الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الفتح
بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الفتح) وهي مدنية بالإجماع، وآياتها تسع وعشرون آية نزلت ليلا بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها. وفي البخاري: عن أسلم-رضي الله عنه-أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره، وعمر بن الخطاب-رضي الله عنه-كان يسير معه ليلا، فسأله عمر-رضي الله عنه-عن شيء، فلم يجبه، ثم سأله، فلم يجبه، ثم سأله، فلم يجبه، فقال عمر: ثكلتك أمك يا عمر! كررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل ذلك لا يجيبك! قال عمر-رضي الله عنه: فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس، وخشيت أن ينزل فيّ قرآن، فما لبثت أن سمعت صارخا يصرخ بي، فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل فيّ قرآن، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلّمت عليه، فقال:«لقد أنزل عليّ اللّيلة سورة لهي أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس» ثمّ قرأ: {إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ..} . إلخ. وأخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح غريب وزاد فيه: وكان في بعض أسفاره بالحديبية.
وعن أنس-رضي الله عنه-قال: لما نزلت: {إِنّا فَتَحْنا لَكَ..} . إلى قوله تعالى: {فَوْزاً عَظِيماً} مرجعه من الحديبية، وهم مخالطهم الحزن، والكآبة، وقد نحر الهدي بالحديبية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدّنيا جميعا» فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هنيئا مريئا، فما لنا؟ فأنزل الله عز وجل:{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} . وانظر ما ذكرته في الاية رقم [9] من سورة (الأحقاف). هذا؛ وقال المسعودي: بلغني أنه من قرأ سورة (الفتح) في أول ليلة من رمضان في صلاة التطوع؛ حفظه الله ذلك العام.
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)}
الشرح: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، والمعنى: إنا قضينا لك فتحا مبينا ظاهرا بغير قتال، ولا تعب. واختلفوا في هذا الفتح، فروى قتادة عن أنس-رضي الله عنه: إنه فتح مكة، وقال مجاهد: إنه فتح خيبر. وقيل: هو فتح فارس، والروم، وسائر بلاد الإسلام، التي يفتحها الله له. والتعبير بلفظ الماضي عن المستقبل جريا على عادة الله تعالى في أخباره؛ لأنها في تحققها، وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة، كأنه تعالى قال: إنا فتحنا لك في حكمنا، وتقديرنا، وما قدره،
وحكم به؛ فهو كائن لا محالة. وقال أكثر المفسرين، والمحدثين: إن المراد بهذا الفتح صلح الحديبية، وهو الأصح، وهو رواية عن أنس-رضي الله عنه. ومعنى الفتح: فتح المغلق المستصعب، وكان الصلح مع المشركين يوم الحديبية مستصعبا متعذرا؛ حتى فتحه الله-عز وجل ويسره، وسهله بقدرته، ولطفه.
فعن البراء بن عازب-رضي الله عنه-قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، ولقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مئة، والحديبية بئر، فنزحناها، ولم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها، فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء، فتوضأ، ثم تمضمض، ودعا، ثم صبّه فيها، فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا، وماشيتنا، وركابنا.
وقال الشعبي في قوله تعالى: {إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} قال: فتح الحديبية، وغفر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخر، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس، ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وقال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية. وذلك: أن المشركين اختلطوا بالمسلمين، فسمعوا كلامهم، فتمكن الإسلام في قلوبهم، فأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، فعزّ الإسلام بذلك، وأكرم الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم.
انتهى. خازن. أقول: أسلم بسبب هذا الصلح خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة الحجبي، وغيرهم من رجالات قريش المعدودين، فرجحت بذلك كفة المسلمين على كفة المشركين، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«رمتكم مكة بأفلاذ كبدها» .
الإعراب: {إِنّا} حرف مشبه بالفعل. و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {فَتَحْنا:} فعل، وفاعل. {لَكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {فَتْحاً:} مفعول مطلق. {مُبِيناً:} صفة له، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(إنّ)، والجملة الاسمية ابتدائية، لا محلّ لها من الإعراب.
الشرح: {لِيَغْفِرَ لَكَ..} . إلخ،: قيل: اللام في قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ} لام «كي» والمعنى فتحنا لك فتحا مبينا؛ لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة بالفتح. وقال الحسن بن الفضل:
هو مردود إلى قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ،} {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} و {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ..} . إلخ.
وقال ابن جرير: هو راجع إلى قوله في سورة (النصر): {وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوّاباً} {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} . وقيل: إن الفتح لم يجعل سببا للمغفرة، ولكن لاجتماع ما قدر له من الأمور الأربعة المذكورة، وهي: المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز، كأنه قال: يسّرنا لك الفتح، ونصرناك على عدوك، وغفرنا لك ذنبك، وهديناك صراطا مستقيما؛ ليجتمع لك عزّ الدارين، وأغراض العاجل، والاجل.
وقيل: يجوز أن يكون الفتح سببا للغفران؛ لأنه جهاد للعدو، وفيه الثواب، والمغفرة مع الظفر بالعدو، والفوز بالفتح. وقيل: لما كان هذا الفتح سببا لدخول مكة، والطواف بالبيت؛ كان ذلك سببا للمغفرة. ومعنى الاية: ليغفر لك الله جميع ما فرط منك ما تقدم من ذنبك.
يعني: قبل النبوة، {وَما تَأَخَّرَ} يعني: بعدها، وهذا على قول من يجوّز الصغائر على الأنبياء.
وقال عطاء الخراساني: {ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} يعني: من ذنب أبويك: آدم، وحواء ببركتك.
{وَما تَأَخَّرَ} من ذنوب أمتك بدعائك لهم. أقول: وهذا لا وجه له ألبتّة. وقال سفيان الثوري: {ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} ما كان منك قبل النبوة. {وَما تَأَخَّرَ} يعني: كل شيء لم تعمله. ويذكر مثل هذا على طريق التأكيد، كما تقول: أعط من تراه، ومن لم تره، واضرب من لقيت، ومن لم تلقه. فيكون المعنى: ما وقع لك من ذنب، وما لم يقع فهو مغفور لك. وهذا مثل سابقه لا وجه له.
وقيل: المراد منه: ما كان من سهو، وغفلة، وتأول؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له ذنب كذنوب غيره، فالمراد بذكر الذنب هنا ما عسى أن يكون وقع منه من سهو، ونحو ذلك؛ لأنّ حسنات الأبرار سيئات المقربين، فسماه ذنبا، فما كان من هذا القبيل وغيره فهو مغفور له، فأعلمه الله عز وجل بذلك، وأنه مغفور له؛ ليتم نعمته عليه. انتهى. خازن.
أقول: وهذا هو المعتمد، وبالله التوفيق، وقد يكون من باب الأولى كالذي صدر منه صلى الله عليه وسلم في الإذن للمنافقين في التخلف في غزوة تبوك، وأخذه الفداء من أسرى بدر، وهمه قطع يد اليهودي في قصة طعمة بن أبيرق، انظر الاية رقم [106] من سورة (النساء) ورقم [43] من سورة (التوبة) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ:} بالنبوة والحكمة، وما أعطاك من الفتح المبين، والنصر، والتمكين، وخضوع من استكبر، وطاعة من تجبّر. {وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً} أي: يثبتك الله على الصراط المستقيم، وهو الإسلام، والمعنى: ليجمع لك الله مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة، والهداية إلى دين الإسلام. {وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً} أي: قويا غالبا منيعا، لا يتبعه ذل، واستكانة. وقد حقّق الله وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده. ومعنى:
{عَزِيزاً:} ذا عزّ لا ذلّ معه. وهذا جواب عمّا يقال: كيف أسند العزيز إلى ضمير النصر؟! مع أنّ العزيز من له النصر، وتقرير الجواب: أنّ صيغة فعيل هنا للنسبة، فالعزيز بمعنى: ذي العزة، فالمعنى نصرا ذا عزة، ومنعة لا ذل فيه، وكونه ذا منعة يمنعه عن أن يصيبه مكروه، فإسناده العزيز بهذا المعنى إلى ضمير النصر حقيقة. انتهى. جمل نقلا من زاده. وخذ ما يلي:
فعن المغيرة بن شعبة-رضي الله عنه-قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورّمت قدماه، فقيل له: قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك، وما تأخّر! قال:«أفلا أكون عبدا شكورا» . أخرجه الشيخان.
الإعراب: {لِيَغْفِرَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل. {لَكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: (يغفر). {اللهُ:} فاعله، و «أن» المضمرة والفعل:(يغفر) في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالمصدر {فَتْحاً،} أو بالفعل: {فَتَحْنا} .
{ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {تَقَدَّمَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{ما،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {مِنْ ذَنْبِكَ:} متعلقان بمحذوف حال من فاعل: {تَقَدَّمَ،} العائد إلى: {ما،} و {مِنْ} بيان لما أبهم فيها، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): معطوفة على ما قبلها. {تَأَخَّرَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (ما)، وهو العائد، والجملة الفعلية صلة (ما).
{وَيُتِمَّ:} الواو: حرف عطف. (يتم): معطوف على (يغفر) منصوب مثله، والفاعل يعود إلى الله. {نِعْمَتَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {عَلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {وَيَهْدِيَكَ:} معطوف على: (يغفر) منصوب مثله، والفاعل يعود إلى (الله)، والكاف في محل نصب مفعول به. {صِراطاً:} منصوب بنزع الخافض. وقيل: هو مفعول به ثان للفعل قبله، ومثلها الاية رقم [68] من سورة (النساء). {مُسْتَقِيماً:} صفة: {صِراطاً} .
{وَيَنْصُرَكَ:} معطوف على ما قبله منصوب أيضا، والكاف مفعول به. {اللهُ:} فاعله. {نَصْراً:}
مفعول مطلق. {عَزِيزاً:} صفة له.
الشرح: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ} أي: الطمأنينة، والوقار، والرحمة، والهدوء في قلوب المؤمنين لئلا تنزعج نفوسهم. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كل سكينة في القرآن طمأنينة إلا التي في سورة (البقرة) رقم [248]. وقد تقدّم تفسيرها في موضعها. وقد ذكرت في سورة (التوبة) برقم [26 و 40] بمعنى الطمأنينة، كما هنا. {لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ} أي: يقينا مع يقينهم، وذلك بما فرض الله من فروع الشريعة مقرونا بالتوحيد، والإيمان، والإخلاص. فعن ابن عباس-رضي الله عنهما: إن أول ما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد، فلما آمنوا بالله وحده، وصدقوه؛ زادهم الصلاة، ثم الصوم، ثم الزكاة، ثم الحج، ثم الجهاد؛ حتى أكمل لهم دينهم، فكلما أمروا بشيء، وصدقوه؛ ازدادوا تصديقا إلى تصديقهم، هذا بالإضافة إلى تصديقهم بالبعث والحشر بعد الموت، والجنة، والنار، والميزان والحساب والصراط مما يتعلق بأمور الاخرة،
وهو من لوازم العقيدة الصحيحة، وهذا يدل على أنّ الإيمان يزيد، وينقص، كما ذكرت في الاية رقم [2] من سورة (الأنفال)، انظرها تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
{وَلِلّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} لما قال الله عز وجل: {وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً} وكان المؤمنون في قلة من العدد والعدد؛ فكأنّ قائلا قال: كيف ينصره؟ فأخبر الله عز وجل أنّ له جنود السموات والأرض، وهو قادر على نصر رسوله صلى الله عليه وسلم ببعض جنوده، بل هو قادر على أن يهلك عدوه بصيحة، ورجفة، وصاعقة، ونحو ذلك، فلم يفعل، بل أنزل سكينة في قلوبكم أيها المؤمنون؛ ليكون نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإهلاك أعدائه على أيديكم، فيكون لكم الثواب، ولهم العقاب. وفي جنود السموات، والأرض وجوه: الأول: أنهم ملائكة السموات، والأرض.
الثاني: أنّ جنود السموات: الملائكة، وجنود الأرض: الحيوانات. الثالث: أن جنود السموات: مثل الصاعقة، والصيحة، والحجارة. وجنود الأرض: مثل الزلازل، والخسف، والغرق، ونحو ذلك.
وفي الكشاف، وتبعه البيضاوي، والنسفي في قوله تعالى:{وَلِلّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} يدبر أمرها، فيسلّط بعضها على بعض تارة، ويوقع فيما بينهم السلم أخرى، كما تقتضيه حكمته، ولذا قال:{وَكانَ اللهُ عَلِيماً} بمصالح عباده. {حَكِيماً:} فيما قدر، ودبر.
الإعراب: {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره، والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة لا محلّ لها، وجملة:{أَنْزَلَ السَّكِينَةَ} صلة الموصول، لا محلّ لها. {فِي قُلُوبِ:} متعلقان بما قبلهما، و {قُلُوبِ:} مضاف. و {الْمُؤْمِنِينَ:} مضاف إليه مجرور
…
إلخ. {لِيَزْدادُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{أَنْزَلَ} أيضا. {إِيماناً:} مفعول به. وقيل: تمييز جملة. ولا بأس به. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صفة: {إِيماناً،} و {مَعَ} مضاف، و {إِيمانِهِمْ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة.
{وَلِلّهِ:} الواو: حرف استئناف، وقيل: عاطفة. (لله): متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
{جُنُودُ:} مبتدأ مؤخر، و {جُنُودُ} مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {وَكانَ:} الواو: واو الحال. (كان): فعل ماض ناقص. {اللهُ:} اسمها. {عَلِيماً:} خبر أول. {حَكِيماً:} خبر ثان لكان، والجملة الفعلية في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، وإعادة اللفظ الكريم وإن كان الموضع موضع إضمار للتفخيم، والتعظيم.
الشرح: {لِيُدْخِلَ..} . إلخ: هذا يستدعي محذوفا مقدرا، قدره الجلال: أمر بالجهاد؛ ليدخل. وقدره الخازن: هو الذي أنزل السكينة على قلوب المؤمنين؛ ليدخلهم. وقيل: تقديره:
إن من علمه، وحكمته أن سكّن قلوب المؤمنين بصلح الحديبية، ووعدهم الفتح، والنصر؛ ليشكروه على نعمه، فيثيبهم، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار. وقد تقدم ما روي عن أنس-رضي الله عنه-أنه لما نزل قوله تعالى:{إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً..} . إلخ قال الصحابة -رضوان الله عليهم-: هنيئا مريئا لك يا رسول الله! قد بيّن الله لك ما يفعل بك، فما لنا؟ فأنزل الله عز وجل هذه الاية تطمينا لقلوبهم.
{خالِدِينَ فِيها:} في الجنات. {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ:} يمحوها، ويغطيها، فلم يظهرها لهم لا عقابا، ولا عتابا. وتقديم الإدخال في الذكر على التكفير، مع أن الترتيب في الوجود على العكس للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى. {وَكانَ ذلِكَ} أي: الإدخال، والتكفير.
{عِنْدَ اللهِ} أي: في علمه الأزلي، وقضائه الأبدي.
هذا؛ و (كان) في القرآن الكريم تأتي على أوجه: تأتي بمعنى: الأزل، والأبد، وبمعنى:
المضي المنقطع، وهو الأصل في معناها، وبمعنى الحال، وبمعنى الاستقبال، وبمعنى: صار، وبمعنى: حضر، وحصل، ووجد. وترد للتأكيد، وهي الزائدة، وهي هنا بمعنى الاستمرار، فليست على بابها من المضي، وإن المعنى: كان، ولم يزل كائنا إلى يوم القيامة، وإلى أبد الابدين في الدنيا، والاخرة.
الإعراب: {لِيُدْخِلَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى (الله)، و «أن» المضمرة والفعل في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف، انظر تقديره في الشرح. {الْمُؤْمِنِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ.
{وَالْمُؤْمِناتِ:} معطوف على ما قبله، منصوب مثله. {جَنّاتٍ:} مفعول به ثان منصوب مثل (المؤمنات)، وعلامة النصب فيهما الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنهما جمعا مؤنث سالمان، وانظر:
{اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ} في الاية رقم [70] من سورة (الزخرف). {تَجْرِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {مِنْ تَحْتِهَا:} متعلقان بما قبلهما، و (ها): في محل جر بالإضافة. {الْأَنْهارُ:} فاعل: {تَجْرِي،} والجملة الفعلية في محل نصب صفة: {جَنّاتٍ} .
{خالِدِينَ:} حال من: {الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ} منصوب، وعلامة نصبه الياء، وفاعله مستتر فيه.
