهم التابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة. {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ:} أخبر الله:

أنهم يدعون لأنفسهم بالمغفرة، ولإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان.

ص: 607

{وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ:} غشا، وحسدا، وحقدا، وبغضا، وهو بكسر الغين، وهو بضمها: القيد من الحديد، ونحوه، وحرارة العطش أيضا. ولا يجمع بالمعنى الأول؛ لأنه مصدر، ويجمع بالمعنى الثاني على أغلال، وهو كثير في القرآن، وبالمعنى الثالث على غلات، كقول قسّام بن رواحة العبسيّ، وهو شاعر جاهلي، وهو الشاهد رقم [274] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» . [الطويل]

عسى طيّئ من طيّئ بعد هذه

ستطفئ غلاّت الكلى والجوانح

وخذ هذين البيتين، وصل وسلم على سيد الأنبياء والمرسلين:[البسيط]

يا طالب العيش في أمن وفي دعة

رغدا بلا قتر صفوا بلا رنق

خلّص فؤادك من غلّ ومن حسد

الغلّ في القلب مثل الغلّ في العنق

{لِلَّذِينَ آمَنُوا:} يعني صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. {رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ:} انظر الاية رقم [9] من سورة (الحديد)، بعد هذا قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: المهاجرون، والذين تبوؤا الدار والإيمان، والذين جاؤوا من بعدهم، فاجهد ألاّ تخرج من هذه المنازل، فكل من كان في قلبه غل، أو بغض لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يترحم على جميعهم، فليس ممن عناه الله بهذه الاية؛ لأن الله رتب المؤمنين على ثلاث منازل:

المهاجرون، ثم من بعدهم الأنصار، ثم من بعدهم التابعون الموصوفون بما ذكر، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة، كان خارجا من أقسام المؤمنين، وليس له في الإسلام نصيب.

وقال بعضهم: كن شمسا، فإن لم تستطع؛ فكن قمرا، فإن لم تستطع؛ فكن كوكبا مضيئا، فإن لم تستطع؛ فكن كوكبا صغيرا، ومن جهة النور لا تنقطع. ومعنى هذا: كن مهاجريا، فإن قلت: لا أجد؛ فكن أنصاريا، فإن لم تجد؛ فاعمل كأعمالهم، فإن لم تستطع، فأحبهم، واستغفر لهم، كما أمرك الله.

وعن جعفر بن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين-رضي الله عنهم-أنه جاءه رجل، فقال له: يا بن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقول في عثمان؟ فقال له: يا أخي أنت من قوم قال الله فيهم: {لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ} الاية؟ قال: لا. قال: فأنت من قوم قال الله فيهم:

{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ} الاية؟ قال: لا. قال: فو الله لئن لم تكن من أهل الاية الثالثة؛ لتخرجن من الإسلام، وهي قوله تعالى:{وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ..} . إلخ.

فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّوا أصحابي، فلو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا؛ ما بلغ مدّ أحدهم، ولا نصيفه» . متفق عليه. وعن عروة بن الزبير-رضي الله عنه-قال: قالت عائشة-رضي الله عنها: (يا بن أختي أمروا أن يستغفروا

ص: 608

لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسبّوهم). أخرجه مسلم. وعن عبد الله بن مغفل-رضي الله عنه.

قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبّهم؛ فبحبي أحبّهم، ومن أبغضهم؛ فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم؛ فقد آذاني، ومن آذاني؛ فقد آذى الله، فيوشك أن يأخذه» . أخرجه الترمذي.

وقال الشعبي: تفاضلت اليهود، والنصارى على الرافضة بخصلة. سئلت اليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى. وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: حواري عيسى. وسئلت الرافضة: من شر أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. أمروا أن يستغفروا لهم، فسبوهم، فالسّيف مسلول عليهم إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية، ولا يثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم، وتفريق شملهم، وإدحاض حجتهم. أعاذنا الله، وإياكم من الأهواء المضلة. وروي عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما قال: قيل لعائشة-رضي الله عنها: إن ناسا يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر، فقالت: وما تعجبون من هذا؟ انقطع عنهم العمل، فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر.

انتهى. خازن وقرطبي بتصرف.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} (الواو): حرف عطف. (الذين): معطوف على ما قبله في الاية السابقة على الوجهين المعتبرين فيه، وجملة:{جاؤُ:} صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْ بَعْدِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، والهاء في محل جر بالإضافة. {يَقُولُونَ:} مضارع، وفاعله. والجملة الفعلية في محل رفع خبر الموصول، على اعتباره مبتدأ، وفي محل نصب حال من واو الجماعة، على اعتبار الموصول معطوفا على ما قبله عطف مفرد على مفرد. {رَبَّنَا:} منادى، حذفت منه أداة النداء، و (نا) في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {اِغْفِرْ:} فعل دعاء، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَلِإِخْوانِنَا:} جار ومجرور معطوف على ما قبله. {الَّذِينَ:} اسم موصول صفة: (إخواننا)، أو بدل منه. {سَبَقُونا:}

فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {بِالْإِيمانِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَلا:} (الواو): حرف عطف. (لا): دعائية. {تَجْعَلْ:} مضارع مجزوم ب: (لا)، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {فِي قُلُوبِنا:} متعلقان بما قبلهما، و (نا): في محل جر بالإضافة. {غِلاًّ:} مفعول به. {لِلَّذِينَ:} متعلقان ب: {غِلاًّ،} أو بمحذوف صفة له، وجملة:{آمَنُوا:} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها.

{رَبَّنَا:} توكيد لفظي لسابقه. {إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ:} إن واسمها، وخبراها، والجملة الاسمية تعليل للدعاء، لا محل لها.

ص: 609

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11)}

الشرح: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا:} عبد الله بن أبي، وأصحابه. {يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ..} .

إلخ: يعني اليهود من بني قريظة، وبني النضير، وبني قينقاع، وإنما اعتبر الله المنافقين إخوان اليهود؛ لأنهم أكفر منهم؛ لأنهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر. {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ:} من المدينة.

{لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ:} منها. {وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً} أي: إن طلب منا أحد خلافكم، وخذلانكم؛ فلا نسمع لقوله، ولا نطيعه فيكم. {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ:} حاربكم، وقاتلكم محمد صلى الله عليه وسلم.

{لَنَنْصُرَنَّكُمْ:} لنحاربن معكم، ولا نخذلكم. {وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ} أي: المنافقين. {لَكاذِبُونَ} أي:

فيما قالوا، ووعدوا اليهود، وفي هذا دليل واضح على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة علم الغيب، فهو إخبار عن ذلك قبل وقوعه؛ لأنهم أخرجوا، فلم يخرجوا معهم، وقوتلوا فلم ينصروهم.

تنبيه: ذكرت لك في الاية رقم [2] من هذه السورة ما فعل الله ببني النضير، وكيف دس المنافقون لهم ما ذكره الله في هذه الاية، وذكرت لك في سورة (الأحزاب) رقم [26] ما فعل الله ببني قريظة من القتل، والخزي، والذل، وأما بنو قينقاع، فهم قوم من اليهود كانت منازلهم في بطحان مما يلي العالية، وكانوا أشجع اليهود، وكانوا صاغة، وكانوا حلفاء عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وعبد الله بن أبي ابن سلول لعنه الله، فلما كانت وقعة بدر، أظهروا البغي، والحسد، والعداوة، ونبذوا العهد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عاهدهم، وعاهد بني قريظة، وبني النضير على أن لا يكونوا معه، ولا عليه، وكان عبد الله بن سلام-رضي الله عنه، من أعظم أحبارهم، فهداه الله للإسلام، وهم أول من نقض العهد من اليهود.

وسبب نقضهم العهد أن امرأة من العرب، وكانت زوجة لبعض الأنصار، الساكنين بالبدو، قدمت المدينة بجلب لها، وهو ما يجلب ليباع في المدينة من نتاج الماشية، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ منهم، فجعل جماعة منهم يراودونها كشف وجهها، فأبت عليهم، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها، فعقده إلى ظهرها، وهي لا تشعر، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا منها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ، فقتله، وشدت اليهود على المسلم، فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، وتواثبوا من كل جهة، فبلغ الخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«ما على هذا عاهدناهم» . فتبرأ عبادة بن الصامت-رضي الله عنه-من حلفهم. وقال: أتولى الله ورسوله، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار.

