الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الممتحنة
بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الممتحنة) مدنية في قول الجميع، وهي ثلاث عشرة آية، وثلاثمئة وثمان وأربعون كلمة، وألف وخمسمئة وعشرة أحرف. هذا؛ والممتحنة بكسر الحاء معناها: المختبرة، أضيف الفعل إليها مجازا، كما سميت سورة (براءة) المبعثرة، والفاضحة؛ لما كشفت من عيوب المنافقين. ومن قال في هذه السورة (الممتحنة) بفتح الحاء، فإنّه أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط. قال الله تعالى:{فَامْتَحِنُوهُنَّ..} . إلخ الاية رقم [10] وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنه-ولدت له إبراهيم بن عبد الرحمن. انتهى.
قرطبي.
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح: سبب نزول هذه الاية ذكره الإمام علي-رضي الله عنه-بقوله: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا، والزبير، والمقداد، فقال:«انطلقوا؛ حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة، معها كتاب، فخذوه منها» . قال: فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب، أو لتلقين الثياب! فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا حاطب ما هذا؟!» . فقال: يا رسول الله! لا تعجل عليّ، إني كنت امرآ ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم، وأموالهم بمكة، فأحببت؛ إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلته كفرا، ولا ارتدادا عن ديني، ولا أرضى بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «إنّه قد صدقكم» . فقال عمر-رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعلّ الله اطلع على أهل بدر، فقال:
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». فأنزل الله عز وجل الاية.
روضة خاخ: موضع بقرب حمراء الأسد من المدينة. وقيل: إنه موضع قريب من مكة، والأول أصح. والظعينة: المرأة المسافرة، سميت بذلك لملازمتها الهودج، وجمعها: ظعائن، والعقاص: الشعر المضفور. وهذه المرأة اسمها سارّة مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف، أتت المدينة، والرسول صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أمسلمة جئت؟» . قالت: لا. قال: «أمهاجرة جئت؟» . قالت: لا. قال: «فما جاء بك؟» . قالت: كنتم الأهل، والعشيرة، والموالي، وقد ذهبت مواليّ، وقد احتجت حاجة شديدة، فقدمت إليكم لتعطوني، وتحملوني، فقال لها:«وأين أنت من شباب مكة؟!» . وكانت مغنية نائحة. قالت: ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر. فحث النبي صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب على إعطائها، فأعطوها نفقة، وكسوة، وحملوها. فأتاها حاطب بن أبي بلتعة، حليف بني أسد بن عبد العزى، وهو من أهل اليمن، فكتب معها إلى أهل مكة، وأعطاها عشرة دنانير، وكساها بردا على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة، وكتب في الكتاب: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم، فخذوا حذركم! فخرجت سارّة ونزل جبريل عليه السلام، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل
…
إلخ.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} هذا نداء من الله تعالى للمؤمنين بأكرم وصف، وألطف عبارة؛ أي:
يا من صدقتم الله، ورسوله، وتحليتم بالإيمان؛ الذي هو زينة الإنسان. وذكر: أن حاطبا-رضي الله عنه-لما سمع هذا النداء؛ غشي عليه من الفرح بخطاب الإيمان. {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ:} أصدقاء وأحباء، فهو جمع ولي، وهو من يتولى شؤون غيره، والنصير: المعين، والمساعد. والفرق بينهما: أن الولي قد يضعف عن النصرة، والمعاونة، والنصير قد يكون أجنبيا من المنصور، فبينهما عموم، وخصوص من وجه. هذا؛ وعدو: ضد الصديق، وهو على وزن فعول بمعنى فاعل، مثل: صبور، وشكور، وما كان من هذا الوزن يستوي فيه المفرد، والمثنى، والجمع. والمذكر، والمؤنث، إلا لفظا واحدا جاء نادرا. قالوا: هذه عدوّة الله. قال تعالى:
{إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} فعبر به عن مفرد، وقال تعالى في سورة (الشعراء):{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاّ رَبَّ الْعالَمِينَ} فقد عبر به عن جمع، ومثل ذلك صديق، وجمع عدو: أعداء، وأعاد، وعدات، وعدى. وقيل: أعاد جمع: أعداء، فيكون جمع الجمع. وفي القاموس المحيط:
والعدا بالضم والكسر: اسم الجمع. هذا؛ وسمي العدو عدوا لعدوه عليك عند أول فرصة تسنح له للإيقاع بك، والقضاء عليك، كما سمي الصديق صديقا؛ لصدقه فيما يدعيه لك من الألفة، والمودة، والمحبة.
{تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ:} تخبرونهم بسرائر المسلمين، وتنصحونهم. وهذا ينم عن مودة، ومحبة بينكم، وبينهم. {وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ:} من القرآن، والدين الصحيح؛ الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيّاكُمْ} أي: من مكة بسبب إيذائهم لكم. {أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ} أي: فعلوا ما فعلوا من الإيذاء، والإخراج؛ لأنكم آمنتم بالله ربكم.
{إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ:} من أوطانكم. {جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي} أي: لأجل الجهاد ولابتغاء وطلب مرضاتي، وجواب الشرط محذوف، التقدير: فلا تتخذوا عدوي
…
إلخ.
{تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ:} أي تفضون إليهم بمودتكم، أو تسرون إليهم أسرار رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسبب المودة والمحبة لهم، والنصيحة لهم في الكتابة إليهم. قال القرطبي-رحمه الله تعالى-:
وهذا كله معاتبة لحاطب-رضي الله عنه، وهو يدل على فضله وكرامته، ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق إيمانه، فإن المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيبه، كما قال الشاعر:[الوافر] أعاتب ذا المودّة من صديق
…
إذا ما رابني منه اجتناب
إذا ذهب العتاب فليس ودّ
…
ويبقى الودّ ما بقي العتاب
{وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ:} من المودة للكفار. {وَما أَعْلَنْتُمْ} أظهرتم بألسنتكم من المودة لهم.
{وَمَنْ يَفْعَلْهُ} أي: الإسرار، أو الإعلان بالمودة، والنصيحة لهم. {فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} أي:
أخطأ طريق الهدى، وخرج عن جادة الحق، والصواب.
بعد هذا انظر ما ذكرته في آخر سورة (المجادلة)، فالايتان بمعنى واحد. وقد جاء النهي عن موالاة الكفار في كثير من الايات، مثل قوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [28]:{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ،} وأيضا رقم [118] منها: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ،} وقوله تعالى في سورة (النساء) رقم [144]: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ،} وقوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [51]: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ} وغير ذلك كثير.
الإعراب: {يا أَيُّهَا:} (يا): أداة نداء تنوب مناب أدعو. (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب بأداة النداء. (وها): حرف تنبيه لا محل له، أقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه. ولا يجوز اعتبار الهاء ضميرا في محل جر بالإضافة؛ لأنه حينئذ يجب نصب المنادى. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدلا من لفظ (أيها)، وجملة:
{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {لا تَتَّخِذُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.
{عَدُوِّي:} مفعول به أول منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من
ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {وَعَدُوَّكُمْ:} معطوف عليه، والكاف في محل جر بالإضافة. {أَوْلِياءَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية مثل الجملة الندائية قبلها، وتقدير فعل محذوف ينصبها مستبعد.
{تُلْقُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {إِلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {بِالْمَوَدَّةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والمفعول به محذوف، التقدير: تلقون إليهم أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب المودة؛ التي بينكم وبينهم. وجوز الباء صلة، و (المودة) مفعول به مجرور لفظا، منصوب محلا. والجملة الفعلية فيها أربعة أوجه:
أحدها: أنها تفسير لموالاتهم إياهم. الثاني: أنها استئناف، فلا محل لها على هذين الوجهين. الثالث: أنها حال من واو الجماعة. الرابع: أنها صفة {أَوْلِياءَ} . انتهى. جمل نقلا من السمين. {وَقَدْ:} (الواو): واو الحال. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.
{كَفَرُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالباء. {جاءَكُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (ما) وهو العائد، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {مِنَ الْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من فاعل جاء و {مِنَ} بيان لما أبهم في (ما).