{فِيها:} متعلقان ب: {خالِدِينَ} . (يكفر): معطوف على: (يدخل) منصوب مثله، والفاعل يعود إلى (الله). {عَنْهُمْ:} متعلقان بما قبلهما. {سَيِّئاتِهِمْ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه
الكسرة
…
إلخ، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَكانَ:} الواو: واو الاعتراض. (كان): فعل ماض ناقص. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع اسم: (كان)، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف حال من: {فَوْزاً،} كان صفة له
…
إلخ، و {عِنْدَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {فَوْزاً:} خبر (كان). {عَظِيماً:}
صفة له، وجملة: (كان
…
) إلخ معترضة بين الفعلين المتعاطفين. وإن اعتبرتها في محل نصب حال من الإدخال والتكفير المفهومين؛ فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ..} . إلخ: يريد المنافقين، والمنافقات من أهل المدينة، والمشركين، والمشركات من أهل مكة. وإنما قدم المنافقين على المشركين في هذه الاية، وفي آخر سورة (الأحزاب) وغيرهما من المواضع؛ لأن المنافقين كانوا أشد على المؤمنين من الكافرين؛ لأن الكافر يمكن أن يحترز منه، ويجاهد؛ لأنه عدو مبين، والمنافق لا يمكن أن يحترز منه، ولا يجاهد، فلهذا كان شرّه أكثر من شرّ الكافر، فكان تقديم المنافق بالذكر أولى.
{الظّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ:} والمراد ظنهم: أن الله لا ينصر الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولا يرجعهم إلى مكة ظاهرين فاتحيها عنوة، وقهرا. وقال القرطبي: يعني: ظنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرجع إلى المدينة، ولا أحد من أصحابه حين خرج إلى الحديبية، وأن المشركين يستأصلونهم، كما قال تعالى:{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} الاية رقم [12] الاتية.
وهو أقوى. {عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ} أي: عليهم دائرة الهلاك، والوبال في الدنيا بالقتل، والسبي، والأسر، وفي الاخرة بجهنم. والدائرة في الأصل: عبارة عن الخط المحيط بالمركز، ثم استعملت في الحادثة المحيطة بمن وقعت عليه. وقرئ بضم السين، وفتحها لغتان: كالكره، والكره والضّعف، والضّعف؛ إلاّ أنّ المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمّه من كل شيء، وأنّ المضموم جرى مجرى الشر، وكلاهما في الأصل مصدر. انتهى. بيضاوي، ونسفي. هذا؛ و {السَّوْءِ:} الشر، والفساد، والجمع أسواء، وهو بضم السين من ساءه، وهو بفتح السين المصدر، تقول: رجل سوء بالإضافة، ورجل السّوء، ولا تقول: الرجل السّوء. وتأنيثه:
السوأى، كما في قوله تعالى:{ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى} رقم [10] من سورة (الروم).
{وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ:} زيادة في تعذيبهم، وهلاكهم. {وَلَعَنَهُمْ:} أبعدهم وطردهم من رحمته. {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} أي: هيأها لهم في الاخرة، وهذا يفيد أنها مخلوقة الان ومعدة لمن
يدخلها من المنافقين والكافرين، وكذلك الجنة موجودة الان، لقوله تعالى في كثير من الايات {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي..} . إلخ.
هذا؛ والمنافق سمي منافقا أخذا من: نافقاء اليربوع، وهو جحره الذي يقيم فيه، فإنه يجعل له بابين، يدخل من أحدهما، ويخرج من الاخر، وكذلك المنافق: يدخل مع المؤمنين بقوله: أنا مؤمن، ويدخل مع الكفّار بقوله: أنا معكم. هذا؛ وقد يتصف مؤمن بصفات المنافقين، فيكذب، ويخلف الوعد، ويخون في الأمانة، ويفجر في الخصومة، وما أكثرهم في هذا الزمن! فهذا يقال له: نفاق العمل، وأما الأول فيقال له: نفاق العقيدة؛ لأنه يظهر الإسلام، ويبطن الكفر، وهو أخبث من الكفر، وعقابه أشد منه، قال تعالى:{إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ} وقد حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم من نفاق العمل، والاتصاف به؛ لأنّه يجرّ إلى نفاق العقيدة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، وإن صام، وصلى، وحجّ، واعتمر، وقال: إني مسلم» . أخرج بعضه البخاري، وبعضه مسلم، وآخره أبو يعلى من حديث أنس-رضي الله عنه.
الإعراب: {وَيُعَذِّبَ:} الواو: حرف عطف. (يعذب): معطوف على (يدخل) منصوب مثله، والفاعل يعود إلى (الله). {الْمُنْفِقِينَ:} مفعول به. (المنافقات): معطوف على ما قبله منصوب مثله. {وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ:} معطوفان على ما قبلهما. {الظّانِّينَ:} صفة للجميع منصوب مثلهن، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وفاعله مستتر فيه. {بِاللهِ:} متعلقان ب: {الظّانِّينَ} . {ظَنَّ:} مفعول مطلق.
وهو مضاف، و {السَّوْءِ:} مضاف إليه.
{عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {دائِرَةُ:} مبتدأ مؤخر، و {دائِرَةُ} مضاف، و {السَّوْءِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها وهي دعائية. {وَغَضِبَ اللهُ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، لا محلّ لها مثلها.
{عَلَيْهِمْ:} متعلقان بما قبلهما. (لعنهم): ماض ومفعوله، وفاعله يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا، وما بعدها معطوفة أيضا. {وَساءَتْ:} الواو: حرف استئناف. (ساءت): فعل ماض جامد لإنشاء الذم، وفاعله مستتر فسره التمييز، وهو:{مَصِيراً} والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: هي جهنم، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها.
{وَلِلّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)}
الشرح: تقدّم تفسيرها في الاية رقم [4]. بقي أن تعلم ما فائدة التكرير، ولم قدم ذكر جنود السموات والأرض على إدخال المؤمنين والمؤمنات الجنة؟ ولم أخّر ذكر جنود السموات
والأرض هنا بعد تعذيب المنافقين والكافرين؟ فنقول: فائدة التكرار للتأكيد، وجنود السموات والأرض منهم من هو للرحمة، ومنهم من هو للعذاب، فقدّم ذكر جنود السموات والأرض قبل إدخال المؤمنين الجنة ليكون مع المؤمنين جنود الرحمة، فيثبتوهم على الصراط، وعند الميزان، فإذا دخلوا الجنة؛ أفضوا إلى جوار الله تعالى، ورحمته، والقرب منه، فلا حاجة لهم بعد ذلك إلى شيء. وأخّر ذكر جنود السموات والأرض بعد تعذيب الكافرين، والمنافقين ليكون معهم جنود السخط، فلا يفارقوهم أبدا.
فإن قلت: قال في الاية الأولى: {وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} وقال في هذه الاية: {وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً} فما معناه؟ قلت: لما كان في جنود السموات والأرض من هو للرحمة، ومن هو للعذاب، وعلم الله ضعف المؤمنين؛ ناسب أن تكون خاتمة الأولى:{وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} ولما بالغ في وصف تعذيب الكافر، والمنافق، وشدته؛ ناسب أن تكون خاتمة الاية الثانية:{وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً} فهو كقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ؟} وقوله تعالى: {فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} انتهى. بحروفه من الخازن، والمراد في الموضعين: التخويف، والتهديد، فلو أراد الله إهلاك المنافقين، والمشركين؛ لم يعجزه ذلك، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. وانظر الإعراب في الاية رقم [4] ففيها الكفاية.
{إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8)}
الشرح: الخطاب في هذه الاية للنبي صلى الله عليه وسلم ذكره في معرض الامتنان عليه؛ حيث شرّفه بالرسالة، وبعثه إلى الناس كافة، شاهدا على أعمال أمته، ومبشرا لمن آمن به، وأطاعه بالثواب، ونذيرا لمن خالفه، وعصى أمره بالعقاب. قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [143]:
{وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} وقال تعالى في سورة (النساء) رقم [41]: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} .
الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {أَرْسَلْناكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(إنّ)، والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة، لا محلّ لها. {شاهِداً:} حال، وما بعده معطوف عليه، وهذه الحال مقدرة. وخذ ما يلي:
الحال بالنسبة للزمان على ثلاثة أقسام: حال مقارنة، وهي الغالبة، نحو قوله تعالى حكاية عن قول امرأة إبراهيم-عليه، وعلى نبينا ألف صلاة، وألف سلام-:{وَهذا بَعْلِي شَيْخاً} .
وحال مقدرة، وهي المستقبلة، نحو قوله تعالى:{فَادْخُلُوها خالِدِينَ} وكما في هذه الاية. وحال محكية، وهي الماضية، نحو جاء زيد أمس راكبا. وهناك الحال الموطئة، وهي التي تذكر توطئة
للصفة بعدها، بمعنى أنّ المقصود الصفة، وهذا كثير في القرآن الكريم، خذ قوله تعالى:
{وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ} وقوله جلّ شأنه: {إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} . ثم الحال تنقسم إلى قسمين: إما مؤسسة، وإما مؤكدة، فالأولى: هي التي لا يستفاد معناها بدونها، نحو: جاء زيد راكبا، وأكثر ما تأتي الحال من هذا النوع، والمؤكدة: هي التي يستفاد معناها بدونها، وإنما يؤتى بها للتوكيد، وهي ثلاثة أنواع:
1 -
ما يؤتى بها لتوكيد عاملها، وهي التي توافقه معنى فقط، أو معنى ولفظا. فالأول، نحو قوله تعالى:{فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها،} ومنه قوله تعالى في كثير من الايات: {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} . والثاني، نحو قوله تعالى:{وَأَرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولاً} .
2 -
ما يؤتى بها لتوكيد مضمون جملة مقصودة من اسمين معرفتين جامدين، نحو:«هو الحقّ بيّنا، أو صريحا» . وقول سالم بن دارة اليربوعي، وهذا هو الشاهد رقم [385] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [البسيط] أنا ابن دارة معروفا بها نسبي
…
وهل بدارة يا للنّاس من عار؟
3 -
ما يؤتى بها لتوكيد صاحبها، كقوله تعالى:{وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} وهناك الحال اللازمة في قراءة من قرأ قوله تعالى في سورة (ص) رقم [29]: {(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ)} لأنّ البركة لا تفارقه.
الشرح: {لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته. وتقرأ الأفعال كلها بالتاء، والياء، وانظر (الإيمان) في الاية رقم [2] من سورة (محمد صلى الله عليه وسلم. {وَتُعَزِّرُوهُ:} وتقووه بتقوية دينه، وتنصروه على أعدائه. والتعزير: نصر عظيم. {وَتُوَقِّرُوهُ:} تعظموه، وتفخموه، والتوقير:
التعظيم. قال القرطبي: والهاء فيهما للنبي صلى الله عليه وسلم، وهنا وقف تام، ثم تبتدئ:{وَتُسَبِّحُوهُ} أي:
تسبحوا الله. وقيل: الضمائر كلها لله تعالى، فعلى هذا يكون تأويل:{وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} أي:
تثبتوا له صحة الربوبية، وتنفوا عنه أن يكون له ولد، أو شريك. واختار هذا القول القشيري، وهو اختيار الزمخشري في الكشاف أيضا.
هذا؛ والتعزير: التوقير، والتعظيم، وهو أيضا: التأديب، ومنه: التعزير؛ الذي هو دون الحد، فهو من الأضداد. وانظر الأضداد في الاية رقم [10] من سورة (الجاثية). هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (المائدة) رقم [12]:{*وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي}
{وَعَزَّرْتُمُوهُمْ..} . إلخ. وقال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [157] في مدح وبيان أتباع محمد صلى الله عليه وسلم:
{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ..} . إلخ. {وَتُسَبِّحُوهُ:} معناه: إذا ذكرتموه ينبغي أن يكون ذكركم إياه على وجه التعظيم، والتقديس، والتنزيه عن كل سوء. {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي: أول النهار، وآخره. وخصّا بالذكر؛ لأنّ ملائكة الليل، وملائكة النهار يجتمعون في هذين الوقتين، كما في الحديث الشريف الصحيح: «يتعاقبون فيكم ملائكة باللّيل وملائكة بالنّهار
…
إلخ».
وإنّما اختصّ التسبيح بالذكر من بين أنواع الذكر لبيان فضله على سائر الأذكار، كما اختص جبريل، وميكائيل بالذكر من بين الملائكة لبيان فضلهما؛ لأن معنى التسبيح: تنزيه الله تعالى عما لا يجوز عليه من الصفات، ويجوز أن يراد بالذكر، والتسبيح، والإكثار منهما تكثير الطاعات، والعبادات، فإنها من جملة الذكر، ثم خصّ من ذلك التسبيح بكرة، وهي صلاة الفجر، وأصيلا وهي صلاة الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء لمزيد الاهتمام بشأن الصلاة. هذا؛ والتسبيح يأتي بمعنى الدعاء، قال جرير:[الطويل] فلا تنس تسبيح الضّحى إنّ يوسفا
…
دعا ربّه فاختاره حين سبّحا
وإنّما خصّ هذين الوقتين بالذكر؛ لأنّ الإنسان يقوم بالغداة من النوم الذي هو أخو الموت، فاستحبّ له أن يستقبل حالة الانتباه من النوم، وهو وقت الحياة من موت النوم بالذكر؛ ليكون أول أعماله ذكر الله عز وجل، وأمّا وقت الأصيل، وهو آخر النهار، فإنّ الإنسان يريد أن يستقبل النوم، الذي هو أخو الموت، فيستحب له أن يستقبله بالذكر؛ لأنه حالة تشبه الموت، ولعله لا يقوم من تلك النومة، فيكون موته على ذكر الله عز وجل.
هذا؛ وقد جاء لفظ التسبيح في القرآن الكريم بالماضي أحيانا، وبالمضارع أحيانا، وبالأمر أحيانا، وبالمصدر أحيانا أخرى، استيعابا لهذه المادة من جميع جهاتها، وألفاظها، وهي أربع:
المصدر، والماضي، والمضارع، والأمر. وهذا الفعل بألفاظه الأربعة، قد عدّي باللام تارة، مثل قوله تعالى:{سَبَّحَ لِلّهِ،} وقوله جلّت حكمته: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ..} . إلخ، وبنفسه أخرى، مثل قوله تعالى شأنه في هذه الاية:{وَتُسَبِّحُوهُ،} وفي سورة (الأحزاب) رقم [42]:
{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً،} وقوله جلّت قدرته في آخر سورة (ق): {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ} وأصله التعدي بنفسه؛ لأنّ معنى سبّحته بعدته من السوء، منقول من سبح: إذا ذهب، وبعد، فاللام إمّا أن تكون مثل: نصحته، ونصحت له، وشكرته، وشكرت له، وإما أن يراد يسبح لله: اكتسب التسبيح لأجل الله، ولوجهه خالصا.
هذا؛ والبكرة بمعنى: الغدوة، يقال: بكّر بالتشديد، وابتكر، وأبكر، وباكر، وبكر بالتخفيف خرج في وقت البكرة، قال زهير في معلّقته رقم [13]:[الطويل] بكرن بكورا واستحرن بسحرة
…
فهنّ ووادي الرّسّ كاليد في الفم
بمعنى خرجت النسوة في وقت البكرة. وقيل: بكر بالتخفيف: جاء بكرة، وبكّر بالتشديد فإنه للمبادرة؛ أيّ وقت كان، ومنه: بكّروا لصلاة المغرب؛ أي: صلّوها عند قرص الشمس.
انتهى. مختار.
هذا؛ والبكرة، والغداة، والغدو: النصف الأول من النهار، والأصيل والعشي: النصف الاخر من النهار، مع الاختلاف في تحديد كل منهما. والأصيل: الوقت بين العصر، والمغرب على الراجح، ويجمع على: آصال، وعلى أصائل، وأصل، وأصلان. وقيل: الاصال جمع:
أصل، والأصل جمع: أصيل، ثم أصائل جمع الجمع، قال أبو ذؤيب الهذلي:[الطويل] لعمري لأنت البيت أكرم أهله
…
وأجلس في أفيائه بالأصائل
هذا؛ ويطلق الأصيل على الشعاع الممتد من الشمس إلى الماء مثل الحبال، ويشبه لون أشعته في الماء لون الذهب. هذا؛ وأضيف: أنّ من جمع الأصيل على: أصل قول الأعشى في معلّقته رقم [14]: [البسيط] يوما بأطيب منها نشر رائحة
…
ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل
الإعراب: {لِتُؤْمِنُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{أَرْسَلْناكَ} . {بِاللهِ:}
متعلقان بالفعل قبلهما. (رسوله): معطوف على لفظ الجلالة، والهاء في محل جر بالإضافة، والأفعال الثلاثة:{وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} معطوفة على (تؤمنوا) منصوبة مثله، والواو فاعله، والهاء مفعول به. {بُكْرَةً:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. (أصيلا): معطوف على ما قبله.
الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بيعة الرضوان، التي تعرفها في الاية رقم [18]. {إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ:} لأنهم باعوا أنفسهم من الله عز وجل بالجنة، وأصل البيعة: العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل الطاعة للإمام، والوفاء بالعهد الذي التزمه له. والمراد بهذه البيعة: بيعة الرضوان بالحديبية. وهي قرية ليست بكبيرة، بينها وبين مكة مرحلة، سميت ببئر هناك، وانظر الاية رقم [18].
{يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ:} قيل: يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء. ويده عليهم بالمنة، والهداية فوق أيديهم في الطاعة. وقال الكلبي: معناه: نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة.