ص: 610

وتشبث به عبد الله بن أبي أخزاه الله، وفي ذلك أنزل الله عز وجل قوله:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} إلى قوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ} رقم [51] إلى [56] من سورة (المائدة). فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لهم:«يا معشر اليهود! احذروا من الله، مثل ما نزل بقريش من النقمة ببدر، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم: أني مرسل، تجدون ذلك في كتابكم، وعهد الله تعالى إليكم به!» . قالوا: يا محمد تظننا أنا مثل قومك، ولا يغرنك أنك لقيت قوما، لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنا والله لو حاربناك؛ لتعلمن أنا نحن الناس؛ أي: لأنهم كانوا أشجع اليهود، وأكثرهم أموالا، وأشدهم بغيا، وأنزل الله تعالى فيهم قوله في سورة (آل عمران):{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا} . ونزل قوله تعالى: {وَإِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ} الاية رقم [58] من سورة (الأنفال) ثم إن القوم تحصنوا في حصونهم، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاصرهم خمس عشرة ليلة أشد الحصار، وكان خروجه في نصف شوال، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وكانوا أربعمئة حاسر، وثلاثمئة دارع، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلي سبيلهم، وأن يخرجوا من المدينة، وأن لهم النساء، والذرية، وأن يتركوا الأموال للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنها السلاح، ولم يكن لهم نخيل، فصالحهم على ذلك. وقيل: إنهم نزلوا على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهم أن يكتّفوا، فكتّفوا، فأراد قتلهم، فكلمه فيهم عبد الله بن أبي، وألح عليه، فقال:

يا محمد أحسن إلى مواليّ، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، فأدخل يده في جيب درعه من خلفه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ويحك أرسلني!» . وغضب؛ حتى رأوا لوجهه سمرة لشدة غضبه، ثم قال:

«ويحك أرسلني!» . فقال: والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ، فإنهم أعزتي، وأنا امرؤ أخشى الدوائر، أربعمئة حاسر، وثلاثمئة دارع، وقد منعوني من الأحمر، والأسود وتحصدهم في غداة واحدة! فقال صلى الله عليه وسلم:«خلوهم! لعنهم الله، ولعنه معهم!» . وتركهم من القتل، وقال له:

«خذهم، لا بارك الله لك فيهم!» . وإلى ذلك أشار الله عز وجل بقوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ} الاية رقم [52] من سورة (المائدة)، ثم أمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلوا، ووكل بإجلائهم عبادة بن الصامت-رضي الله عنه-فذهبوا إلى أذرعات في بلاد الشام، ولم يدر الحول عليهم حتى هلكوا جميعا بدعوته صلى الله عليه وسلم، في قوله لابن أبيّ:«لا بارك الله لك فيهم» . ووجد النبي صلى الله عليه وسلم في منازلهم سلاحا كثيرا، وأموالا، وهذا مما أفاء الله على نبيه صلى الله عليه وسلم.

الإعراب: {أَلَمْ:} (الهمزة): حرف استفهام وتقرير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.

{تَرَ:} فعل مضارع مجزوم بلم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {إِلَى الَّذِينَ:} متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، وجملة:{نافَقُوا} صلة الموصول، لا محل لها، والخطاب في الاية للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل واحد له حظ في الخطاب، ويتأتى منه النظر، والاعتبار.

ص: 611

{يَقُولُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية مع مقولها مستأنفة، لا محل لها. {لِإِخْوانِهِمُ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {الَّذِينَ:} صفة لما قبله، أو هو بدل منه، وجملة:{كَفَرُوا} صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْ أَهْلِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و {مِنْ} بيان لما أبهم في الموصول، و {أَهْلِ} مضاف، و {الْكِتابِ:} مضاف إليه. {لَئِنْ:} اللام: موطئة لقسم محذوف. (إن): حرف شرط جازم.

{أُخْرِجْتُمْ:} ماض مبني للمجهول، مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء نائب فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{لَنَخْرُجَنَّ:} (اللام): واقعة في جواب القسم؛ الذي دلت عليه اللام. (نخرجن): فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والنون للتوكيد حرف لا محل لها. {مَعَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها، وجواب الشرط محذوف، لدلالة جواب القسم عليه، على القاعدة:

«إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للسابق منهما» . قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته: [الرجز] واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخرت فهو ملتزم

والكلام {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {وَلا:} (الواو): حرف عطف. (لا): نافية. {نُطِيعُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {فِيكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {أَحَداً:} مفعول به. {أَبَداً:} ظرف زمان متعلق بما قبله أيضا. {وَإِنْ:} (الواو):

حرف عطف. (إن): حرف شرط جازم، وقبلها اللام مقدرة، بدليل ما قبلها. {قُوتِلْتُمْ:} مثل {أُخْرِجْتُمْ،} إعرابا ومحلا. {لَنَنْصُرَنَّكُمْ:} إعرابه مثل إعراب {لَنَخْرُجَنَّ} إفرادا ومحلا، والكلام معطوف على ما قبله، فهو مثله في محل نصب مقول القول.

{وَاللهُ:} (الواو): حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {يَشْهَدُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، {لِإِخْوانِهِمُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لَكاذِبُونَ:} (اللام): لام المزحلقة، أو هي لام الابتداء، وقد علقت الفعل {يَشْهَدُ} عن العمل لفظا، لذا كسرت همزة (إنّ) بعده. قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز] وكسروا من بعد فعل علّقا

باللاّم كاعلم إنّه لذو تقى

(كاذبون): خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الاسمية:{إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية خبر المبتدأ، والجملة الاسمية (الله

) إلخ مستأنفة، لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من واو الجماعة، فالمعنى لا يأباه.

ويكون الرابط: الواو، والضمير.

ص: 612

{لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12)}

الشرح: {لَئِنْ أُخْرِجُوا} أي: اليهود. {لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} أي: لا يخرج المنافقون من المدينة إن خرج اليهود. {وَلَئِنْ قُوتِلُوا} أي: قاتل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود. {لا يَنْصُرُونَهُمْ} أي: لا ينصرهم المنافقون، وقد تحقق ذلك حينما أجلي اليهود من المدينة المنورة، فلم يحرك المنافقون ساكنا، بل خنسوا، وردّ كيدهم في نحورهم.

هذا؛ وإنما قال تعالى: {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ} بعد الإخبار بأنهم لا ينصرون على سبيل الفرض، والتقدير، كقوله تعالى مخاطبا النبي صلى الله عليه وسلم:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وكما يعلم ما يكون، فهو يعلم ما لا يكون لو كان، كيف يكون؟ والمعنى: ولئن نصر المنافقون اليهود؛ لينهزمن المنافقون، ثم لا ينصرون بعد ذلك؛ أي: يهلكهم الله، ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم، أو لينهزمن اليهود، ثم لا تنفعهم نصرة المنافقين. انتهى. نسفي.

الإعراب: {لَئِنْ:} انظر الاية السابقة. {أُخْرِجُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجملة:{لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} جواب القسم لا محل لها، وانظر ما ذكرته في الاية السابقة. والكلام بجملته لا محل له من الإعراب؛ لأنه مستأنف. {وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ} مثل ما قبله في الإعراب إفرادا، وجملا. {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ} مثل سابقه في إعرابه. {لَيُوَلُّنَّ:} (اللام): واقعة في جواب القسم مثل سابقه.

(يولنّ): مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة في محل رفع نائب فاعل وهو المفعول الأول، والنون حرف لا محل له. {الْأَدْبارَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية جواب القسم المدلول عليه باللام، والكلام معطوف على ما قبله، فهو مثله لا محل له من الإعراب. {ثُمَّ:} حرف عطف. {لا:} نافية. {يُنْصَرُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جواب القسم، لا محل لها مثلها.

{لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13)}

الشرح: {لَأَنْتُمْ:} خطاب للمؤمنين الصادقين. {أَشَدُّ رَهْبَةً:} أعظم خوفا، وخشية.