{يُخْرِجُونَ:} مضارع، وفاعله. {الرَّسُولَ:} مفعول به. {وَإِيّاكُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل نصب معطوف على الرسول، والجملة الفعلية مستأنفة، أو هي مفسرة لكفرهم، ولا محل لها على هذين الوجهين. ويجوز أن تكون حالا من واو الجماعة. والرابط: الضمير فقط. {أَنْ تُؤْمِنُوا:} منصوب ب: «أن» ، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والمصدر المؤول منهما في محل نصب بنزع الخافض، أو في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير:
لأجل إيمانكم، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {يُخْرِجُونَ}. {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما.
{رَبِّكُمْ:} بدل مما قبله، أو صفة له، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.
{أَنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {خَرَجْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كُنْتُمْ،} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.
{جِهاداً:} مفعول لأجله، أو هو حال على تأويله ب:«مجاهدين» ؛ لأن المصدر لا يخبر به عن جثة. وقيل: هو مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: جاهدتم جهادا، وتعود هذه الجملة في
محل نصب حال من تاء الفاعل، أو في محل نصب خبر ثان ل:(كان). {فِي سَبِيلِي:} متعلقان ب: {جِهاداً،} وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {وَابْتِغاءَ:} معطوف على {جِهاداً،} وهو مضاف، و {مَرْضاتِي} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، وعلامة الجر كسرة مقدرة
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن كنتم خرجتم
…
فلا تتخذوا عدوي
…
إلخ، و {أَنْ} ومدخولها كلام مستأنف، أو معترض بين البدل، والمبدل منه كما ستقف عليه.
{تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إعراب هذه الجملة مثل إعراب: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} بلا فارق، وهي بدل منها، بدل بعض من كل؛ لأن إلقاء المودة أعم من السر، والجهر. أو هي مستأنفة، لا محل لها، والاعتراض بالجملة الشرطية يكون على اعتبار البدلية. {وَأَنَا:} (الواو): واو الحال. (أنا): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَعْلَمُ:} خبر المبتدأ، وهو أفعل تفضيل. وجوز اعتباره فعلا مضارعا، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط:
الواو، والضمير الذي ترى تقديره عائدا إلى الموصول، أو هي حال من ياء المتكلم، والرابط:
الواو، والضمير، وهو واضح، {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَعْلَمُ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء.
{أَخْفَيْتُمْ:} فعل، وفاعل، والمتعلق محذوف، التقدير: في صدوركم، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: أعلم بالذي، أو بشيء أخفيتموه. وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: أعلم بإخفائكم القول، والفعل. وفيه ضعف كما ترى. {وَما أَعْلَنْتُمْ:} معطوف على ما قبله، والمتعلق محذوف؛ إذ التقدير: والذي، أو شيء أعلنتموه؛ أي: أظهرتموه بألسنتكم. هذا؛ وقد قيل: إن الباء صلة على اعتبار {أَعْلَمُ} فعلا مضارعا.
{وَمَنْ:} (الواو): حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَفْعَلْهُ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من)، والهاء مفعول به.
{مِنْكُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و (من) بيان لما أبهم في (من). {فَقَدْ:}
(الفاء): واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {ضَلَّ:} فعل ماض. والفاعل يعود إلى (من) أيضا. {سَواءَ:} مفعول به وهذا على أن {ضَلَّ} متعد، فإن اعتبرته لازما ف:{سَواءَ} يكون ظرفا متعلقا ب: {ضَلَّ؛} أي: ظرف مكان. وهو مضاف، و {السَّبِيلِ:} مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور،
والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط. وقيل: جملة الجواب. وقيل: الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ} أي: إن يظفروا بكم، ويتمكنوا منكم. والمادة بمعنى: يجدونكم، ويصادفونكم. قال تعالى في سورة (الأحزاب) رقم [61]:{مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا،} وقال في سورة (البقرة) رقم [191]: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} . هذا؛ والثقف في الأصل: الحذق في إدراك الشيء علما كان، أو عملا، فهو يتضمن معنى الغلبة. {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً:} يظهروا ما في قلوبهم من العداوة الشديدة لكم. ولا ينفعكم إلقاء المودة لهم. {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ} أي:
يمدوا إليكم أيديهم بالضرب، والقتل، وألسنتهم بالشتم والسب. {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} أي:
أحبوا، وتمنوا أن تكفروا؛ لتكونوا مثلهم، فلا تناصحوهم، فإنهم لا يناصحونكم. قال تعالى في سورة (آل عمران) رقم [118]:{لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً} .