وقال ابن كيسان: قوة الله، ونصرته فوق قوتهم، ونصرتهم. هذا؛ وقال الخازن: لمّا بين الله تعالى: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل؛ بيّن أن منزلته، وقدره عند الله بحيث يكون من بايعه صورة؛ فقد بايع الله عز وجل حقيقة؛ لأن من بايعه صلى الله عليه وسلم على أن لا يفر من موضع القتال إلى أن يقتل، أو يفتح الله لهم، وإن كان يقصد ببيعته رضا الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرا، لكن إنما يقصد بها حقيقة رضا الرحمن، وثوابه، وجنته. سميت المعاهدة المذكورة بالمبايعة، التي هي مبادلة المال بالمال تشبيها لها بالمبايعة في اشتمال كل واحدة منهما على معنى المبادلة؛ لأنّ المعاهدة أيضا مشتملة على المبادلة بين التزام الثبات في محاربة الكافرين، وبين ضمانه عليه السلام لمرضاة الله تعالى عنهم، وإثابته إياهم بجنات النعيم في مقابلة ذلك الثبات، فأطلق اسم المبايعة على هذه المعاهدة على سبيل الاستعارة، ثم إنه لما كان ثواب ثباتهم في الحرب إنما يصل إليهم من قبله تعالى؛ كان المقصود من المبايعة معه عليه السلام المبايعة مع الله، فإنه عليه السلام سفير، ولما جعلت المبايعة مع الرسول صلى الله عليه وسلم مبايعة مع الله، وشبه الله بالمبايع؛ أثبت له ما هو من لوازم المبايع حقيقة، وهو اليد على طريق الاستعارة التخييلية، يعني: أن في اسم الله استعارة بالكناية، واليد تخييل مع أن فيها أيضا مشاكلة لذكرها مع أيدي الناس. فتلخص: أنّ في هذا التركيب استعارة تصريحية تبعية في الفعل، ومكنية في الاسم الكريم، وتخييلية في إثبات اليد له، وفيه مشاكلة في مقابلة يده بأيديهم. انتهى. جمل نقلا من هنا، وهناك.
وقال السدي: كانوا يأخذون بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبايعونه، ويد الله فوق أيديهم في المبايعة، وذلك؛ لأن المتبايعين إذا مدّ أحدهما يده إلى الاخر في البيع، وبينهما ثالث يضع يده على يديهما، ويحفظهما إلى أن يتم العقد، ولا يترك أحدهما يد الاخر، حتى يلزم، ولا يتفاسخان، فصار وضع اليد فوق الأيدي سببا لحفظ البيعة، فقال: يد الله فوق أيديهم؛ أي:
يحفظهم على البيعة، كما يحفظ المتوسط أيدي المتبايعين، وانظر ما ذكرته في سورة (ص)[75] وفي سورة (الذاريات)[47].
{فَمَنْ نَكَثَ:} نقض العهد بعد البيعة. {فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ} أي: يرجع ضرر نكثه عليه؛ لأنه حرم نفسه الثواب، وألزمها العقاب. قال أبو بكر الصديق-رضي الله عنه: ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه، وقرأ هذه الاية وقوله تعالى في سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{يا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ} رقم [23]، وقوله تعالى في سورة (فاطر):{وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ} رقم [43]، وانظر ما ذكرته في سورة (الزخرف) رقم [50].
{وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ:} يقرأ بضم هاء الجلالة وجرها في هذه الاية، والمراد في هذه الاية معاهدة بيعة الحديبية للنبي صلى الله عليه وسلم. هذا؛ وعهد بني آدم لله قديم أزلي، وحديث يتجدد في كل وقت وحين، فالقديم يتجلّى في قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [172]:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ}
{بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} والحديث الذي يتجدد في كل وقت وحين، وذلك إذا قال المسلم:«لا إله إلاّ الله محمد رسول الله» وإذا قال: «رضيت بالله تعالى ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا وشفيعا» . {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً:} وذلك في الاخرة، وهو الجنة. هذا؛ ويقرأ الفعل بالياء والنون، قراءتان سبعيتان.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {يُبايِعُونَكَ:} مضارع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {يُبايِعُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله.
{اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ} . {يَدُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {اللهَ} مضاف إليه. {فَوْقَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، و {فَوْقَ:}
مضاف، و {أَيْدِيهِمْ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل رفع خبر ثان ل:{إِنَّ،} أو في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط، أو هي مستأنفة لا محلّ لها، اعتبارات ثلاثة، والجملة الاسمية:{إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ، مبتدأة، أو مستأنفة لا محلّ لها.
{فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {نَكَثَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من)، ومفعوله محذوف. {فَإِنَّما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنما): كافة ومكفوفة. {يَنْكُثُ:}
فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (من) أيضا ومفعوله محذوف أيضا. {عَلى نَفْسِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما رأيت في الاية رقم [10] من سورة (الشورى). هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا مبتدأ، فجملة:{نَكَثَ} مع مفعوله المحذوف صلته، وجملة:{فَإِنَّما يَنْكُثُ..} . إلخ، في محل رفع خبره، ودخلت الفاء على الخبر؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم.
{وَمَنْ أَوْفى:} مثل سابقه محلا، وإعرابا. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.
{عاهَدَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من). {عَلَيْهُ:} متعلقان بما قبلهما. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، وجملة:{عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ} صلة الموصول، لا محلّ لها. {فَسَيُؤْتِيهِ:} الفاء:
واقعة في جواب الشرط، أو زائدة في خبر الموصول. السين: حرف استقبال وتنفيس. (يؤتيه):
فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (الله)، والهاء مفعول به أول. {أَجْراً:} مفعول به ثان. {عَظِيماً:} صفة له، والجملة الفعلية: (سيؤتيه
…
) إلخ قل فيها ما قلته بجملة: (إنما ينكث
…
) إلخ، وتتمة الكلام مثل سابقه على الاعتبارين.
الشرح: {سَيَقُولُ لَكَ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بلا ريب. {الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ:} قال مجاهد، وابن عباس-رضي الله عنهما: يعني: أعراب غفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، والنخع، وأسلم، والديل، وذلك: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا، استنفر من حول المدينة من الأعراب، وأهل البوادي ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت، فأحرم بالعمرة، وساق الهدي، ليعلم الناس: أنه لا يريد حربا، فتثاقل عنه كثير من الأعراب، وتخلفوا، واعتلوا بالشغل، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الاية، وكانوا قالوا: يذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة، وقتلوا أصحابه، يعنون: غزوة أحد، والأحزاب. هذا؛ وقبيلتا غفار، وأسلم صلحت نياتهم فيما بعد، وحسنت أعمالهم، فرضي الله، ورسوله عن هاتين القبيلتين، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد:«غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله» .
{شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا:} يعني: النساء، والذراري، لم يكن لنا من يخلفنا فيهم في غيبتنا عنهم، فلذا تخلفنا عنك. {فَاسْتَغْفِرْ لَنا} أي: إنا مع عذرنا معترفون بالإساءة، والتقصير، فاستغفر لنا بسبب تخلفنا عنك. فكذبهم الله بقوله:{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} المعنى:
إنهم في طلب الاستغفار كاذبون، لا يبالون استغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وهذا هو النفاق. {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً:} فمن يمنعكم من مشيئته، وقضائه، وإرادة شيء فيكم؟
{إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا} أي: سوآ من قتل، أو هزيمة، وهلاك مال، وهلاك أنفس. هذا؛ ويقرأ بفتح الضاد، وضمها، فالأول شائع في كل ضرر، ومصيبة، والثاني خاص بما في النفس، كمرض وهزال، وقد نظم بعضهم الفرق بينهما، كما أورد معاني أخر لهما، فقال:[الرجز] وضدّ نفع قيل فيه ضرّ
…
وجود ضرّة لعرس ضرّ
وسوء حال المرء ذاك ضرّ
…
كذا هزال مرض أو كبر
وفي القاموس المحيط: الضّر، والضّر، والضرر: ضدّ النفع، والشدة والضيق، وسوء الحال، والنقصان يدخل في الشيء، والجمع: أضرار. {أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً} أي: نصرا، وغنيمة، وذلك: أنهم ظنّوا أنّ تخلفهم عن النبي صلى الله عليه وسلم يدفع عنهم الضر، أو يجلب لهم النفع بالسلامة لهم في أنفسهم، وأموالهم، فأخبرهم الله عز وجل: أنه إن أراد شيئا من ذلك؛ لم يقدر أحد على
دفعه. {بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً:} يعني من إظهاركم الاعتذار، وطلب الاستغفار، وإخفائكم النفاق. ولا تنس الطباق، والمقابلة بين: ضرا، ونفعا.
هذا؛ و (أهلونا) جمع: أهل، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: نفر، ومعشر، ورهط. والأهل: العشيرة، وذو القربى، ويطلق على الزوجة، والأولاد، والأتباع، بدليل قوله تعالى:{قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} سورة (هود) رقم [40] والجمع: أهلون، وأهال، وآهال، وأهلات، وأهلات، وبالأولين قرئ قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ} هذا؛ والاية الكريمة إخبار عما يستقبل، فهو من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، انظر الاية رقم [51] من سورة (غافر).
الإعراب: {سَيَقُولُ:} السين: حرف استقبال، وتنفيس. (يقول): مضارع. {لَكَ:} متعلقان به. {الْمُخَلَّفُونَ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {مِنَ الْأَعْرابِ:} متعلقان ب: {الْمُخَلَّفُونَ؛} لأنه اسم مفعول. وقيل: متعلقان بمحذوف حال.
ولا يصح إلاّ من الضمير المستتر في: {الْمُخَلَّفُونَ} . وهو نائب فاعله. {شَغَلَتْنا:} ماض، والتاء للتأنيث، و (نا): مفعول به. {أَمْوالُنا:} فاعل. {وَأَهْلُونا:} الواو: حرف عطف. {وَأَهْلُونا:}
معطوف عليه مرفوع مثله، وعلامة رفعه الواو؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{شَغَلَتْنا..} . إلخ، في محل نصب مقول القول، وجملة:{سَيَقُولُ..} . إلخ، مستأنفة لا محلّ لها. {فَاسْتَغْفِرْ:} الفاء: حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا، وواقعا فاستغفر.
(استغفر): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جواب الشرط المقدر، والكلام في محل نصب مقول القول. {أَمْوالُنا:} متعلقان بالفعل قبلهما.
{يَقُولُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {بِأَلْسِنَتِهِمْ:} متعلقان به، والهاء في محل جر بالإضافة. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {لَيْسَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى:{ما،} وهو العائد. {فِي قُلُوبِهِمْ:} متعلقان بمحذوف خبر:
{لَيْسَ،} والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، وجملة:{يَقُولُونَ..} . إلخ، في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط، وإن اعتبرتها مستأنفة فلا محلّ لها.
{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {فَمَنْ:} الفاء: صلة، أو هي الفصيحة لأنها تفصح عن شرط مقدر. (من): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.
{يَمْلِكُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (من)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {لَكُمْ}
{مِنَ اللهِ:} متعلقان بالفعل: {يَمْلِكُ،} وقيل: متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له. {شَيْئاً:}
مفعول به. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {أَرادَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه. {بِكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {ضَرًّا:} مفعول به. {أَوْ} حرف عطف. {أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً:} معطوف على ما قبله، ومحله مثله.
{بَلْ:} حرف إضراب. {كانَ:} ماض ناقص. {اللهِ:} اسمها. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {خَبِيراً} بعدهما، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء تعملونه. {خَبِيراً:} خبر: {كانَ} .
هذا؛ وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير:
بعملكم، وجملة:{كانَ اللهُ..} . إلخ، مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: {بَلْ ظَنَنْتُمْ:} الخطاب للمنافقين، وللكافرين على السواء. {أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ..} .
إلخ: أي: أن لن يرجع الرسول
…
إلخ إلى المدينة المنورة حين خرجوا قاصدين مكة المكرمة للعمرة، بل يستأصلهم كفار قريش، وقالوا: إن محمدا، وأصحابه أكلة رأس لا يرجعون. {وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ:} يعني: زين الشيطان ذلك الظن عندكم حتى قطعتم به؛ حتى صار الظنّ يقينا عندكم، وذلك: أنّ الشيطان قد يوسوس في قلب الإنسان بالشيء، ويزينه له حتى يقطع به، ولا تنس: أنّ الله هو الفاعل، وليس للشيطان إلاّ الوسوسة، وقد ذكرته لك مرارا. {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ:} أنّ الله يخلف وعده من نصر محمد صلى الله عليه وسلم وإعزاز دينه. وانظر الاية رقم [6].
{وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً:} هلكى. قاله مجاهد. وقال قتادة: فاسدين، لا يصلحون لشيء من الخير. قال عبد الله بن الزبعرى السهمي القرشي:[الخفيف] يا رسول المليك إنّ لساني
…
راتق ما فتقت إذ أنا بور
والبوار: الهلاك، وفي سورة (إبراهيم) رقم [28] قوله تعالى:{*أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ،} وفي المصباح: بار الشيء يبور بورا بالضم: هلك، وبار الشيء بوارا: كسد على الاستعارة؛ لأنه إذا ترك صار غير منتفع به، فأشبه الهالك من هذا
الوجه. وأرض بور: لم تزرع، وبور: جمع بائر، كما في هذه الاية، والاية رقم [18] من سورة (الفرقان) ورجل بائر: فاسد، لا خير فيه. وفي الأساس:«فلان له نوره، وعليك بوره» أي:
هلاكه، ونزلت بوار على الكفار؛ أي: هلاك. ومن المجازات: بارت البياعات: كسدت.
وسوق بائرة: كاسدة. وبارت الأيم: إذا لم يرغب فيها. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعوذ من بوار الأيم.
وبارت الأرض: إذا لم تزرع. وأرض بور، وأرضوان بوار.
الإعراب: {بَلْ:} حرف عطف، وإضراب. {ظَنَنْتُمْ:} فعل، وفاعل. {أَنْ:} حرف مشبه بالفعل مخفف من الثقيلة، واسمه ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنه. {لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {يَنْقَلِبَ:} فعل مضارع منصوب ب: {لَنْ} . {الرَّسُولُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{أَنْ} المخففة من الثقيلة، و {أَنْ} واسمها المحذوف وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسدّ مفعولي:{ظَنَنْتُمْ،} والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها.
{وَالْمُؤْمِنُونَ:} معطوف على {الرَّسُولُ} مرفوع مثله، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ. {إِلى أَهْلِيهِمْ:}
متعلقان بالفعل: {يَنْقَلِبَ} وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر، وحذفت النون للإضافة. والهاء في محل جر بالإضافة. {أَبَداً:} ظرف زمان متعلق بالفعل: {يَنْقَلِبَ} أيضا. {وَزُيِّنَ:} الواو: حرف عطف. (زين): ماض مبني للمجهول. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع نائب فاعل، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{ظَنَنْتُمْ..} . إلخ لا محلّ لها مثلها. {فِي قُلُوبِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَظَنَنْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {ظَنَّ:} مفعول مطلق مبيّن للنوع، و {ظَنَّ} مضاف، و {السَّوْءِ} مضاف إليه، من إضافة الموصوف لصفته، وجملة:{وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا، وإعرابها واضح إن شاء الله تعالى.
{وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13)}
الشرح: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ..} . إلخ: قال الخازن-رحمه الله تعالى-: لمّا بيّن الله تعالى حال المخلّفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيّن حال ظنهم الفاسد، وأن ذلك يفضي بصاحبه إلى الكفر؛ حرّضهم على الإيمان، والتوبة من ذلك الظن الفاسد، فقال تعالى: ومن لم يؤمن بالله ورسوله، وظن أن الله يخلف وعده؛ فإنه كفر، وأنّ الله أعد له جهنّم يصلاها، ويحترق بنارها.
انتهى. وانظر ما ذكرته في الاية رقم [6] من الدليل على وجود جهنم.
هذا؛ وقد أقيم الظاهر مقام الضمير؛ إذ القياس: «فإنا أعتدنا لهم سعيرا» للتهويل، وللإيذان بأن من لم يجمع بين الإيمانين: الإيمان بالله، والإيمان برسوله؛ فهو كافر، ونكّر {سَعِيراً} لأنها
نار مخصوصة كما نكّر {ناراً تَلَظّى} . هذا؛ وانظر شرح {السَّعِيرِ} في الاية رقم [7] من سورة (الشورى). والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يُؤْمِنْ:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ} وهو فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من) تقديره:«هو» . {بِاللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.
{وَرَسُولِهِ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، وجواب الشرط محذوف، التقدير: فلا يحزنك عدم إيمانه. أو فلا يهمك شأنه. وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما رأيت في سورة (الشورى) رقم [10]، وإن اعتبرت (من) اسما موصولا، فهي مبتدأ، صلتها الجملة الفعلية بعدها، والخبر الجملة التي رأيت تقديرها
…
إلخ. {فَإِنّا:} الفاء: حرف تعليل.