{فِي صُدُورِهِمْ:} في صدور المنافقين. وقيل: في صدور بني النضير. وقيل: في صدور اليهود، والمنافقين معا. والمعنى: أن خوفهم في السر منكم أشد من خوفهم من الله؛ الذي يظهرونه

ص: 613

لكم. وكانوا يظهرون للمؤمنين خوفا شديدا من الله، فلا يرد كيف يستقيم التفضيل بأشدية الرهبة مع أنهم لا يرهبون من الله؛ لأنهم لو رهبوا منه لتركوا الكفر والنفاق. انتهى. كرخي، وهذا مما يؤيد: أن المراد المنافقون. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (النساء) رقم [77] في حقهم: {فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} .

{ذلِكَ} أي: الخوف الشديد من المؤمنين، وعدم خوفهم من الله. {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ:} لا يعلمون قدرة الله، وعظمته حتى يخشوه حق خشيته. هذا؛ والفقه في اللغة: الفهم، والعلم بالشيء، ثم صار علما على اسم العلم في الدين لشرفه على غيره من العلوم. يقال: فقه الرجل يفقه فهو فقيه:

إذا فهم، والفعل من باب: فهم الذي هو بمعناه، وفقه من باب: ظرف، وكرم: صار فقيها.

الإعراب: {لَأَنْتُمْ:} (اللام): لام الابتداء. (أنتم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَشَدُّ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، أو مبتدأة لا محل لها على الاعتبارين. {رَهْبَةً:} تمييز. {فِي صُدُورِهِمْ:} متعلقان ب: {رَهْبَةً؛} لأنه مصدر، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب: {أَشَدُّ} وتعليقهما ب: {رَهْبَةً} جيد أيضا.

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {بِأَنَّهُمْ:} (الباء): حرف جر. (أنّهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها.

{قَوْمٌ:} خبرها، وجملة:{لا يَفْقَهُونَ} في محل رفع صفة {قَوْمٌ،} وهي صفة موطئة، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14)}

الشرح: {لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً:} الخطاب للمؤمنين، والمعنى لا يقاتلكم اليهود مجتمعين، أو لا يقاتلكم اليهود، والمنافقون مجتمعين متعاونين. {إِلاّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ} أي: في قرى محاطة بالحصون، والقلاع، والخنادق. {أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ:} أو يقاتلونكم من وراء الجدران، والحيطان؛ ليحتموا بها، وذلك لفرط جبنهم، وهلعهم، والرعب في قلوبهم. {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ:} العداء متأصل، ومحتوم فيما بينهم، والمعنى: فعجزهم عن قتالكم، ليس لجبنهم، بل هم في غاية القوة، والشجاعة؛ إذا حارب بعضهم بعضا، وأما إذا حاربوكم، فيضعفوا، ويجبنوا للرهبة التي في قلوبهم منكم.

{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً} أي: تظنهم مجتمعين على أمر، ورأي في الظاهر، ذوي ألفة، واتحاد، وهم مختلفون غاية الاختلاف؛ لأن آراءهم مختلفة، وقلوبهم متفرقة. قال قتادة-رحمه الله

ص: 614

تعالى-: أهل الباطل مختلفة آراؤهم، مختلفة أهواؤهم، مختلفة شهادتهم، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق. {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ..}. إلخ: ذلك التفرق، والتشتت بسبب: أنهم لا عقول لهم يعقلون بها أمر الله، فهم كالبهائم، لا تتفق على حالة. وانظر العقل في الاية رقم [17] من سورة (الحديد) ولا تنس الطباق بين {جَمِيعاً} و {شَتّى} .

الإعراب: {لا:} نافية. {يُقاتِلُونَكُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة. {جَمِيعاً:} حال من واو الجماعة.

{إِلاّ:} حرف حصر. {فِي قُرىً:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف المحذوفة، لالتقاء الساكنين، والثابتة دليل عليها، وليست عينها. {مُحَصَّنَةٍ:} صفة {قُرىً} . {أَوْ:} حرف عطف. {مِنْ وَراءِ:} معطوفان على ما قبلهما، و {وَراءِ} مضاف، و {جُدُرٍ} مضاف إليه.

{بَأْسُهُمْ:} مبتدأ، {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بما بعده، والهاء في محل جر بالإضافة.

{شَدِيدٌ:} خبر المبتدأ. {تَحْسَبُهُمْ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به أول. {جَمِيعاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل نصب حال من ضمير الغيبة، والرابط: الضمير فقط، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.

{وَقُلُوبُهُمْ:} (الواو): واو الحال. (قلوبهم): مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {شَتّى:}

خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {بِأَنَّهُمْ:} (الباء): حرف جر.

(أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، وانظر بقية الإعراب في الاية السابقة.

{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)}

الشرح: {كَمَثَلِ الَّذِينَ..} . إلخ: أي: حال بني النضير فيما وقع لهم من الجلاء، والذل، كحال كفار مكة فيما وقع لهم من الهزيمة، والأسر يوم بدر. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما:

{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني: يهود بني قينقاع. وهذا القول أشبه بالصواب، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أجلى بني قينقاع قبل بني النضير، فإن غزوة بني قينقاع كانت بعد غزوة بدر، وغزوة بني النضير بعد غزوة أحد، والمقصود تشبيه حال اليهود، وهي ما حصل لهم في الدنيا من الجلاء، والخزي، وما سيحصل لهم في الاخرة من العذاب بحال المشركين في هذين الأمرين.

هذا؛ والوبال: المكروه، والضرر؛ الذي ينال في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه، من قوله تعالى:{فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً} أي: ثقيلا شديدا. والطعام الوبيل: هو الذي يثقل على المعدة، فلا

ص: 615

يستمرأ. والوابل: المطر الغزير الثقيل. قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [265]: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ} . هذا؛ وانظر {ذُوقُوا} في الاية رقم [14] من سورة (الذاريات).

هذا؛ و (مثل) بفتحتين هو عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة؛ ليتبين أحدهما من الاخر، ويصوره. وقيل: هو تشبيه شيء بشيء آخر. وبالجملة: هو القول السائر بين الناس، والذي فيه غرابة من بعض الوجوه. والممثل بمضربه؛ أي: هو الحالة الأصلية التي ورد الكلام فيها. وما أكثر الأمثال في اللغة العربية، علما بأن الأمثال لا تغير، تذكيرا، وتأنيثا، إفرادا، وتثنية، وجمعا، بل ينظر فيها دائما إلى مورد المثل؛ أي: أصله، مثل:

(الصّيف ضيّعت اللّبن) فإنه يضرب لكل من فرط في تحصيل شيء في أوانه، ثم طلبه بعد فواته.

هذا؛ و «مثل» بكسر الميم وسكون الثاء، ومثله: مثيل، وشبه، وشبيه، وهو اسم متوغل في الإبهام فلا يتعرف بإضافته إلى الضمير ونحوه من المعارف، ولذلك نعتت به النكرة في قوله تعالى حكاية عن قول فرعون، وقومه:{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ} ويوصف به المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، وهو واضح في محاله، ويستعمل على ثلاثة أوجه:

الأول بمعنى: الشبيه، والنظير، كما في الاية الكريمة المذكورة، ونحوها. والثاني: بمعنى نفس الشيء، وذاته، كما في قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} عند بعضهم؛ حيث قال: المعنى:

ليس كذاته شيء. الثالث: زائدة، كما في قوله تعالى:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} أي: بما آمنتم به.

الإعراب: {كَمَثَلِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، انظر تقديره في الشرح، وقد صرح به في الايات رقم [17][171][261][264][265] من سورة (البقرة)، و (مثل) مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة. {مِنْ قَبْلِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة. {قَرِيباً:} صفة «زمان» محذوف متعلق بما بعده، التقدير: ذاقوا وبال أمرهم في زمن قريب. أو هو متعلق بمضاف محذوف، التقدير:

حالهم، وشأنهم كوقوع، وحصول مثل الذين من قبلهم قريبا. {ذاقُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، {وَبالَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {أَمْرِهِمْ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الموصول، والرابط:

الضمير فقط، و «قد» قبلها مقدرة لتقربها من الحال. {وَلَهُمْ:} (الواو): حرف عطف. (لهم):

جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ:} صفة له، وهو بمعنى مؤلم. والجملة معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع.