قال الزمخشري في الكشاف: فإن قلت: كيف أورد جواب الشرط مضارعا مثله، ثم قال:
{وَوَدُّوا} بلفظ الماضي؟ قلت: الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في باب الإعراب، فإن فيه نكتة: كأنه قيل: وودوا قبل كل شيء كفركم، وارتدادكم. يعني: أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعا من قتل الأنفس، وتمزيق الأعراض، وردكم كفارا أسبق المضار عندهم، وأولها؛ لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم؛ لأنكم بذالون لها دونه، والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه. انتهى. وخذ قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [89]:{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {إِنْ:} حرف شرط جازم. {يَثْقَفُوكُمْ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {يَكُونُوا:} مضارع ناقص جواب الشرط مجزوم
…
إلخ، والواو اسمه، والألف للتفريق. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال منه، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {أَعْداءً:} خبر {يَكُونُوا،} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، و {إِنْ}
ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {وَيَبْسُطُوا:} معطوف على {يَكُونُوا،} فهو مجزوم مثله، ويجوز أن يكون منصوبا ب:«أن» مضمرة بعد الواو على أنها واو المعية، كما يجوز رفعه، ولكن لم يقرأ برفعه، وهذا على القاعدة:«إذا عطف مضارع بالواو، أو بالفاء على جواب الشرط؛ جاز رفعه، ونصبه، وجزمه، وإذا عطف على فعل الشرط بالواو، أو بالفاء؛ جاز نصبه وجزمه» قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز] والفعل من بعد الجزا إن يقترن
…
بالفا، أو الواو يتثليث قمن
وجزم أو نصب لفعل إثر فا
…
أو واو إن بالجملتين اكتنفا
هذا وقد قرئ في الاية رقم [284] من سورة (البقرة) قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ..} . إلخ برفع (يغفر) ونصبه، وجزمه. والواو فاعله.
{أَيْدِيَهُمْ:} مفعول به. {وَأَلْسِنَتَهُمْ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة.
{بِالسُّوءِ:} متعلقان بالفعل (يبسطوا) مثل {إِلَيْكُمْ،} أو هما متعلقان بمحذوف حال من {أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ} . {وَوَدُّوا:} (الواو): حرف عطف. (ودوا): ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، {لَوْ:} حرف مصدري. {تَكْفُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، و {لَوْ} والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: ودوا كفركم، ومثلها آية (النساء) الانفة الذكر. والجملة الفعلية معطوفة على جملة الشرط والجزاء، ويكون تعالى قد أخبر بخبرين بما تضمنته الجملة الشرطية، وبودادتهم كفر المؤمنين. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.
الشرح: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ..} . إلخ: لما اعتذر حاطب-رضي الله عنه-بأن له أولادا، وأرحاما بين المشركين؛ بين الله عز وجل: أن الأولاد، والأرحام لا ينفعون شيئا يوم القيامة؛ إن عصي من أجلهم، وبسببهم. والمعنى: لا يحملنكم الذين في مكة من قراباتكم على معصية الله، وخيانة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وترك مناصحتهم، ونقل أخبارهم إلى أعدائهم.
{يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} أي: في ذلك اليوم العصيب يحكم الله بين المؤمنين، والكافرين، فيدخل المؤمنين جنات النعيم، ويدخل المجرمين دار الجحيم. وفي النسفي: يفصل بينكم، وبين أقاربكم، وأولادكم:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} فما لكم ترفضون حق الله مراعاة لحق من يفر منكم غدا. {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: مطلع على جميع أقوالكم، وأعمالكم، فيجازيكم بها، إن خيرا؛ فخير، وإن شرّا؛ فشرّ.
الإعراب: {لَنْ:} حرف نصب، ونفي، واستقبال. {تَنْفَعَكُمْ:} مضارع منصوب ب: {لَنْ،} والكاف مفعول به. {أَرْحامُكُمْ:} فاعل. {وَلا:} (الواو): حرف عطف. (لا): صلة لتأكيد النفي. {أَوْلادُكُمْ:} معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، وعليه: فالوقف على القيامة، أو هو متعلق بالفعل بعده، وعليه: فالوقف على {أَوْلادُكُمْ،} و {يَوْمَ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه، وجملة:{لَنْ تَنْفَعَكُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {يَفْصِلُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله) تقديره:«هو» ، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {بَيْنَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة.
{وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ:} انظر إعراب مثلها مفصلا في الاية رقم [3] من سورة (المجادلة).
الشرح: {قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي: قدوة صالحة؛ أي: اقتدوا به، وسيروا على سيرته، ونهجه. {فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أي: وأتباعه الذين آمنوا معه، وساروا سيرته من الأنبياء، والمرسلين. والمعروف: أنه لم يؤمن به من قومه، ولم يهاجر معه سوى امرأته وابن أخيه لوط، وهو فحوى قوله تعالى في سورة (العنكبوت) رقم [26]:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي} انظر شرحها هناك. {إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ} أي: المشركين. {إِنّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} أي: بريئون منكم، ومن معبوداتكم. {كَفَرْنا بِكُمْ} أي: وبما تعبدون من دون الله، بمعنى: لا نعتد بشأنكم، ولا بشأن آلهتكم، وما أنتم عندنا على شيء. فقد كاشفوهم بالعداوة، وأظهروا لهم البغضاء، والمقت، وصرحوا بأن سبب عداوتهم، وبغضائهم ليس إلا كفرهم بالله، وما دام هذا السبب قائما؛ كانت العداوة قائمة، حتى إذا أزالوه، وآمنوا بالله وحده؛ انقلبت العداوة موالاة، والبغضاء محبة، والمقت رضا. وهذا محض الإخلاص.
{إِلاّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} المعنى: لكم أن تتأسوا بإبراهيم، وتقتدوا به في جميع أموره، إلا في الاستغفار لأبيه المشرك، فلا تتأسوا به؛ فإن إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-كان قد قال لأبيه: لأستغفرن لك؛ لما وعده أن يؤمن، فلما تبين له إقامته على الكفر تبرأ منه، وهو صريح قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [114]:{وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيّاهُ فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوّاهٌ حَلِيمٌ} .
{وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ:} هذا من قول إبراهيم عليه السلام لأبيه؛ يعني: ما أغني عنك شيئا، ولا أدفع عنك عذاب الله؛ إن عصيته وأشركت به. {رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا} . هذا من دعاء إبراهيم، عليه السلام وأصحابه. وقيل: علّم الله المؤمنين أن يقولوا هذا؛ أي: تبرؤوا من الكفار، وتوكلوا على الله، وقولوا:{رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا} أي: اعتمدنا في جميع أمورنا عليك، وفوضناها إليك. {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} أي: المرجع، والماب. هذا؛ وتقديم الجار والمجرور في هذه الجملة لإفادة الحصر.
الإعراب: {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كانَتْ:} فعل ماض ناقص، والتاء للتأنيث. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (كان) تقدم على اسمها.
{أُسْوَةٌ:} اسم (كان) مؤخر. {حَسَنَةٌ:} صفة له. وجملة: {قَدْ كانَتْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فِي إِبْراهِيمَ:} جار ومجرور متعلقان ب: {أُسْوَةٌ،} ومنعه أبو البقاء؛ لأن {أُسْوَةٌ} قد وصفت. ولا يبالى به؛ لأنه يغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره. أو هما متعلقان ب: {حَسَنَةٌ} تعلق الظرف بالعامل، أو هما متعلقان بمحذوف صفة ثانية ل:{أُسْوَةٌ،} أو بمحذوف حال منها بعد وصفها ب: {حَسَنَةٌ،} أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في {حَسَنَةٌ} لأنها صفة مشبهة، أو هما متعلقان بمحذوف خبر (كان)، و {لَكُمْ} متعلقان بكانت. انتهى. جمل بتصرف كبير مني. وعلامة جر {إِبْراهِيمَ} الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {وَالَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر معطوف على {إِبْراهِيمَ} .
{مَعَهُ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِذْ:}
بدل من {إِبْراهِيمَ} بدل اشتمال، فهو مبني على السكون في محل نصب. وقال السمين: فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلق بمحذوف خبر (كان). والثاني: أنه هو الخبر. قالهما أبو البقاء، ومن جوز في (كان) أن تعمل في الظرف علقه بها، ويصح أن يكون بيانا للمضاف المقدر في قوله:{فِي إِبْراهِيمَ} أي في قول إبراهيم، وفعله. انتهى. جمل بتصرف. والمعتمد الأول.