(إنا): حرف مشبّه بالفعل، و (نا) اسمها حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {أَعْتَدْنا:}
فعل، وفاعل. {لِلْكافِرِينَ:} متعلقان ب: {سَعِيراً} بعدهما، الذي هو مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية لا محلّ لها؛ لأنها تعليلية، أو هي في محل جزم جواب الشرط، إن اعتبرت الشرط عاملا فيها، أو هي خبر (من) على اعتبارها موصولة، ودخلت الفاء على الخبر؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم.
الشرح: {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي: ملكا، وخلقا، وعبيدا، وفي كثير من الايات زيادة:{وَما بَيْنَهُما} أي: الموجود بين السموات والأرض من أفلاك، وكواكب في السموات، وما على الأرض من جبال، وأنهار، وبحار
…
إلخ، فكل ذلك ملك لله تعالى لا يشركه فيه أحد، وما يملكه الإنسان في هذه الدنيا؛ فإنما هو ملك له في الظاهر، قد منحه الله له؛ ليتمتع به على سبيل الوكالة، والأمانة، وويل لمن قصّر في الوكالة، وخان الأمانة! وانظر الاية رقم [9] من سورة (الزخرف). هذا؛ واللام مفيدة للملك الحقيقي؛ الذي هو اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور.
{يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ:} لمن يستحق المغفرة بسبب توبة، أو طاعة. {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ:} من يستحق العذاب بسبب كفره، أو إدمانه المعاصي. وانظر شرح {شاءَ} في الاية رقم [8] من سورة (الشورى). هذا؛ وقال الخازن: لما ذكر الله حال المؤمنين المبايعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحال الظانين ظنّ السوء أخبر: أن له ملك السموات والأرض، ومن كان كذلك؛ فهو يغفر لمن يشاء بمشيئته، ويعذب من يشاء، ولكن غفرانه، ورحمته أعمّ، وأشمل، وأتمّ، وأكمل. وإليه الإشارة بقوله تعالى:{وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} . انتهى.
الإعراب: {وَلِلّهِ:} الواو: حرف استئناف. (لله): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مُلْكُ:}
مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها، و {مُلْكُ} مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله. {يَغْفِرُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى الله. {لِمَنْ:}
جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. و (من) تحتمل الموصوفة، والموصولة. فهي مبنية على السكون في محل جر باللام، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: للذي، أو لشخص يشاؤه الله، وجملة:{وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ} معطوفة على ما قبلها، فهي مثلها مستأنفة، لا محلّ لها، وإعرابها واضح، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من لفظ الجلالة؛ فلست مفندا. وجملة:{وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} في محل نصب حال من فاعل {يَغْفِرُ} و (يعذب) والرابط: الواو، وإعادة لفظ الجلالة، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.
الشرح: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ} أي: الذين تخلفوا عن الحديبية حين خرج الرسول صلى الله عليه وسلم معتمرا، وحصل ما حصل في ذلك الخروج. {إِذَا انْطَلَقْتُمْ} أي: خرجتم من المدينة، وتوجهتم إلى مكة أيها المؤمنون. {إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها:} يعني: غنائم خيبر. وذلك: أنّ المؤمنين لما انصرفوا من الحديبية على صلح من غير قتال، ولم يصيبوا شيئا من الغنائم، وعدهم الله عز وجل فتح خيبر، وجعل غنائمها لمن شهد الحديبية خاصة عوضا عن غنائم أهل مكة؛ حيث انصرفوا عنهم، ولم يصيبوا منهم شيئا.
{ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ} يعني: إلى خيبر، فنشهد معكم قتال أهلها. وفي هذا بيان كذب المتخلفين عن الحديبية؛ حيث قالوا:{شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا} إذ لم يكن لهم هناك طمع في غنيمة، وهنا قالوا:{ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ} يعني: إلى خيبر، فنشهد معكم قتال أهلها.
{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ} يعني: يريدون أن يغيروا، ويبدلوا مواعيد الله لأهل الحديبية حيث وعدهم غنيمة خيبر لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر، ولم يغب منهم عن خيبر غير جابر ابن عبد الله، فقسم له رسول الله كسهم من حضر. قال ابن إسحاق: وكان المتولي للقسمة بخيبر جبار بن صخر الأنصاري من بني سلمة، وزيد بن ثابت من بني النجار، كانا حاسبين، قاسمين.
{قُلْ} أي: قل لهم يا محمد {لَنْ تَتَّبِعُونا} أي: إلى خيبر. {كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ} يعني: من قبل مرجعنا إليكم: إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، ليس لغيرهم فيها نصيب. هذا؛
ولا تنس: أن النفي ب: «لن» في معنى النهي للمبالغة. {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا} أي: يمنعكم الحسد أن نصيب معكم شيئا من الغنائم، ولما كانوا منافقين لا يعتقدون شيئا، بل يظنون أنها حيل على التوصل إلى المرادات الدنيوية تسبب عن قولهم ذلك قوله تعالى تنبيها على جلافتهم، وفساد ظنونهم، فسيقولون: ليس الأمر كما ذكرت مما ادعيت: أنه قول الله تعالى، بل إنما قلتم ذلك لأنكم تحسدوننا. {بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاّ قَلِيلاً} يعني: لا يعلمون، ولا يفهمون ما لهم، وما عليهم من الدين إلا قليلا منهم، وهو من تاب منهم، وصدق الله، ورسوله.
تنبيه: لما رجع صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي الحجة سنة ست؛ أقام بالمدينة بقيته، وأوائل المحرم من سنة سبع، ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية، ففتحها، وغنم أموالا كثيرة، فخصّها بهم حسبما أمره الله تعالى. ولا تنس: أنّ قوله تعالى: {سَيَقُولُ} {فَسَيَقُولُونَ} إنما هو كلام مستقبل أخبر الله به قبل وقوعه، وهذا من وجوه إعجاز القرآن الكريم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {سَيَقُولُ:} السين: حرف استقبال وتسويف. (يقول): مضارع. {الْمُخَلَّفُونَ:}
فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {إِذَا:} ظرف زمان مجرد عن الشرطية متعلق بالفعل قبله، مبني على السكون في محل نصب. {اِنْطَلَقْتُمْ:}
فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذَا} إليها. {إِلى مَغانِمَ:} متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع، وهي علة تقوم مقام علتين من موانع الصرف. {لِتَأْخُذُوها:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، و (ها): مفعول به، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{اِنْطَلَقْتُمْ} . {ذَرُونا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، و (نا): مفعوله.
{نَتَّبِعْكُمْ:} مضارع مجزوم بجواب الأمر، وجزمه عند الجمهور بشرط محذوف مقدر، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به، والكلام كله في محل نصب مقول القول.
{يُرِيدُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والمصدر المؤول من:{أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ} في محل نصب مفعول به، والجملة:{يُرِيدُونَ..} . إلخ، في محل نصب حال من:
{الْمُخَلَّفُونَ،} أو من: (نا)، والرابط على الاعتبارين الضمير فقط، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلست مفندا. {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {تَتَّبِعُونا:} مضارع منصوب ب: {لَنْ} وعلامة نصبه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، و (نا): مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، والجملة مستأنفة، لا محلّ لها. {كَذلِكُمْ:} الكاف: حرف تشبيه، وجر، و (ذا) اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما
بعده، التقدير: قال الله من قبل قولا مثل هذا القول، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {قالَ اللهُ:} ماض، وفاعله. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بما قبلهما، وبني {قَبْلُ} على الضم؛ لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. وجملة:
{قُلْ..} . إلخ، مستأنفة، لا محلّ لها.
{فَسَيَقُولُونَ:} الفاء: حرف استئناف. السين: حرف استقبال. (يقولون): مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {قَبْلُ:} حرف عطف، وإضراب. {تَحْسُدُونَنا:} مضارع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: فسيقولون: لم يأمركم الله بذلك، بل تحسدوننا، والكلام كله في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية: (سيقولون
…
) إلخ مستأنفة، لا محل لها. {قَبْلُ:} حرف عطف، وإضراب. {كانُوا:} ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{لا يَفْقَهُونَ} في محل نصب خبر (كان)، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {إِلاّ:} حرف حصر. {قَلِيلاً:} صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: إلا فقها قليلا. هذا؛ وإن رددته إلى واو الجماعة، فهو مستثنى منه، ويكون التقدير: إلا قليلا منهم، وبعضهم يعتبره صفة ظرف زمان محذوف، التقدير: إلا وقتا قليلا.
الشرح: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ:} كرر ذكرهم بهذا الاسم، مبالغة في الذم، وإشعارا بشناعة التخلف. {سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} يعني: بني حنيفة قوم مسيلمة الكذاب، وأهل الردة، الذين حاربهم أبو بكر الصديق-رضي الله عنه. لأنّ مشركي العرب، والمرتدين هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام، أو السيف عند أبي حنيفة-رحمه الله تعالى-، ومن عداهم من مشركي العجم، وأهل الكتاب، والمجوس تقبل منهم الجزية. وعند الشافعي-رحمه الله تعالى-لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب، والمجوس دون مشركي العجم، والعرب. وهذا دليل على صحة إمامة أبي بكر-رضي الله عنه، فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [84]:{فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} .
وقيل: هم فارس والروم، ومعنى {يُسْلِمُونَ:} ينقادون؛ لأن الروم نصارى، وفارس مجوس، يقبل منهم إعطاء الجزية، فإن قلت: عن قتادة: أنهم ثقيف، وهوازن، وكان ذلك، في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: إن صح ذلك؛ فالمعنى: لن تخرجوا معي أبدا ما دمتم على ما أنتم عليه من مرض القلوب، والاضطراب في الدين. أو على قول مجاهد كان المعنى: أنهم لا
يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا متطوعين، لا نصيب لهم في المغنم. انتهى. كشاف. هذا؛ ويقرأ:
«(يسلموا)» كما تقول: كل، أو تشبع؛ أي: حتى تشبع، قال امرؤ القيس:[الطويل] فقلت له لا تبك عينك إنّما
…
نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
{فَإِنْ تُطِيعُوا} أي: تستجيبوا، وتنفروا في الجهاد، وتؤدوا الذي عليكم فيه. {يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً} أي: يثبكم ثوابا حسنا، وهو الجنة. {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} أي: تعرضوا عن الجهاد. {كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ:} يعني عام الحديبية. {يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً:} هو عذاب النار، وبئس القرار.
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لِلْمُخَلَّفِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنَ الْأَعْرابِ:} متعلقان ب: (المخلفين)؛ لأنه اسم مفعول، أو هما متعلقان بمحذوف صفة له. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، وعليه فهما حال من نائب الفاعل المستتر ب:(المخلفين).
{سَتُدْعَوْنَ:} السين: حرف استقبال، وتنفيس. (تدعون): فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قُلْ..} . إلخ، مستأنفة، لا محلّ لها. {إِلى قَوْمٍ:} متعلقان بما قبلهما. {أُولِي:} صفة: {قَوْمٍ} مجرور مثله، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {أُولِي} مضاف، و {بَأْسٍ} مضاف إليه. {شَدِيدٍ:} صفة: {بَأْسٍ} . {تُقاتِلُونَهُمْ:}
مضارع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة. قال الجلال:
حال مقدرة، هي المدعو إليها في المعنى، انظر أنواع الحال في الاية رقم [8]. هذا؛ وأجاز أبو البقاء الاستئناف. {أَوْ:} حرف عطف. {يُسْلِمُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وأجاز السمين اعتبارها مستأنفة على تقدير: أو هم يسلمون. هذا؛ وعلى قراءة: «(يسلموا)» فهو منصوب ب: «أن» مضمرة بعد {أَوْ،} بمعنى: حتى يسلموا، وتؤول:«أن» والفعل بمصدر معطوف على مصدر متصيد من الفعل السابق.
{فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {تُطِيعُوا:} مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {يُؤْتِكُمُ:} مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والكاف مفعول به أول. {اللهُ:} فاعله. {أَجْراً:} مفعول به ثان. {حَسَناً:} صفة له، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، وإن ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ له.
{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا:} مثل سابقه. {كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {تَوَلَّيْتُمْ:}
فعل، وفاعل، و (ما) والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور
متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، التقدير: وإن تتولوا توليا مثل توليكم الأول. وهذا ليس مذهب سيبويه. وانظر الاية رقم [35] من سورة (الأحقاف). {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {يُعَذِّبْكُمْ:} مضارع جواب الشرط، والفاعل يعود إلى (الله)، والكاف مفعول به.
{عَذاباً:} مفعول مطلق. {أَلِيماً:} صفة له، وباقي الإعراب واضح إن شاء الله تعالى، و (إن) ومدخولها معطوف على ما قبله.
الشرح: نزلت هذه الاية حين نزلت الأولى، وقال أهل الزمانة، والأعذار: كيف حالنا يا رسول الله؟! والمعنى: ليس على هؤلاء إثم، ومؤاخذة في التخلف عن الجهاد؛ لأنهم لا يقدرون على الكرّ والفرّ، فالأعمى لا يمكنه الإقدام على العدو، والطلب، ولا يمكنه الاحتراز منه، والهرب، وكذلك الأعرج، والمريض. وفي معنى الأعرج الزمن المقعد، والأقطع. وفي معنى المريض صاحب السعال الشديد، والطحال الكبير، والذين لا يقدرون على الكرّ والفرّ.
فهذه أعذار مانعة من الجهاد ظاهرة، ومن وراء ذلك أعذار أخر دون ما ذكر، وهي: الفقر الذي لا يمكّن صاحبه أن يستصحب معه ما يحتاجه إليه من مصالح الجهاد، والأشغال التي تعوق عن الجهاد، كتمريض المريض الذي ليس له من يقوم مقامه عليه ونحو ذلك. وإنما قدّم الأعمى على الأعرج؛ لأنّ عذر الأعمى مستمر، لا يمكن الانتفاع به في حرس، ولا غيره، بخلاف الأعرج؛ لأنه يمكن الانتفاع به في الحراسة، ونحوها، وقدّم الأعرج على المريض؛ لأنّ عذره أشد من عذر المريض لإمكان زوال المرض عن قريب. انتهى. خازن. هذا؛ وهذه الأعذار تعفي من الجندية في هذه الأيام.
{وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ} أي: في أمر الجهاد، وغيره. {يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ..}. إلخ أي: يعرض عن الطاعة، ويستمر على الكفر، والنفاق. {يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً:} وهذا يكون في الاخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلاّ من أتى الله بقلب سليم. هذا؛ وانظر ما ذكرته في الاية رقم [61] من سورة (النور) بشأن أصحاب هذه الأعذار.
الإعراب: {لَيْسَ:} فعل ماض ناقص. {عَلَى الْأَعْمى:} متعلقان بمحذوف خبر: {لَيْسَ} مقدم، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {حَرَجٌ:} اسم: {لَيْسَ} مؤخر، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): صلة لتأكيد النفي، ولا يجوز إعمالها إعمال:{لَيْسَ} لأنها تكررت. {عَلَى الْأَعْرَجِ:} معطوفان على ما قبلهما.
{حَرَجٌ:} معطوف على مثله، والعامل في الأولين، والمعطوفين عليهما عامل واحد، وهو:
{لَيْسَ،} ومثل الاية الكريمة قول الأعور الشني، وهو الشاهد رقم [257] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [المتقارب] هوّن عليك فإنّ الأمو
…
ر بكفّ الإله مقاديرها
فليس بآتيك منهيّها
…
ولا قاصر عنك مأمورها
هذا وجه للإعراب، والوجه الثاني اعتبار (لا) نافية، والجار والمجرور:{عَلَى الْأَعْرَجِ} متعلقين بمحذوف خبر مقدم، و {حَرَجٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها مثلها، و (قل) في الجملة الثانية مثل هذه الجملة. {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف.
(من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَتَوَلَّ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل تقديره:«هو» يعود إلى (من). {يُعَذِّبْهُ:} مضارع جواب الشرط مجزوم، والفاعل يعود إلى (من) أيضا، والهاء مفعول به. {عَذاباً:} مفعول مطلق. {أَلِيماً:} صفة:
{عَذاباً،} وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط. وقيل: هو جملة الجواب. وقيل: هو الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين. هذا؛ ولا يمكن اعتبار (من) اسما موصولا لظهور الجزم في الفعلين. والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع، وإعراب الأولى واضح إن شاء الله تعالى لظهور الجزم في الفعلين، وما يشبه الباقي في الاية رقم [5].
الشرح: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: الراسخين في الإيمان؛ أي: فعل فيهم فعل الراضي بما جعل لهم من الفتح، وما قدّر لهم من الثواب، وأفهم ذلك: أنه لم يرض عن الكافرين، فخذلهم في الدنيا مع ما أعدّ لهم في الاخرة من الخزي والنكال، والعاصون من المسلمين الفاسدون المفسدون سيلقون جزاءهم في الاخرة أيضا. {إِذْ يُبايِعُونَكَ:} بيعة الرضوان بالحديبية. {تَحْتَ الشَّجَرَةِ:} هي من شجر السّمر حصلت البيعة تحتها. {فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ:} من الصدق، والوفاء، كما علم ما في قلوب المنافقين من الشك، والنفاق. {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} أي: أنزل الطمأنينة في قلوب المؤمنين. وانظر الاية رقم [4]. {وَأَثابَهُمْ:} جازاهم، ومنحهم.