ص: 616

{كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اُكْفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16)}

الشرح: {كَمَثَلِ الشَّيْطانِ} أي: مثل المنافقين مع بني النضير، وخذلانهم إياهم، كمثل الشيطان؛ {إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ} اكفر: وذلك ما روي عن عطاء، وغيره عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: كان راهب في الفترة، يقال له: برصيصا يعبد الله في صومعة له سبعين سنة، لم يعص الله فيها طرفة عين، وإن إبليس أعياه في أمره الحيل، فجمع ذات يوم مردة الشياطين، وقال: ألا أحد منكم يكفيني أمر برصيصا؟! فقال الأبيض، وهو صاحب الأنبياء، وهو الذي تصدى للنبي صلى الله عليه وسلم، وجاءه في صورة جبريل ليوسوس له على وجه الوحي، فلحقه جبريل عليه السلام، فدفعه إلى أقصى أرض الهند.

فقال الأبيض لإبليس: أنا أكفيك أمره، فانطلق، فتزين بزينة الرهبان، وحلق وسط رأسه، وأتى صومعة برصيصا، فناداه، فلم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته، إلا في كل عشرة أيام يوما، ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام مرة، فلما رأى الأبيض: أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل الصومعة، فلما انفتل برصيصا من صلاته؛ اطلع من صومعته، فرأى الأبيض قائما يصلي في هيئة حسنة على هيئة الرهبان، فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه؛ أي: لام نفسه حين لم يجبه، فقال له: ناديتني، وكنت مشتغلا عنك، فما حاجتك؟

قال الأبيض: حاجتي أني جئت لأكون معك، فأتأدّب بأدبك، وأقتبس من عملك، ونجتمع على العبادة، فتدعو لي، وأدعو لك! قال برصيصا: إني لفي شغل عنك، فإن كنت مؤمنا فإن الله سيجعل لك فيما للمؤمنين نصيبا؛ إن استجاب لي، ثم أقبل على صلاته، وترك الأبيض، وأقبل الأبيض يصلي، فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوما، فلما انفتل بعدها رآه قائما يصلي، فلما رأى برصيصا شدة اجتهاد الأبيض. قال له: ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن تأذن لي، فأرتفع إليك، فأذن له، فارتفع إليه في صومعته، فأقام حولا يتعبد لا يفطر إلا في كل أربعين يوما مرة، ولا ينفتل عن صلاته إلا كذلك، وربما مد إلى الثمانين، فلما رأى برصيصا اجتهاده، تقاصرت إليه نفسه، وأعجبه شأن الأبيض، فلما حال الحول. قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق، فإن لي صاحبا غيرك، ظننت أنك أشد اجتهادا مما رأيت، وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت، فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد، وكره مفارقته لما رأى من كثرة اجتهاده، ولمّا ودعه الأبيض؛ قال له: إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهنّ، فهو خير لك مما أنت فيه، يشفي الله بها السقيم، ويعافي بها المبتلى، والمجنون.

قال برصيصا: أنا أكره تلك المنزلة؛ لأن لي في نفسي لشغلا، وإني أخاف إن علم الناس شغلوني عن العبادة، فلم يزل به الأبيض حتى علمه، ثم انطلق حتى أتى إبليس: فقال: قد والله

ص: 617

أهلكت الرجل. قال: فانطلق الأبيض. فتعرض لرجل، فخنقه، ثم جاء في صورة رجل متطبب فقال لأهله: إن بصاحبكم جنونا، أفأعالجه. قالوا: نعم، فعالجه، فلم يفد، فقال لهم: إني لا أقوى على جنته. ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله، فيعافيه، انطلقوا إلى برصيصا، فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب! قال: وانطلقوا إليه، فسألوه ذلك، فدعا بتلك الدعوات، فذهب عنه الشيطان، فكان الأبيض يفعل ذلك بالناس، ويرشدهم إلى برصيصا، فيدعو لهم، فيعافون، فانطلق الأبيض: فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل، ولها ثلاثة إخوة، وكان أبوهم هو الملك.

فلما مات؛ استخلف أخاه، فكان عم تلك الجارية ملك بني إسرائيل، فخنقها، وعذبها، ثم جاء إليهم كما كان يأتي الناس في صورة متطبب، فقال لهم: أعالجها. قالوا: نعم، فقال: إن الذي عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى من تثقون به تدعونها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها، فإذا علمتم: أنها قد عوفيت تردونها صحيحة. قالوا: ومن هو؟ قال:

برصيصا. قالوا: وكيف لنا أن يجيبنا إلى هذا، وهو أعظم شأنا من ذلك؟! قال: فانطلقوا، فابنوا صومعة إلى جنب صومعته حتى تشرف عليه، فإن قبلها، وإلا فضعوها في صومعتها، وقولوا له هذه أمانة عندك، فاحتسب أمانتك. قال: فانطلقوا، فسألوه ذلك، فأبى عليهم، فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض، ثم انطلقوا، فوضعوا الجارية، في صومعتها، وقالوا: يا برصيصا هذه أختنا أمانة عندك، فاحتسب فيها، ثم انصرفوا، فلما انفتل برصيصا! عن صلاته عاين الجارية، وما هي عليه من الجمال، فوقعت في قلبه، ودخل عليه أمر عظيم، فجاءها الشيطان، فخنقها، فدعا برصيصا بتلك الدعوات، فذهب الشيطان عنها، ثم أقبل برصيصا على صلاته، فجاءها الشيطان فخنقها، فكانت تكشف عن نفسها، وتتعرض لبرصيصا، فجاءه الشيطان، وقال له: ويحك واقعها، فلم تجد مثلها، وستتوب بعد ذلك، فتدرك ما تريد من الأمر، فلم يزل به حتى واقعها. فلم يزل كذلك يأتيها حتى حملت، وظهر حملها، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا قد افتضحت، فهل لك أن تقتلها وتتوب؟ فإن سألوك، فقل: ذهب بها شيطانها، فلم أقف عليه! فقتلها، ثم انطلق بها، فدفنها إلى جانب الجبل، فجاء الشيطان، وهو يدفنها بالليل، فأخذ بطرف إزارها، فبقي خارجا من التراب، ثم رجع برصيصا إلى صومعته، وأقبل على صلاته؛ إذ جاء إخوتها، يتعاهدون أختهم، وكانوا يجيئون في بعض الأيام يسألون عنها، ويوصونه بها.

فقالوا: يا برصيصا! ما فعلت أختنا؟ قال: قد جاء شيطانها، فذهب بها، ولم أطقه! فصدقوه وانصرفوا، فلما أمسوا، وهم مكروبون جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه، فقال:

ويحك إن برصيصا فعل بأختك كذا، وكذا، وإنه دفنها في موضع كذا، وكذا، فقال: هذا حلم، وهو من الشيطان، إن برصيصا خير من ذلك، فتتابع عليه ثلاث ليال، فلم يكترث به، فانطلق

ص: 618

الشيطان إلى أوسطهم، فقال الأوسط مثل ما قال الأكبر، ولم يخبر به أحدا، فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك، فقال الأصغر لأخويه: والله لقد رأيت كذا، وكذا، فقال الأوسط: أنا والله رأيت مثله، فقال الأكبر: وأنا والله قد رأيت مثله.

فانطلقوا إلى برصيصا، فقالوا: يا برصيصا! ما فعلت أختنا؟ فقال: أليس قد أعلمتكم بحالها؟! فكأنكم قد اتهمتموني. فقالوا: لا والله لا نتهمك، واستحيوا منه، وانصرفوا، فجاءهم الشيطان، وقال: ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا، وكذا، وإن طرف إزارها خرج من التراب، فانطلقوا، فرأوا أختهم على ما رأواه في المنام. فمشوا في مواليهم، وغلمانهم معهم الفؤوس، والمساحي، فهدموا صومعة برصيصا، وأنزلوه منها وكتفوه، ثم انطلقوا به للملك، فأقر على نفسه، وذلك: أن الشيطان أتاه، فوسوس له، فقال له: تقتلها، ثم تكابر يجتمع عليك أمران: قتل ومكابرة، اعترف، فلما اعترف؛ أمر الملك بقتله، وصلبه على خشبة، فلما صلب؛ أتاه الأبيض.

