المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الواقعة بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الواقعة) وهي مكية في - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٩

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة الواقعة بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الواقعة) وهي مكية في

‌سورة الواقعة

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الواقعة) وهي مكية في قول الحسن، وعكرمة، وجابر، وعطاء. وقال ابن عباس، وقتادة: إلا آية منها نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} . وهي سبع وتسعون آية، وثلاثمئة وثمان وسبعون كلمة، وألف وسبعمئة وثلاثة أحرف.

قال مسروق-رحمه الله تعالى-: من أراد أن يعلم نبأ الأولين، والاخرين، ونبأ أهل الجنة، ونبأ أهل النار، ونبأ أهل الدنيا، ونبأ أهل الاخرة؛ فليقرأ سورة (الواقعة). وذكر أبو عمر بن عبد البر في «التمهيد»: أن عثمان-رضي الله عنه-دخل على ابن مسعود-رضي الله عنه، يعوده في مرضه الذي مات فيه، فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: أفلا ندعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: أفلا نأمر لك بعطائك؟ قال: لا حاجة لي فيه، حبسته عني في حياتي، وتدفعه لي عند مماتي، قال: يكون لبناتك من بعدك، قال:

أتخشى على بناتي الفاقة من بعدي، إني أمرتهن أن يقرأن سورة (الواقعة) كل ليلة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«من قرأ سورة الواقعة كلّ ليلة لم تصبه فاقة أبدا» . أخرجه البغوي.

بسم الله الرحمن الرحيم

{إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6)}

الشرح: {إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ} أي: إذا قامت القيامة، والواقعة: اسم للقيامة، مثل الازفة، وسميت بذلك لتحقق وجودها، ووقوعها، كما قال تعالى:{فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ} وسميت بذلك لكثرة ما يقع فيها من الشدائد، والمراد: النفخة الأخيرة؛ التي يخرج الناس فيها من قبورهم للحساب، والجزاء.

{لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ} أي: نفس كاذبة؛ أي: لا تكون حين تقع القيامة نفس تكذب على الله، وتكذب في تكذيب الغيب؛ لأن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات، فهي كقوله تعالى في سورة (غافر):{فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللهِ وَحْدَهُ} رقم [84] وقوله تعالى:

{وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتّى تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً} رقم [55] من سورة (الحج).

ص: 435

{خافِضَةٌ رافِعَةٌ} أي: تخفض المتكبرين، وترفع المستضعفين. وقال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه: خفضت أعداء الله في النار، ورفعت أولياء الله في الجنة. وقال محمد بن كعب القرظي:

خفضت أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين ورفعت أقواما كانوا في الدنيا مخفوضين. والخفض، والرفع يستعملان عند العرب في المكان، والمكانة، والعز، والمهانة، ونسب سبحانه الخفض، والرفع للقيامة، توسعا ومجازا على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل، والزمان، وغيرهما مما لم يكن منه الفعل، يقولون: ليل نائم، ونهار صائم. قال تعالى:{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} رقم [33] من سورة (سبأ) والخافض، والرافع على الحقيقة إنما هو الله تعالى وحده، فرفع أولياءه في أعلى الدرجات، وخفض أعداءه في أسفل الدركات، وبينهما مطابقة.

{إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} أي: إذا حركت، وزلزلت زلزالا، قال تعالى في سورة (الزلزلة):{إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها..} . إلخ، وذلك: أن الله عز وجل إذا أوحى إليها اضطربت فرقا، ووجلا. قال المفسرون: ترتج كما يرتج الصبي في المهد حتى ينهدم كل ما عليها، وينكسر كل شيء عليها من الجبال، وغيرها. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: الرجة: الحركة الشديدة يسمع لها صوت.

{وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا} أي: فتتت حتى صارت كالدقيق المبسوس، والبسيسة: السويق، أو الدقيق يلتّ بالسمن، أو بالزيت، ثم يؤكل، ولا يطبخ، وقد يتخذ زادا. قال الراجز:[الرجز] لا تخبزا خبزا وبسّا بسّا

ولا تطيلا بمناخ حبسا

وقال الحسن: {وَبُسَّتِ} قلعت من أصلها، فذهبت. نظيره قوله تعالى في سورة (طه) رقم [105]:{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً} .

{فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا} أي: غبارا متفرقا منتشرا كالذي يرى في شعاع الشمس من كوة في بيت مظلم، قال تعالى في حق أعمال الكفار الصالحة ونتيجتها يوم القيامة الاية رقم [23] من سورة (الفرقان):{وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً} انظر شرحها هناك تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، وانظر ما ذكرته في سورة (النمل) رقم [88] تجد ما يسرك ويثلج صدرك، وقد أعدته في سورة (النبأ).

الإعراب: {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب، متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر وقت وقعت الواقعة. وقيل: هي ظرف مجرد عن الشرطية مثل سابقه متعلق ب: {لَيْسَ} من حيث ما فيها من معنى النفي. وقيل: هي شرطية، وجوابها محذوف، التقدير: إذا وقعت الواقعة؛ كان كيت، وكيت. وقيل: هي شرطية، والعامل فيها الفعل الذي بعدها، ويليها. وقيل: هي في محل رفع مبتدأ، وخبرها:{إِذا رُجَّتِ} . وقيل: هي ظرفية مجردة عن الشرطية متعلقة ب: {خافِضَةٌ رافِعَةٌ} وقيل: متعلقة ب: {رُجَّتِ} . وقيل: متعلقة بما دل عليها: {فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ} . وقيل: متعلقة

ص: 436

بقوله: {فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ} هذا؛ وقال الجرجاني: (إذا) صلة؛ أي: وقعت الواقعة، مثل:

{اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ} و {أَتى أَمْرُ اللهِ} . انتهى. جمل نقلا من هنا، وهناك، وقد تصرفت فيه كثيرا.

{وَقَعَتِ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث حرف لا محل له. {الْواقِعَةُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على بعض الأقوال المتقدمة، وهو المشهور المرجوح، وابتدائية لا محل لها على بعض الأقوال، ولا سيما قول الجرجاني. {لَيْسَ:} فعل ماض ناقص.

{لِوَقْعَتِها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {لَيْسَ} تقدم على اسمها، (وها): في محل جر بالإضافة. {كاذِبَةٌ:} اسم {لَيْسَ} مؤخر، والجملة الفعلية جواب {إِذا} على بعض الأقوال المتقدمة، ومستأنفة على بعضها الاخر. {خافِضَةٌ:} خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هي خافضة.

{رافِعَةٌ:} خبر ثان للمبتدأ المحذوف، والجملة الاسمية في محل نصب حال من {الْواقِعَةُ،} ويقرأ بنصب الاسمين على أنهما حالان من {الْواقِعَةُ} أيضا، والفراء قدر:«وقعت خافضة رافعة» . واستبعد مكي الأول؛ لأن الحال في أكثر أحوالها إنما تكون لما يمكن أن يكون، ويمكن ألا يكون، والقيامة لا شك في أنها ترفع قوما إلى الجنة، وتخفض آخرين إلى النار، لا بد من ذلك، فلا فائدة في الحال، أقول: وهو فحوى قول ابن مالك في ألفيته: [الرجز] وكونه منتقلا مشتقّا

يغلب لكن ليس مستحقا

{إِذا:} بدل من قوله: {إِذا وَقَعَتِ} وقيل: تأكيد لها، أو خبر لها على أنها مبتدأ، ويجوز أن تكون متعلقة ب:{خافِضَةٌ رافِعَةٌ} أي: تخفض، وترفع وقت رج الأرض، وبس الجبال؛ لأنه عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع، ويرتفع ما هو منخفض. وقيل: أي: وقعت الواقعة إذا رجت الأرض.

قاله الزجاج، والجرجاني، وهذا يعني: أن {إِذا} متعلقة بالفعل {وَقَعَتِ} . وقيل: متعلقة بفعل محذوف، تقديره: اذكر وقت رجت الأرض. {رُجَّتِ:} فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث. {الْأَرْضُ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها. {رَجًّا:}

مفعول مطلق، وإعراب:{وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا} مثل سابقتها بلا فارق، وهي معطوفة عليها، فهي في محل جر مثلها. {فَكانَتْ:} (الفاء): حرف عطف. (كانت): فعل ماض ناقص، والتاء للتأنيث، واسمها ضمير مستتر تقديره هي يعود إلى {الْجِبالُ}. {هَباءً:} خبر (كان). {مُنْبَثًّا:}

صفة {هَباءً} . وجملة: {فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر أيضا. تأمل.

{وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسّابِقُونَ السّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ (12)}

الشرح: {وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً} أي: أصنافا ثلاثة، كل صنف يشاكل ما هو منه، كما يشاكل الزوج الزوجة، وكل صنف يكون، أو يذكر مع صنف آخر فهو زوج، وانظر ما ذكرته في سورة

ص: 437

(الذاريات) رقم [49]. هذا؛ و (كان) في القرآن الكريم تأتي على أوجه: تأتي بمعنى الأزل، والأبد، وبمعنى المضي المنقطع، وهو الأصل في معناها، وبمعنى الحال، وبمعنى الاستقبال، وبمعنى «صار» ، كما في هذه الاية، وسابقتها، وبمعنى حضر، وحصل، ووجد. وترد للتأكيد، وهي الزائدة، وهي بمعنى الاستمرار في نحو:{وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} فليست على بابها من المضي، وإن المعنى: كان، ولم يزل كائنا إلى يوم القيامة، وإلى أبد الابدين في الدنيا والاخرة. وينبغي أن تعلم: أن الأفعال في هذه الايات قد جاءت بلفظ الماضي، والمراد المستقبل، وإنما جاءت بلفظ الماضي لتحقق الوقوع.

{فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ..} . إلخ: هذا شروع في تفصيل، وشرح أحوال الأزواج الثلاثة، فذكرت أحوالهم أولا على سبيل الإجمال بقوله:{فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ..} . إلخ، ثم على سبيل التفصيل بقوله:

{أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ..} . إلخ، وبقوله:{وَأَصْحابُ الْيَمِينِ..} . إلخ، وبقوله:{وَأَصْحابُ الشِّمالِ..} . إلخ. هذا؛ وبين {الْمَيْمَنَةِ} و {الْمَشْئَمَةِ} مطابقة. {فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ} هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، {وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ} هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار. وقيل:(أصحاب الميمنة) هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم، {وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ} هم الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم. وقيل:(أصحاب الميمنة) هم الذين كانوا ميامين؛ أي: مباركين على أنفسهم، وكانت أعمالهم صالحة في طاعة الله، وهم التابعون لهم بإحسان، و (أصحاب المشأمة) هم المشائيم على أنفسهم، وكانت أعمالهم في المعاصي؛ لأن العرب تسمي اليد اليسرى الشؤمى. وقيل:(أصحاب الميمنة) هم الذين كانوا على يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه، وقال الله تعالى: هؤلاء إلى الجنة، ولا أبالي.

و (أصحاب المشأمة) هم الذين كانوا على شمال آدم عند إخراج الذرية من صلبه، وقال الله تعالى:

هؤلاء إلى النار، ولا أبالي. قاله ابن عباس، والسدي.

والتكرير للتفخيم والتعجيب مثل قوله تعالى في سورة (الحاقة): {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ} وفي سورة (القارعة): {الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ} . والمراد: تكثير ما لأصحاب الميمنة من الثواب، وما لأصحاب المشأمة من العقاب.

{وَالسّابِقُونَ السّابِقُونَ:} روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «السّابقون الذين إذا أعطوا الحقّ قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» . ذكره المهدوي، وقال محمد بن كعب القرظي: إنهم الأنبياء. وقال الحسن، وقتادة: هم السابقون إلى الإيمان من كل أمة، لذا قيل:

إنهم أربعة، منهم سابق أمة موسى عليه السلام، وهو حزقيل مؤمن آل فرعون، وسابق أمة عيسى عليه السلام، وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية، وسابقان في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهما: أبو بكر، وعمر-رضي الله عنهما. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما-حكاه الماوردي. أقول: إذا هم قليلون، والمعنى لا يؤيده؛ لذا فإني أعتمد ما يلي:

ص: 438

قال شميط بن العجلان: الناس ثلاثة، فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه، ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا؛ فهذا هو السابق المقرب. ورجل ابتكر عمره بالذنوب، وطول الغفلة، ثم رجع بتوبته؛ فهذا صاحب اليمين، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه، ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا؛ فهذا صاحب الشمال.

أقول: ومن الأول بلا ريب الأنبياء، والصديقون، وهذا يعني: أن الأزواج الثلاثة هم من أتباع الرسل، وأما الكافرون، والمشركون؛ فيساقون إلى جهنم سوقا، كما قال تعالى في سورة (مريم) رقم [86]:{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً،} ويؤيد هذا قوله تعالى في سورة (فاطر) رقم [62]: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} انظر شرحها هناك؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

والحكمة من تأخير السابقين في الذكر-وهم أولى بالتقديم-على أصحاب اليمين: أن الله جلت قدرته، وتعالت حكمته ذكر في أول السورة من الأمور الهائلة ما ذكر من العقاب، تخويفا لعباده، فإما محسن؛ فيزداد رغبة في الثواب، وإما مسيء؛ فيرجع عن إساءته خوفا من العقاب، فلذلك قدم أصحاب اليمين؛ ليسمعوا، ويرغبوا، ثم ذكر أصحاب الشمال ليرهبوا، ثم ذكر السابقين، وهم الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر؛ ليجتهد أصحاب اليمين في القرب من درجتهم.

انتهى. خازن بتصرف كبير.

{أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} أي: من الله في جواره، وفي ظل عرشه، ودار كرامته، وهو قوله تعالى:

{فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ} . وقال ابن أبي حاتم: قالت الملائكة: يا رب جعلت لبني آدم الدنيا، فهم يأكلون، ويشربون، ويتزوجون، فاجعل لنا الاخرة، قال: لا أفعل، فراجعوا ثلاثا، فقال: لا أجعل من خلقت بيدي، كمن قلت له: كن فكان، ثم قرأ عبد الله بن عمرو بن العاص:

{وَالسّابِقُونَ السّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ} . والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَكُنْتُمْ:} (الواو): حرف عطف. (كنتم): فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {أَزْواجاً:} خبر (كان). {ثَلاثَةً:} صفة {أَزْواجاً،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {فَأَصْحابُ:} (الفاء): حرف استئناف. (أصحاب): مبتدأ أول.

{ما:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ ثان. {فَأَصْحابُ:} خبره، وهو مضاف، و {الْمَيْمَنَةِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل رفع خبر الأول، والرابط إعادة المبتدأ الأول بلفظه، وإنما ظهر الاسم الثاني؛ وحقه أن يكون مضمرا؛ لتقدم إظهاره ليكون أجل في التعظيم، والتعجب، وأبلغ، ومثله قوله تعالى:{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ} . انتهى. مكي.

والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وإعراب:{وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ..} . إلخ مثلها بلا فارق.

{وَالسّابِقُونَ:} (الواو): حرف عطف. (السابقون): مبتدأ. {السّابِقُونَ:} خبره، وساغ وقوع الخبر

ص: 439

بلفظ المبتدأ، لاختلافهما في التأويل، والمعنى؛ إذ المعنى السابقون إلى الإيمان السابقون إلى الجنة، أو السابقون إلى طاعة الله السابقون إلى رحمته، وفي حديث الشفاعة، تكرر قول الرسل:

«ربي نفسي نفسي» ومن هذه المشكاة قول أبي النجم العجلي: [الرجز] أنا أبو النجم وشعري شعري

لله درّي ما يجنّ صدري؟!

إذا المعنى: شعري المعروف بالفصاحة والبلاغة هو شعري لم يتغير عن حالته. وأيضا قول خالد بن صخر الهذلي: [الطويل] رفوني وقالوا: يا خويلد لا ترع

فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

إذ المعنى: هم الكاملون في الشجاعة، والشهامة، والنجدة لم يتغيروا. هذا؛ وقيل:

{السّابِقُونَ} الثاني تأكيد للأول، والخبر:{أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} وقوى هذا مكي، والجلال. وقوى الأول الزمخشري، وأبو البقاء، وسليمان الجمل نقلا عن أبي السعود.

{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الْمُقَرَّبُونَ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه ورفع ما قبله الواو؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {السّابِقُونَ} على اعتبار الثاني تأكيدا، وفي محل رفع خبر ثان على اعتبار الثاني خبرا له، والاستئناف ممكن. تأمل.