{فَتْحاً قَرِيباً:} هو فتح خيبر بعد انصرافهم من الحديبية.
قال الخازن-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: الفاء في: (علم) للتعقيب، وعلم الله قبل الرضا؛ لأنه تعالى علم ما في قلوبهم من الصدق، والإيمان، فرضي عنهم، فكيف يفهم التعقيب
في قوله: {فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ؟} قلت: قوله: {فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ} متعلق بقوله: {إِذْ يُبايِعُونَكَ} فيكون تقديره: لقد رضي الله عن المؤمنين؛ إذ يبايعونك فعلم ما في قلوبهم من الصدق إشارة إلى أنّ الرضا لم يكن عند المبايعة فحسب، بل عند المبايعة التي عندها علم الله بصدقهم، والفاء في قوله:{فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ} للتعقيب؛ لأنه تعالى لما علم ما في قلوبهم؛ رضي عنهم، فأنزل السكينة عليهم.
هذا؛ وكان سبب هذه البيعة على ما ذكر محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي حين نزل الحديبية، فبعثه إلى قريش بمكة، وحمله على جمله صلى الله عليه وسلم ليبلغ أشرافهم: أنّه صلى الله عليه وسلم جاء معتمرا، ولم يجيء محاربا، فعقروا جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتله، فمنعتهم الأحابيش، فخلّوا سبيله، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب-رضي الله عنه؛ ليبعثه إلى مكة، فقال: يا رسول الله! إني أخاف على نفسي قريشا، وليس في مكة من بني عدي بن كعب أحد. وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكن أدلك على رجل هو أعز بها منّي لوجود عشيرته فيها، وهو عثمان بن عفان، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان-رضي الله عنه-فبعثه إلى أبي سفيان، وأشراف قريش يخبرهم: أنّه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا لهذا البيت، معظما لحرمته، وكتب له كتابا بعثه معه، وأمره أن يبشر المستضعفين بمكة بالفتح قريبا، وأن الله سيظهر دينه.
فتوجه عثمان-رضي الله عنه-فوجد قريشا قد اتفقوا على منعه صلى الله عليه وسلم من دخول مكة، ولقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها، فنزل عن فرسه، وحمله بين يديه، وأجاره؛ حتى بلّغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ عليهم الكتاب واحدا واحدا. فصمّموا على أنه لا يدخلها هذا العام، وقالوا لعثمان-رضي الله عنه: إن شئت أن تطوف بالبيت؛ فطف به، قال:
ما كنت لأفعل؛ حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان المسلمون قالوا: هنيئا لعثمان خلص إلى البيت وطاف به دوننا، فقال صلى الله عليه وسلم:«إن ظني به أن لا يطوف حتى نطوف معا» . وبشر عثمان رضي الله عنه-المستضعفين بالفتح القريب، واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا نبرح حتى نناجز القوم» . ودعا الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة.
ووضع النبي صلى الله عليه وسلم شماله في يمينه، وقال:«هذه عن عثمان» وهذا قد يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم علم بنور النبوة: أن عثمان-رضي الله عنه-لم يقتل حتى بايع عنه، فيكون هذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم ويؤيده ما جاء: أنه لما بايع الناس؛ قال: «اللهم إن عثمان في حاجتك، وحاجة رسولك» . وضرب بإحدى يديه على الأخرى، فكانت يده لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم، ولما سمع المشركون بهذه البيعة خافوا، وبعثوا بعثمان ومن معه، وكانوا عشرة. انتهى. جمل. نقلا من الخازن، والمواهب.
هذا؛ والذين حضروا بيعة الرضوان كانوا ألفا وأربعمئة رجل، بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت وعلى أن لا يفروا، كلهم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عدا جدّ بن قيس أخا بني سلمة، قال جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما: فكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته، يستتر بها من الناس.
ثم جرت السفراء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، وطال التراجع، والتنازع إلى أن جاءه سهيل بن عمرو العامري، فوقع الصلح، والمهادنة على أن يرجع الرسول صلى الله عليه وسلم عامه ذلك، فإذا كان من قابل أتى معتمرا، ودخل مكة هو، وأصحابه بغير سلاح، حاشا السيوف في قربها، فيقيم بها ثلاثا، ويخرج. وعلى أن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام، يتداخل فيها الناس، ويأمن بعضهم بعضا، وعلى أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلما من رجل، أو امرأة؛ ردّ إلى الكفار، ومن جاء من المسلمين إلى الكفار مرتدا؛ لم يردوه إلى المسلمين، فعظم ذلك على المسلمين حتى كان لبعضهم فيه كلام، وخذ ما يلي:
جاء عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! ألسنا على حق؛ وهم على باطل؟ قال: «بلى!» قال: أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ قال:
«بلى» . قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع؛ ولما يحكم الله بيننا، وبينهم؟! فقال: يا بن الخطاب إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا. قال: فانطلق عمر، ولم يصبر متغيظا، فأتى أبا بكر-رضي الله عنه، فقال: يا أبا بكر! ألسنا على حق؛ وهم على باطل، قال: بلى! قال:
أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ قال: بلى! قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا، ولمّا يحكم الله بيننا، وبينهم؟! فقال: يا بن الخطاب! إنه رسول الله، ولن يضيعه الله أبدا! وفي رواية قال له: الزم غرزه. فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح، فأرسل إلى عمر، فأقرأه إيّاه. فقال:
يا رسول الله! أو فتح هو؟ قال: «نعم» . فطابت نفسه، فرجع.
بقي أن تعلم نتيجة الشجرة التي جرت تحتها البيعة، فهناك روايات تقول: إن الله أخفى مكانها، حتى إن بعض الصحابة أتوا الحديبية في العام القابل، فلم يهتدوا إليها. من ذلك ما روي: أن عمر-رضي الله عنه-مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة، فقال: أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول: هاهنا، وبعضهم يقول: هاهنا، فلما كثر اختلافهم؛ قال: سيروا ذهبت الشجرة. والمشهور: أن عمر-رضي الله عنه-هو الذي قطعها، وأزال معالمها، وقال: خشيت أن تعبد في الأرض، كما عبدت اللات، والعزّى.
الإعراب: {لَقَدْ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، التقدير: والله. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {رَضِيَ اللهُ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية جواب القسم لا محلّ لها. {عَنِ الْمُؤْمِنِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل: {رَضِيَ} . {يُبايِعُونَكَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذْ} إليها. {تَحْتَ:}
ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والمقام للماضي، وأتي بصيغة المضارع لاستحضار صورة المبايعة، و {تَحْتَ} مضاف، و {الشَّجَرَةِ} مضاف إليه. {فَعَلِمَ:} الفاء: حرف عطف. (علم):
ماض، والفاعل يعود إلى الله تقديره:«هو» ، والجملة الفعلية معطوفة على جملة جواب القسم، لا محلّ لها. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {فِي قُلُوبِهِمْ:}
متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَأَنْزَلَ:} الفاء: حرف عطف. (أنزل): ماض، وفاعله يعود إلى (الله). {السَّكِينَةَ:} مفعول به. {عَلَيْهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها أيضا. {وَأَثابَهُمْ:} الواو: حرف عطف. (أثابهم): ماض، ومفعوله الأول، وفاعله يعود إلى (الله). {فَتْحاً:} مفعول به ثان.
{قَرِيباً:} صفة: {فَتْحاً،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا.
{وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)}
الشرح: {وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها:} يعني من أموال أهل خيبر، وكانت خيبر ذات نخيل، وعقار، وأموال، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، وذلك: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية؛ أقام بالمدينة بقية ذي الحجة، وبعض المحرم، ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم سنة سبع. انظر غزوة خيبر مفصلة في كتب السيرة. وإني أكتفي منها هنا بأمرين:
الأول: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين صفية-رضي الله عنها، فقد كانت-رضي الله عنها-قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق: أن قمرا وقع في حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها، فقال: ما هذا إلاّ أنك تتمنين ملك الحجاز محمدا، ثم لطم وجهها لطمة اخضرت منها عينها. فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبها أثر منها، فسألها عن ذلك، ما هو؟ فأخبرته الخبر، وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بزوجها كنانة بن الربيع، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله، فجحد أن يكون يعلم مكانه، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل من اليهود، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة:«أرأيت إن وجدناه عندك، أنقتلك؟» قال: نعم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة، فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله ما بقي، فأبى أن يؤديه إليه، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير بن العوام-رضي الله عنه-أن يعذبه حتى يستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح بزنده على صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه إلى محمد بن مسلمة-رضي الله عنه، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة الذي ألقت عليه اليهود حجرا، فقتله. هذا؛ وإن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية-رضي الله عنها-وجعل عتقها صداقها.
الأمر الثاني: ما فعلته اليهودية من سم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك منها بعد فتح خيبر، واستلام النبي صلى الله عليه وسلم مفاتيح أبواب حصونها المنيعة. قال الخازن-رحمه الله تعالى-: فلما اطمأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث، امرأة سلام بن مشكم اليهودية شاة مشوية، وسألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها السمّ وسمّت سائر الشاة، ثم جاءت بها على سبيل الهدية، فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الذراع، فأخذها، فلاك منها قطعة، فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور، فأخذ منها، كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما بشر فأساغها-أي: ابتلعها-، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها، وقال: إن هذا العظم ليخبرني: أنه مسموم، ثم دعا بالمرأة، فاعترفت، فقال:«ما حملك على ذلك؟» .
فقالت: بلغت من قومي ما لا يخفى عليك، فقلت: إن كان ملكا؛ استرحنا منه، وإن كان نبيا يخبره ربه. فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات بشر-رضي الله عنه.
هذا؛ وفي زيني دحلان روايتان: إحداهما تقول: إن المرأة أسلمت، وعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثانية تقول: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم دفع المرأة لأولياء بشر، رضي الله عنه، فقتلوها به قصاصا، والرواية الأولى أولى بالاعتبار؛ لأنّ إسلامها يحقن دمها، والإسلام يجبّ ما قبله.
ويروي: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لأم بشر: «يا أم بشر ما زالت أكلة خيبر؛ التي أكلت مع ابنك تعاودني، فهذا أوان انقطاع أبهري» . فكان المسلمون يرون: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيدا مع ما أكرمه الله تعالى به من النبوة.
ثم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم خيبر، فأعطى الراجل سهما، والفارس ثلاثة أسهم، بعد أن خمسها خمسة أجزاء، كما فعل بغنائم بدر، انظر الاية رقم [41] من سورة (الأنفال) والغنائم تشمل المنقول، والأموال، والعبيد، أما الأرض فتركها لأهلها يعملون فيها بشطر ما يخرج منها من ثمر، أو زرع، وقال لهم:«إنا إذا شئنا أن نخرجكم منها؛ أخرجناكم» . ثم استمروا على ذلك إلى خلافة عمر-رضي الله عنه، فوقعت منهم خيانة وغدر ببعض المسلمين، فأجلاهم إلى الشام بعد أن استشار الصحابة-رضي الله عنهم-في ذلك، والله أعلم.
الإعراب: {وَمَغانِمَ:} الواو: حرف عطف. (مغانم): معطوف على: {فَتْحاً قَرِيباً} . وقال أبو البقاء: مفعول به لفعل محذوف دلّ عليه ما قبله، وقال القرطبي: بدل من: {فَتْحاً قَرِيباً،} والواو مقحمة، وليس بشيء. {كَثِيرَةً:} صفة: (مغانم). {يَأْخُذُونَها:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، و (ها): مفعوله، والجملة الفعلية صفة (مغانم)، أو في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدم، وجملة:{وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً} مستأنفة، وإعرابها واضح لا خفاء به.
الشرح: {وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها:} هي المغانم التي تغنمونها من الفتوحات؛ التي تفتح لكم إلى يوم القيامة. وهذا وعد من العزيز العليم، وقد حقق وعده، وأنجز عهده حين
كان المسلمون مسلمين صادقين؛ حيث فتحوا بلاد فارس، والروم في أقل من ثلاثين سنة، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع، وإنجاز الوعد. {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ:} يعني مغانم خيبر، وفيه إشارة إلى كثرة الفتوحات، والغنائم التي يعطيهم الله عز وجل إياها في المستقبل، وإنما عجل لهم هذه كعجالة الراكب عجلها الله لهم. وهي في جنب ما وعدهم الله به من الغنائم كالقليل من الكثير.
{وَكَفَّ أَيْدِيَ النّاسِ عَنْكُمْ:} وذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قصد خيبر، وحاصر أهلها؛ همّت قبائل من بني أسد، وغطفان أن يغيروا على عيال المسلمين، وذراريهم بالمدينة، فكفّ الله عز وجل أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم. وقيل: المعنى: إن الله عز وجل كفّ أيدي أهل مكة بالصلح عنكم لتمام المنة عليكم. {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} يعني: ولتحصل لمن بعدكم آية تدلهم على أن ما وهبكم الله يحصل مثله لهم. وقيل: ولتكون آية للمؤمنين دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في إخباره عن الغيوب، فيزدادوا يقينا إلى يقينهم، ويعلموا: أن الله هو المتولي حياطتهم، وحراستهم في مشهدهم، ومغيبهم. {وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً} أي: ويهديكم إلى دين الإسلام، ويثبتكم عليه، ويزيدكم بصيرة، ويقينا بما أنعم عليكم من صلح الحديبية، وفتح خيبر، ونحوهما، بسبب انقيادكم لأمر الله، واتباعكم طاعته، وموافقتكم رسوله صلى الله عليه وسلم.
الإعراب: {وَعَدَكُمُ:} ماض، ومفعوله الأول. {اللهُ:} فاعل. {مَغانِمَ:} مفعول به ثان.
{كَثِيرَةً:} صفة: {مَغانِمَ} . {تَأْخُذُونَها:} مضارع مرفوع، والواو فاعله، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية صفة:{مَغانِمَ،} أو حال منها، كما في الاية السابقة، وجملة:{وَعَدَكُمُ..} .
إلخ، مستأنفة، لا محلّ لها. {فَعَجَّلَ:} الفاء: حرف عطف. (عجل): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {لَكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما مفعوله الثاني. {هذِهِ:} اسم إشارة مبني على الكسرة في محل نصب مفعوله الأول، والهاء حرف تنبيه، لا محلّ له، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {وَكَفَّ:} الواو: حرف عطف. (كف): ماض، وفاعله يعود إلى (الله) أيضا. {أَيْدِيَ:} مفعول به أول، وهو مضاف، و {النّاسِ} مضاف إليه.
{عَنْكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {وَلِتَكُونَ:} الواو: مقحمة عند الكوفيين، وعاطفة عند البصريين. (لتكون): فعل مضارع ناقص منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، واسمها ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى الكلام السابق، التقدير: ولتكون المعجلة، أو لتكون هزيمتهم، وسلامتكم. {آيَةً:} خبر (تكون). {لِلْمُؤْمِنِينَ:} متعلقان بمحذوف صفة: {آيَةً،} و «أن» المضمرة والفعل (تكون) في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(عجل)، أو:(كف) عند الكوفيين، والواو زائدة، والجار والمجرور معطوفان على محذوف عند البصريين، التقدير:{وَكَفَّ أَيْدِيَ النّاسِ عَنْكُمْ} لتشكروه، {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً:} انظر الاية رقم [2].
الشرح: {وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها:} وعدكم الله فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها. {قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها} يعني: حفظها لكم؛ حتى تفتحوها، ومنعها من غيركم؛ حتى تأخذوها. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: علم الله: أنه يفتحها لكم. واختلفوا فيها، فقال ابن عباس: هي فارس، والروم، وما كانت العرب تقدر على قتال فارس، والروم، بل كانوا خولا لهم؛ حتى أقدرهم الله عليهم بشرف الإسلام وعزّته. وقيل: هي خيبر، وعدها الله نبيه صلى الله عليه وسلم، قبل أن يصيبها، ولم يكونوا يرجونها، ففتحها الله لهم. وقيل: هي مكة، وقيل: هوازن. وقيل: هو كل فتح فتحه المسلمون، أو يفتحونه إلى آخر الزمان. {وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً:} لأن قدرته ذاتية، لا تختصّ بشيء دون شيء، فهو القادر أن يمنح المسلمين الصادقين فتح القرى، والبلدان، والعزة والكرامة، وعلو الشأن ما لا يقدر عليه غيره. ولا تنس: أنّ (كان) للاستمرار، انظر الاية رقم [5] وانظر شرح {أُخْرى} في سورة (النجم) الاية رقم [13].