فقال: يا برصيصا! أتعرفني؟ فقال: لا! قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات، وكنت إذا دعوت بهن يستجاب لك، ويحك ما اتقيت الله في أمانتك، خنت أهلها، وزعمت: أنك أعبد بني إسرائيل، أما استحيت؟ فلم يزل يعيره ويعنفه؛ حتى قال في آخر ذلك: ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك، وفضحت أشباهك من الناس، وفضحت نفسك، فإن مت على هذه الحال لن تفلح أبدا، ولن يفلح أحد من نظرائك. قال: وكيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة واحدة حتى أخلصك مما أنت فيه، فآخذ بأعينهم، وأخرجك من مكانك. قال: وما هي؟ قال: تسجد لي.

قال: ما أستطيع أن أفعل. قال: بطرفك افعل، فسجد له برصيصا، فقال: يا برصيصا هذا الذي أردت منك، صارت عاقبتك إلى أن كفرت بربك. انتهى. خازن، ومثله في القرطبي.

هذا؛ وفي حاشية الجمل: المراد به برصيصا العابد، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

«الإنسان الذي قال له الشيطان: اكفر، راهب نزلت عنده امرأة أصابها لمم، ليدعو لها، فزين له الشيطان، ووطئها، فحملت، ثم قتلها خوفا من أن يفتضح، فدل الشيطان قومها على موضعها، فجاؤوا، فاستنزلوا الراهب، ليقتلوه، فجاءه الشيطان، فوعده إن سجد له أن ينجيه منهم، فسجد له، فتبرأ منه» . انتهى. نقلا من الخطيب.

هذا؛ وأبعد الزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنسفي حيث قالوا: والمراد من الإنسان الجنس. وقيل: هو أبو جهل؛ قال له إبليس يوم بدر: {لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ} . انتهى. بيضاوي، أقول: انظر الاية رقم [48] من سورة (الأنفال). هذا؛ ولا تنس التشبيه التمثيلي في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطانِ} حيث وجه الشبه منتزع من متعدد، كما في قوله تعالى:{إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ} الاية رقم [24] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

ص: 619

الإعراب: {كَمَثَلِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال كمثل

إلخ، و (مثل) مضاف، و {الشَّيْطانِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بمثل، أو هو بدل منه بدل اشتمال. وقيل: متعلق بالخبر المحذوف.

{قالَ:} فعل ماض، وفاعله يعود إلى {الشَّيْطانِ} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {لِلْإِنْسانِ:} متعلقان بما قبلهما. {اُكْفُرْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {فَلَمّا:} (الفاء): حرف تفريع واستئناف. (لمّا):

حرف وجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة ظرف زمان بمعنى: حين، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه. وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {اُكْفُرْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى «برصيصا» والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الشَّيْطانِ،} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب (لما)، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، والياء اسمها. {بَرِيءٌ:} خبرها، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {مِنْكَ:} جار ومجرور متعلقان ب: {بَرِيءٌ} . {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، والياء اسمها. {أَخافُ:} فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«أنا» ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول وفيها معنى التعليل. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {رَبَّ:} صفة لفظ الجلالة، أو بدل منها، و {رَبَّ} مضاف، و {الْعالَمِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظّالِمِينَ (17)}

الشرح: {فَكانَ عاقِبَتَهُما..} . إلخ: أي: نتيجة، وعاقبة الشيطان، وذلك الإنسان؛ حيث صارا إلى النار المؤبدة. وعاقبة المنافقين، واليهود مثل عاقبة الشيطان، والذي أغواه. {وَذلِكَ} أي: الخلود في النار. {جَزاءُ الظّالِمِينَ:} مجازاة ومعاقبة كل ظالم فاجر منتهك لحرمات الله والدين. هذا؛ وقال القرطبي: والتثنية ظاهرة فيمن جعل الاية مخصوصة في الراهب، والشيطان، ومن جعلها في الجنس، فالمعنى: وكانت عاقبة الفريقين، أو الصنفين.

الإعراب: {فَكانَ:} (الفاء): حرف استئناف. (كان): فعل ماض ناقص. {عاقِبَتَهُما:} خبر كان مقدم. {أَنَّهُما:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، والميم والألف حرفان دالان على

ص: 620

التثنية. {فِي النّارِ:} متعلقان بمحذوف خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع اسم كان مؤخر. هذا؛ وقرأ الحسن برفع {عاقِبَتَهُما} على الضد من ذلك، وهي قراءة شاذة. {خالِدَيْنِ:} حال من ألف التثنية منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وقرأ الأعمش:

«(خالدان)» على أنه خبر (أنّ) على إلغاء الجار والمجرور: {فِي النّارِ،} أو إلغاء: {فِيها} وهي قراءة شاذة. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان ب: {خالِدَيْنِ،} وجملة: (كان

) إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَذلِكَ:} (الواو): حرف استئناف. (ذلك): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {جَزاءُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {الظّالِمِينَ} مضاف إليه مجرور

إلخ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاِتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)}

الشرح: لما انقضى الكلام على المنافقين، واليهود، وضرب الأمثال لهم؛ وعظ المؤمنين موعظة حسنة؛ تحذيرا من أن يكونوا مثل من تقدم ذكرهم؛ لأن الموعظة بعد المصيبة أوقع في النفس لرقة القلوب، والحذر مما يوجب العقاب.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} هذا نداء من الله تعالى للمؤمنين بأكرم وصف، وألطف عبارة؛ أي:

يا من صدقتم الله، ورسوله، وتحليتم بالإيمان؛ الذي هو زينة الإنسان. {اِتَّقُوا اللهَ:} خافوا الله في أوامره، فلا تخالفوها، وفي حدوده، فلا تعتدوها. {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ} أي: لينظر كل واحد منكم أيّ شيء قدم لنفسه من الأعمال الصالحة، أو من الأعمال السيئة التي تهلكه، وتوقعه في العذاب الأليم. والمراد ب:(غد) يوم القيامة. والعرب تكني عن المستقبل بالغد.

وقيل: ذكر الغد تنبيها على أن الساعة قريبة. قال قراد بن أجدع للنعمان بن المنذر: [الوافر] فإن يك صدر هذا اليوم ولّى

فإنّ غدا لناظره قريب

وانظر شرح {غَداً} في الاية رقم [26] من سورة (القمر). {وَاتَّقُوا اللهَ:} هذه الجملة مؤكدة لما قبلها، تأكيدا لفظيا. وقيل: معنى الأول: اتقوا الله في أداء الواجبات. ومعنى الثاني: واتقوا الله، فلا تأتوا المنهيات. وقيل: التقوى الأولى: التوبة فيما مضى من الذنوب، والثانية: اتقاء المعاصي في المستقبل. {إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ:} محيط بأعمالكم صغيرها، وكبيرها، خيرها، وشرها، فيجازيكم به بالخير خيرا، وبالسوء سوآ.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} انظر الاية رقم [9] من سورة (المجادلة) فالإعراب نفسه، لا يتغير. {اِتَّقُوا اللهَ:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، ولفظ

ص: 621

الجلالة منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية مثل الجملة الندائية قبلها. {وَلْتَنْظُرْ:} الواو: حرف عطف. (لتنظر): مضارع مجزوم بلام الأمر. {نَفْسٌ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {قَدَّمَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى {نَفْسٌ،} والجملة الفعلية صلة {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: الذي، أو شيئا قدمته. {لِغَدٍ:} متعلقان بما قبلهما. {وَاتَّقُوا اللهَ:} هذه الجملة معطوفة على ما قبلها. {إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ:} انظر الاية رقم [3] من سورة (المجادلة)، فالإعراب مثله لا يتغير، والجملة الاسمية هنا تعليل للأمر.

{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19)}

الشرح: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ} أي: نسوا طاعة الله، وأهملوا أوامره. {فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ:} فجعلهم ناسين حق أنفسهم من رحمة الله ورضوانه؛ حيث لم يقدموا عملا صالحا يستحقون به ما ذكر من فضله تعالى، وجوده، وإحسانه. {أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ:} الخارجون عن طاعة الله، المخالفون أوامره. وانظر ما ذكرته في الاية رقم [46] من سورة (الذاريات) بشأن الفسق. هذا؛ والمراد بالفاسقين هنا: اليهود، والمنافقون؛ الذين مر ذكرهم في هذه السورة مفصلا، وانظر شرح «النسيان» في الاية رقم [19] من سورة (المجادلة).