{فِي جَنّاتِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ثان لاسم الإشارة، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في {الْمُقَرَّبُونَ،} أو هما متعلقان به نفسه؛ لأنه اسم مفعول، أو هما متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هم في جنات، ومحل الجملة الاسمية هذه:

خبر ثان، أو حال، أو هي مستأنفة، لا محل لها، و {جَنّاتِ} مضاف، و {النَّعِيمِ} مضاف إليه.

{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16)}

الشرح: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} أي: جماعة من الأمم الماضية غير محصورة العدد من لدن آدم إلى زمن نبينا، وحبيبنا، وشفيعنا صلى الله عليه وسلم. {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} أي: ممن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم. وسموا قليلا بالإضافة إلى من كان قبلهم؛ لأن الأنبياء المتقدمين كثروا، فكثر السابقون إلى الإيمان منهم، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمتنا. وقيل: لما نزل هذا شق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل:{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، بل ثلث أهل الجنة، بل نصف أهل الجنة، وتقاسمونهم في النصف الثاني» . رواه أبو هريرة-رضي الله عنه. ذكره الماوردي، وغيره، ومعناه ثابت في صحيح مسلم

ص: 440

من حديث عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه. وانظر ما أذكره في الاية رقم [39] و [40] وكأنه أراد: أنها منسوخة، والأشبه: أنها محكمة؛ لأنها خبر، ولأن ذلك في جماعتين مختلفتين.

هذا؛ وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الثّلثان جميعا من أمتي» .

وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق-رضي الله عنه-حيث قال: «كلا الثّلّتين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمنهم من هو في أول أمته، ومنهم من هو في آخرها» . وهو مثل قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ} رقم [32] من سورة (فاطر).

هذا؛ و {ثُلَّةٌ} بضم الثاء: الجماعة من الناس، والكثير من الدراهم، وقد تفتح الثاء، وبالكسر: الهلكة، والجمع: كعنب، وبفتح الثاء: جماعة الغنم، أو الكثير منها، أو من الضأن خاصة، والجمع: ثلل، وثلال، مثل: بدر، وسلال. انتهى. قاموس بتصرف. هذا؛ ومن الأول قول الشاعر:[الطويل] وجاءت إليهم ثلّة خندفيّة

بجيش كتيّار من السّيل مزبد

ومن الثاني قول الراجز، ويستشهد به على حذف «كان» مع معموليها:[الرجز] أمرعت الأرض لو أنّ مالا

لو أنّ نوقا لك أو جمالا

أو ثلّة من غنم إمّا لا

التقدير: أو ثلة من غنم إن كنت لا تجدين غيره.

{عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} أي: مجالس السابقين على سرر، جمع: سرير، وهو ما يجعل للإنسان من المقاعد العالية الموضوعة للراحة، والكرامة. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: منسوجة بالذهب. وعنه أيضا، قال: مصفوفة. كما قال في سورة (الطور): {مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} .

وقيل: {مَوْضُونَةٍ} منسوجة بقضبان الذهب، مشبكة بالدر، والياقوت، والزبرجد، ودرع موضونة؛ أي: محكمة في النسج، مثل: مصفوفة. قال الأعشى: [المتقارب] ومن نسج داود موضونة

تساق مع الحي عيرا فعيرا

{مُتَّكِئِينَ عَلَيْها} أي: على السرر على الجنب، أو غيره، كحال من يكون على كرسي، فيوضع تحته شيء للاتكاء عليه، وانظر الاية رقم [54] من سورة (الرحمن). {مُتَقابِلِينَ} أي:

لا يرى بعضهم قفا بعض، بل تدور بهم الأسرة كيفما أرادوا، وهذا في المؤمن، وزوجته، وأهله. وقال الكلبي: طول كل سرير ثلاثمئة ذراع، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها؛ تواضعت، فإذا جلس عليها؛ ارتفعت. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {ثُلَّةٌ:} خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم ثلة، أو هو مبتدأ، خبره:{عَلى سُرُرٍ} .

{مِنَ الْأَوَّلِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {ثُلَّةٌ} . {وَقَلِيلٌ:} الواو: حرف عطف.

ص: 441

(قليل): معطوف على {ثُلَّةٌ} . {مِنَ الْآخِرِينَ:} متعلقان ب: (قليل) أو بمحذوف صفة له، وعلامة الجر فيه وفي سابقه الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {عَلى سُرُرٍ:} متعلقان بمحذوف خبر {ثُلَّةٌ،} أو هما متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هم على سرر، على الوجه الأول في {ثُلَّةٌ،} والجملة هي مستأنفة، لا محل لها. {مَوْضُونَةٍ:} صفة {سُرُرٍ} . {مُتَّكِئِينَ:} حال من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور: {عَلى سُرُرٍ} التقدير: استقروا عليها متكئين. {عَلَيْها:} جار ومجرور متعلقان ب: {مُتَّكِئِينَ} . {مُتَقابِلِينَ:} حال ثانية. وقال أبو البقاء: حال من الضمير المستتر ب: {مُتَّكِئِينَ} وعليه فهي حال متداخلة، وفاعلهما ضمير مستتر فيهما، وعلامة نصبهما الياء

إلخ.

{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمّا يَشْتَهُونَ (21)}

الشرح: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ} أي: غلمان لا يموتون، ولا يهرمون، ولا يتغيرون، ولا ينتقلون من حالة إلى حالة، ومنه قول امرئ القيس:[الطويل] وهل ينعمن إلاّ سعيد مخلّد

قليل الهموم ما يبيت بأوجال

وقال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-: مخالدون مقرّطون، والخلد: القرط، وهو الحلقة تعلق في الأذن، قال الشاعر:

ومخلّدات باللّجين كأنّما

أعجازهنّ أقاوز الكثبان

فهم على سن واحدة، أنشأهم الله لأهل الجنة، يطوفون عليهم كما شاء من غير ولادة، وصححه الخازن، كما أن الحور العين خلقهن الله من غير ولادة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والحسن البصري: الولدان ها هنا: ولدان المسلمين، الذين يموتون صغارا، ولا حسنة لهم ولا سيئة. وقال سلمان الفارسي-رضي الله عنه: أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة. قال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: لم يكن لهم حسنات يجزون بها، ولا سيئات يعاقبون عليها، فوضعوا في هذا الموضع، والمقصود: أن أهل الجنة على أتم السرور، والنعمة، والنعمة إنما تتم باحتفاف الخدم، والولدان بالإنسان.

أقول: ما نسب إلى علي، والحسن ضعيف جدا؛ لأن أولاد المسلمين الصغار يكونون مع آبائهم، وأمهاتهم، وهو من جملة السرور، بل من أعظم السرور اجتماعهم بهم. قال تعالى في سورة (الطور):{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} رقم [21]. وتشبهها آية (الرعد) رقم [23]؛ لأن من المؤمنين من لا ولد له، فلو خدمه ولد غيره كان منقصة بأبي الخادم. وقول

ص: 442

سلمان الفارسي أقوى منه؛ لأنه قد اختلف في أولاد المشركين على ثلاثة مذاهب، فقال الأكثرون: هم في النار تبعا لابائهم، وتوقف فيهم طائفة، والمذهب الثالث-وهو الصحيح؛ الذي ذهب إليه المحققون-: أنهم من أهل الجنة، ولكل مذهب دليل، ليس هذا موضعه.

{بِأَكْوابٍ:} جمع: كوب، وهو وعاء مدور، لا أذن له، ولا عروة بخلاف الإبريق، فإن له ذلك، والملاحظ: أن لفظ (أكواب) جاء بسورة (الزخرف)، وسورة (الدهر) و (الغاشية) جاء بلفظ الجمع، ولم يأت له مفرد قطعا؛ لأنه لا يتهيأ فيها ما يجعلها في النطق من الظهور، والرقة، والانكشاف، وحسن التناسب كلفظ (أكواب) الذي هو الجمع، وقل مثله في: أباريق، فإنه لم يستعمل منه مفرد، ولم يذكر إلا في هذه (السورة) ومفرده: إبريق، سمي بذلك؛ لأنه يبرق لونه من صفائه. {وَكَأْسٍ:} انظر الاية رقم [23] من سورة (الطور).

و {مَعِينٍ} أي: ماء جار ظاهر للعيون، يقال: معين، ومعن، كما يقال: رغيف، ورغف، فهو فعيل من: معن الماء: إذا جرى. أو من الماعون، وهو المنفعة؛ لأنه نفّاع. أو هو مفعول من:

عانه: إذا أدركه بعينه؛ لأنه لظهوره مدرك بالعيون، فبين الله جلت قدرته، وتعالت حكمته: أنها ليست كخمر الدنيا؛ التي تستخرج بعصر، وتكلف، ومعالجة، وإنما هي فعيل من المعن وهو الكثرة. وانظر أنواع الماء في سورة (محمد صلى الله عليه وسلم. {لا يُصَدَّعُونَ عَنْها} أي: لا تنصدع رؤوسهم من شربها؛ أي: إنها لذيذة بلا أذى بخلاف شراب الدنيا. {وَلا يُنْزِفُونَ} أي: لا تذهب عقولهم بشربها. يقال: نزف الرجل، ينزف، فهو منزوف، ونزيف: إذا سكر. قال الشاعر: [المتقارب] وإذ هي تمشي كمشي النّزي

ف يصرعه بالكثيب البهر

البهر: الكلال. وانقطاع النفس، وقال جميل بن معمر، وهو الشاهد رقم [159] من كتابنا «فتح القريب المجيب»:[الكامل] فلثمت فاها أخذا بقرونها

شرب النّزيف ببرد ماء الحشرج

وهذا على قراءة: «(ينزفون)» بفتح الزاي: وهو بكسر الزاي، بمعنى: لا ينفد شرابهم، ولا تفنى خمرهم. قال الشاعر:[الطويل] لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم

لبئس النّدامى كنتم آل أبجرا

وروى الضحاك عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول. فذكر الله خمر الجنة، فنزهها عن هذه الخصال. انتهى. ففي هاتين الايتين من البلاغة ما لا يخفى، وهو فن الإيجاز.

{وَفاكِهَةٍ مِمّا يَتَخَيَّرُونَ} أي: يتخيرون ما شاؤوا لكثرتها. {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمّا يَشْتَهُونَ:} روى الترمذي عن أنس-رضي الله عنه-قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الكوثر؟ قال: «ذاك نهر أعطانيه

ص: 443

الله تعالى، أشدّ بياضا من اللّبن، وأحلى من العسل، فيه طير، أعناقها كأعناق الجزر». قال عمر رضي الله عنه: إن هذه لناعمة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكلتها أحسن منها» . قال: حديث حسن. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: يخطر على قلبه لحم الطير، فيطير ممثلا بين يديه على ما اشتهى. وقيل: إنه يقع على صحفة الرجل، فيأكل منه ما يشتهي، ثم يطير، وانظر شرح (لحم) في الاية رقم [22] من سورة (الطور).

قال الخازن-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: هل في تخصيص الفاكهة بالتخيير، واللحم بالاشتهاء بلاغة؟ قلت: نعم، وكيف لا؟ وفي كل حرف من حروف القرآن بلاغة، وفصاحة؟! والذي يظهر فيه: أن اللحم، والفاكهة إذا حضرا عند الجائع، تميل نفسه إلى اللحم، وإذا حضرا عند الشبعان تميل نفسه إلى الفاكهة، فالجائع مشته، والشبعان غير مشته، بل هو مختار، وأهل الجنة إنما يأكلون، لا من جوع، بل للتفكه، فميلهم إلى الفاكهة أكثر، فيتخيرونها، ولهذا ذكرت في مواضع كثيرة من القرآن بخلاف اللحم، وإذا اشتهاه حضر بين يديه على ما يشتهيه، فتميل نفسه إليه أدنى ميل، ولهذا قدم الفاكهة على اللحم، والله أعلم، وأجل، وأكرم.

الإعراب: {يَطُوفُ:} فعل مضارع. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{وِلْدانٌ:} فاعل، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المستتر ب:{مُتَقابِلِينَ،} فهي حال متداخلة، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها. {مُخَلَّدُونَ:} صفة {وِلْدانٌ} فهو مرفوع مثله، وعلامة رفعه الواو

إلخ، {بِأَكْوابٍ:} متعلقان ب: {يَطُوفُ} . {وَأَبارِيقَ:} الواو: حرف عطف. (أباريق): معطوف على (أكواب) مجرور مثله، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع، وهي علة تقوم مقام علتين من موانع الصرف.

{وَكَأْسٍ:} الواو: حرف عطف. (كأس): معطوف على ما قبله. {مِنْ مَعِينٍ:} متعلقان بمحذوف صفة (كأس). {لا:} نافية. {يُصَدَّعُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا ب:(على)، والرابط: الضمير فقط. وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.

{عَنْها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَلا:} (الواو): حرف عطف، (لا): نافية.

{يُنْزِفُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {وَفاكِهَةٍ:} الواو: حرف عطف. (فاكهة): معطوف على (أكواب). {مِمّا:}

جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (فاكهة)، والجملة الفعلية صلة (ما)، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: من الذي يتخيرونه. {وَلَحْمِ:} الواو: حرف عطف. (لحم): معطوف على (أكواب)، و (لحم): مضاف، و {طَيْرٍ} مضاف إليه. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {طَيْرٍ،} أو صفة (لحم)، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: من الذي يشتهونه.

ص: 444

{وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)}

الشرح: {وَحُورٌ:} بيض، جمع: حوراء، وهي التي يرى ساقها من وراء ثيابها، ويرى الناظر وجهه في كعبها كالمرآة من دقة الجلد، وبضاضة البشرة، وصفاء اللون، وفي القاموس المحيط:

الحور بالتحريك: أن يشتد بياض العين، ويشتد سوادها، وتستدير حدقتها، وترق جفونها، ويبيض ما حواليها. {عِينٌ:} عظام العيون، شديدات بياضها، شديدات سوادها، ومنه قيل لبقر الوحش:

عين، والثور: أعين، والبقرة: عيناء. وانظر ما ذكرته في سورة (الرحمن) بشأن الحور العين، ففيه الكفاية. هذا؛ و {عِينٌ} جمع: عيناء وأصله: «عين» على وزن فعل، كقولك: حمراء وحمر، فكسرت العين لئلا تنقلب الياء واوا، فتشبه ذات الواو، وليس في كلام العرب ياء ساكنة، قبلها ضمة، ولا واو ساكنة قبلها كسرة، ومن العرب من يقول:«حير عين» على الاتباع.

{كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ:} انظر الاية رقم [24] من سورة (الطور) ففيه الكفاية. {جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} أي: فعلنا ذلك بهم مجازاة لأعمالهم الصالحة؛ التي كانوا يعملونها في الدنيا. {لا يَسْمَعُونَ فِيها} أي: في جنات النعيم. {لَغْواً:} باطلا من الكلام. واللغو: ما يرغب عنه من الكلام، ويستحق أن يلغى. وقيل: هو القبيح من القول. والمعنى: ليس فيها لغو فيسمع. {وَلا تَأْثِيماً:} قيل: معناه: أن بعضهم لا يقول لبعض: أثمت؛ لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم، كما يتكلم به أهل الدنيا. وقيل: معناه لا يأتون تأثيما؛ أي: ما هو سبب التأثيم من قول، أو فعل قبيح. {إِلاّ قِيلاً:} معناه: لكن يقولون قيلا، أو يسمعون قيلا. {سَلاماً سَلاماً:} يعني يسلم بعضهم على بعض. وقيل: تسلم الملائكة عليهم، أو يرسل الرب بالسلام إليهم. وفي سورة (الأحزاب) رقم [44]:{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ..} . إلخ وفي الايتين الأخيرتين تأكيد المدح بما يشبه الذم؛ لأن السّلام ليس من جنس اللغو والتأثيم، فهو مدح لهم بإفشاء السّلام. وهذا كقول القائل: لا ذنب لي إلا محبتك، وقال النابغة الذبياني:[الطويل] ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

الإعراب: {وَحُورٌ:} (الواو): حرف عطف، أو حرف استئناف. (حور): يقرأ بالرفع، والنصب، والجر، فالرفع من وجهين: أحدهما وهو الأقوى: أنه مبتدأ خبره محذوف، التقدير:

ولهم، أو وعندهم حور، والثاني: أنه معطوف على {وِلْدانٌ} على المعنى، والنصب فعلى تقدير فعل؛ أي: يزوجون حورا عينا. وأما الجر فمن أوجه: أحدها: أنه عطف على {فِي جَنّاتِ} كأنه قيل: هم في جنات النعيم، وفاكهة، ولحم، وحور عين. قاله الزمخشري. الثاني: أنه معطوف على {بِأَكْوابٍ} وذلك بتجوز في قوله: {يَطُوفُ} إذ معناه: يتنعمون فيها بأكواب، وبكذا،

ص: 445

وبحور. قاله الزمخشري أيضا. الثالث: أنه معطوف عليه حقيقة، وأن الولدان يطوفون عليهم بالحور أيضا، فإن فيه لذة لهم. انتهى. جمل نقلا من السمين.