الإعراب: (أخرى): يجوز فيها أوجه: أحدها: أن تكون مرفوعة بالابتداء، و {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها} صفتها، و {قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها} خبرها. الثاني: أنّ الخبر محذوف مقدّر قبلها؛ أي: وثمّ أخرى، وعليه فالجملتان بعدها صفتان لها. الثالث: أن تكون منصوبة بفعل مضمر على شريطة التفسير، فيقدر الفعل من معنى المتأخر، وهو:{قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها} أي: وقضى الله أخرى، وعليه فالجملة بعدها صفتها، والثانية لا محلّ لها؛ لأنها مفسرة. الرابع: أن تكون منصوبة بفعل مضمر، لا على شريطة التفسير، بل لدلالة السياق؛ أي: ووعدكم أخرى، أو وآتاكم أخرى، وعليه فالجملتان بعدها صفتان لها. الخامس: أن تكون مجرورة ب: «ربّ» مقدرة، وتكون الواو واو ربّ ذكره الزمخشري. وتكون الجملة بعدها صفتها، والثانية خبرها، أو صفة ثانية لها، والخبر محذوف. انتهى. جمل. نقلا عن السمين. بتصرف كبير مني. وفي القرطبي:(أخرى) معطوفة على {هذِهِ} أي: فعجّل لكم هذه المغانم، ومغانم أخرى
…
إلخ. وكلام أبي البقاء، ومكي داخل في الوجوه المتقدمة. هذا؛ وقال الجلال-رحمه الله تعالى-:{وَأُخْرى:} صفة:
{مَغانِمَ} مقدرا مبتدأ، وعليه تكون الجملة بعدها صفتها، والثانية خبرا.
{لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَقْدِرُوا:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ} وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {عَلَيْها:} متعلقان بما قبلهما. {قَدْ:}
حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَحاطَ اللهُ:} ماض، وفاعله. {بِها:} متعلقان بما قبلهما، وانظر محل الجملتين فيما تقدم. {وَكانَ:} الواو: حرف استئناف. (كان): ماض ناقص.
{اللهُ:} اسمها. {عَلى كُلِّ:} متعلقان ب: {قَدِيراً} بعدهما، و {كُلِّ:} مضاف، و {شَيْءٍ}
مضاف إليه. {قَدِيراً:} خبر: (كان)، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من لفظ الجلالة؛ فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو وإعادة لفظ الجلالة.
الشرح: {وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا:} من أهل مكة، ولم يصالحوا في الحديبية. وقيل: هم غطفان، وأسد، الذين أرادوا نصرة أهل خيبر، {لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ} أي: لانهزموا، ولكانت الدائرة عليهم. {ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا:} يلي أمرهم. {وَلا نَصِيراً:} ينصرهم. والمعنى: من تولى الله خذلانه؛ فلا ناصر له، ولا مساعد.
الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.
{قاتَلَكُمُ:} ماض، والكاف مفعوله. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {لَوَلَّوُا:} اللام: واقعة في جواب (لو). (ولوا): ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق. {الْأَدْبارَ:} مفعول به، والجملة الفعلية جواب:(لو)، لا محلّ لها، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ له. {ثُمَّ:} حرف عطف. {لا:} نافية. {يَجِدُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {وَلِيًّا:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جواب:(لو)، لا محلّ لها مثلها. {وَلا:} الواو: حرف عطف.
(لا): صلة لتأكيد النفي، {نَصِيراً:} معطوف على ما قبله.
{سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (23)}
الشرح: {سُنَّةَ اللهِ..} . إلخ: يعني: طريقة الله، وعادته السالفة نصر أوليائه على أعدائه.
هذا؛ والسنة: الطريقة، والشريعة، والمذهب. قال خالد بن زهير الهذلي-وهو الشاهد رقم [923] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل] فلا تجز عن من سيرة أنت سرتها
…
فأوّل راض سنّة من يسيرها
هذا؛ والسنة تكون حسنة، إن كانت في الخير كصلاة التراويح عشرين ركعة، وتكون سيئة إن كانت في الشر. وما أكثر السنن السيئة التي ابتدعها الناس في هذا الزمن. هذا؛ والاية مذكورة في سورة (الأحزاب) رقم [62] انظرها وانظر الاية رقم [43] من سورة (فاطر) ففيهما الكفاية.
الإعراب: {سُنَّةَ:} مفعول مطلق، عامله محذوف، التقدير: سنّ الله ذلك سنة. و {سُنَّةَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة: {سُنَّةَ} . {خَلَتْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث الساكنة؛ التي هي حرف لا محلّ له، والفاعل يعود إلى:{الَّتِي:} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بما قبلهما، وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا، لا معنى. {وَلَنْ:} الواو: حرف عطف. (لن): حرف نفي ونصب واستقبال. {تَجِدَ:} مضارع منصوب ب: (لن)، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {لِسُنَّةِ:} متعلقان ب: {تَبْدِيلاً} أو بمحذوف حال منه، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، و (سنة) مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه
…
إلخ. {تَبْدِيلاً:} مفعول به، وجملة:
(لن تجد
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محلّ لها على الاعتبارين.
الشرح: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} أي: الله هو الذي كفّ أيدي المشركين عنكم أيها المؤمنون، فلم يوقعوا فيكم. {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ:} فلم توقعوا فيهم قتالا؛ بمعنى: حجز الله بين الفريقين بقدرته، وحكمته. {بِبَطْنِ مَكَّةَ:} فيه قولان: أحدهما: يريد مكة. الثاني: يريد الحديبية لأنّ بعضها مضاف إلى الحرم. {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} أي: أقدركم، وسلطكم عليهم، وأمكنكم من رقابهم. وخذ ما يلي:
قال الخازن، ومثله في «أسباب النزول» للسيوطي: سبب نزول هذه الاية ما روي عن أنس بن مالك-رضي الله عنه-أنّ ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين، يريدون غدرا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذوا أسرى، فاستحياهم النبي صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم، فأنزل الله تعالى الاية الكريمة. تفرد بإخراجه مسلم.
وقال عبد الله بن مغفل المزني: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في أصل الشجرة، التي قال الله في القرآن وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة، فرفعته عن ظهره، وعلي بن أبي طالب-رضي الله عنه-بين يديه، يكتب كتاب الصلح، فخرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم، فأخذناهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هل جئتم في عهد، أو هل جعل لكم أحد أمانا؟» . قالوا: اللهم لا، فخلّى سبيلهم. ومعنى الاية: أنّ الله عز وجل ذكر منّته بحجزه بين الفريقين حتى لم يقتتلوا، وحتى وقع الصلح بينهم الذي كان أعظم من الفتح. انتهى. خازن بتصرف. فهاتان روايتان بسبب نزول
الاية، والأولى أقوى، فإنها من رواية مسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وأما الثانية؛ فإنها من رواية أحمد، والنسائي.
الإعراب: {وَهُوَ:} الواو: حرف استئناف. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {كَفَّ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محلّ لها. {أَيْدِيَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {عَنْكُمْ:} متعلقان بالفعل: {كَفَّ} . {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ:} معطوفان على ما قبلهما، المفعول على المفعول، والمجرور على المجرور. {بِبَطْنِ:} متعلقان ب: {كَفَّ،} أو هما متعلقان بمحذوف حال من المصدر المفهوم من: {كَفَّ،} التقدير: حالة كون الكف كان ببطن، و (بطن) مضاف، و {مَكَّةَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بما تعلق به ما قبلهما. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {أَظْفَرَكُمْ:} فعل ماض في محل نصب ب: {أَنْ،} والفاعل يعود إلى الله، والكاف مفعول به، و {أَنْ} والفعل الماضي في تأويل مصدر في محل جر بإضافة {بَعْدِ} إليه.
{عَلَيْهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الاية رقم [11] وهي هنا مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: قريشا. {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} أي: منعوكم من دخول المسجد الحرام عام الحديبية حين أحرم النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بعمرة، ومنعوا الهدي، وحبسوه عن أن يبلغ محله. وهذا كانوا لا يعتقدونه، ولكنه حملتهم الأنفة، ودعتهم حمية الجاهلية إلى أن يفعلوا ما لا يعتقدونه دينا، فوبخهم الله على ذلك، وتوعدهم عليه، وأدخل الأنس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيانه، ووعده.
{وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً:} محبوسا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق سبعين بدنة؛ ليذبحها في الحرم. {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ:} بكسر الحاء: مكانه الذي يحل فيه نحره؛ أي: يجب، وهو الحرم، وهو بفتح الحاء الموضع الذي يحله الناس. هذا؛ وما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين في هذه العمرة من صدّ قريش
لهم عن الحرم يسمى: إحصارا، وذكرت في آية البقرة رقم [196] أن الإحصار من إتمام الحج، أو العمرة يكون بسبب عدو، أو مرض، ونحو ذلك، والمحصر يتحلل في مكانه بذبح شاة في مكان الإحصار عند الشافعي، وعند أبي حنيفة: محل الهدي الحرم، انظر آية (البقرة).
هذا؛ وإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين بالتحلل حينما منع من دخول مكة، وتمّ عقد الهدنة، والمصالحة بينه وبين قريش، ومن تلك الشروط أن يرجع عامه ذلك بدون عمرة، فعظم ذلك على المسلمين، وثقل عليهم، وتوقفوا عن التحلل، حتى غضب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت له زوجه أم سلمة رضي الله عنها: لو نحرت؛ لنحروا، ولو حلقت؛ لحلقوا، فنحر صلى الله عليه وسلم بدنه، وحلق رأسه.
قيل: إن الذي حلق له رأسه يومئذ خراش بن أمية بن أبي العيص الخزاعي، عندئذ تحلّل المسلمون بنحر هديهم، وحلق رؤوسهم، ودعا صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا، وللمقصرين مرة واحدة.
{وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ} يعني: المستضعفين من المسلمين المقيمين في مكة، الذين لم يتمكنوا من العمرة، كسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وأبي جندل، وأشباههم.
{لَمْ تَعْلَمُوهُمْ:} لم تعرفوهم. {أَنْ تَطَؤُهُمْ} أي: بالقتل، والإيقاع بهم. يقال: وطئت القوم، أي: أوقعت بهم. {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ:} المعرة: العيب. أي: يقول المشركون:
قد قتلوا أهل دينهم. وقيل: المعنى يصيبكم من قتلهم ما يلزمكم من أجله كفارة قتل الخطأ؛ لأن الله تعالى إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب؛ إذا لم يكن هاجر منها، ولم يعلم بإيمانه الكفارة دون الدية في قوله:{فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} الاية رقم [92] من سورة (النساء). والمعرة: الإثم والشدة.
وقوله تعالى: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} تفضيل للصحابة، وإخبار عن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية، والعصمة عن التعدي، حتى لو أنهم أصابوا من ذلك أحدا لكان من غير قصد، وهذا كما وصفت النملة جند سليمان-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-في قولها:{لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} وهذا يسمى: احتراسا. {لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ:} قيل: المعنى: لم يأذن الله لكم في قتال المشركين؛ ليسلم بعد الصلح من قدر الله له أن يسلم من أهل مكة، وقد حصل ذلك حيث أسلم الكثير منهم وحسن إسلامهم، ودخلوا في رحمته؛ أي: جنته، كأمثال خالد-رضي الله عنه.
{لَوْ تَزَيَّلُوا} أي: تميز المؤمنون المستضعفون في مكة عن المشركين، وابتعدوا عنهم.
{لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً:} بالقتل، والسبي بأيديكم، قال قتادة في الاية: إن الله تعالى يدفع بالمؤمنين عن الكفار، كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة، وقال علي-رضي الله عنه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الاية: {لَوْ تَزَيَّلُوا..} . إلخ، فقال: «هم المشركون من أجداد نبي الله، ومن كان بعدهم، وفي عصرهم كان في أصلابهم قوم مؤمنون،
فلو تزيل المؤمنون عن أصلاب الكافرين لعذّب الله الكافرين عذابا أليما». وهذا الحديث يضعفه ما ذكرته في الاية رقم [219] من سورة (الشعراء)، وانظر ما ذكرته في الاية رقم [40] من سورة (الحج)، والاية رقم [251] من سورة (البقرة).
هذا؛ وفي المصباح: زاله، يزاله، وزان: ناله، يناله زيالا: نحاه، وأزاله مثله، ومنه:{لَوْ تَزَيَّلُوا} بافتراق، ولو كان من الزوال-وهو الذهاب-لظهرت الواو فيه، وزيّلت بينهم: فرقت، وزايلته: فارقته. انتهى جمل. وانظر شرح المسجد الحرام في الاية رقم [25] من سورة (الحج).
الإعراب: {هُمُ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وجملة:
{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {وَصَدُّوكُمْ:} الواو: حرف عطف.
(صدوكم): ماض، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محلّ لها مثلها. {عَنِ الْمَسْجِدِ:} متعلقان بما قبلهما. {الْحَرامِ:} صفة: {الْمَسْجِدِ} . {وَالْهَدْيَ:}
معطوف على الكاف، التقدير: وصدوا الهدي. وقيل: مفعول معه، ولا وجه لإمكان العطف من غير ضعف. وقرئ بجره عطفا على:{الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} ولا بدّ من تقدير مضاف محذوف؛ أي:
وعن نحر الهدي، وقرئ برفعه على أنه مرفوع بفعل مقدر، لم يسمّ فاعله؛ أي: وصدّ الهدي.
{مَعْكُوفاً:} حال من: (الهدى). {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {يَبْلُغَ:} مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والفاعل يعود إلى (الهدي). {مَحِلَّهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، وأن يبلغ في تأويل مصدر في محل نصب بدلا من:(الهدي)، والخبر محذوف، التقدير: موجودون.
هذا وجه لمحل هذا المصدر، والوجه الثاني هو في محل نصب بنزع الخافض، التقدير: عن أن يبلغ، أو من أن يبلغ، وهذا الجار المقدر يتعلق ب:(صدوكم)، أو يتعلق ب:{مَعْكُوفاً} . والوجه الثالث أنه في محل نصب مفعول لأجله، وهو عند البصريين على تقدير: صدوا الهدي كراهة بلوغه محله، وعند الكوفيين التقدير: لئلا يبلغ محله. ومثل الاية الكريمة قول عمرو بن كلثوم التغلبي في معلقته رقم [97] وهو الشاهد رقم [48] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . [الوافر] نزلتم منزل الأضياف منّا
…
فعجلنا القرى أن تشتمونا
{وَلَوْلا:} الواو: حرف عطف. (لولا): حرف امتناع لوجود. {رِجالٌ:} مبتدأ. {مُؤْمِنُونَ:}
صفة له مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ. {وَنِساءٌ:} الواو: حرف عطف. (نساء) معطوف على ما قبله. {مُؤْمِناتٌ:} صفة (نساء)، والخبر محذوف، التقدير: موجودون. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَعْلَمُوهُمْ:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ} وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية في محل رفع صفة لما قبلها. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {تَطَؤُهُمْ:} مضارع منصوب ب: «أن» ، وعلامة نصبه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله،
والهاء مفعول به، والمصدر المؤول من {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب بدلا من الضمير المنصوب، ويجوز أن يكون بدلا من (رجال) و (نساء) التقدير: لم تعلموا وطأهم، والتقدير على الثاني: ولولا وطء رجال ونساء غير معلومين، وهو في الوجهين بدل الاشتمال، وفي جواب (لولا) ثلاثة أوجه: أحدها: أنه محذوف لدلالة جواب (لو) عليه، التقدير: لولا رجال
إلخ لأذن لكم في قتالهم، لكن لم يأذن فيه. الثاني: أنه مذكور، وهو:{لَعَذَّبْنَا} وجواب (لو) هو المحذوف، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، ومن الثاني لدلالة الأول عليه. والثالث: أن قوله: {لَعَذَّبْنَا،} جوابهما معا. وهو بعيد إن أراد حقيقة ذلك. وقال الزمخشري قريبا من هذا، فإنه قال: ويجوز أن يكون: {لَوْ تَزَيَّلُوا} كالتكرير ل: (لولا) رجال مؤمنون؛ لمرجعهما لمعنى واحد، ويكون:{لَعَذَّبْنَا} هو الجواب. ومنع الشيخ رجوعهما لمعنى واحد، قال: لأن ما تعلّق به الأول غير ما تعلق به الثاني. انتهى. جمل. {فَتُصِيبَكُمْ:} مضارع معطوف على ما قبله منصوب مثله، والكاف مفعول به. {مِنْهُمْ:} متعلقان بما قبلهما. {مَعَرَّةٌ:} فاعله. {بِغَيْرِ:} متعلقان ب: {أَنْ تَطَؤُهُمْ} يعني: أن تطؤوهم غير عالمين بهم. انتهى. كشاف. وأجاز السمين تعليقهما بمحذوف على أنه صفة ل: {مَعَرَّةٌ} وأن يكونا متعلقين بمحذوف حال من مفعول: (تصيبكم). و (غير):
مضاف، و {عِلْمٍ} مضاف إليه.
{لِيُدْخِلَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل. {اللهُ:} فاعله، و «أن» المضمرة بعد لام التعليل، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف، التقدير: كان الكف، ومنع التعذيب؛ ليدخل. {فِي رَحْمَتِهِ:}
متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: الذي يشاؤه.
{لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجملة:{تَزَيَّلُوا} لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:
لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجملة:{لَعَذَّبْنَا} رأيت ما قيل فيها من أوجه. {الَّذِينَ:} مفعول به، وجملة:{كَفَرُوا} صلة الموصول، لا محلّ لها. {مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و (من) بيان لما أبهم في الموصول، {عَذاباً:} مفعول مطلق. {أَلِيماً:} صفة له.
الشرح: قال الزمخشري في كشافه: والمراد بحمية الذين كفروا، وسكينته المؤمنين -والحمية: الأنفة. والسكينة: الوقار-ما روي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بالحديبية؛ بعثت
قريش سهيل بن عمرو القرشي، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص بن الأخيف على أن يعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامه ذلك على أن تخلّي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام، ففعل ذلك، وكتبوا بينهم كتابا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعليّ-رضي الله عنه:«اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» . فقال سهيل وأصحابه: ما نعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم. ثم قال:
«اكتب هذا ما صالح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة» .
فقالوا: لو كنا نعلم أنك رسول الله؛ ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اكتب ما يريدون، فأنا أشهد أني رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله» . فهمّ المسلمون أن يأبوا ذلك، ويشمئزوا منه، فأنزل الله على رسوله وعلى المؤمنين السكينة، فتوقروا، وتحلموا.
و {كَلِمَةَ التَّقْوى} بسم الله الرحمن الرحيم، ومحمد رسول الله قد اختارها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وللذين معه من أهل الخير، ومستحقيه، ومن هم أولى بالهداية من غيرهم. وقيل: هي كلمة الشهادة. وعن الحسن-رضي الله عنه-كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد، ومعنى إضافتها إلى التقوى: أنها سبب التقوى، وأساسها. وقيل: كلمة أهل التقوى. انتهى.
ومعنى (ألزمهم): اختار لهم كلمة الإيمان، والثبات عليها، فهو إلزام إكرام، وتشريف.
{وَكانُوا أَحَقَّ بِها:} من غيرهم أي في علم الله؛ لأنّ الله تعالى اختارهم لدينه. و (أهلها) عطف تفسيري ل: {أَحَقَّ بِها،} أو الضمير في {بِها} لكلمة التوحيد، وفي (أهلها) للتقوى فلا تكرار، فلا يرد: ما فائدة قوله: {وَأَهْلَها} بعد قوله {أَحَقَّ بِها} . انتهى. جمل. {وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} يعني: من أمر الكفار، وما كانوا يستحقونه من العقوبة، وأمر المؤمنين، وما يستحقونه من المثوبة، والأجر، والفضل. وانظر شرح {السَّكِينَةَ} في الاية رقم [4].
الإعراب: {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل: (عذبنا)، أو بالفعل:(صدوكم)، أو ب:«اذكر» محذوفا. {جَعَلَ:} ماض.
{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {فِي قُلُوبِهِمُ:} متعلقان بالفعل: {جَعَلَ،} أو هما متعلقان بمحذوف مفعول ثان تقدم على الأول على اعتباره بمعنى: «صير» وتعدى إلى مفعولين، والهاء في محل جر بالإضافة. {الْحَمِيَّةَ:}
مفعول به. {الْحَمِيَّةَ:} بدل مطابق، و {الْحَمِيَّةَ} مضاف، و {الْجاهِلِيَّةِ} مضاف إليه. {فَأَنْزَلَ اللهُ:}
ماض، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{جَعَلَ..} . إلخ، فهي في محل جر مثلها.
وعند التأمل يتبين لك: أن الجملة معطوفة على شيء مقدر؛ أي: فهمّ المسلمون أن يخالفوا كلام الرسول في الصلح، وكادوا أن يهلكوا
…
فأنزل الله
…
إلخ. {سَكِينَتَهُ:} مفعول به،
والهاء في محل جر بالإضافة. {عَلى رَسُولِهِ:} متعلقان بالفعل: (أنزل)، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ:} معطوفان على ما قبلهما. {وَأَلْزَمَهُمْ:} الواو: حرف عطف.
(ألزمهم): ماض، ومفعوله الأول، والفاعل يعود إلى الله. {كَلِمَةَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر أيضا. و {كَلِمَةَ} مضاف، و {التَّقْوى} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {وَكانُوا:} الواو: حرف عطف.
(كانوا): ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {أَحَقَّ:} خبر (كان).
{بِها:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَحَقَّ} . {وَأَهْلَها:} الواو: حرف عطف. (أهلها): معطوف على {أَحَقَّ،} و (ها): في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَكانُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها {وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} انظر إعراب مثلها في الاية رقم [21].
الشرح: قال الخازن-رحمه الله تعالى-: سبب نزول هذه الاية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام؛ وهو بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية: أنه يدخل المسجد الحرام، هو وأصحابه آمنين، ويحلقون رؤوسهم، فأخبر بذلك أصحابه، ففرحوا، وحسبوا: أنهم داخلو مكة عامهم ذلك، فلما انصرفوا، ولم يدخلوا؛ شق عليهم ذلك، وقال عبد الله بن أبي، وعبد الله بن نفيل، ورفاعة بن الحارث-وهم منافقون-: والله ما حلقنا، ولا قصرنا، ولا رأينا المسجد الحرام! فنزلت الاية الكريمة، ودخل في العام المقبل.
وروي عن مجمع بن حارثة الأنصاري-رضي الله عنه، قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرفنا عنها، إذ الناس يهزون الأباعر، فقال بعضهم: ما بال الناس؟! قال: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فخرجنا نرجف، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفا على راحلته عند كراع الغميم، فلما اجتمع الناس؛ قرأ:{إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} فقال عمر-رضي الله عنه: أهو فتح يا رسول الله؟! قال: نعم والذي نفسي بيده! ففيه دليل على أن المراد من الفتح: هو صلح الحديبية، وتحقيق الرؤيا كان في العام المقبل.
هذا؛ وقوله تعالى: {إِنْ شاءَ اللهُ} ليس استثناء، وإنما هو للتأكيد. {آمِنِينَ} أي: من العدو. {مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ:} التحليق، والتقصير جميعا للرجال، والحلق أفضل للرجال؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثا، وللمقصرين في الرابعة، وليس للنساء إلاّ التقصير. {لا}
{تَخافُونَ:} عدوكم. {فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا} أي: علم ما في التأخير الدخول من الخير والصلاح الذي لم تعلموه أنتم، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع مضى منها إلى خيبر، فافتتحها، ورجع بأموال خيبر، وأخذ من العدة والقوة أضعاف ما كان فيه في ذلك العام، وأقبل على مكة بأهبة، وقوة، وعدة بأضعاف ذلك. {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ} أي: دخول الحرم الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام.
{فَتْحاً قَرِيباً:} هو صلح الحديبية قاله أكثر المفسرين. وقيل: هو فتح مكة. وقيل: هو فتح خيبر، والمعتمد الأول.
هذا؛ ولما كان في ذي القعدة من سنة سبع خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمرا عمرة القضاء هو، وأهل الحديبية الذين كانوا معه حين صدّوا، فأحرم من ذي الحليفة، وساق معه الهدي، وكان ستين بدنة، فلبّى، وصار الناس يلبّون، فلما كان صلى الله عليه وسلم قريبا من مرّ الظهران بعث محمد بن مسلمة-رضي الله عنه-بالخيل، والسلاح أمامه، فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا، وظنّوا:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم، وأنه قد نكث العهد؛ الذي بينه، وبينهم من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا، فأخبروا أهل مكة، فبعثت قريش مكرز بن حفص، فقال: يا محمد! ما عرفناك تنقض العهد! فقال: وما ذاك؟ قال: دخلت علينا بالسلاح، والقسيّ، والرماح، فقال: لم يكن ذلك، وقد بعثنا به إلى يأجج، فقال: بهذا عرفناك بالبر، والوفاء.
ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، خرجت رؤوس قريش من مكة؛ لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه-رضي الله عنهم-غيظا، وحنقا، وأما بقية أهل مكة من الرجال، والنساء، والولدان، فجلسوا في الطرق، وعلى البيوت ينظرون إليهم، فدخلها صلى الله عليه وسلم وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى، وهو راكب ناقته القصواء، التي كان ركبها في الحديبية، وعبد الله بن رواحة-رضي الله عنه-آخذ بزمامها، يقودها، وهو يقول:[الرجز] خلّوا بني الكفار عن سبيله
…
إنّي شهيد أنّه رسوله
خلّوا فكلّ الخير في رسوله
…
يا ربّ إني مؤمن بقيله
نحن قتلناكم على تأويله
…
كما قتلناكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله
…
ويذهل الخليل عن خليله
روى الإمام أحمد-رحمه الله تعالى-عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمّى يثرب، ولقوا منها سوآ، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها شرا، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر، فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة؛ ليرى المشركون جلدهم، قال: فرملوا ثلاثة أشواط، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين
حيث لا يراهم المشركون، ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط كلها إلاّ إبقاء عليهم، فقال المشركون: أهؤلاء الذين زعمتم: أن الحمّى قد وهنتهم؟ هؤلاء أجلد من كذا، وكذا. أخرجه الشيخان، والإمام أحمد، ثم رجع صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة بعد أن أقاموا ثلاثة أيام في مكة المكرمة، وبقيت سنّة الرّمل إلى يوم القيامة.
هذا؛ وفي تعليق الوعد بالمشيئة مع أنّ الله تعالى خالق للأشياء كلها، وعالم بها قبل وقوعها أقوال كثيرة.
الإعراب: {لَقَدْ:} اللام: لام الابتداء، أو هي واقعة في جواب قسم محذوف، التقدير:
والله. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {صَدَقَ اللهُ:} ماض، وفاعله.
{رَسُولَهُ:} مفعوله الأول، والهاء في محل جر بالإضافة. {الرُّؤْيا:} مفعوله الثاني منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية لا محلّ لها على الوجهين المعتبرين باللام. هذا؛ وإن الفعل {صَدَقَ} نصب مفعولين حملا على نقيضه:«كذب» بالتخفيف، وهذا غريب؛ لأنه لم يعهد تعدّي المخفف إلى مفعولين، والمشدد إلى واحد، بل المعروف: أن التضعيف يعدي اللازم إلى واحد، والمتعدي لواحد إلى مفعولين.
{بِالْحَقِّ:} فيه أوجه: أحدها: أن يتعلقا ب: (صدق). الثاني: أن يكونا متعلقين بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف؛ أي: صدقا ملتبسا بالحق. الثالث: أن يتعلقا بمحذوف حال من الرؤيا؛ أي: ملتبسة بالحق. الرابع: أنهما متعلقان بمحذوف، تقديره: أقسم، على أنّ الباء حرف قسم وجر، وجملة:{لَتَدْخُلُنَّ..} . إلخ، جواب هذا القسم، وعلى هذا يوقف على {الرُّؤْيا} ويبتدأ بما بعدها. انتهى. جمل نقلا من السمين بتصرف كبير مني. {لَتَدْخُلُنَّ:} اللام:
واقعة في جواب القسم المحذوف، أو المذكور، أعني:{بِالْحَقِّ} . {لَتَدْخُلُنَّ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة فاعله، والنون للتوكيد حرف لا محل له، والجملة الفعلية جواب قسم محذوف على الوجوه الثلاثة في تعليق {بِالْحَقِّ،} وجواب {بِالْحَقِّ} على الوجه الرابع فيه. وعلى جميع الوجوه؛ فهذا القسم مؤكد للقسم السابق. وقال أبو البقاء: تفسير للرؤيا. {الْمَسْجِدَ:} مفعول به، وانظر الاية رقم [70] من سورة (الزخرف). {الْحَرامَ:} صفة: {الْمَسْجِدَ} . {إِنْ:} حرف شرط جازم.
{شاءَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط. {اللهُ:} فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية لا محلّ لها
…
إلخ، وجواب الشرط محذوف لدلالة المقام عليه.
والجملة الشرطية معترضة بين الحال، وعاملها. والغرض منها التأكيد، والتبرك لا الاستثناء، وفيه أيضا تعليم للعباد أن يقولوا مثل ذلك في جميع شؤونهم.
{آمِنِينَ:} حال من واو الجماعة في {لَتَدْخُلُنَّ} . {مُحَلِّقِينَ:} حال ثانية من واو الجماعة، أو من الضمير المستتر ب:{آمِنِينَ} فهي حال متداخلة، وحال مقدرة. انظر أنواع الحال في الاية رقم [8] وفاعل الحالين ضمير مستتر تقديره:«أنتم» . {رُؤُسَكُمْ:} مفعول به ل: {مُحَلِّقِينَ،} والكاف في محل جر بالإضافة. {وَمُقَصِّرِينَ:} معطوف على {مُحَلِّقِينَ} منصوب مثله، وعلامة النصب في الثلاثة الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنها جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وفاعل:(مقصرين) مستتر فيه، ومفعوله محذوف لدلالة المقام عليه. {لا:}
نافية. {تَخافُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل:{لَتَدْخُلُنَّ،} أو من الضمير المستتر في: {آمِنِينَ،} أو في: {مُحَلِّقِينَ،} أو في:
(مقصرين)، فإن كانت حالا من فاعل {لَتَدْخُلُنَّ،} أو من الضمير في: {آمِنِينَ،} فهي حال مؤكدة، ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة، لا محلّ لها.
{فَعَلِمَ:} الفاء: حرف عطف. (علم): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {فَعَلِمَ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَعْلَمُوا:} مضارع مجزوم ب: {فَعَلِمَ} وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: علم الذي، أو شيئا لم تعلموه، وجملة: (علم
…
) إلخ معطوفة على جملة: {لَقَدْ صَدَقَ..} . إلخ، أو هي مستأنفة، لا محلّ لها على الاعتبارين. (جعل): ماض، والفاعل يعود إلى الله أيضا.
{مِنْ دُونِ:} متعلقان بما قبلهما، و {دُونِ} مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {فَتْحاً:} مفعول به.
{قَرِيباً:} صفة له، وجملة: (جعل
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.
الشرح: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ..} . إلخ: قال الخازن-رحمه الله تعالى-: هذا لبيان صدق الرؤيا، وذلك أن الله لا يري رسوله صلى الله عليه وسلم ما لا يكون، فيحدث الناس، فيقع خلافه، فيكون سببا للضلال، فحقق الله أمر الرؤيا بقوله:{لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} وبقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ} . وفيه بيان وقوع الفتح ودخول مكة. انتهى. والمعنى: أن الله عز وجل هو الذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالنور، والقرآن. {وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي: دين الإسلام؛ ليعليه على جميع الأديان بالحجج الدامغات، والبراهين الساطعات، فتصير الأديان كلها دونه. {وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً} أي: في أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله. وفيه تسلية لقلوب المؤمنين
حينما تأذوا من قول المشركين: لو نعلم أنه رسول الله ما صددناه عن البيت. هذا؛ وفي الاية الكريمة وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بإعلاء دينه. وقد حقق الله وعده، ونصر عبده. وانظر ما ذكرته في الاية رقم [51] من سورة (غافر) عن الصابوني.
تنبيه: قال أبو هريرة، والضحاك: هذا (أي: ما ذكر في الاية الكريمة) عند نزول عيسى عليه السلام. وقال السدي: ذاك عند خروج المهدي، ولا يبقى أحد إلاّ دخل في الإسلام. وأيد ذلك القرطبي، وذكره الزمخشري بلفظ: قيل. ولا تنس: أن الاية مذكورة في سورة (التوبة) برقم [33] وفي سورة (الصف) برقم [9].
هذا؛ والفعل (كفى) في هذه الاية ونحوها هو بمعنى: اكتف، فالباء زائدة في الفاعل عند الجمهور، وهو لازم لا ينصب المفعول به، ومضارعه مثله، كما في قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} الاية رقم [53] من سورة (فصلت)، وقد يأتي بمعنى حسب، وهو في هذه الصيغة، وهو يكون قاصرا، لا يتعدى بنفسه إلى المفعول به، ولا تزاد الباء في فاعله، كما في قول سحيم بن وثيل الرياحي عبد بني الحسحاس، وهذا هو الشاهد رقم [162] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل] عميرة ودّع إن تجهزت غازيا
…
كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا
هذا وقد يأتي الفعل متصرفا بمعنى: يجزي، ويغني، فيتعدى لواحد، ولا تزاد الباء في فاعله، كما هو في قول الشاعر-وهو الشاهد رقم [162] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الوافر] قليل منك يكفيني ولكن
…
قليلك لا يقال له قليل
وإذا كان بمعنى: وقى، أو: قام بكفايته في شأن من الشؤون فإنه يكون متعديا لمفعولين، كقوله تعالى:{وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ} رقم [25] من سورة (الأحزاب).