الإعراب: {وَلا:} (الواو): حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَكُونُوا:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب: (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه، والألف للتفريق، {كَالَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {تَكُونُوا،} وإن اعتبرت الكاف اسما بمعنى: مثل؛ فهي الخبر، وتكون مضافة، و (الذين) اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، وجملة:{نَسُوا اللهَ} صلة الموصول، لا محل لها، وجملة: (لا تكونوا

) إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فَأَنْساهُمْ:} الفاء: حرف عطف.

(أنساهم): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى {اللهَ،} والهاء مفعول به أول. {أَنْفُسَهُمْ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها. {أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} انظر إعراب مثلها في الاية رقم [8]:{أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ} .

{لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)}

الشرح: لما أرشد الله المؤمنين إلى ما يصلحهم في الاية رقم [18] وهدد الكافرين، والمنافقين في الاية السابقة بيّن الفريقين بقوله جل شأنه:{لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النّارِ}

ص: 622

يعني: الذين هم في العذاب الدائم، {وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ} يعني: الذين هم في النعيم المقيم، ثم أتبعه بقوله تعالت حكمته:{أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ} ومعلوم: أن من جعل له النعيم المقيم؛ فقد فاز فوزا عظيما. انتهى. خازن.

وفي الكشاف: هذا تنبيه للناس، وإيذان لهم بأنهم لفرط غفلتهم، وقلة فكرهم في العاقبة، وتهالكم على إيثار العاجلة، واتباع الشهوات كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة، والنار، والبون العظيم بين أصحابها، وأن الفوز مع أصحاب الجنة، فمن حقهم أن يعلموا ذلك، وينبهوا عليه، كما تقول لمن يعق أباه: هو أبوك، تجعله بمنزلة من لا يعرفه، فتنبهه بذلك على حق الأبوة؛ الذي يقتضي البر، والتعطف، وقد استدل أصحاب الشافعي-رحمه الله تعالى-بهذه الاية على أن المسلم لا يقتل بالكافر، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر، وانظر شرح {يَسْتَوِي} في سورة (الحديد) رقم [10] وشرح {أَصْحابُ} في سورة الواقعة [90]. هذا؛ وفحوى هذه الاية مثل قوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [100]:{قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} وفي سورة (السجدة) رقم [18]: {أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} وفي سورة (ص) رقم [28]: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ،} وفي سورة (الجاثية) رقم [21]: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ} وفي سورة (ن)[35]: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {لا:} نافية. {يَسْتَوِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {أَصْحابُ:} فاعله، وهو مضاف، و {النّارِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ:} معطوف على ما قبله. {أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ} انظر إعراب مثلها في الاية رقم [9].

{لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)}

الشرح: {لَوْ أَنْزَلْنا..} . إلخ: أي: لو خلقنا في الجبل عقلا، وتمييزا، كما خلقنا للإنسان، وأنزلنا عليه هذا القرآن بوعده، ووعيده: لخشع، وخضع، وتشقق، خوفا من الله تعالى، ومهابة له. وهذا تصوير لعظمة قدر القرآن، وقوة تأثيره، وأنه بحيث لو خوطب به جبل-على شدته وصلابته-لرأيته ذليلا متصدعا من خشية الله. والمراد منه: توبيخ الإنسان بأنه لا يتخشع عند تلاوة القرآن، بل يعرض عما فيه من عجائب، وعظائم. فهذه الاية في بيان عظمة القرآن، ودناءة حال الإنسان. والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وعدم تأثره بهذا الذي لو أنزل على

ص: 623

جبل؛ لتخشع، وتصدع. وإذا كان الجبل على عظمته، وتصلبه يعرض له الخشوع، والتصدع، فابن آدم كان أولى بذلك، لكنه على حقارته، وضعفه لا يتأثر. انتهى. صابوني.

وقال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله، وفهمته؛ لخشعت، وتصدعت من خشيته، فكيف بكم؛ وقد سمعتم وفهمتم؟! وقد قال تعالى:

{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى} الاية رقم [31] من سورة (الرعد) انظر شرحها هناك. هذا؛ وقال الخازن وغيره: وهذا تمثيل؛ لأن الجبل لا يتصور منه الخشوع، والخشية إلا أن يخلق الله تعالى له تمييزا، وعقلا يدل على أنه تمثيل. انتهى. أقول:

انظر قوله تعالى في آخر سورة (الأحزاب): {إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ..} . إلخ ففيها بحث قيم.

{وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي: وتلك الأمثال نفصلها، ونوضحها للناس لعلهم يتفكرون في آثار قدرة الله، وواحدانيته، فيؤمنون. وقال الخازن: أي الغرض من هذا التمثيل التنبيه على فساد قلوب هؤلاء الكفار، وقساوتها، وغلظ طباعهم. انتهى. وخذ قوله تعالى في سورة (العنكبوت) رقم [43]:{وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ} .

هذا؛ والخشوع: الخضوع، والتواضع، والتذلل بوجه عام. وهو في الصلاة جوهرها ولبها، ويكون في القلب والجوارح، أما خشوع القلب فهو الخوف من الله، وحضوره معه حينما يقول المصلي:{إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ} وملاحظة: أنه بين يديه تعالى في جميع حركاته، وسكناته، وأما خشوع الجوارح؛ فعدم الالتفات في الصلاة، وعدم رفع البصر إلى السماء، وعدم العبث بشيء من جسده، وثيابه. وخذ ما يلي.

فعن عائشة-رضي الله عنها وعن أبويها-. قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة، فقال:«هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» . متفق عليه، والاختلاس:

السرقة، والاختلاف. وعن أبي ذر-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يزال الله مقبلا على العبد، وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت؛ أعرض عنه» . أخرجه أبو داود، والنسائي.

وعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السّماء في صلاتهم» . فاشتد قوله في ذلك؛ حتى قال: «لينتهنّ عن ذلك، أو لتخطفنّ أبصارهم!» . خرجه البخاري. وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال:«لو خشع قلب هذا؛ لخشعت جوارحه» . ذكره البغوي بغير سند.

هذا؛ والخشية: خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، وهو المراد منه بخشية عباد الله المؤمنين المتكررة في القرآن الكريم. هذا؛ والماضي: خشي، والمصدر: خشية، والرجل خشيان، والمرأة خشيا، وهذا المكان أخشى من ذلك؛ أي: أشد خوفا. هذا؛ وقد يأتي الفعل خشي بمعنى علم القلبية. قال الشاعر المسلم: [الكامل]

ص: 624

ولقد خشيت بأنّ من تبع الهدى

سكن الجنان مع النبيّ محمّد

قالوا: معناه علمت، وقوله تعالى في سورة (الكهف) رقم [80]:{فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً} قال الأخفش: معناه: كرهنا. والله أعلم بمراده.

{لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ:} وإذا تفكروا؛ اتعظوا، وإذا اتعظوا؛ آمنوا، وعبدوا الله. والتفكر في صنع الله أعظم عبادة يقوم بها العبد، وقد ورد: لتفكّر ساعة في صنع الله أفضل من عبادة ستّين سنة. وورد: «تفكّروا في آلاء الله، ولا تفكّروا في الله، فإنه لا تحيط به الفكرة» . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «لا عبادة كالتفكّر» ؛ لأنه المخصوص بالقلب، والمقصود من الخلق.

وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بينما رجل مستلق على فراشه؛ إذ رفع رأسه، فنظر إلى السماء، والنجوم، فقال: أشهد أنّ لك ربّا، وخالقا، اللهمّ اغفر لي! فنظر الله إليه، فغفر له» . هذا؛ والفكر:

تصرف القلب في طلب الأشياء. وقال صاحب المفردات: الفكر: قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم. والتفكر: جريان تلك القوة بحسب نظر العقل. وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يكون له صورة في القلب. انتهى. هذا؛ والفكر يؤدي إلى الوقوف على المعاني المطلوبة من التآنس، والتجانس بين الأشياء كالزّوجين. وانظر الترجي في الاية رقم [49] من سورة (الذاريات).