هذا؛ وذكرت في آية (المائدة) رقم [6] قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} بأنه قرئ بجر (أرجلكم) على الجوار ل: (رؤوسكم) وقلت هناك: وله نظائر في القرآن الكريم، وفي الشعر العربي، وكلامه، فمن ذلك قوله تعالى في كثير من الايات {عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ،} وقوله تعالى: (وحور عين) بجر حور، فإن {أَلِيمٌ} صفة {عَذابٌ،} وقد جر لمجاورته {يَوْمِ،} و (حور) معطوف على: {وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ} وهو مرفوع، وقد جر لقربه من قوله تعالى:{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمّا يَشْتَهُونَ} ومن ذلك قول امرئ القيس في معلقته رقم [88]: [الطويل] كأنّ أبانا في عرانين وبله

كبير أناس في بجاد مزمّل

فجر «مزمل» مع كونه صفة ل: «كبير» لمجاورته: «بجاد» وهذا البيت هو الشاهد رقم [908] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ، ومن ذلك قولهم:«هذا جحر ضب خرب» فجر «خرب» مع كونه صفة «جحر» المرفوع لمجاورته «ضب» والذي عليه المحققون: أن خفض الجوار يكون في النعت قليلا، وفي التوكيد نادرا، انظر الشاهد رقم [1163] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، والكلام عليه، وعلى سابقه، وهو بيت امرئ القيس، ولا يكون في النسق إلا لحكمة واضحة؛ لأن العاطف يمنع من التجاور، ولذا بين الزمخشري الحكمة في آية الوضوء آية (المائدة) التي ذكرتها سابقا، انظر شرحها في محلها. وقيل:(حور) معطوف على (أكواب) باعتبار المعنى؛ إذ معنى: (يطوف عليهم ولدان مخالدون بأكواب

وحور) أي: ينعمون بأكواب

إلخ، وقال الراعي النميري:

إذا ما الغانيات برزن يوما

وزجّجن الحواجب والعيونا

وهذا هو الشاهد رقم [665] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» انظر الكلام عليه تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {عِينٌ:} صفة (حور).

{كَأَمْثالِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ثانية ل: (حور)، أو بمحذوف حال منه بعد وصفه بما تقدم، وإن اعتبرت الكاف اسما؛ فالمحل لها، وتكون مضافة، و (أمثال) مضاف إليه، و (أمثال) مضاف، و {اللُّؤْلُؤِ} مضاف إليه. {الْمَكْنُونِ:} صفة {اللُّؤْلُؤِ} . {جَزاءً:} مفعول لأجله، أو مفعول مطلق، والعامل محذوف على الاعتبارين، التقدير: جعلنا لهم ما ذكر للجزاء، أو جزيناهم جزاء. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {جَزاءً} . {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَعْمَلُونَ} في محل نصب خبر (كان)، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: جزاء بالذي كانوا يعملونه.

ص: 446

{لا:} نافية. {يَسْمَعُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {لَغْواً:} مفعول به. {وَلا:} (الواو): حرف عطف. (لا): نافية، أو صلة لتأكيد النفي. {تَأْثِيماً:} معطوف على ما قبله. {إِلاّ:} أداة استثناء منقطع. {قِيلاً:} مستثنى بإلا.

{سَلاماً:} فيه أوجه، أحدها: أنه بدل من {قِيلاً} أي: لا يسمعون فيها إلا سلاما سلاما، الثاني: أنه نعت ل: {قِيلاً،} الثالث: أنه منصوب بنفس {قِيلاً} أي: إلا أن يقولوا: سلاما سلاما، وهو قول الزجاج. الرابع: أن يكون منصوبا بفعل مقدر، ذلك الفعل محكي ب:{قِيلاً} تقديره: إلا قيلا سلّموا سلاما، وهذا يعني: أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، وعليه فالجملة في محل نصب مقول القول. {سَلاماً:} توكيد لسابقه.

{وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33)}

الشرح: لما بين الله حال السابقين؛ شرع في بيان حال أصحاب اليمين، وهم أصحاب الميمنة، واختلاف العبارة للتفنن في الكلام، وفيه بلاغة لا تخفى، وحلاوة في القلب يدركها المتأملون المعتبرون؛ إذ كل حرف من حروف القرآن فيه بلاغة، وفصاحة، وانظر الشرح برقم [8] ففيه الكفاية.

{فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} أي: لا شوك فيه، كأنه خضد شوكه؛ أي: قطع، ونزع. وهذا قول ابن عباس-رضي الله عنهما. وقيل: هو الموقر؛ أي: المثقل بالثمر. وقال قتادة-رحمه الله تعالى-: كنا نحدث: أنه الموقر الذي لا شوك فيه، والظاهر: أن المراد هذا وهذا، فإن سدر الدنيا كثير الشوك قليل الثمر، وفي الاخرة على العكس من هذا: لا شوك فيه، وفيه الثمر الكثير، الذي قد أثقل أصله، كما روى الحافظ أبو بكر النجار عن سليم بن عامر-رضي الله عنه-قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن الله لينفعنا بالأعراب، ومسائلهم. قال: أقبل أعرابي يوما، فقال: يا رسول الله! ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها، فقال صلى الله عليه وسلم:«وما هي؟» . قال: السدر، فإن له شوكا مؤذيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أليس الله تعالى يقول: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} خضد الله شوكه، فجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها لتنبت ثمرا، تفتق الثمرة منها من اثنين وسبعين لونا من طعام، ما فيها لون يشبه الاخر» . وأخرج البيهقي عن مجاهد-رحمه الله تعالى-قال: كانوا يعجبون بوجّ، وظلاله، وطلحه، وسدره، فقالوا: يا ليت لنا مثل هذا، فنزلت الايات:{وَأَصْحابُ الْيَمِينِ..} . إلخ. قال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة: [الكامل] إنّ الحدائق في الجنان ظليلة

فيها الكواعب سدرها مخضود

ص: 447

{وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ:} الطلح: شجر الموز واحده: طلحة. قاله أكثر المفسرين: علي، وابن عباس، وغيرهما. وقال الحسن: ليس هو موز، ولكنه شجر له ظل بارد رطب. وقال الفراء، وأبو عبيدة: شجر عظام له شوك. قال النابغة الجعدي: [الرجز] بشّرها دليلها وقالا:

غدا ترين الطّلح والأحبالا

الأحبال: جمع: حبلة بالضم، ثمر السلم، والسمر، أو ثمر العضاه عامة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يشبه طلح الدنيا، ولكن له ثمر أحلى من العسل. وقرأ علي-رضي الله عنه «(وطلع منضود)» بالعين، وتلا قوله تعالى في سورة (الشعراء) رقم [148]:{وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ،} وقوله تعالى في سورة (ق) رقم [10]: {وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ} فقيل له: أفلا نحولها؟ فقال: لا ينبغي أن يهاج القرآن، ولا يحول. وهذا تصريح منه-رضي الله عنه-أنه رجع عن تلك القراءة. هذا؛ و {مَنْضُودٍ} متراكب بعضه فوق بعض، والنّضد: هو الرّصّ، والمنضّد:

هو المرصوص. قال النابغة الذبياني في معلقته رقم [5]: [البسيط] خلّت سبيل أتيّ كان يحبسه

ورفّعته إلى السّجفين فالنّضد

{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} أي: دائم باق لا يزول، ليس فيه شمس، ولا حر كما بين الإسفار إلى طلوع الشمس. قال ابن مسعود-رضي الله عنه: الجنة سجسج كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. قال تعالى في سورة (النساء) رقم [57]: {لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} .

وقال تعالى في سورة (الرعد) رقم [37]: {أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها} وقال تعالى في سورة (المرسلات) رقم [41]: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} انظر شرح هذه الايات في محالها. وفي صحيح الترمذي، وغيره من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلّها مئة عام، لا يقطعها» . واقرؤوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» وهذا الحديث ذكرته في سورة (الرعد) رقم [35]. هذا؛ وقال أبو عبيدة: تقول العرب للدهر الطويل، والعمر الطويل، والشيء الذي لا ينقطع: ممدود. قال لبيد بن ربيعة-رضي الله عنه: [الكامل] غلب العزاء وكنت غير مغلّب

دهر طويل دائم ممدود

{وَماءٍ مَسْكُوبٍ} أي: مصبوب يجري دائما في غير أخدود، ولا ينقطع، وأصل السكب:

الصب، يقال: سكبه سكبا، والسكوب: انصبابه، يقال: سكب سكوبا، وانسكب انسكابا.

هذا؛ وكانت العرب أصحاب بادية، وبلاد حارة، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة، لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو، والرشاء، فوعدوا في الجنة خلاف ذلك، ووصف لهم أسباب النزهة المعروفة في الدنيا، وهي الأشجار، وظلالها، والمياه، والأنهار، واطرادها.

{وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} أي: ليست بالقليلة العزيزة، كما كانت في بلاد العرب. {لا مَقْطُوعَةٍ} أي:

في وقت من الأوقات، كانقطاع فواكه الصيف في الشتاء. {وَلا مَمْنُوعَةٍ} أي: لا يمنع من أكلها من

ص: 448

أرادها بشوك، ولا بعد ولا حائط، بل إذا اشتهاها المؤمن؛ دنت منه؛ حتى يأخذها. قال تعالى:

{وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً} وانظر سورة (الرحمن) رقم [54]. وقيل: ليست مقطوعة بالزمان، ولا ممنوعة بالأثمان. قال تعالى في سورة (البقرة):{كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً} رقم [25] والمعنى: أن الشكل يشبه الشكل، ولكن الطعم غير الطعم.

الإعراب: {وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ} انظر الاية رقم [8] فالإعراب واحد لا يتغير. {فِي سِدْرٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ثان ل: (أصحاب اليمين)، أو هما متعلقان بمحذوف خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم في سدر، والجملة الاسمية هذه في محل رفع خبر ثان كما تقدم، أو هي مستأنفة، لا محل لها. {مَخْضُودٍ:} صفة {سِدْرٍ} . {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ:} هذه الأسماء كلها معطوفة على {سِدْرٍ مَخْضُودٍ} .

{لا:} نافية. {مَقْطُوعَةٍ:} صفة ثانية ل: (فاكهة) وهي منفية. وقيل: معطوفة على (فاكهة) وعليه ف: {لا} حرف عطف، والأول أقوى، فهو مثل قوله تعالى في سورة (النور) رقم [35]:{يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} . ومثلها في هذه السورة: {لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} .

{وَلا:} (الواو): حرف عطف. (لا): نافية، أو هي صلة لتأكيد النفي. {مَمْنُوعَةٍ:} معطوف على ما قبله.

{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)}

الشرح: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أي: عالية، وطيئة، ناعمة. فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قال: «ارتفاعها كما بين السماء والأرض، ومسيرة ما بينهما خمسمئة عام» . أخرجه النسائي، والترمذي، وقال: حسن غريب. وقال بعض أهل العلم في تفسير هذا الحديث: الفرش في الدرجات، وما بين الدرجات كما بين السماء والأرض. وقيل: إن الفرش هنا كناية عن النساء اللواتي في الجنة، ولم يتقدم لهن ذكر، ولكن قوله عز وجل:{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} دال عليهن؛ لأن الفرش محل النساء، فالمعنى: ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن، وكمالهن، دليله قوله تعالى:{إِنّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً} أي: خلقناهن خلقا وأبدعناهن إبداعا، والعرب تسمى المرأة: فراشا، ولباسا، وإزارا، وقد قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [187]:{هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ} .

ثم قيل: على هذا: هنّ الحور العين؛ أي: خلقناهن من غير ولادة. وقيل: المراد نساء بني آدم؛ أي: خلقناهن خلقا جديدا، وهو الإعادة؛ أي: أعدناهن إلى حال الشباب، وكمال الجمال، والمعنى أنشأنا العجوز، والصبية إنشاء واحدا، وعن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{إِنّا}

ص: 449

{أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً} قال: «منهن البكر، والثيب اللاتي كن في الدنيا» . وقال عبد بن حميد-رضي الله عنه: أتت عجوز، فقالت: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة، فقال:«يا أم فلان! إن الجنة لا تدخلها عجوز» . قال: فولت تبكي. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أخبروها: أنها لا تدخلها، وهي عجوز، ولكنها تدخلها، وهي شابة، إن الله تعالى يقول: {إِنّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً» }. وقال المسيب بن شريك: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {إِنّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً} قال: «هن عجائز الدنيا، أنشأهن الله خلقا جديدا، كلما أتاهن أزواجهن؛ وجدوهن أبكارا» . فلما سمعت عائشة-رضي الله عنها-ذلك. قالت: واوجعاه! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم «ليس هناك وجع» . والبكر:

هي التي لم يفترعها الرجل، فهي على خلقتها الأولى من حال الإنشاء. {عُرُباً:} متحببات إلى أزواجهن. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما-وقال الضحاك: العرب: العواشق لأزواجهن، وأزواجهن لهن عاشقون. وقال ابن عباس أيضا: العروب: الملقة. وقال عكرمة: هي الغنجة.

ومنه قول لبيد-رضي الله عنه. [البسيط] وفي الخباء عروب غير فاحشة

ريّا الروادف يعشى دونها البصر

وعن عكرمة أيضا، وقتادة: العرب: المتحببات إلى أزواجهن، واشتقاقه من أعرب: إذا بين، فالعروب تبين محبتها لزوجها بملق، وغنج، وحسن كلام. أقول: ومن كانت كذلك فهي ألذ استمتاعا.

{أَتْراباً:} متساويات في السن، والشباب، بنات ثلاث وثلاثين سنة، واشتقاقه من التراب فإنه يمسهن في وقت واحد. وقيل: متآخيات، لا يتباغضن، ولا يتغايرن، ولا يتحاسدن، ومثلهن أزواجهن في السن؛ لأن التحاب بين الأقران أثبت، وكانت العرب تميل إلى من جاوزت حد الصبا من النساء، وانحطت عن الكبر. هذا؛ ويقال في النساء: أتراب، وفي الرجال:

أقران. هذا؛ وأتراب: جمع: ترب بكسر التاء وسكون الراء، كحمل، وأحمال، وهو المساوي لك في العمر. قال الشاعر:[البسيط] لولا توقّع معترّ فأرضيه

ما كنت أوثر أترابا على ترب

وهذا هو الشاهد رقم [139] من كتابنا: «فتح رب البرية» . هذا؛ وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:

«يدخل أهل الجنّة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحّلين أبناء ثلاث وثلاثين» . {لِأَصْحابِ الْيَمِينِ} أي: النساء المذكورات خلقن لأصحاب اليمين. {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} يعني: من المؤمنين الذين هم قبل هذه الأمة. {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ:} يعني من مؤمني هذه الأمة. يدل عليه ما روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عروة بن رويم-رضي الله عنه-قال: لما أنزل الله-عز وجل-على رسوله صلى الله عليه وسلم: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} بكى عمر-رضي الله عنه-وقال: يا رسول الله! آمنا برسول الله، وصدقناه، ومن ينجو منا قليل، فأنزل الله عز وجل:{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ}

ص: 450

{مِنَ الْآخِرِينَ} فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر-رضي الله عنه، فقال: قد أنزل الله فيما قلت، فقال:

رضينا عن ربنا، وعن تصديق نبينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من آدم إلينا ثلّة، ومنّا إلى يوم القيامة ثلة، ولا يستتمّها إلا سودان من رعاة الإبل ممّن قال: لا إله إلا الله» . ولعل هذه الاية من الايات التي وافقت رأي عمر-رضي الله عنه.

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت عليّ الأمم، فرأيت النبيّ؛ ومعه الرّهيط، والنبيّ؛ ومعه الرجل، والرجلان، والنبيّ؛ وليس معه أحد؛ إذ رفع إليّ سواد عظيم، فظننت: أنهم أمّتي، فقيل لي: هذا موسى، وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت؛ فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الاخر؛ فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمّتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، ولا عذاب» . ثم نهض، فدخل منزله.