الإعراب: {هُوَ الَّذِي:} مبتدأ، وخبر. {أَرْسَلَ:} ماض، وفاعله يعود إلى:{الَّذِي،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {رَسُولَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِالْهُدى:} متعلقان بالفعل: {أَرْسَلَ،} أو هما متعلقان بمحذوف حال من: {رَسُولَهُ} . (دين): معطوف على ما قبله، و (دين): مضاف. {الْحَقِّ} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{هُوَ الَّذِي..} . إلخ، مستأنفة، لا محل لها. {لِيُظْهِرَهُ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى (الله)، والهاء مفعول به، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:
{أَرْسَلَ} . {عَلَى الدِّينِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {كُلِّهِ:} توكيد ل: (دين) لأنه بمعنى جميع الأديان، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَكَفى:} الواو: حرف استئناف. (كفى): فعل ماض
مبني على فتح مقدر على الألف. {بِاللهِ:} الباء: حرف جر صلة. (الله): فاعله مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الصلة.
{شَهِيداً:} تمييز. وقيل: حال، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ} أي: حقا، وصدقا. وانظر ما ذكرته في الاية رقم [157] من سورة (الأعراف)، من ذكره في التوراة، والإنجيل. {وَالَّذِينَ مَعَهُ:} المراد بهم: الصحابة الكرام، رضوان الله عليهم. {أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ} أي: غلاظ أقوياء. {رُحَماءُ بَيْنَهُمْ} أي:
متعاطفون، متوادون بعضهم لبعض، كالوالد مع الولد، كما قال تعالى في حقهم:{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ} الاية رقم [54] من سورة (المائدة). وعن أبي الحسن-رضي الله عنه أنه قال: بلغ من تشددهم على الكفار: أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم: أنهم كانوا لا يرى مؤمن مؤمنا إلاّ صافحه، وعانقه. ومن حق المسلمين في كل زمان، ومكان أن يراعوا هذا التشدد، وهذا التعطف، فيتشددوا على من ليس على ملتهم، ودينهم، ويتحاموه، ويعاشروا إخوتهم في الإسلام متعطفين بالبر، والصلة، وكف الأذى، والمعونة، والاحتمال، والأخلاق السجية. انتهى. من الكشاف. وخذ قول النبي صلى الله عليه وسلم:«مثل المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالحمّى، والسّهر» . أخرجه الشيخان عن النعمان بن بشير-رضي الله عنهما. وفي الحديث الصحيح: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» .
{تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} أي: هم مشغولون بالصلاة في أكثر أوقاتهم. {يَبْتَغُونَ:} يطلبون.
{فَضْلاً مِنَ اللهِ} يعني: الجنة. {وَرِضْواناً} أي: أن يرضى الله عنهم. وفيه لطيفة، وهو أنّ المخلص بعمله لله يطلب أجره من الله تعالى، والمرائي لا يبتغي له أجرا، ولا يطلب من الله رضوانا. {سِيماهُمْ} أي: علامتهم. {فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ:} اختلفوا في هذه العلامة على وجهين: أحدهما: أنّ المراد في يوم القيامة. قيل: هي نور، وبياض في وجوههم يعرفون به يوم القيامة: أنهم سجدوا لله في الدنيا. وهي رواية عن ابن عباس-رضي الله عنهما. وقيل: تكون
مواضع السجود في وجوههم كالقمر ليلة البدر. وقيل: يبعثون غرا محجلين يوم القيامة يعرفون بذلك.
والقول الثاني: أنّ ذلك في الدنيا، وذلك: أنهم استنارت وجوههم بالنهار من كثرة الصلاة بالليل. وقيل: هو السمت الحسن، والخشوع، والتواضع. قال ابن عباس-رضي الله عنهما:
ليس بالذي ترون، ولكنه سيما الإسلام، وسجيته، وسمته، وخشوعه. والمعنى: أنّ السجود أورثهم الخشوع، والسمت الحسن يعرفون به. وقيل: هو صفرة الوجه من سهر الليل، ويعرف ذلك في رجلين: أحدهما سهر الليل في الصلاة، والعبادة، والاخر في اللهو، واللعب، فإذا أصبحا ظهر الفرق بينهما، فيظهر في وجه المصلي نور وضياء، وعلى وجه الذي سهر في اللهو، واللعب ظلمة. قال عطاء الخراساني: دخل في هذه الاية من حافظ على الصلوات الخمس.
وقال بعضهم: إنّ للحسنة نورا في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق. وللسيئة ظلمة في القلب، وسواد في الوجه، وضيق في الرزق، وكراهية في قلوب الخلق. وقال عثمان-رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلاّ أبداها الله تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه. وقال عمر-رضي الله عنه: من أصلح سريرته؛ أصلح الله علانيته. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أسرّ أحد سريرة إلاّ ألبسه الله تعالى رداءها، إن خيرا؛ فخير، وإن شرّا؛ فشرّ» .
أخرجه الطبراني عن جندب بن سفيان البجلي-رضي الله عنه.
فالصحابة الكرام-رضي الله عنهم-خلصت نياتهم، وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم، وهديهم. قال الإمام مالك-رضي الله عنه: بلغني: أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا! وصدقوا في ذلك، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظمها، وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا قال تعالى هنا:{ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ} ثم قال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} .
هذا؛ وجاء في التوراة في صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم: دويهم في مساجدهم كدوي النحل. وفي رواية: أصواتهم بالليل في جو السماء كأصوات النحل، رهبان بالليل ليوث بالنهار، وإذا همّ أحدهم بحسنة فلم يعملها؛ كتبت له حسنة واحدة، فإن عملها؛ كتبت له عشرا، وإذا همّ بسيئة، فلم يعملها، كتبت له حسنة، وإن عملها؛ كتبت عليه سيئة واحدة، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالكتاب الأول (أي: بجنس الكتب السابقة) والكتاب الاخر. وهو القرآن.
هذا؛ وروى الإمام أحمد، وغيره بإسناد صحيح: أن الله تعالى قال لعيسى عليه السلام: «يا عيسى! إني باعث بعدك أمة، إن أصابهم ما يحبون؛ حمدوا، وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون؛ صبروا، واحتسبوا، ولا حلم، ولا علم. قال: كيف يكون لهم هذا، ولا حلم، ولا علم؟! قال: أعطيهم من حلمي، وعلمي» . انتهى. زيني دحلان ج 1 ص 147. هذا؛ وفي
«الترغيب والترهيب» أخرجه الحاكم عن أبي الدرداء-رضي الله عنه. قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل، قال: يا عيسى
…
». ثم قال: صحيح على شرط البخاري.
هذا؛ وفي المختار: شطء الزرع والنبات: فراخه. وقال الأخفش: طرفه. وأشطأ الزرع:
خرج شطؤه. وفي القاموس: الشطء: فراخ النخل، والزرع، أو ورقه. وشطأ، كمنع، وشطئا، وشطوآ: أخرجها. ومن الشجر ما خرج حول أصله، والجمع: أشطاء. وقال زاده: يقال:
أفرخ الزرع، وفرخ إذا تشقق وخرج منه فرعه، فأول ما ينبت يكون بمنزلة الأم، وما تفرع منه بمنزلة أولاده، وأفراخه، والفرخ في الأصل: ولد الطائر.
{فَآزَرَهُ:} فقواه، وأعانه. {فَاسْتَغْلَظَ:} غلظ، وقوي. {فَاسْتَوى:} قوي، واستقام. {عَلى سُوقِهِ:} على أصوله، جمع: ساق. {يُعْجِبُ الزُّرّاعَ} أي: زرّاعه لحسنه. وفي الكشاف: هذا مثل ضربه الله لبدء الإسلام، وترقيه في الزيادة إلى أن قوي، واستحكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده، ثم قواه الله بمن معه، كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها.
قال قتادة-رحمه الله تعالى-: مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب: إنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر.
{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ} المعنى: قواهم الله، وكثرهم، ورفع شأنهم؛ ليغيظ بهم الكفار. قال مالك بن أنس-رضي الله عنه: من أصبح؛ وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أصابته هذه الاية. فهو يعني: أنه كافر. وجاء في مختصر ابن كثير ما يلي: ومن هذه الاية انتزع الإمام مالك رحمه الله تكفير الروافض؛ الذين يبغضون الصحابة-رضي الله عنهم-قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الاية. ووافقه طائفة من العلماء-رضي الله عنهم على ذلك.
والأحاديث في فضل الصحابة-رضي الله عنهم، والنهي عن التعرض لهم بمساويهم كثيرة، ويكفيهم ثناء الله عليهم، ورضاه عنهم، كيف لا؟ والله يقول:{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ} (من) هذه لبيان الجنس، وليست للتبعيض. {مَغْفِرَةً:} لذنوبهم. {وَأَجْراً عَظِيماً} أي: ثوابا جزيلا، ورزقا كريما، ووعد الله حقّ وصدق، لا يخلف، ولا يبدل. وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم، ولهم الفضل، والسبق، والكمال؛ الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمّة. وخذ ما يلي: عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّوا أصحابي فو الّذي نفسي بيده، لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا؛ ما أدرك مدّ أحدهم، ولا نصيفه» . أخرجه مسلم. وعن عبد الله بن مغفل المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا من بعدي، فمن أحبّهم، فبحبّي أحبّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني؛ فقد آذى الله، ومن آذى الله؛ فيوشك أن يأخذه» أخرجه الترمذي.
فائدة: من الطرائف ما حكي عن بعض المذكّرين قال: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها هلك» ، وقال:«أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» . ونحن في بحر التكليف، وتضربنا أمواج الشبهات، والشهوات، وراكب البحر يحتاج إلى أمرين: أحدهما السفينة الخالية من العيوب، وثانيهما الكواكب الطالعة النيرة، فإذا ركب المرء تلك السفينة، ووضع بصره على تلك الكواكب؛ كان رجاء السلامة غالبا، فلذلك ركب أصحابنا أهل السنة سفينة حب آل محمد صلى الله عليه وسلم، ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة يرجون السلامة في الدنيا، والاخرة، وهذا ما نؤمله من فضله تعالى، وكرمه، وجوده، وإنعامه.
الإعراب: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ:} مبتدأ، وخبر، و {رَسُولُ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {مَعَهُ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَشِدّاءُ:} خبر المبتدأ. {عَلَى الْكُفّارِ:} متعلقان ب: {أَشِدّاءُ} .
{رُحَماءُ:} خبر ثان. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق ب: {رُحَماءُ،} والهاء في محل جر بالإضافة.
هذا؛ وجه للإعراب، والوجه الثاني اعتبار {مُحَمَّدٌ} خبرا لمبتدأ محذوف، التقدير: هو {مُحَمَّدٌ،} و {رَسُولُ} نعت له، وعلى هذين الوجهين يوقف على لفظ الجلالة، ويبتدأ بما بعده، ويكون الإخبار بالصفات الاتية عن الموصول؛ أي: الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي أرفع درجة منهم؛ لأنهم إنما أدركوا هذه الدرجة به وعلى يديه صلى الله عليه وسلم. والوجه الثالث: اعتبار {مُحَمَّدٌ} مبتدأ، و {رَسُولُ} نعت له، و (الذين) معطوف عليه، و {أَشِدّاءُ} خبر الابتداء عن الجميع، و {رُحَماءُ:}
خبر ثان عنهم، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم داخلا معهم في جميع ما أخبره عنهم من الشدة، والرحمة، والركوع، والسجود، وضرب الأمثال المذكورة. هذا؛ وقال أبو البقاء: ويقرأ: «(أشداء)» و «(رحماء)» بالنصب عطفا على الحال من الضمير المرفوع في الظرف، وهو معه. وبه قال القرطبي، وعزا القراءة للحسن.
{تَراهُمْ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر ثالث ل:(الذين)، أو هي في محل نصب حال من الضمير المستتر في:{أَشِدّاءُ} و {رُحَماءُ،} أو هي مستأنفة، لا محلّ لها. {رُكَّعاً سُجَّداً:} حالان من الضمير المنصوب. {يَبْتَغُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية يجوز فيها ما جاز بسابقتها. {فَضْلاً:} مفعول به. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب: {فَضْلاً،} أو بمحذوف صفة له. (رضوانا): معطوف على ما قبله.
{سِيماهُمْ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والهاء في محل جر بالإضافة. {فِي وُجُوهِهِمْ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صالحة لما صلح
قبلها من جمل. {مِنْ أَثَرِ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر فيه، و {أَثَرِ} مضاف، و {السُّجُودِ} مضاف إليه. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {مَثَلُهُمْ:} خبر المبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {فِي التَّوْراةِ:} متعلقان بمحذوف حال من {مَثَلُهُمْ} والعامل اسم الإشارة. هذا؛ ويجوز اعتبار {مَثَلُهُمْ} مبتدأ ثانيا، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ الأول، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ، مستأنفة، لا محلّ لها.
{وَمَثَلُهُمْ:} يجوز فيه وجهان: أحدهما: أنه مبتدأ، وخبره الجار، والمجرور {كَزَرْعٍ،} فيوقف على قوله: {فِي التَّوْراةِ} فهما مثلان، وإليه ذهب ابن عباس-رضي الله عنهما.
والثاني: أنه معطوف على: {مَثَلُهُمْ} الأول، فيكون مثلا واحدا في الكتابين، ويوقف حينئذ على:{فِي الْإِنْجِيلِ،} وإليه نحا مجاهد، والفراء، ويكون قوله:{كَزَرْعٍ} على هذا فيه أوجه:
أحدها: أنه خبر مبتدأ مضمر؛ أي: مثلهم كزرع، فسر به لمثل المذكور في الإنجيل.
الثاني: أنه حال من الضمير في (مثلهم) أي مماثلين زرعا هذه صفته. الثالث: أنه نعت مصدر محذوف؛ أي: تمثيلا كزرع. ذكره أبو البقاء. {أَخْرَجَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (الزرع)، والجملة الفعلية صفة (زرع). {شَطْأَهُ:} مفعول به، والهاء في محلّ جرّ بالإضافة. {فَآزَرَهُ:}
الفاء: حرف عطف. (آزره): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الزرع)، والهاء مفعول به، وهي عائدة إلى:{شَطْأَهُ} . قاله السمين. وعكس النسفي، فجعل المستتر للشطء، والبارز للزرع، ولعله أقوى، وأنسب، فإن العادة: أن الأصل يتقوى بفروعه، فهي تعينه، وتقويه. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وأيضا جملة (استغلظ) و (استوى على سوقه) معطوفتان عليها، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من فاعل (استوى) أي: قائما على سوقه. {يُعْجِبُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى:(زرع). {الزُّرّاعَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:(زرع) بعد وصفه بما تقدم، والرابط: الضمير فقط.
{لِيَغِيظَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى:{اللهِ،} و «أن» المضمرة، والفعل في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف، تقديره: إنما قواهم، وكثرهم؛ ليغيظ. وقيل: تقديره: شبهوا بذلك؛ ليغيظ. وقيل:
متعلقان بالفعل: {وَعَدَ} بعدهما؛ لأن الكفار إذا سمعوا بعز المؤمنين في الدنيا، وما أعدّ لهم في الاخرة؛ غاظهم ذلك. وقيل: متعلقان بما يدلّ عليه قوله: {أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ..} . إلخ؛ أي:
جعلهم الله بهذه الصفات؛ ليغيظ
…
إلخ. انتهى. جمل. وقدره القرطبي بقوله: فعل الله هذا لمحمد، وأصحابه؛ ليغيظ بهم. {بِهِمُ:} متعلقان بما قبلهما. {الْكُفّارِ:} مفعول به.
{وَعَدَ:} ماض. {اللهِ:} فاعله. {الَّذِينَ:} مفعول به، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {وَعَمِلُوا:}
ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الصّالِحاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و (من) بيان لما أبهم في الموصول. {مَغْفِرَةً:} مفعول به. (أجرا): معطوف على ما قبله. {عَظِيماً:} صفة (أجرا). تأمل وتدبر، وربك أعلم، وأجلّ، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.
خاتمة: قد جمعت هذه الاية، وهي {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ..} . إلخ، جميع حروف المعجم، وفي ذلك بشارة تلويحية مع ما فيها من البشائر التصريحية باجتماع أمرهم، وعلو نصرهم-رضي الله عنهم، وحشرنا معهم نحن، ووالدينا، ومحبينا، وجميع المسلمين بمنه، وكرمه.
وهذا آخر القسم الأول من القرآن، وهو المطول وقد ختم كما ترى بسورتين هما في الحقيقة للنبي صلى الله عليه وسلم، وحاصلهما الفتح بالسيف، والنصر على من قاتله ظاهرا، كما ختم القسم الثاني بسورتين هما نصره له صلى الله عليه وسلم بالحال على من قصده بالضر باطنا. انتهى. جمل نقلا عن الخطيب.
انتهت سورة (الفتح) شرحا وإعرابا، بحمد الله وتوفيقه.
والحمد لله رب العالمين.