الإعراب: {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {أَنْزَلْنا:} فعل، وفاعل. {هذَا:}

(الهاء): حرف تنبيه لا محل له. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {الْقُرْآنَ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه، أو هو نعت له. {عَلى جَبَلٍ:}

متعلقان ب: {أَنْزَلْنا،} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَرَأَيْتَهُ:} (اللام): واقعة في جواب {لَوْ} . (رأيته): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية جواب {لَوْ} لا محل لها. {خُشَّعاً:} حال من الضمير المنصوب، أو هو مفعول به ثان على اعتبار الفعل قلبيا. {مُتَصَدِّعاً:} حال ثانية، أو هو من تعدد المفعول الثاني. {مِنْ خَشْيَةِ:} متعلقان ب: {خُشَّعاً} أو ب: {مُتَصَدِّعاً} على التنازع، و {خَشْيَةِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، و {لَوْ} ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{وَتِلْكَ:} (الواو): حرف استئناف. (تلك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {الْأَمْثالُ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه، أو نعت له. {نَضْرِبُها:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، (وها):

مفعول به. {لِلنّاسِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. هذا؛ وإن اعتبرت {الْأَمْثالُ} خبرا للمبتدأ فالجملة الفعلية في محل نصب حال من {الْأَمْثالُ}

ص: 625

والرابط: الضمير فقط، والعامل في الحال اسم الإشارة، فتكون الجملة مثل قوله تعالى حكاية عن قول سارة زوج إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{وَهذا بَعْلِي شَيْخاً} رقم [72] من سورة (هود). وقوله تعالى: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً} رقم [153] من سورة (الأنعام). {لَعَلَّهُمْ:} حرف ترج مشبه بالفعل، والهاء: اسمها، وجملة:{يَتَفَكَّرُونَ} في محل رفع خبرها، والجملة الاسمية مفيدة للتعليل، لا محل لها، والجملة الاسمية: (تلك الأمثال

) إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22)}

الشرح: {هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ} المعنى: أنه تعالى أعلم بما غاب عن العباد مما لم يعاينوه، ولم يعلموه، وعليم بما شاهدوه، وما علموه. وقيل: استوى في علمه تعالى السر، والعلانية، والموجود، والمعدوم. وقيل: علم حال الدنيا، والاخرة. هذا؛ والغيب: ما غاب عن الإنسان، ولم تدركه حواسه، قال الشاعر:[الطويل] وبالغيب آمنّا وقد كان قومنا

يصلّون للأوثان قبل محمّد

ولا تنس الطباق بين {الْغَيْبِ} و {وَالشَّهادَةِ} .

{هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ:} هما اسمان. وقيل: صفتان مأخوذتان من الرحمة، ورحمة الله:

إرادته الخير، والنعمة، والإحسان إلى خلقه. وهما في حقه سبحانه وتعالى بمعنى المحسن، أو مريد الإحسان، لكن الأول بمعنى: المحسن بجلائل النعم، والثاني بمعنى: المحسن بدقائق النعم، وإنما جمع بينهما هنا، وفي البسملة إشارة إلى أنه ينبغي أن يطلب منه تعالى النعم الحقيرة، كما يطلب منه النعم العظيمة. وقد يوصف بالرحيم المخلوقون، وأما الرحمن فلا يوصف به إلا الله تعالى، ومن وصف به مسيلمة الكذاب؛ فقد تعنّت حيث قال فيه:[البسيط] وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا

الإعراب: {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {اللهُ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة لفظ الجلالة. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إن» . {إِلهَ:} اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب، وخبرها محذوف، التقدير: موجود. {إِلاّ:} حرف حصر. {هُوَ:}

يجوز فيه ثلاثة أوجه: أحدها اعتباره بدلا من اسم {لا} على المحل؛ إذ محله الرفع على الابتداء. والثاني: اعتباره بدلا من {لا} واسمها؛ لأنهما في محل رفع بالابتداء. والثالث:

ص: 626

اعتباره بدلا من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، وهو الأقوى والأولى، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها. {عالِمُ:} يجوز فيه أربعة أوجه: أحدها: أن يكون بدلا من (هو) بدل ظاهر من مضمر. الثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو عالم، وحسن حذفه توالي اللفظ ب:{هُوَ} مرتين. الثالث: أن يكون خبرا ثانيا، لقوله:{هُوَ} الأول. الرابع: أن يكون صفة للضمير قبله، وذلك عند الكسائي، فإنه يجيز وصف الضمير الغائب بصفة مدح، فهو يشترط هذين الشرطين: أن يكون غائبا، وأن تكون الصفة صفة مدح، و {عالِمُ} مضاف، و {الْغَيْبِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، {وَالشَّهادَةِ:} معطوف على ما قبله. {هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ:} مبتدأ، وخبران له. والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، واعتبارها بدلا من سابقتها، لا بأس به.

{هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمّا يُشْرِكُونَ (23)}

الشرح: {هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ:} هو بكسر اللام: الذي يستغني في ذاته، وصفاته عن كل موجود، ويحتاج إليه كل موجود. وقيل: من إذا شاء ملك، وإذا شاء أهلك.

{الْقُدُّوسُ} بضم القاف، وقد تفتح، وهو قليل، وهو من أبنية المبالغة، ومعناه: المنزه عن كل نقص، والطاهر عن كل عيب. وقيل: هو من: تقدس عن الحاجات ذاته، وتنزه عن الافات صفاته، وحظ العبد منه التنزه عما يشينه في أمر دينه، ودنياه وآخرته. وهو من أسماء الله الحسنى، وكل فعّول مفتوح غير قدوس، وسبوح، وذروح، وفروج، فبالضم، ويفتحن ولم يذكر هذا الاسم إلا في هذه السورة وفي سورة الجمعة.

{السَّلامُ:} قيل: هو الذي سلمت ذاته عن الحدوث والعيب، وصفاته عن النقص، وأفعاله عن الشر المحض، فيرجع إلى معنى التنزيه. وقيل: معناه: المسلم على عباده في الجنة. فيرجع إلى الكلام القديم. وقيل: معناه: المسلم عباده من المعاطب، والمهالك. فيرجع إلى القدرة.

وقيل: غير ذلك. وحظ العبد منه بالمعنى الأول: أن ينزه نفسه عن كل لهو، ولسانه عن كل لغو، وقلبه عن كل غير، ويأتي ربه بقلب سليم. وبالمعنى الثاني: إفشاء السّلام. وبالمعنى الثالث: دفع المضار عن الناس.

{الْمُؤْمِنُ} أي: المصدق لرسله بإظهار معجزاته عليهم. ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب. ومصدق الكافرين، والفاسدين المفسدين ما أوعدهم من العقاب. وقيل: إنه مأخوذ من الأمن، وهو المؤمن عباده من المخاوف، كما قال تعالى:{وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} فهو مؤمن. قال النابغة الذبياني في معلقته رقم [38]: [البسيط]

ص: 627

والمؤمن العائذات الطّير يمسحها

ركبان مكة بين الغيل والسّند

وحظ العبد منه بالمعنى الأول: تحقيق اتصافه بحقائق الإيمان. وبالمعنى الثاني: أن يأمن غيره أذاه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» . أخرجه البخاري، ومسلم عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه. وقال صلى الله عليه وسلم:«ليس بمؤمن من لم يأمن جاره بوائقه» . رواه أبو يعلى، وغيره عن أنس-رضي الله عنه.

{الْمُهَيْمِنُ} أي: الرقيب المبالغ في المراقبة، والحفظ، من قولهم: هيمن الطير: إذا نشر جناحه على فرخه صيانة له. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: أي: الشهيد على عباده بأعمالهم؛ الذي لا يغيب عنه شيء. فيرجع إلى معنى العلم. قال تعالى في سورة (المائدة)[48]: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} . انظر شرحها هناك. وقيل: هو القائم على خلقه يرزقه، وأنشد في معناه:[الطويل] ألا إنّ خير الناس بعد نبيّه

مهيمنه التّاليه في العرف والنكر

أي: القائم على الناس بعده. وقيل: هو بمعنى العلي، ومنه قول العباس-رضي الله عنه يمدح النبي صلى الله عليه وسلم في أبيات منها:[المنسرح] حتّى احتوى بيتك المهيمن من

خندف علياء زانها النطق

وقيل: المهيمن اسم من أسماء الله تعالى، هو أعلم بتأويله، وأنشدوا في معناه:[الكامل] جلّ المهيمن عن صفات عبيده

ولقد تعالى عن عقول أولي النّهى

راموا بزعمهم صفات مليكهم

والوصف يعجز عن مليك لا يرى

{الْعَزِيزُ} أي: الذي لا يدركه طالبه، ولا يعجزه هاربه، فيرجع إلى القدرة. وقيل: هو العديم المثل، والنظير، فيرجع إلى التنزيه. والعزة في الأصل: القوة، والشدة، والغلبة. وحظ العبد منه أن يغلب نفسه، وسلطانه، بالاستقامة والاستعانة به تعالى. وقال صلى الله عليه وسلم:«من تواضع لغنيّ لغناه فقد ذهب ثلثا دينه» . وإنما كان كذلك؛ لأن الإيمان متعلق بثلاثة أشياء: المعرفة بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان، فإذا تواضع بلسانه، وأعضائه؛ فقد ذهب الثلثان، فلو انضم إليه القلب ذهب الكل.