فخاض القوم في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: لعلّهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: لعلّهم الذين ولدوا في الإسلام، ولم يشركوا بالله.

وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«ما الذي تخوضون فيه؟» . فأخبروه، فقال:

«هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربّهم يتوكلون» . فقام عكاشة بن محصن، فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، فقال:«أنت منهم» فقام رجل آخر، فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، فقال:«سبقك بها عكاشة» . متفق عليه.

وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة نحوا من أربعين، فقال:«أترضوان أن تكونوا ربع أهل الجنة؟» . قلنا: نعم. قال: «أترضوان أن تكونوا ثلث أهل الجنّة؟» . قلنا: نعم. قال: «والّذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة، وذلك أن الجنّة لا يدخلها إلاّ نفس مؤمنة مسلمة، وما أنتم في أهل الشّرك إلا كالشّعرة البيضاء في جلد الثّور الأسود، أو كالشّعرة السّوداء في جلد الثّور الأحمر» . متفق عليه. وانظر ما ذكرته في رقم [13] و [14].

قال الخازن: فإن قلت: كيف قال في الاية الأولى رقم [14]: {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ،} وقال في هذه الاية: {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} قلت: الاية الأولى في السابقين الأولين، وقليل من يلحق بهم من الاخرين، وهذه الاية في أصحاب اليمين، وهم كثيرون من الأولين والاخرين، وحكى بعضهم:

أن هذه ناسخة للأولى، واستدل بحديث عروة بن رويم المتقدم، ونحوه، والقول بالنسخ لا يصح؛ لأن الكلام في الايتين خبر، والخبر لا يدخله النسخ. انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَفُرُشٍ:} الواو: حرف عطف. (فرش): معطوف على ما قبله. {مَرْفُوعَةٍ:} صفة (فرش). {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، (ونا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {أَنْشَأْناهُنَّ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والنون حرف دال على جماعة الإناث، لا محل

ص: 451

له، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل جر صفة (فرش)، أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، وهذا على تفسير (فرش) بالنساء، وأما على تفسيره بما يفرش في الأرض من الأثاث؛ فالجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة، لا محل لها. {إِنْشاءً:}

مفعول مطلق. {فَجَعَلْناهُنَّ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {أَبْكاراً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {عُرُباً:} صفة ثانية لموصوف محذوف، والصفة الأولى {أَبْكاراً؛} إذ التقدير: فجعلناهن أزواجا {أَبْكاراً} عربا، و {أَتْراباً} صفة ثالثة. {لِأَصْحابِ:} متعلقان ب: (أنشأنا)، أو ب:(جعلنا)، وهو أولى لقربه، و (أصحاب) مضاف، و {الْيَمِينِ} مضاف إليه. {ثُلَّةٌ:} خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هم ثلة، والجملة الاسمية في محل جر صفة (أصحاب اليمين) على اعتبار (أل) فيه للجنس، وفي محل نصب حال منه على اعتبار (أل) فيه للتعريف، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها. {مِنَ الْأَوَّلِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {ثُلَّةٌ} . {وَثُلَّةٌ:} الواو:

حرف عطف. (ثلة): معطوفة على ما قبله. {مِنَ الْآخِرِينَ:} متعلقان بمحذوف صفة (ثلة).

{وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44)}

الشرح: {وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ:} الشمال، والمشأمة بمعنى واحد. وانظر اختلاف العبارة برقم [27]. فقد ذكر الله منازل أهل النار، ومالهم، وسماهم أصحاب الشمال؛ لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم. {فِي سَمُومٍ:} السموم: الهواء الحار؛ الذي يدخل في مسامّ البدن، والمراد هنا: حر النار، ولفحها. {وَحَمِيمٍ} أي: ماء حار قد انتهى حره، وهذا إذا أحرقت النار أكبادهم، وأجسادهم؛ فزعوا إلى الحميم، كالذي يفزع من النار إلى الماء ليطفئ به الحر، فيجده حميما حارا في نهاية الحرارة، والغليان. قال تعالى في سورة (محمد صلى الله عليه وسلم:{وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ} الاية [15]. وقال تعالى في سورة (الكهف) رقم [29]: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} . {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} أي: يفزعون من السموم، والحميم إلى الظل، كما يفزع أهل الدنيا إلى الظل من شدة الحر، فيجدونه ظلا من يحموم؛ أي: من دخان جهنم، وهو أسود شديد السواد، وهو كقوله تعالى في سورة (المرسلات):{اِنْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} .

وقال الضحاك: النار سوداء، وأهلها سود، وكل ما فيها أسود. انتهى. قال تعالى في سورة (المرسلات):{إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ} . وقال ابن زيد: اليحموم: جبل في جهنم يستغيث إلى ظله أهل النار. {لا بارِدٍ} بل هو حار؛ لأنه من دخان شفير جهنم. {وَلا}

ص: 452

{كَرِيمٍ} أي: ليس بعذب، ولا كريم المنظر، والرائحة. قال الضحاك: كل شراب ليس عذبا، فليس بكريم، وكل ما لا خير فيه؛ فليس بكريم. هذا؛ وقال ابن جرير: العرب تتبع هذه اللفظة في النفي، فيقولون: هذا الطعام ليس بطيب، ولا كريم، وهذا اللحم ليس بجيد، ولا كريم.

وفي هذا فن الاحتراس، فإن كلمة (ظل) تفيد الراحة، والسرور، فنفى الله عنه ذلك بقوله:{لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} .

الإعراب: {وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ:} انظر الاية رقم [8] فالإعراب لا يتغير. {فِي سَمُومٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ثان ل: (أصحاب الشمال)، أو هما متعلقان بمحذوف خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم في سموم، والجملة الاسمية في محل رفع خبر ثان ل:(أصحاب الشمال) كما تقدم، أو هي مستأنفة، لا محل لها. {وَحَمِيمٍ:} الواو: حرف عطف. (حميم): معطوف عليه. {وَظِلٍّ:} معطوف على ما قبله. {مِنْ يَحْمُومٍ:} متعلقان بمحذوف صفة (ظل). {لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ:} صفتان ل: (ظل) منفيتان ب: (لا) النافية، انظر الاية رقم [33] فهي مثلها بلا فارق.

{إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)}

الشرح: {إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ} يعني: في الدنيا، {مُتْرَفِينَ:} منعمين مرفهين مقيمين على الشهوات، مقبلين على الملذات، فمنعهم ذلك من الانزجار، وشغلهم عن الاعتبار. {وَكانُوا يُصِرُّونَ} أي: يقيمون على ما هم عليه، ولا ينوون مفارقته. {عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} أي: على الشرك، وكانوا يحلفون أن لا بعث، ولا حساب، وأن الأصنام أنداد الله. قال تعالى مخبرا عنهم:

{وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ..} . إلخ.

هذا؛ والحنث: الذنب صغيرا كان، أو كبيرا. فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يموت له ثلاثة لم يبلغوا الحنث إلاّ أدخله الله الجنّة بفضل رحمته إيّاهم» . رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما. وفي رواية:«ثلاثة من الولد» .

{وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا} يقرأ هذان اللفظان بقراآت كثيرة، جملتها تسع، وكلها سبعية، وهذه الاية ذكرت بحروفها كاملة في سورة (المؤمنون) رقم [82]، وفي سورة (الصافات) برقم [16] وبمعناها في الاية رقم [49] و [98] من سورة (الإسراء).

{مِتْنا:} يقرأ بضم الميم، وكسرها، فالأول من باب: نصر، وقتل، كقلت، ونصرت. والثاني من باب: علم، وفهم، كخفت، ونمت. وقول المفسرين: من: مات، يمات، كخاف، يخاف،

ص: 453

ونام، ينام، وهو بعد الإعلال يعود إلى باب: علم. هذا؛ وقول المشركين في هذه الاية وأمثالها تعجب منهم، واستبعاد للبعث بعد الموت، وفناء الجسد، وشاعرهم هو الذي يقول:[الوافر] ألا من بلّغ الرحمن عنّي

بأنّي تارك شهر الصّيام

أيوعدنا ابن كبشة أن سنحيا

وكيف حياة أصداء وهام؟

أتترك أن تردّ الموت عنّي

وتحييني إذا بليت عظامي

فهو يقصد بابن كبشة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو كبشة هي كنية زوج حليمة مرضعته صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يطلقون عليه ذلك تحقيرا له صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لم يتأملوا: أنهم كانوا قبل ذلك ترابا، فخلقهم الله، وأظهرهم إلى الوجود، وهم ظنوا: أن البعث، والإعادة يكونان في الدنيا، وهم لم يروا أحدا رجع إلى الدنيا ممن تقدمهم.

{أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ} أي: أو آباؤنا الأولون كذلك سيبعثون كذلك، وهذا منهم زيادة استبعاد في الحشر، والحساب، والجزاء بعد الموت، يعنون: أنهم أقدم منهم، فبعثهم أبعد، وأبطل.

والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه، وهذه الاية مذكورة في سورة (الصافات) بحروفها برقم [17].

الإعراب: {إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها.

{كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو ضمير متصل في محل نصب اسمها، والألف للتفريق، وانظر إعراب (كذبوا): في الاية رقم [9] من سورة (القمر). {قَبْلَ:} ظرف زمان متعلق ب: {مُتْرَفِينَ،} و {قَبْلَ} مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {مُتْرَفِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وجملة:{كانُوا..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُمْ..} . إلخ تعليل لاستحقاقهم ما ذكر من العذاب. {يُصِرُّونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{وَكانُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {عَلَى الْحِنْثِ:} متعلقان بما قبلهما. {الْعَظِيمِ:} صفة {الْحِنْثِ} .

{وَكانُوا:} الواو: حرف عطف. (كانوا): فعل ماض ناقص، والواو اسمه. {يَقُولُونَ:}

فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، وجملة (كانوا

) إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا. {أَإِذا:} (الهمزة): حرف استفهام إنكاري. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب، وهذا عند سيبويه-رحمه الله تعالى-. {مِتْنا:}

فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها، وجواب (إذا) محذوف دل عليه

ص: 454

الجملة الاتية، التقدير: أئذا متنا

نبعث، ولا يجوز أن يعمل فيها (مبعوثون) لأن ما بعد (إنّ) لا يعمل فيما قبلها، وينبغي أن تعلم: أن (إذا) هنا ظرف مجرد عن الشرطية، فإن تقدير الكلام: (أنبعث إذا

) إلخ وهذا قول غير سيبويه. {وَكُنّا:} (الواو): حرف عطف. (كنا):

فعل ماض ناقص مبني على السكون، (ونا): اسمه. {تُراباً:} خبره، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {وَعِظاماً:} معطوف على ما قبله. {أَإِنّا:} (الهمزة):

حرف استفهام إنكاري. (إنا): (إنّ): حرف مشبه بالفعل، (ونا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {لَمَبْعُوثُونَ:} (اللام): هي المزحلقة. (مبعوثون): خبر إن مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الاسمية:{أَإِنّا..} . إلخ مؤكدة لما قبلها، والاستفهام فيها مبالغة في الإنكار، وبدون الاستفهام فيها حصل الإنكار بالأولى، وهذه مرتبطة فيها، فالإنكار بالأولى إنكار فيها أيضا، ولا تنس أن الكلام:{أَإِذا مِتْنا..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول.

{أَوَ:} (الهمزة): حرف استفهام أيضا. (الواو): حرف عطف. هذا؛ وقرئ بسكون الواو على أنها (أو) العاطفة المقتضية للشك، وأكثرهم قرأ بفتحها، فمن فتح الواو أجاز في:

{آباؤُنَا} وجهين: أحدهما: أن يكون معطوفا على محل (إنّ) واسمها، والثاني: أن يكون معطوفا على الضمير المستتر في: {لَمَبْعُوثُونَ} واستغنى عن الفصل المطلوب بالفصل بهمزة الاستفهام، ومن سكن الواو تعين فيه الأول دون الثاني على قول الجمهور لعدم وجود الفاصل.

انتهى. جمل نقلا عن السمين في غير هذا الموضع. هذا؛ وعلى تسكين الواو يكون {آباؤُنَا} مبتدأ خبره محذوف، ويكون فحوى الكلام عطف جملة على جملة، التقدير: أنحن نبعث، أو آباؤنا يبعثون؟

{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)}

الشرح: {قُلْ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ} يعني: الاباء، والأبناء، بل الأولين، والاخرين من ذرية آدم إلى يوم القيامة. وانظر سورة (التغابن) رقم [9] فإنه جيد.

{لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} يعني: إنهم يجمعون، ويحشرون ليوم الحساب، وهو ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم، والميقات: ما وقت به الشيء؛ أي: حدّ، ومنه مواقيت الإحرام، وهي الحدود؛ التي لا يجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرما. هذا؛ وفي سورة (الصافات) رقم [18]:{قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ} جواب لمثل هاتين الايتين.

ص: 455

{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضّالُّونَ:} عن الهدى، وعن طريق الخير. والخطاب لأهل مكة، وأمثالهم في كل عصر، ومكان. {الْمُكَذِّبُونَ} أي: بالبعث، والحساب، والجزاء

إلخ. {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ:} وهو شجر كريه المنظر، كريه الطعم. {فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ} أي: يأكلون منها حتى يملؤوا بطونهم، فقد ذكر الله تعالى: أنهم يأكلون من شجر الزقوم؛ التي لا أبشع منها، ولا أقبح من منظرها مع ما هي عليه من سوء الطعم، ونتن الريح، وخبث الطبع، فإنهم ليضطرون إلى الأكل منها؛ لأنهم لا يجدون طعاما إلا إياها، وما هو في معناها، كما قال تعالى في سورة (الغاشية):

{لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} . فقد روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الاية، وقال:«اتّقوا الله حقّ تقاته، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه؟!» أخرجه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه. وقال الترمذي: حسن صحيح.

{فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} أي: شاربون على الزقوم، أو على الأكل، أو على الشجر؛ لأنه يذكر، ويؤنث. هذا؛ وأنث الضمير على المعنى، وذكره على اللفظ في (منها، وعليه) والحميم:

هو الماء المغليّ؛ الذي اشتد غليانه، وهو صديد أهل النار؛ أي: يورثهم حر ما يأكلون من الزقوم مع الجوع الشديد عطشا، فيشربون ماء يظنون أنه يزيل العطش، فيجدونه حميما مغلى.

{فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} أي: الإبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها، و {الْهِيمِ} الإبل يصيبها داء تعطش منه عطشا شديدا، واحدها: أهيم، والأنثى: هيماء. قال ذو الرمة: [الطويل] فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد

صداها ولا يقضي عليها هيامها

ويقال لذلك الداء: الهيام. قال قيس بن الملوّح: [الطويل] يقال به داء الهيام أصابه

وقد علمت نفسي مكان شفائها

وقوم هيم أيضا؛ أي: عطاش، وقد هاموا هياما، ومن العرب من يقول في الإبل: هائم، وهائمة، والجمع: هيم. قال لبيد رضي الله: [الوافر] أجزت إلى معارفها بشعث

وأطلاح من العيديّ هيم

وفي الصحاح: والهيام بالضم: أشد العطش. والهيام: كالجنون من العشق. والهيام: داء يأخذ الإبل، فتهيم في الأرض لا ترعى، ولا تشرب. والهائم من الناس هو الذي يسير في الأرض لا يعلم أين يسير من عشق، أو غيره، هذا إن سلك طريقا مسلوكا، فإن سلك طريقا غير مسلوك فهو: راكب التعاسيف. وهام، يهيم: تحير وتردد. قال تعالى في حق الشعراء الفاسدين في سورة (الشعراء): {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ} . هذا؛ و {شُرْبَ} يقرأ بضم الشين وفتحها، فهو مصدر، وبالكسر المشروب كالطحن بمعنى المطحون. قال تعالى في سورة

ص: 456

(الشعراء) رقم [155]: {هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} وقال أبو عبيدة: الشّرب بالفتح مصدر، وبالضم، والكسر اسمان. هذا؛ والشّربة بفتح الشين: من الماء ما يشرب مرة، وهي المرة من الشّرب أيضا.

قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: كيف صح عطف الشاربين على الشاربين، وهما لذوات متفقة، وصفتان متفقتان، فكان للشيء على نفسه؟ قلت: ليستا بمتفقتين؛ من حيث إن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة، وقطع الأمعاء أمر عجيب، وشربهم له على ذلك كما تشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضا، فكانتا صفتين مختلفتين. انتهى.

أقول: ما أشبه هذا بقوله تعالى في هذه السورة: {وَالسّابِقُونَ السّابِقُونَ} كما رأيت.

{هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ:} النزل: ما يهيأ من الطعام، والشراب، والإكرام للنازل تكرمة له، وفيه تهكم، كما في قوله تعالى:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} قال أبو السعد الضبي، وقد استعار ما يعد للضيف النازل لما يفعله بالأعداء الهاجمين على قومه، وعليه:[الطويل] وكنّا إذا الجبّار بالجيش ضافنا

جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

هذا؛ والزقوم: مشتقة من التزقم، وهو البلع على جهد لكراهتها ونتنها، وهي تحيا بلهب النار، كما تحيا الشجرة في الدنيا بالماء البارد. واختلف فيها: هل هي من شجر الدنيا التي تعرفها العرب أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها معروفة من شجر الدنيا. ومن قال بهذا اختلفوا فيها، فقال قطرب: إنها شجرة مرّة تكون بتهامة من أخبث الشجر، وقال غيره: بل هو كل نبات قاتل. والقول الثاني: إنها لا تعرف في شجر الدنيا، فلما نزلت هذه الاية، وأمثالها قالت قريش: ما نعرف هذه الشجرة، فقدم عليهم رجل من أفريقية، فسألوه، فقال: هو عندنا الزبد، والتمر. فقال ابن الزّبعرى متهكما: أكثر الله في بيوتنا الزقوم. فقال أبو جهل الخبيث لجاريته:

هاتي زقّمينا، فأتته بزبد وتمر، ثم قال لأصحابه: تزقّموا هذا الذي يخوفنا به محمد، يزعم: أن النار تنبت الشجر، والنار تحرق الشجر، وهذا فحوى قوله تعالى في سورة (الصافات):{إِنّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} .

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْأَوَّلِينَ:} اسم (إنّ). (الاخرين): معطوف على ما قبله، وعلامة نصبهما الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنهما جمعا مذكر سالمان، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

{لَمَجْمُوعُونَ:} (اللام): هي المزحلقة. (مجموعون): خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ. {إِلى مِيقاتِ:} متعلقان بمجموعون، و {مِيقاتِ} مضاف، و {يَوْمٍ} مضاف إليه. {مَعْلُومٍ:}

صفة {يَوْمٍ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} .

إلخ مستأنفة، لا محل لها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف

ص: 457

اسمها. {أَيُّهَا:} نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب بأداة نداء محذوفة، و (ها):

حرف تنبيه لا محل له، أقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه. {الضّالُّونَ:} بدل، أو عطف بيان من أيها وهو صفة لموصوف محذوف، التقدير: أيها القوم الضالون. {الْمُكَذِّبُونَ:}

صفة ثانية للموصوف المحذوف، فهما مرفوعان تبعا لمحله، وعلامة رفعهما الواو

إلخ، والجملة الندائية معترضة بين اسم (إنّ) وخبرها، لا محل لها. {لَآكِلُونَ:} (اللام): هي المزحلقة. (آكلون): خبر (إنّ) مرفوع

إلخ، وفيه وفي ما قبله ضمير مستتر هو الفاعل. {مِنْ شَجَرٍ:} متعلقان ب: (آكلون) وهما في محل المفعول به، وأصل الكلام؛ لاكلون شيئا من زقوم.

وقيل: {مِنْ} زائدة. {مِنْ زَقُّومٍ:} متعلقان بمحذوف صفة {شَجَرٍ،} وقيل: بدل مما قبلهما، وهو ضعيف، والأول أقوى، والجملة الاسمية:{إِنَّكُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {فَمالِؤُنَ:} الفاء: حرف عطف. (مالئون): معطوف على ما قبله.

{مِنْهَا:} جار ومجرور متعلقان ب: (مالئون). {الْبُطُونَ:} مفعول به. {فَشارِبُونَ:} الفاء: حرف عطف. (شاربون): معطوف على ما قبله. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان ب: (شاربون). {مِنَ الْحَمِيمِ:} متعلقان ب: (شاربون). وفيه وفيما قبله ضمير مستتر هو الفاعل. {شُرْبَ:} مفعول مطلق، وهو مضاف، و {الْهِيمِ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، وأصل الكلام: شربا مثل شرب الهيم. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {نُزُلُهُمْ:} خبر المبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق ب: {نُزُلُهُمْ،} وقيل: متعلق بمحذوف حال، ولا وجه له، و {يَوْمَ} مضاف، و {الدِّينِ} مضاف إليه.

تنبيه: قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: ومعنى الكلام: القسم، ودخول اللام في قوله تعالى:{لَمَجْمُوعُونَ} هو دليل القسم في المعنى؛ أي: إنكم لمجموعون قسما حقا، خلاف قسمكم الباطل. ولم أره لغيره.

{نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62)}

الشرح: {نَحْنُ خَلَقْناكُمْ} أي: نحن خلقناكم ابتداء بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، أفليس الذي قدر على البداءة بقادر على الإعادة بطريق الأولى، والأحرى؟! ولهذا قال:{فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ:} أي فهلا تصدقون بالبعث، وتقرون به؟! فهذا تقرير للمعاد، ورد على المكذبين من أهل الزيغ، والإلحاد في كل زمان، ومكان. {أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ} أي: ما تقذفونه في الأرحام من

ص: 458

النطف. {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ} أي: أأنتم تخلقون ما تمنون بشرا. {أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ:} المقدرون المصورون؟! والمعنى: أنه خلق النطفة، وصورها، وأحياها، فلم لا تصدقون بأنه قادر مقتدر على أن يعيدكم كما أنشأكم؟! احتج عليهم في البعث بالقدرة على ابتداء الخلق. {نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} أي: الاجال، فمنكم من يبلغ الكبر، والهرم، ومنكم من يموت صبيا، وشابا، وغير ذلك من الاجال القريبة، والبعيدة. وقيل: معناه أنه جعل أهل السماء، وأهل الأرض متساوين في الموت، شريفهم، ووضيعهم، فعلى هذا القول يكون معنى (قدرنا) قضينا.

{وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي: لا يفوتنا شيء نريده، ولا يمتنع منا أحد مهما أوتي من القوة، والجاه، والعظمة في الدنيا. وقيل: معناه: وما نحن بمغلوبين عاجزين عن إهلاككم، وإبدالكم بأمثالكم، وهو قوله تعالى:{عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ} أي: نأتي بخلق مثلكم بدلا منكم في أسرع حين. {وَنُنْشِئَكُمْ} أي: نخلقكم. {فِي ما لا تَعْلَمُونَ:} من الصور، والهيئات، والمعنى تغيير شكلكم، وحليتكم إلى ما هو أسمح منها، من أي خلق شئنا. وقيل: نبدل صفاتكم، فنجعلكم قردة، وخنازير، كما فعلنا بمن قبلكم؛ أي: إن أردنا ذلك ما فاتنا.

وقال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-كما في قرطبي، وفي الخازن: سعيد بن المسيب {فِي ما لا تَعْلَمُونَ:} في حواصل طيور سود، كأنها الخطاطيف، تكون ببرهوت، وهو واد باليمن، وهذه الأقوال كلها تدل على المسخ، وعلى أنه لو شاء أن يبدلهم بأمثالهم من بني آدم؛ قدر، ولو شاء أن يمسخهم في غير صورهم؛ قدر. وقال بعض أهل المعاني: هذا يدل على أن النشأة الثانية يكونها الله تعالى في وقت لا يعلمه العباد، ولا يعلمون كيفيته، كما علموا الإنشاء الأول من جهة التناسل، ويكون التقدير على هذا، وما نحن بمسبوقين على أن ننشئكم في وقت لا تعلمونه، يعني: وقت البعث، والقيامة، وفيه فائدة، وهو التحريض على العمل الصالح؛ لأن التبديل، والإنشاء هو الموت، والبعث، وإذا كان ذلك واقعا في الأزمان، ولا يعلمه أحد، فينبغي أن لا يتكل الإنسان على طول المدة، ولا يغفل عن إعداد العدة.

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى} أي: الخلقة الأولى، ولم تكونوا شيئا، حيث خلقكم الله من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة. {فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} أي: بأني قادر على إعادتكم بعد الموت، كما قدرت على إبدائكم أول مرة بطريق الأولى، والأحرى؟! قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} رقم [27] من سورة (الروم)، وقوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [29]:{كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ،} وفي سورة (الأنبياء) رقم [104]: {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنّا كُنّا فاعِلِينَ،} وغير ذلك كثير. وفي الخبر: عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الأخرى، وهو يرى النشأة الأولى! وعجبا للمصدق بالنشأة الاخرة، وهو لا يسعى لدار القرار! وقال الزمخشري وتبعه البيضاوي، والنسفي: وفيه دليل على صحة القياس حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى.

ص: 459

هذا؛ ويستدل بالايات من يقول بتناسخ الأرواح. فهم يقولون: الأرواح تنتقل من مخلوق إلى مخلوق فابن آدم إن كانت أعماله صالحة، وحسنة، فإذا مات؛ تنتقل روحه إلى إنسان مثله، وإن كانت أعماله خبيثة؛ تحل روحه بحيوان، أو بحية، أو حشرة من الحشرات، وهكذا، ومصدر هذه الفكرة من الهند، ويستدلون أيضا بقوله تعالى في سورة (الانفطار):{فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ} انظر شرحها هناك.

الإعراب: {نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ. {خَلَقْناكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {فَلَوْلا:} (الفاء): حرف عطف، وسبب. (لولا): حرف تحضيض. {تُصَدِّقُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، لا محل لها مثلها. {أَفَرَأَيْتُمْ:} (الهمزة): حرف استفهام إنكاري. (الفاء): حرف استئناف.

(رأيتم): فعل، وفاعل. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به أول.

{تُمْنُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: الذي تمنونه. {أَأَنْتُمْ:} (الهمزة): حرف استفهام إنكاري توبيخي.

(أنتم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع فاعل لفعل محذوف، يفسره المذكور بعده، كان متصلا، فلما حذف الفعل؛ انفصل الضمير، وبرز، أو هو في محل رفع مبتدأ.

{تَخْلُقُونَهُ:} مضارع مرفوع، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية مفسرة، لا محل لها على الوجه الأول في الضمير، وفي محل رفع خبره على الوجه الثاني فيه. ورجح الجمل نقلا عن كرخي الأول؛ لأجل أداة الاستفهام. ورجح ابن هشام الثاني لمعادلتها الجملة الاسمية بعدها. والجملة على الاعتبارين في محل نصب مفعول به ثان للفعل:(رأيتم)، والجملة الفعلية:

{أَفَرَأَيْتُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {أَمْ:} حرف عطف. واختلف فيها، فقيل: متصلة.

وقيل: منقطعة، والجملة الاسمية بعدها معطوفة على ما قبلها.

{نَحْنُ:} مبتدأ. {قَدَّرْنا:} فعل، وفاعل. {بَيْنَكُمُ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {الْمَوْتَ:} مفعول به، وجملة:{قَدَّرْنا..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَما:} (الواو): واو الحال. (ما): نافية حجازية تعمل عمل ليس. {نَحْنُ:} اسمها. {بِمَسْبُوقِينَ:} (الباء): حرف جر صلة. (مسبوقين):

خبر (ما) مجرور لفظا منصوب محلا، والجملة الاسمية في محل نصب حال من (نا)، والرابط:

الواو، والضمير. {عَلى:} حرف جر. {أَنْ نُبَدِّلَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» ، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والمصدر المؤول منهما في محل جر ب:{عَلى،} والجار والمجرور متعلقان ب: (مسبوقين)، أو بالفعل {قَدَّرْنا}. {أَمْثالَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَنُنْشِئَكُمْ:} الواو: حرف عطف. (ننشئكم): معطوف على {نُبَدِّلَ،} والفاعل

ص: 460

مستتر تقديره: «نحن» ، والكاف مفعول به. {فِي ما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {لا:}

نافية. {تَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: في الذي لا تعلمونه. {وَلَقَدْ} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم.

اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {عَلِمْتُمُ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف، لا محل له. {النَّشْأَةَ:} مفعول به. {الْأُولى:} صفة {النَّشْأَةَ} منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {فَلَوْلا:} (الفاء): حرف عطف، وسبب. (لولا): حرف تحضيض.

{تَذَكَّرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وانظر الإعراب التفصيلي لكلمة:{وَلَقَدْ} في الاية رقم [13] من سورة (النجم).

{أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)}

الشرح: قال الخازن-رحمه الله تعالى-: لما ذكر الله تعالى ابتداء الخلق، وما فيه من دلائل واحدانيته؛ ذكر بعده الرزق؛ لأن به البقاء، وذكر أمورا ثلاثة: المأكول، والمشروب، وما به إصلاح المأكول، والمشروب، ورتبه ترتيبا حسنا، فذكر المأكول أولا؛ لأنه هو الغذاء، وأتبعه المشروب؛ لأن به الاستمراء، ثم النار؛ التي بها الإصلاح، وذكر من أنواع المأكول الحب؛ لأنه هو الأصل، ومن المشروب: الماء؛ لأنه أيضا هو الأصل، وذكر من المصطلحات النار؛ لأن بها إصلاح أكثر الأغذية. انتهى.

{أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ} أي: أخبروني عما تحرثون من أرضكم، فتطرحون فيها البذر: أنتم تنبتونه، وتحصّلونه زرعا، فيكون فيه السنبل، والحب، أم نحن نفعل ذلك؟! وإنما منكم البذر وشق الأرض، فإذا أقررتم بأن إخراج السنبل من الحب ليس إليكم، فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض، وإعادتهم؟ وأضاف الحرث إليهم، والزرع إليه تعالى؛ لأن الحرث فعلهم، ويجري على اختيارهم، والزرع من فعل الله تعالى، وينبت على اختياره، لا على اختيارهم، وهو فحوى ما روى أبو هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «لا يقولنّ أحدكم زرعت، وليقل: حرثت، فإن الزارع هو الله» . قال أبو هريرة: ألم تسمعوا قول الله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ} .

والمستحب لكل من يلقي البذر في الأرض أن يقرأ بعد الاستعاذة: {أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ} ثم يقول: بل الله الزارع، والمنبت، والمبلّغ. اللهم صلّ على محمد، وعلى آله، وصحبه، وارزقنا

ص: 461

ثمره، وجنبنا ضرره، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين، ولالائك من الذاكرين، وبارك لنا فيه يا رب العالمين! ويقال: إن هذا القول أمان لذلك الزرع من جميع الافات، الدود والجراد وغير ذلك، سمعناه من ثقة، وجرّب، فوجد كذلك. انتهى. قرطبي بحروفه.

{لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً} أي: متكسرا. والحطام: الهشيم الهالك؛ الذي لا ينتفع به في مطعم، ولا في غذاء. قيل: هو جواب لمعاند يقول: نحن نحرثه، وهو بنفسه يصير زرعا، لا بفعلنا، ولا بفعل غيرنا، فرد الله على هذا المعاند بقوله:{لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً} فهل تقدرون أنتم على حفظه؟، أو هو يدفع عن نفسه بنفسه تلك الافات؛ التي تصيبه؟! ولا يشك أحد في أن دفع الافات لا يكون إلا بإذن الله، وحفظه. انتهى. خازن، وقرطبي. {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أي:

تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم. وقيل: تندمون على نفقاتكم. وقيل: تندمون على ما سلف منكم من المعاصي التي أوجبت تلك العقوبة. وقيل: تتلاومون. وقيل: تحزنون. وقيل: هو تلهف على ما فات. قال الكسائي: (تفكه) من الأضداد، تقول العرب: تفكهت بمعنى: تنعمت، وتفكهت بمعنى: حزنت. هذا؛ ولا يوجد هذا اللفظ إلا في هذه السورة. هذا؛ وأصل التفكه تناول ضروب الفواكه للأكل، والفكاهة: المزاح، ومنه حديث زيد: كان من أفكه الناس مع أهله، ورجل فكه: طيب النفس، وقد استعير هنا للتنقل في الحديث.

هذا؛ و (ظلتم) أصله: ظللتم. فحذفت اللام الأولى تخفيفا، ومثله قوله تعالى في سورة (طه) حكاية عن قول موسى للسامري:{وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً} رقم [97].