{الْجَبّارُ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: الجبار: هو العظيم، وجبروت الله:

عظمته. فعلى هذا هو صفة ذات، وهو صيغة مبالغة. وقيل: هو من الجبر، ومنه جبر العظم، وهو في الأصل إصلاح الشيء، وربنا سبحانه وتعالى يجبر قلوب عباده، يغني الفقير، ويجبر الكسير، ويكشف الهم، ويزيل الغم، فعلى هذا هو صفة فعل. وقيل: هو الذي يجبر الخلق، ويقهرهم على ما أراد، وسئل بعضهم عن معنى الجبار، فقال: هو القهار؛ الذي إذا أراد أمرا؛

ص: 628

فعله، لا يحجزه عنه حاجز، والجبار في صفة الله تعالى مدح. وفي صفة الناس ذم، ولم يرد هذا الاسم الكريم إلا في هذه الاية من هذه السورة، وانظره في النهي عنه في حق العباد في آخر سورة (ق) فإنه جيد جدّا جدّا.

{الْمُتَكَبِّرُ} أي: المتعالي العظيم؛ الذي تكبر بربوبيته، فلا شيء مثله. وقيل: المتكبر عن كل سوء، المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدوث، وأصل الكبر، والكبرياء: الامتناع، وقلة الانقياد. قال حميد بن ثور الهلالي:[الطويل] عفت مثل ما يعفو الفصيل فأصبحت

بها كبرياء الصعب وهي ذلول

وهو على الإطلاق لا يتصور إلا لله تعالى، فإنه المنفرد بالعظمة، والكبرياء بالنسبة إلى كل شيء من كل وجه، فعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله جل وعلا: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما؛ ألقيته في النار» . رواه ابن ماجه، وهو في حق الله مدح، وفي حق المخلوقين ذم، وانظر ما ذكرته في الاية رقم [37] من سورة (الجاثية)، مع العلم: أن هذا اللفظ لم يرد في غير هذه الاية من هذه السورة. {سُبْحانَ اللهِ عَمّا يُشْرِكُونَ:} انظر الاية رقم [43] من سورة (الطور) لشرحه، وإعرابه.

الإعراب: {هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ:} انظر الاية السابقة فالإعراب مثله فيها، والأسماء الاتية كلها بدل من لفظ الجلالة، وانظر إعراب:{سُبْحانَ اللهِ عَمّا يُشْرِكُونَ} في آخر سورة (الطور).

{هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}

الشرح: {هُوَ اللهُ:} انظر شرحه في الاية رقم [9] من سورة (الحديد). {الْخالِقُ:} من الخلق، وأصله: التقدير المستقيم، كقوله تعالى في سورة (المؤمنون) رقم [14] بعد ذكر خلق الإنسان في ثلاثة أطوار:{فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ} . ويستعمل بمعنى الإبداع، وهو إيجاد الشيء من غير أصل، كقوله تعالى في كثير من الايات:{خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} . وبمعنى التكوين، كقوله تعالى في كثير من الايات:{خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ} . وقيل: الخالق الذي أظهر الموجودات بقدرته، وقدّر كلّ واحد منها بمقدار معين بإرادته. قال تعالى مخاطبا عيسى على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام في سورة (المائدة) رقم [110]:{وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} . وقال زهير: [الكامل] ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثمّ لا يفري

ص: 629

يقول: تقدر ما تقدر ثم تفريه؛ أي: تمضيه على وفق تقديرك، وغيرك يقدر ما لا يتم له، ولا يقع فيه مراده، إما لقصوره في تصور تقديره، أو لعجزه عن تمام مراده. {الْبارِئُ:} المنشئ المخترع. وقيل: مأخوذ من البرء، وأصله: خلوص الشيء عن غيره، إما على سبيل التقصي منه، ومنه قولهم: برئ فلان من مرضه، أو المديون من دينه، وإما على سبيل الإنشاء منه، ومنه برأ الله النسمة، وهو البارئ لها.

{الْمُصَوِّرُ:} المبدع لصور المخترعات، ومزيناها، ومرتبها. وقيل: المصور الذي سوى قامتك، وعدل خلقتك. قال تعالى في سورة (التين):{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وقيل:

معنى التصوير: التخطيط، والتشكيل. قال النابغة:[المنسرح] الخالق البارئ المصوّر في ال

أرحام ماء حتّى يصير دما

{لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى} أي: لله الأسماء الحسنى، ومعنى كونها أحسن الأسماء: أنها مشتملة على معاني التقديس، والتعظيم، والتمجيد، وعلى صفات الجلال، والجمال. و {الْحُسْنى:}

مؤنث الأحسن؛ الذي هو أفعل تفضيل، لا مؤنث أحسن المقابل لامرأة حسناء. والحسنى: ضد السوأى، وقد وصف الجمع الذي لا يعقل بما توصف به الواحدة، كقوله تعالى حكاية عن قول موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى} وهو فصيح، ولو جاء على المطابقة للجمع، لكان التركيب الحسن على وزن الاخر. كقوله تعالى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ؛} لأن جمع ما لا يعقل يخبر عنه، ويوصف بوصف المؤنثات، وإن كان المفرد مذكرا، وخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله عز وجل تسعة وتسعين اسما، مئة إلا واحدا-إنه وتر يحبّ الوتر-من أحصاها دخل الجنّة. وهي: هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السّلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المغيث، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الاخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور» رواه الطبراني في جامعه.

ص: 630

هذا؛ وفي رواية: المقيت بدل: المغيث. وفسر بالمقتدر، فيرجع لمعنى القادر. قال تعالى في سورة (النساء) رقم [85]:{وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً} وقيل: معناه: من شاهد النجوى، فأجاب وعلم، فكشف واستجاب فيرجع إلى معنى (المغيث).

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من أحصاها) قال الإمام النووي-رحمه الله تعالى-: معناه: من حفظها. هكذا فسره البخاري، والأكثرون، ويؤيده: أن في رواية الصحيح: «من حفظها دخل الجنّة» . وقيل: معناه: من عرف معانيها، وآمن بها. وقيل: معناه: من أحصاها بحسن الرعاية لها، والتخلق بما يمكنه من العمل بمعانيها.

تنبيه: هناك أسماء مشهورة لم تذكر بين أسماء الله الحسنى، مثل:(المعطي، الجواد، الستار، الساتر، الحنّان، المنّان) وعند التأمل تجد: أن هذه الأسماء تعود معانيها إلى بعض الأسماء المذكورة، مثلا: المعطي، والجواد يعود معناهما إلى الوهاب. والحنان، والمنان يعود معناهما إلى الرؤوف. والستار، والساتر يعود معناهما إلى العفو. وخذ ما يلي:

«اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكلّ اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي» . فهذا دعاء مأثور، فلعل الأسماء المذكورة هي مما علمه الله بعض العباد فنطقوا به بإلهام منه جل ذكره، وتقدست أسماؤه. وهناك أسماء كثيرة استأثر الله بها، فلم يعلمها أحدا من خلقه.

الإعراب: {هُوَ اللهُ:} مبتدأ، وخبر. {الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ:} خبر ثان، وثالث، أو هما خبران لمبتدأين محذوفين. {اللهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْأَسْماءُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر رابع للمبتدأ الأول. {يُسَبِّحُ:} فعل مضارع.

{اللهُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر خامس، أو هي مستأنفة، وهو أقوى. {فِي السَّماواتِ:}

متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية:{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا باللام، والرابط: الواو، والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

انتهت سورة (الحشر)، شرحا وإعرابا.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 631