هذا؛ ويقرأ: «(ظللتم)» على الأصل، ويقرأ بفتح الظاء، وكسرها؛ إذا حذفت اللام الأولى.

قراآت ثلاث. هذا؛ والمراد من الفعل هنا وفي سورة (طه) الاستمرار، لا التوقيت بالنهار فقط، كما في قوله تعالى في سورة (الشورى) رقم [33]:{فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ} وهو يفيد:

أنه بمعنى المستقبل أيضا وفي كثير من الايات: {لَظَلُّوا} وأصله: ظللوا، فسكنت اللام الأولى بعد إسقاط حركتها، وأدغمت في الثانية، وذلك كراهة أن يجمع بين حرفين متحركين من جنس واحد في كلمة واحدة وهذا يطرد في كل مضعف، مثل: مدّوا، وشدّوا، فإذا اتصل به ضمير متحرك؛ وجب الفك، مثل قولك: ظللت، وظللنا، وظللن. وتقول: ظللت أفعل ذلك، وظللت أفعله، وظلت أفعله بكسر الظاء وفتحها: إذا كنت تفعله نهارا.

{إِنّا لَمُغْرَمُونَ} أي: لملزمون غرامة ما أنفقنا، أو لمهلكون لهلاك رزقنا. من: الغرام، وهو الهلاك، وعن ابن عباس، وقتادة-رضي الله عنهما-قالا: والغرام: العذاب، ومنه قول ابن المحلم:[الطويل] وثقت بأنّ الحفظ مني سجية

وأن فؤادي متبل بك مغرم

وقال مجاهد، وعكرمة-رضي الله عنهما: لمولع بنا. ومنه قول النمر بن تولب-رضي الله عنه: [المتقارب]

ص: 462

سلا عن تذكّره تكتما

وكان رهينا بها مغرما

وفي المختار: الغرام: الشر الدائم، والعذاب. هذا؛ وقوله تعالى:{إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً} سورة (الفرقان) رقم [65] أي: هلاكا لازما لزوميا كليا في حق الكفار، ولزوما بعد إطلاق في حق عصاة المسلمين، ومنه سمي الغريم لملازمته من له عليه حق من دم، أو مال، أو نحوهما. وفلان مغرم بكذا؛ أي: ملازم له ومولع به، وهذا معناه في كلام العرب، فيما ذكر ابن الأعرابي وابن عرفة وغيرهما، وقال الأعشى:[الخفيف] إن يعاقب يكن غراما وإن يع

ط جزيلا فإنه لا يبالي

وقال بشر بن أبي خازم: [المتقارب] يوم النّسار ويوم الجفا

ر فكانا عذابا وكانا غراما

هذا؛ والمغرم بفتح الميم والراء: الخسران، والضياع، ومن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم:«اللهمّ إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، وأعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن» . قال تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً..} . إلخ الاية رقم [98] من سورة (التوبة) وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه علي بن أبي طالب-كرم الله وجهه-: «إذا كانت الأمانة مغنما، والزّكاة مغرما» .

والمغرم بزنة المفعول: أسير الحب والعشق. {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي: ممنوعون، والمعنى: حرمنا الذي كنا نطلبه من الريع في الزرع، والمحروم: الممنوع من الرزق، وعن أنس-رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأرض الأنصار، فقال:«ما يمنعكم من الحرث؟» . قالوا: الجدوبة يا رسول الله! فقال: «لا تفعلوا؛ فإن الله تعالى يقول: أنا الزارع، وإن شئت زرعت بالرّيح، وإن شئت زرعت بالبذر» . ثم تلا: {أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ} . والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ} إعرابها مثل إعراب: {أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ} بلا فارق بينهما.

{أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ:} إعرابها مثل إعراب: {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ} . {لَوْ:}

حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {نَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَجَعَلْناهُ:}

(اللام): واقعة في جواب {لَوْ} . (جعلناه): فعل، وفاعل، ومفعول به أول. {حُطاماً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب {لَوْ،} و {لَوْ} ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {فَظَلْتُمْ:} (الفاء): حرف عطف. (ظلتم): فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمها. {تَفَكَّهُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (ظل)، وجملة:(ظلتم تفكهون) معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثله. {إِنّا:} (إنّ):

ص: 463

حرف مشبه بالفعل. (ونا): اسمها حذفت نونها وبقيت الألف دليلا عليها. {لَمُغْرَمُونَ:} (اللام):

هي المزحلقة. (مغرمون): خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: تقولون: إنا لمغرمون، وجملة:{نَحْنُ مَحْرُومُونَ} معطوفة عليها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وجملة: «تقولوا: إنا

إلخ» المقدرة في محل نصب حال.

{أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70)}

الشرح: {أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ:} أخبروني عن الماء الذي تشربونه، لتحيوا به أنفسكم، وتسكنوا به عطشكم: من أين تأتون به؛ إذا منع عنكم؟! قال تعالى في آخر سورة (الملك): {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ} . هذا؛ وقدم الطعام؛ لأن الشراب إنما يكون تبعا للمطعوم، ولهذا جاء الطعام مقدما في الايات السابقة، ولو عكست؛ قعدت تحت قول أبي العلاء المعري:

إذا سقيت ضيوف الناس محضا

سقوا أضيافهم شبما زلالا

وسقي بعض العرب، فقال: أنا لا أشرب إلا على ثميلة.

{أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} أي: السحاب. الواحدة: مزنة. قال عامر بن جوين الطائي: [المتقارب] فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها

وهذا هو الشاهد رقم [1119] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . والجمع: المزن، كما في الاية الكريمة، وقال الشاعر:[الطويل] فنحن كماء المزن ما في نصابها

كهام، ولا فينا يعدّ بخيل

وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما: أن المزن: السحاب. هذا؛ وتطلق المزنة على المطرة الواحدة. قال الشاعر: [الطويل] ألم تر أنّ الله أنزل مزنة

وعفر الظّباء في الكناس تقمّع

وانظر {الْمُعْصِراتِ} في سورة (النبأ) رقم [14] حيث أطلقت على السحاب أيضا.

{أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} أي: فإذا عرفتم بأني أنزلت المطر من السحاب، وهو حياة لكم، فلم لا تشكروني بإخلاص العبادة لي؟! ولم تنكرون قدرتي على الإعادة؟! {لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً:}

ملحا شديد الملوحة. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما، وقال الحسن البصري-رحمه الله

ص: 464

تعالى-: مرا زعاقا، لا تنتفعون به في شرب، ولا زرع، ولا غيرهما. {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} أي:

فهلا تشكرون الله على إنعامه في إنزاله المطر عليكم عذبا زلالا. قال تعالى في سورة (النحل) رقم [10]: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} . وعن جابر رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا شرب الماء؛ قال: «الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا» . أخرجه ابن أبي حاتم.

تنبيه: من الملاحظ: أن اللام دخلت في جواب (لو) في قوله: {لَجَعَلْناهُ حُطاماً} ونزعت من قوله تعالى: {جَعَلْناهُ أُجاجاً} فابن هشام-رحمه الله تعالى-قد علل حذف اللام من الثاني، واستحسنه لطول الفصل. وعلله النسفي بقوله: لأن (لو) لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط، ولم تكن مخلصة للشرط ك:«إن» ولا عاملة مثلها، وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقا؛ من حيث إفادتها في مضموني جملتيها: أن الثاني امتنع لامتناع الأول؛ افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علما على هذا التعلق، فزيدت هذه اللام لتكون علما على ذلك، ولما شهر موقعه؛ لم يبال بإسقاطه عن اللفظ لعلم كل أحد به، وتساوي حالي حذفه، وإثباته، على أن تقدم ذكرها، والمسافة قصيرة مغن عن ذكرها ثانية، ولأن هذه اللام تفيد معنى التأكيد لا محالة، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب؛ للدلالة على أن أمر المطعوم مقدم على أمر المشروب، وأن الوعيد بفقده أشد، وأصعب من قبل: أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب. انتهى.

هذا؛ و «يشاء» وماضيه: شاء، ولم يرد له، ولا ل:«أراد» يريد أمر فيما أعلم، فهما ناقصا التصرف، وأصل شاء: شيء على وزن فعل بكسر العين، بدليل شئت شيئا، وقد قلبت الياء ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها، وقد كثر حذف مفعوله، وحذف مفعول: أراد، حتى لا يكاد ينطق به إلا في الشيء المستغرب، مثل قوله تعالى:{لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا} وقال الشاعر الخزيمي: [الطويل] فلو شئت أن أبكي دما لبكيته

عليه ولكن ساحة الصّبر أوسع

وقيد بعضهم حذف مفعول هذين الفعلين بعد «لو» كما في آيتي هذه السورة. وليس كذلك.

والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ:} انظر الاية رقم [58]. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة {الْماءَ،} والجملة بعده صلته، والعائد محذوف، التقدير: الذي تشربونه.

{أَأَنْتُمْ:} (الهمزة): حرف استفهام إنكاري توبيخي. (أنتم): يجوز فيه ما جاز بقوله: {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ} . {أَنْزَلْتُمُوهُ:} فعل ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم حرف دال على جماعة الذكور، وحركت بالضم لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، والهاء مفعول به،

ص: 465

والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبارها مفسرة لجملة محذوفة، وفي محل رفع خبر الضمير على اعتباره مبتدأ، والجملة على الوجهين في محل نصب مفعول به ثان للفعل (أرأيتم)، والجملة الاسمية:{نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها. {لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً} انظر الاية رقم [65] فالإعراب مثله بلا فارق. {فَلَوْلا:} (الفاء): حرف عطف، وسبب، أو هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ما ذكر واقعا، وحاصلا؛ فهلا حصل منكم شكر لله المنعم المتفضل؟! (لولا): حرف تحضيض. {تَشْكُرُونَ:}

فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على اعتبار الفاء عاطفة، ولا محل لها على اعتبارها الفصيحة، ولكن الجملة الشرطية معطوفة برمتها على ما قبلها. تأمل، وتدبر.

{أَفَرَأَيْتُمُ النّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)}

الشرح: {أَفَرَأَيْتُمُ النّارَ الَّتِي تُورُونَ} أي: أخبروني عن النار التي تظهرونها بالقدح من الشجر الرطب. {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها} يعني: التي تكون منها الزناد. وقيل: المراد بذلك: شجر المرخ، والعفار، ينبت في أرض الحجاز، فيأتي من أراد قدح نار، وليس معه زناد، فيقطع منهما غصنين مثل السواكين، وهما خضراوان، يقطر منهما الماء، فيسحق المرخ-وهو ذكر-على العفار، وهو أنثى، فتنقدح النار بإذن الله تعالى، كالزناد سواء. وفي المثل:«في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار» . ولقد أحسن من قال: [البسيط] جمع النّقيضين من أسرار قدرته

هذا السّحاب به ماء به نار

{أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ} أي: الخالقون للشجر، ولغيره، وإذا عرفتم قدرتي؛ فاشكروني، ولا تنكروا قدرتي على البعث، والحساب، والجزاء. {نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً:} قال قتادة، ومجاهد -رحمهما الله تعالى-: أي: تذكر نار الدنيا النار الكبرى يوم القيامة. فعن أبي هريرة-رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ناركم هذه ما يوقد بنو آدم جزء واحد من سبعين جزآ من نار جهنّم» . قالوا:

والله إن كانت لكافية! قال: «إنّها فضّلت عليها بتسعة وستين جزآ، كلّهنّ مثل حرّها» رواه مالك، والبخاري، ومسلم، والترمذي. وعن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أوقد على النار ألف سنة حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودّت، فهي سوداء كالليل المظلم» . رواه الترمذي، وابن ماجه، ويروى لفظ ألف برفعه، ونصبه.

{وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ:} منفعة للمسافرين، سموا بذلك لنزولهم القوى، وهو القفر، يقال: أقوت الدار، وقويت أيضا؛ أي: خلت من سكانها. قال النابغة في معلقته رقم [1]: [البسيط]

ص: 466

يا دار ميّة بالعلياء فالسّند

أقوت وطال عليها سالف الأمد

وقال عنترة في معلقته أيضا رقم [10]: [الكامل] حيّيت من طلل تقادم عهده

أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم

وقال مجاهد: {لِلْمُقْوِينَ} المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ، والخبز، والاصطلاء والاستضاءة، ويتذكر بها نار جهنم، فيستجار بالله منها. وهذا أولى. ثم من لطف الله تعالى أن أودعها في الأحجار، وخالص الحديد بحيث يتمكن المسافر من حمل ذلك في متاعه وبين ثيابه، فإذا احتاج إلى النار في منزله؛ أخرج زنده، وأورى، وأوقد ناره، فطبخ بها، واصطلى، واشتوى، واستأنس بها، وانتفع سائر الانتفاعات، فلهذا أفرد المسافرون بالذكر، وإن كان ذلك عاما في حق الناس كلهم.

{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي: الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة: الماء الزلال العذب البارد، ولو شاء لجعله ملحا أجاجا كالبحار المغرقة، وخلق النار المحرقة، وجعل ذلك مصلحة للعباد، وجعل هذه منفعة لهم في معاشهم في دنياهم، وزجرا لهم في آخرتهم، وعذابا للعاصين، والفاسقين منهم. وانظر (التسبيح) في سورة (الفتح) رقم [9].

الإعراب: {أَفَرَأَيْتُمُ النّارَ:} انظر الاية رقم [58] فالإعراب لا يتغير. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة (النار) والجملة بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: التي تورونها. {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ} إعراب هذه مثل: {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ} على الوجهين المعتبرين فيها. {شَجَرَتَها:} مفعول به. (وها): في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها. {نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ. {جَعَلْناها:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية تعليل لما قبلها، لا محل لها. {تَذْكِرَةً:} مفعول به ثان. {وَمَتاعاً:} الواو: حرف عطف. (متاعا): معطوف على ما قبله. {لِلْمُقْوِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة متاعا. {فَسَبِّحْ:} (الفاء): الفصيحة. (سبح): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {بِاسْمِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر. وقيل: الباء زائدة. وقيل: لفظ (اسم) أيضا زائد، فيكون التقدير: فسبح ربك؛ أي:

ذاته العلية، وعلى الأول ف:(اسم) مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {الْعَظِيمِ:} صفة للمضاف، أو للمضاف إليه، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا، وواقعا؛ فسبح ربك ونزهه عما لا يليق به.

ص: 467

{فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)}

الشرح: {فَلا أُقْسِمُ:} قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: (لا) صلة في قول أكثر المفسرين، والمعنى: فأقسم بدليل قوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ} وقال الفراء: هي نفي، والمعنى ليس الأمر كما تقولون، ثم استأنف:{أُقْسِمُ} وقد يقول الرجل: لا، والله ما كان كذا! فلا يريد به نفي اليمين، بل يريد به نفي كلام تقدم؛ أي: ليس الأمر كما ذكرت، بل هو كذا. وقيل:(لا) بمعنى: ألا للتنبيه. ونبه بهذا على فضيلة القرآن؛ ليتدبروه، وأنه ليس بشعر، ولا سحر، ولا كهانة، كما زعموا. وقرأ الحسن، وحميد، وعيسى بن عمر:«(فلأقسم)» بغير ألف بعد اللام على التحقيق، وهو فعل حال، ويقدر مبتدأ محذوف، التقدير: فلأنا أقسم بذلك، ولو أريد به الاستقبال؛ للزمت النون، وقد جاء حذف النون مع الفعل الذي يراد به الاستقبال، وهو شاذ.

انتهى. هذا؛ ويقرب من هذا ما تراه في أول سورة (القيامة) إن شاء الله تعالى.

هذا؛ وقال ابن هشام في المغني: اختلف في (لا) في مواضع من التنزيل: أهي نافية، أم زائدة؟ أحدها: قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ} فقيل: هي نافية. واختلف هؤلاء في منفيها على قولين: أحدهما: أنه شيء تقدم، وهو ما حكي عنهم كثيرا من إنكار البعث، فقيل لهم:

ليس الأمر كذلك، ثم استؤنف القسم. قالوا: وإنما صح ذلك؛ لأن القرآن كله كالسورة الواحدة، ولهذا يذكر الشيء في سورة، وجوابه في سورة أخرى، نحو قوله تعالى في سورة (الحجر) الاية رقم [6]:{وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ،} وجوابه: قوله تعالى في سورة (القلم): {ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} .

والثاني: أن منفيها {أُقْسِمُ} وذلك على أن يكون إخبارا، لا إنشاء. واختاره الزمخشري.

قال: والمعنى في ذلك: أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له، بدليل قوله تعالى:{فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} فكأنه قيل: إن إعظامه بالإقسام به كلا إعظام؛ أي: إنه يستحق إعظاما فوق ذلك. وقيل: هي زائدة، واختلف هؤلاء في فائدتها على قولين:

أحدهما: أنها زيدت توطئة، وتمهيدا لنفي الجواب. والتقدير: لا أقسم بيوم القيامة لا يتركون سدى! ومثله قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الاية رقم [65] من سورة (النساء)، وأيضا قول امرئ القيس، وهو الشاهد رقم [456] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [المتقارب] فلا وأبيك ابنة العامريّ

لا يدّعي القوم أنّي أفر

ص: 468

ورد بقوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ..} . الايات فإن جوابه مثبت، وهو قوله تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ} ومثله قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ} . والثاني: أنها زيدت لمجرد التوكيد، وتقوية الكلام، كما في قوله تعالى:{لِئَلاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ} رقم [29] من سورة (الحديد) ورد بأنها لا تزيد لذلك صدرا، بل حشوا، كما أن زيادة (ما) و (كان) كذلك، نحو قوله تعالى:{فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ} رقم [159] من سورة (آل عمران)، وقوله تعالى:{أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} رقم [78] من سورة (النساء)، ونحو:(زيد كان فاضل) وذلك؛ لأن زيادة الشيء تفيد إطراحه، وكونه أول الكلام يفيد الاعتناء به. قالوا: ولهذا نقول بزيادتها في نحو قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ} سورة (المعارج)، وقوله تعالى:

{فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ} لوقوعها بين الفاء، ومعطوفها بخلاف هذا، وأجاب أبو علي بما تقدم من أن القرآن كالسورة الواحدة. انتهى. بحروفه.

{بِمَواقِعِ النُّجُومِ:} مواقع النجوم: مساقطها، ومغاربها في قول قتادة، وغيره. وقال الحسن البصري: انكدارها، وانتثارها يوم القيامة. وقال القشيري: هو قسم، ولله أن يقسم بما يريد، وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى، وصفاته القديمة. قال القرطبي: يدل على هذا قراءة الحسن:

«(فلأقسم)» وما أقسم به سبحانه من مخلوقاته في غير موضع من كتابه. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: المراد بمواقع النجوم: نزول القرآن نجوما، أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ من السماء العليا إلى السفرة الكاتبين، فنجمه السفرة على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، فهو ينزل به على الأحداث من أمته.

{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ:} لما في المقسم به من الدلالة على عظيم القدرة، وكمال الحكمة، وفرط الرحمة، ومن مقتضيات رحمته ألاّ يترك عباده سدى، وهو اعتراض في اعتراض بين القسم والمقسم عليه، و {لَوْ تَعْلَمُونَ} اعتراض بين الموصوف، والصفة. {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} أي: عزيز مكرّم؛ لأنه كلام الله تعالى، ووحيه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم. وقيل: الكريم الذي من شأنه أن يعطي الكثير، وسمي القرآن كريما؛ لأنه يفيد الدلائل؛ التي تؤدي إلى الحق في الدين. وقيل:

الكريم: اسم جامع لما يحمد، والقرآن كريم لما يحمد فيه من الهدى، والنور، والبيان، والعلم، والحكم، فالفقيه يستدل به، ويأخذ منه، والحكيم يستمد منه، ويحتج به، والأديب يستفيد منه، ويتقوى به، فكل عالم يطلب أصل علمه منه. وقيل: سمي كريما؛ لأن كل أحد يناله، ويحفظه من كبير، وصغير، وذكي، وبليد، بخلاف غيره من الكتب. وقيل: إن الكلام إذا كرر مرارا يسأمه السامعون، ويهون في الأعين، وتمله الاذان، والقرآن عزيز كريم، لا يهون بكثرة التلاوة، ولا يخلق بكثرة الترداد، ولا يمله السامعون، ولا يثقل على الألسنة، بل هو غض طري، يبقى أبد الدهر. انتهى. خازن.

ص: 469

{فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ:} مصون مستور عند الله تعالى في اللوح المحفوظ من الشيطان من أن يناله بسوء. وقيل: المراد ب: (الكتاب) المصحف، ومعنى {مَكْنُونٍ:} مصون، محفوظ من التبديل، والتحريف. والقول الأول أصح.

{لا يَمَسُّهُ} أي: ذلك الكتاب المكنون. {إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ:} وهم الملائكة الموصوفون بالطهارة من الشرك، والذنوب، والأحداث. يروى هذا القول عن ابن عباس، وأنس، وهو قول سعيد بن جبير، وأبي العالية، وقتادة، وابن زيد. وقيل: هم السفرة الكرام البررة، ويدل له قوله تعالى في سورة (عبس):{فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ} . وعلى القول الثاني من أن المراد بالكتاب: المصحف، فقيل: معنى {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} أي: من الشرك. وكان ابن عباس-رضي الله عنهما-ينهى أن تمكن اليهود، والنصارى من قراءة القرآن. قال الفراء: لا يجد طعمه، ونفعه إلا من آمن به. وقيل: معناه لا يقرؤه إلا الموحدون. وقال قوم: معناه لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث، والجنابات.

وظاهر الاية نفي، ومعناه نهي. قالوا: لا يجوز للجنب، ولا للحائض، ولا للمحدث حمل المصحف، ولا مسه. وهو قول عطاء، وطاوس، وسالم، والقاسم، وأكثر أهل العلم، وبه قال مالك، والشافعي، وأكثر الفقهاء. يدل عليه ما روى مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم: أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: «أن لا تمسّ القرآن إلا طاهرا» . أخرجه مالك مرسلا. وقد جاء موصولا عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بهذا. والصحيح فيه الإرسال. وروى الدارقطني بسنده عن سالم عن أبيه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يمسّ القرآن إلاّ طاهر» .

والمراد بالقرآن: المصحف، سمّاه قرآنا على قرب الجوار، والاتساع. كما روي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، وأراد به المصحف. وقال الحكم، وحماد، وأبو حنيفة: يجوز للمحدث، والجنب حمل المصحف ومسه بغلافه. انتهى. خازن. وقال ابن جرير عن قتادة؛ قال: لا يمسه عند الله إلا المطهرون، فأما في الدنيا؛ فإنه يمسه المجوسي النجس، والمنافق الرجس.

{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} أي: هذا القرآن منزل من رب العالمين، وليس هو كما يقولون: إنه لسحر، أو شعر، أو كهانة، بل هو الحق الذي لا مرية فيه، وليس وراءه حق نافع. وقال أبو زيد: زعمت كفار قريش: أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى: أنه لا يمسه إلا المطهرون، كما قال تعالى في سورة (الشعراء):{وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} .

تنبيه: وجه المناسبة بين المقسم به (وهو النجوم) وبين المقسم عليه (وهو القرآن) في الايات: [75 - 76 - 77]: أن النجوم جعلها الله ليهتدي بها الناس في ظلمات البر، والبحر،

ص: 470

وآيات القرآن يهتدى بها في ظلمات الجهل، والضلالة، وتلك ظلمات حسية، وهذه ظلمات معنوية، فالقسم هنا جاء جامعا بين الهدايتين: الحسية للنجوم، والمعنوية للقرآن. فهذا وجه المناسبة، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {فَلا:} (الفاء): حرف استئناف. (لا): نافية، أو صلة، انظر الشرح.

{أُقْسِمُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {بِمَواقِعِ:} متعلقان بما قبلهما، و (مواقع) مضاف، و {النُّجُومِ} مضاف إليه. {وَإِنَّهُ:} (الواو): واو الاعتراض. (إنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {لَقَسَمٌ:} (اللام): هي المزحلقة، (قسم): خبر (إنّ). {لَوْ:}

حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {تَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، وهو منزل منزلة اللازم، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. ويقال:

لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، والتقدير: لو كنتم من ذوي العلم؛ لعلمتم عظم هذا القسم. {عَظِيمٌ:} صفة (قسم)، و {لَوْ} ومدخولها كلام معترض بين الموصوف، وصفته، والجملة الاسمية: (إنه لقسم

) إلخ معترضة بين القسم المتقدم، وجوابه الاتي، فهو اعتراض في اعتراض.

{إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {لَقُرْآنٌ:} (اللام): هي المزحلقة. (قرآن):

خبر (إنّ). {كَرِيمٌ:} صفة (قرآن)، والجملة الاسمية جواب القسم:{فَلا أُقْسِمُ..} . إلخ.

والقسم، وجوابه كلام مستأنف، لا محل له. {فِي كِتابٍ:} متعلقان بمحذوف صفة (قرآن).

{مَكْنُونٍ:} صفة {كِتابٍ} . {لا:} نافية. {يَمَسُّهُ:} مضارع مرفوع، والهاء مفعول به.

{إِلاَّ:} حرف حصر. {الْمُطَهَّرُونَ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو، والجملة الفعلية في محل رفع صفة ثالثة ل:(قرآن). وقيل: {لا} ناهية، والفعل مجزوم؛ لأنه لو فك؛ لظهر الجزم، كقوله تعالى:{لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} ولكنه أدغم، ولما أدغم حرك آخره بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب. وفي الكرخي: وضعف ابن عطية النهي بأن قوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} صفة فيلزم الفصل بين الصفات، وذلك لا يحسن، وأجيب بأن قوله:{تَنْزِيلٌ} لا يتعين أن يكون صفة لجواز أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو تنزيل، فلا يمتنع حينئذ أن يكون:{لا يَمَسُّهُ} نهيا، و {يَمَسُّهُ} مجزوم في التقدير؛ إذ لو فك؛ لظهر الجزم، ولكنه لما أدغم حرك آخره لأجل الإدغام، وكانت الحركة ضمة إتباعا لضمة الهاء. انتهى. جمل. هذا؛ وقرئ:«(تنزيلا)» على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: نزل تنزيلا. {مِنْ رَبِّ:} متعلقان ب: {تَنْزِيلٌ،} أو بمحذوف صفة له، و {رَبِّ} مضاف، و {الْعالَمِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

ص: 471

{أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)}

الشرح: {أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ} يعني: القرآن، وانظر الاية رقم [24] من سورة (الذاريات).

{أَنْتُمْ:} خطاب لأهل مكة. {مُدْهِنُونَ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: مكذبون. وقيل:

كافرون. وقال المؤرج: المدهن، والمداهن: المنافق، أو الكافر؛ الذي يلين جانبه، ليخفي كفره. والإدهان، والمداهنة: التكذيب، والكفر، والنفاق. قال تعالى في سورة (ن):{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} وأصله: اللين، وأن يسر خلاف ما يظهر. قال أبو قيس بن الأسلت:[السريع] الحزم والقوة خير من ال

إدهان والفهّة والهاع

الفهة: السقطة، والجهلة، ونحوها. والهاع، والهائعة: الصوت الشديد؛ الذي تفزع منه، وتخافه من عدو. {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} أي: حظكم من القرآن. قال الحسن رحمه الله في هذه الاية:

خسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب. وقال جماعة من المفسرين: معناه:

وتجعلون شكركم أنكم تكذبون؛ أي: بنعمة الله عليكم، وهذا في الاستسقاء بالأنواء، وذلك:

أنهم كانوا إذا مطروا يقولون: مطرنا بنوء كذا، ولا يرون ذلك من فضل الله عليهم، فقيل لهم:

أتجعلون رزقكم؛ أي: شكركم بما رزقكم الله التكذيب، فمن نسب الإنزال إلى النجم؛ فقد كذب برزق الله، ونعمه، وكذب بما جاء به القرآن. والمعنى: أتجعلون بدل الشكر التكذيب.

فعن يزيد بن خالد الجهني-رضي الله عنه-قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف؛ أقبل على الناس، فقال:«هل تدرون ماذا قال ربكم؟» . قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال: «أصبح من عبادي مؤمن بي، وكافر، فأمّا من قال: مطرنا بفضل الله، ورحمته، فذلك مؤمن بي، كافر بالكواكب. وأمّا من قال: مطرنا بنوء كذا، وكذا، فذلك مؤمن بالكواكب، كافر بي» . رواه مسلم، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَفَبِهذَا:} (الهمزة): حرف استفهام إنكاري توبيخي. (الفاء): حرف استئناف.

(بهذا): جار ومجرور متعلقان ب: {مُدْهِنُونَ،} والهاء حرف تنبيه مقحم بينهما. {الْحَدِيثِ:} نعت لاسم الإشارة، أو بدل، أو عطف بيان عليه. {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مُدْهِنُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَتَجْعَلُونَ:} الواو: حرف عطف. (تجعلون): مضارع مرفوع، والواو فاعله.

{رِزْقَكُمْ:} مفعول به أول، وهو على حذف مضاف، التقدير: شكر رزقكم، والكاف في محل جر بالإضافة. {أَنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {تُكَذِّبُونَ:} فعل مضارع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ)، واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به ثان، وجملة: (تجعلون

) إلخ معطوفة على {مُدْهِنُونَ،} فهي في محل رفع مثلها.

ص: 472

{فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87)}

الشرح: {فَلَوْلا} أي: فهلا. {إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} أي: بلغت النفس، أو الروح إلى الحلقوم عند الموت، والحلقوم: ممر الطعام، والشراب. {وَأَنْتُمْ:} يا أهل الميت. {حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} يعني: إلى الميت متى تخرج روحه. وقيل: تنظرون إلى أمري، وسلطاني، لا يمكنكم الدفع، ولا تملكون شيئا. {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} أي: بالعلم، والقدرة، والرؤية. قال عامر بن عبد القيس: ما نظرت إلى شيء إلا رأيت الله تعالى أقرب إليّ منه. وقيل: أراد: ورسلنا الذين يقبضون روحه أقرب إلى الميت منكم. والضمير المجرور ب: (إلى) يعود إلى المحتضر، وهو غير مذكور، لكنه مفهوم من المقام. {وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ} أي: الذين حضروه من الملائكة لقبض روحه. {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} أي: غير مملوكين ومقهورين. قال الفراء، وغيره: دنته:

ملكته، وأنشد للحطيئة:[الوافر] لقد ديّنت أمر بنيك حتّى

تركتهم أدقّ من الطّحين

وقيل: معنى مدينين: محاسبين، ومجزيين بأعمالكم، ومنه قوله تعالى في سورة (الصافات) حكاية عن قول منكر البعث، والجزاء:{أَإِنّا لَمَدِينُونَ} أي: لمجزيون، ومحاسبون. {تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} أي: تردون نفس هذا الميت إلى جسده بعدما بلغت الروح الحلقوم.

والمعنى: إنكم في جحودكم آيات الله في كل شيء؛ إن أنزل عليكم كتابا معجزا؛ قلتم:

سحر، وافتراء. وإن أرسل عليكم رسولا صادقا؛ قلتم: ساحر كذاب. وإن رزقكم مطرا يحييكم به؛ قلتم صدق نوء كذا، على مذهب يؤدي إلى الإهمال، والتعطيل. فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغها الحلقوم، وإن لم يكن ثمة قابض، وكنتم صادقين في تعطيلكم، وكفركم بالمحيي المميت، المبدئ المعيد. انتهى. كشاف، ونسفي.

هذا؛ وأصل {كُنْتُمْ} كونتم، فقل في إعلاله: تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار:«كانتم» التقى ساكنان: الألف وسكون النون، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار (كنتم) بفتح الكاف، ثم أبدلت الفتحة ضمة لتدل على الواو المحذوفة، فصار: كنتم. وهناك إعلال آخر، وهو أن تقول: أصل الفعل: كون، فلما اتصل بضمير رفع متحرك نقل إلى باب فعل، فصار «كونت» ثم نقلت حركة الواو إلى الكاف قبلها، فصار:«كونت» فالتقى ساكنان:

العين المعتلة، ولام الفعل، فحذفت العين وهي الواو لالتقاء الساكنين، فصار:«كنت» وهكذا قل في إعلال كل فعل أجوف واوي مسند إلى ضمير رفع متحرك، مثل: قال، وقام، ونحوهما.

ص: 473

الإعراب: {فَلَوْلا:} (الفاء): حرف عطف، أو استئناف. (لولا): حرف تحضيض بمعنى:

هلا. {إِذا:} ظرف زمان مجرد من الشرطية مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل:

{تَرْجِعُونَها} الاتي. {بَلَغَتِ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {الْحُلْقُومَ:} مفعول به، والفاعل ضمير مستتر تقديره: هي يعود إلى «الروح» المفهومة من المقام، وهو مثل قوله تعالى في سورة (القيامة):{كَلاّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ،} وقوله تعالى في سورة (ص): {حَتّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ،} وقوله تعالى في سورة (هود): {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} . ومثل هذه الايات قول حاتم الطائي: [الطويل] لعمرك ما يغني الثّراء عن امرئ

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر

وأيضا قول سوّار بن المضرّب السعدي، وهو الشاهد رقم [191] من كتابنا:«فتح رب البرية» يخاطب به الحجاج حين فرض البعث مع المهلب بن أبي صفرة لقتال الخوارج: [الطويل] إذا كان لا يرضيك حتّى تردّني

إلى قطريّ لا إخالك راضيا

{وَأَنْتُمْ:} (الواو): واو الحال. (أنتم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {حِينَئِذٍ:} ظرف زمان متعلق بالفعل بعده، و (إذ): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة، والتنوين عوض عن جملة محذوفة، التقدير: حين إذ بلغت الروح الحلقوم. {تَنْظُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:(أنتم تنظرون حينئذ) في محل نصب حال من فاعل {بَلَغَتِ،} والرابط: الواو فقط. {وَنَحْنُ:} (الواو): واو الحال. (نحن): ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ. {أَقْرَبُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، فهي حال متداخلة. وقيل: هي مستأنفة معترضة.

{إِلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَقْرَبُ} . {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَقْرَبُ} أيضا. {وَلكِنْ:} (الواو): حرف عطف. (لكن): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {لا:}

نافية. {تُبْصِرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي مثلها في محل نصب حال.

{فَلَوْلا:} معطوفة على مثلها، وهي من باب التوكيد اللفظي. {إِنْ:} حرف شرط جازم.

{كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، و (التاء) اسمه.

{غَيْرَ:} خبر (كان)، و {غَيْرَ} مضاف، و {مَدِينِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء، وجملة:{كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف يدل عليه {تَرْجِعُونَها}. {تَرْجِعُونَها:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله و (ها) مفعول به، والجملة الفعلية ابتدائية لا محل لها؛ لأنها واقعة

ص: 474

بعد لولا التحضيضية. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ:} إعرابها واضح، وجواب الشرط في الجملتين محذوف لدلالة الكلام عليه، التقدير: إن كنتم غير مدينين إن كنتم صادقين فهلا ترجعونها؛ أي: الروح.

وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} ليس من اعتراض الشرط على الشرط-نحو: إن ركبت، إن لبست، فأنت طالق-حتى يجيء فيه ما قدمته في هذه المسألة؛ لأن المراد هنا إن وجد الشرطان كيف كانا؛ فهلا رجعتم بنفس الميت. انتهى. جمل نقلا عن السمين. هذا؛ وسها القرطبي -رحمه الله تعالى-حيث اعتبر (إذا) أحد الشرطين، واعتبر جملة:{تَرْجِعُونَها} جوابا لهما، وعزاه للفراء، وقال: وربما أعادت العرب الحرفين، ومعناهما واحد، ومنه: قوله تعالى: {فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} الاية رقم [38] من سورة (البقرة).

ولا وجه لاستشهاده بهذه الاية، ولو استشهد بقوله تعالى في سورة (هود) الاية رقم [34]:{وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . وبقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها..} . إلخ الاية رقم [50] من سورة (الأحزاب) فلا وجه له أيضا. انظر شرح الايتين وإعرابهما في محلهما، وخذ قول الشاعر، وهو الشاهد رقم [1041] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط] إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا

منّا معاقل عزّ زانها كرم

{فَأَمّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91)}

الشرح: عود على بدء، لقد ذكر الله تعالى في مطلع هذه السورة: أن الناس يوم القيامة يكونون أزواجا ثلاثة {فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ..} . إلخ، وذكر الله عز وجل هنا أحوالهم عند الموت، وما يبشرون به كل حسب ما يستحق من الجزاء، والجزاء من جنس العمل، فقال جلت قدرته وتعالت حكمته:{فَأَمّا إِنْ كانَ} أي: الذي حضره الموت. {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} يعني:

السابقين إلى الطاعات، وهم الذين فعلوا الواجبات، والمستحبات، وتركوا المحرمات، والمكروهات، وبعض المباحات ابتغاء وجه رب الأرض، والسموات. {فَرَوْحٌ} أي: فلهم روح، وهو الراحة، {وَرَيْحانٌ} أي: وله استراحة، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت، فتقول:

أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب، كنت تعمرينه، اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان. وجملة القول: فإن من مات مقربا؛ حصل له الرحمة، والراحة، والاستراحة، والفرح، والسرور، والرزق الحسن. {وَجَنَّةُ نَعِيمٍ:} قال أبو العالية: لا يفارق أحد روحه من المقربين الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة، فيقبض روحه فيه. وقال محمد بن كعب القرظي-رضي الله عنه: لا يموت أحد من الناس حتى يعلم: من أهل الجنة هو، أم من أهل النار؟.

ص: 475

هذا؛ وروى الإمام أحمد-رحمه الله تعالى-عن عبد الرحمن بن أبي ليلى-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «من أحبّ لقاء الله؛ أحبّ الله لقاءه، ومن كره لقاء الله؛ كره الله لقاءه» . قال: فأكب القوم يبكون، فقال:«ما يبكيكم؟» . فقالوا: إنا نكره الموت.

قال: «ليس ذلك، ولكنه إذا احتضر {فَأَمّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} فإذا بشر بذلك؛ أحب لقاء الله، والله عز وجل للقائه أحبّ {وَأَمّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} فإذا بشر بذلك كره لقاء الله؛ والله تعالى للقائه أكره» . وعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه، ومن كره لقاء الله؛ كره الله لقاءه» فقلت: يا رسول الله! أكراهية الموت؟ فكلنا نكره الموت! قال:

«ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا بشّر برحمة الله، ورضوانه، وجنّته؛ أحبّ لقاء الله، فأحبّ الله لقاءه، وإنّ الكافر إذا بشّر بعذاب الله، وسخطه؛ كره لقاء الله، فكره الله لقاءه» . رواه البخاري ومسلم، وغيرهما.

{وَأَمّا إِنْ كانَ} أي: المحتضر. {مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ:} وهم المذكورون في الاية رقم [27] وما بعدها. {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ} أي: تبشرهم ملائكة الرحمة بذلك. تقول لأحدهم:

سلام لك. أي: لا بأس عليك أنت إلى سلامة، أنت من أصحاب اليمين، وقال قتادة-رحمه الله تعالى-: سلم من عذاب الله، وسلّمت عليه ملائكة الله. ويكون ذلك كقوله تعالى في سورة (فصلت):{إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} الاية رقم [30].

هذا؛ و (سلام) اسم مصدر لا مصدر؛ لأن المصدر: تسليم؛ لأن الفعل سلّم، يسلّم بتشديد اللام فيهما. وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد، ومثله: عذاب، وعطاء، ونبات، من:

عذب، وأعطى، وأنبت، و {أَصْحابِ} جمع: صاحب، ويكون بمعنى: المالك، كما في قولك:

صاحب الدار، وصاحب المال، ونحوه. ويكون بمعنى الصديق، ويجمع أيضا على: صحب، وصحاب، وصحابة، وصحبة، وصحبان. ثم يجمع (أصحاب) على: أصاحيب أيضا، ثم يخفف، فيقال: أصاحب، ولا تنس: أن الصحابي من اجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولو ساعة وهو مؤمن، فالإيمان شرط لتسميته صحابيا، فإن اجتمع به؛ وهو غير مؤمن؛ لا يقال عنه: صحابي؛ وإن آمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كالذي حصل من كعب الأحبار، وأمثاله.

الإعراب: {فَأَمّا:} (الفاء): حرف استئناف. (أمّا): أداة شرط، وتفصيل وتوكيد، أما كونها أداة شرط؛ فلأنها قائمة مقام الشرط، وفعله، بدليل لزوم الفاء بعدها؛ إذ الأصل: مهما يك من شيء؛ فللمقربين روح، وريحان، فأنيبت (أمّا) مناب:«مهما يك من شيء» . فصار: (أما إن كان

) إلخ، وأما كونها أداة تفصيل؛ فلأنها في الغالب مسبوقة بكلام مجمل، وهي تفصله.

ص: 476

ويعلم ذلك من تتبع مواقعها. وأما كونها أداة توكيد؛ فلأنها تحقق الجواب، وتفيد: أنه واقع لا محالة؛ لأنها علقته على أمر متيقن.

{إِنْ:} حرف شرط جازم. {كانَ:} فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى المحتضر، وهو غير مذكور، لكنه مفهوم من المقام، وانظر ما ذكرته في الاية رقم [83]. {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ،} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{فَرَوْحٌ:} (الفاء): واقعة في جواب (أمّا). (روح): مبتدأ، خبره محذوف، التقدير: فله روح.

والجملة الاسمية جواب (أمّا)، وجواب {إِنْ} محذوف اكتفاء بجواب (أمّا). ذكره ابن هشام في المغني، وأفاده مكي، والسمين. أقول: يكثر حذف جواب «إن» ، وأما جواب (أما) فلا يحذف إلا في ضرورة الشعر. {وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ:} معطوفان على (روح)، و (جنة) مضاف، و {نَعِيمٍ} مضاف إليه، والكلام:{فَأَمّا إِنْ كانَ..} . إلخ: كله مستأنف، لا محل له. {وَأَمّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ:} إعرابه مثل سابقه بلا فارق. {فَسَلامٌ:} (الفاء): واقعة في جواب (أما).

(سلام): مبتدأ، سوغ الابتداء به، وهو نكرة الدعاء. {لَكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب أما، لا محل لها

إلخ. {مِنْ أَصْحابِ:} متعلقان بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف خبر لمبتدأ ثان محذوف، أو بمحذوف حال من الكاف، وهو الأولى.

{وَأَمّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)}

الشرح: {وَأَمّا إِنْ كانَ} أي: المحتضر. {مِنَ الْمُكَذِّبِينَ} أي: بالبعث، والحساب، والجزاء. {الضّالِّينَ} عن الهدى، وطريق الحق. وهؤلاء هم الصنف الثالث الذين ذكرهم الله في أول هذه السورة. {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} أي: فلهم رزق من حميم، وزقوم، ونحو ذلك، كما قال تعالى في هذه السورة:{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ..} . إلخ الايات من هذه السورة.

وانظر شرح (نزل) في الاية رقم [56]، وقال تعالى في سورة (الصافات) رقم [67]:{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} . {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي: إدخال في النار، وانظر {اِصْلَوْها} في سورة (الطور) رقم [16]. {إِنَّ هذا} أي: ما ذكر من قصة المحتضرين. {لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} أي: لا شك فيه.

وقيل: إن هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في هذه السورة من الأقاصيص، وما أعد الله لأوليائه من النعيم، وما أعد لأعدائه من العذاب الأليم، وما ذكر مما يدل على واحدانية الله يقين، لا شك فيه، ولا ريب، ولا محيد لأحد عنه.

ص: 477

هذا؛ وجاز إضافة (الحق) إلى {الْيَقِينِ} وهما واحد لاختلاف لفظهما. قال المبرد: هو كقولك: عين اليقين، ومحض اليقين، فهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه عند الكوفيين، وعند البصريين: هو على حذف المضاف إليه، وإقامة الصفة مقامه، التقدير: حق الأمر اليقين، أو الخبر اليقين وانظر (الحاقة) رقم [51] فإنه جيد.

{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي: نزه الله تعالى عن السوء. وقيل: معناه فصلّ بذكر ربك العظيم وبأمره. وعن عقبة بن عامر الجهني-رضي الله عنه. قال: لما نزلت {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في ركوعكم» ولما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال النبي صلى الله عليه وسلم:

«اجعلوها في سجودكم» . أخرجه الإمام أحمد، وابن ماجه، وأبو داود.

وعن حذيفة-رضي الله عنه-أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يقول في ركوعه:«سبحان الله العظيم» وفي سجوده: «سبحان ربي الأعلى» . وما أتى على آية رحمة؛ إلا وقف، وسأل، وما أتى على آية عذاب؛ إلا وقف، وتعوذ. أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

هذا؛ وقد حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على كثرة التسبيح، ورغبنا فيه، أذكر منها ما يلي: فعن سليمان ابن يسار-رضي الله عنه، عن رجل من الأنصار: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، «قال نوح لابنه: إني موصيك بوصية، وقاصرها لكي لا تنساها، أوصيك باثنتين، وأنهاك عن اثنتين، أمّا اللتان أوصيك بهما؛ فيستبشر الله بهما، وصالح خلقه، وهما يكثران الولوج على الله: أوصيك بلا إله إلا الله، فإن السموات والأرض لو كانتا حلقة؛ قصمتهما، ولو كانتا في كفّة؛ وزنتهما، وأوصيك بسبحان الله، وبحمده، فإنهما صلاة الخلق، وبهما يرزق الخلق، وإن من شيء إلاّ يسبّح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم، إنه كان حليما غفورا. وأمّا اللّتان أنهاك عنهما؛ فيحتجب الله منهما، وصالح خلقه: أنهاك عن الشّرك، والكبر» رواه النسائي.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللّسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» . رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن أقول: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشّمس» . رواه مسلم والترمذي. وعن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسري بي، فقال: يا محمد! أقرئ أمّتك مني السّلام، وأخبرهم: أنّ الجنة طيّبة التربة، عذبة الماء، وأنّها قيعان، وأنّ غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» . رواه الترمذي، والطبراني في الصغير، والأوسط، وزاد (ولا حول ولا قوة إلاّ بالله).

تنبيه: لا يوجد في هذه السور الثلاث لفظ الجلالة (الله): (اقتربت، الرحمن، الواقعة)، والله أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 478

فائدة: أثبتوا ألف الوصل في الايتين المذكورتين في هذه السورة، وذلك:{بِاسْمِ رَبِّكَ؛} لأنه لم يكثر وروده كثرته في البسملة، وحذفوها منها لكثرة ورودها، وهم شأنهم الإيجاز، وتقليل الكثير إذا عرف معناه، وهذا معروف لا يجهل، وإثبات ما أثبت من إشكاله مما لا يكثر دليل على الحذف منه، ولذا لا تحذف الألف مع غير الباء في اسم الله، ولا مع الباء في غير الجلالة الكريمة من الأسماء. انتهى. جمل نقلا عن الخطيب.

الإعراب: {وَأَمّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ:} انظر الاية رقم [88] فالإعراب لا يتغير. {الضّالِّينَ} صفة ثانية لموصوف محذوف، والصفة الأولى {الْمُكَذِّبِينَ} وعلامة الجر فيهما الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنهما جمعا مذكر سالمان. {فَنُزُلٌ:} (الفاء): واقعة في جواب (أمّا). (نزل): مبتدأ، خبره محذوف، التقدير: فله نزل، والجملة الاسمية جواب (أمّا) لا محل لها، وجواب {إِنْ} محذوف، كما رأيت سابقا. {مِنْ حَمِيمٍ:} متعلقان بمحذوف صفة (نزل). {وَتَصْلِيَةُ:} الواو:

حرف عطف. (تصلية): معطوفة على (نزل)، و (تصلية) مضاف، و {جَحِيمٍ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، والكلام:{وَأَمّا إِنْ كانَ..} . إلخ معطوف على ما قبله، لا محل له مثله. {إِنْ:} حرف مشبه بالفعل. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب اسم (إنّ)، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {لَهُوَ:} (اللام): هي المزحلقة. (هو): مبتدأ.

{حَقُّ:} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {إِنْ،} ويجوز اعتبار الضمير فصلا لا محل له، ويكون (الحق) خبر {إِنْ} ودخلت اللام على ضمير الفصل؛ لأنه إذا جاز أن تدخل على الخبر، فدخولها على الفصل أولى؛ لأنه أقرب إلى المبتدأ من الخبر، وأصلها أن تدخل على المبتدأ، و {حَقُّ} مضاف، و {الْيَقِينِ} مضاف إليه. {فَسَبِّحْ..} . إلخ تقدم إعراب هذه الجملة برقم [74]. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

انتهت سورة (الواقعة) شرحا وإعرابا بحمد الله وتوفيقه.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 479