{قالُوا:} ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لِقَوْمِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {بُرَآؤُا:} خبرها، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالُوا..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {مِنْكُمْ:} متعلقان ب: {بُرَآؤُا} . {وَمِمّا:} جار ومجرور معطوفان على {مِنْكُمْ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(من)، والمصدرية ضعيفة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: محذوف، التقدير: من الذي، أو من شيء تعبدونه. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، و {مِنْ} بيان لما أبهم في (ما)، و {تَعْبُدُونَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه.
{كَفَرْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المستتر في {بُرَآؤُا،} والرابط: الضمير فقط، وهي على تقدير:«قد» قبلها، أو الجملة في محل رفع خبر ثان ل:(إنّ)، وقيل: مفسرة للتبرؤ. {بِكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَبَدا:} الواو:
حرف عطف. (بدا): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف. {بَيْنَنا:} ظرف مكان متعلق بما قبله، و (نا): في محل جر بالإضافة. {وَبَيْنَكُمُ:} الواو: حرف عطف. (بينكم): معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {الْعَداوَةُ:} فاعل (بدا)، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَالْبَغْضاءُ:} معطوف على ما قبله. {أَبَداً:} ظرف زمان متعلق بالفعل (بدا)، أو هو متعلق بمحذوف حال من {الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ}. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة.
{تُؤْمِنُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل (بدا) أيضا. {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما، {وَحْدَهُ:} حال من لفظ الجلالة، والهاء في محل جر بالإضافة، وساغ ذلك؛ لأنه بمعنى: منفردا.
{إِلاّ:} أداة استثناء. {قَوْلَ إِبْراهِيمَ:} قال السمين: فيه وجهان: أحدهما: أنه استثناء متصل من قوله: {فِي إِبْراهِيمَ} ولكن لا بد من تقدير مضاف محذوف ليصح الكلام، تقديره: في مقالات إبراهيم، إلا قوله: كيت. وكيت. الثاني: أنه مستثنى من {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وجاز ذلك؛ لأن القول أيضا من جملة الأسوة؛ لأن الأسوة: الاقتداء بالشخص في أقواله، وأفعاله، فكأنه قيل: لكم فيه أسوة في جميع أحواله من قول، وفعل إلا قوله: كذا. وهذا عندي واضح غير محوج إلى تقدير مضاف، وغير مخرج للاستثناء من الاتصال؛ الذي هو أصله إلى الانقطاع، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره. انتهى. جمل.
و {قَوْلَ} مضاف، و {إِبْراهِيمَ} مضاف إليه مجرور
…
إلخ، والإضافة من إضافة المصدر لفاعله. {لِأَبِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بالمصدر، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة. {لَأَسْتَغْفِرَنَّ:} (اللام): واقعة في جواب قسم محذوف، التقدير: والله.
(أستغفرن): فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة؛ التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها، والقسم، وجوابه في محل نصب مقول القول للمصدر. {وَما:} (الواو): واو الحال. (ما): نافية. {أَمْلِكُ:}
فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل:
استغفرن المستتر، والرابط: الواو، والضمير. {لَكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.
{مِنَ اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {شَيْءٍ} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا. {مِنْ:} حرف جر صلة. {شَيْءٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
{رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء، و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {عَلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، والتقديم أفاد التخصيص. {تَوَكَّلْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية من مقول إبراهيم أيضا، ومن معه، فهو من جملة المستثنى منه فيتأسى به فيه، فهو في المعنى مقدم على الاستثناء، وجملة الاستثناء اعتراضية في خلال المستثنى منه. هذا؛ ويحتمل أن تكون الجملة وما بعدها في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: قولوا: ربنا عليك توكلنا، فهو من مقول الله تعالى.
{وَإِلَيْكَ:} الواو: حرف عطف. (إليك): متعلقان بما بعدهما. {أَنَبْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. (إليك): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، {الْمَصِيرُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها.
الشرح: {رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي: لا تنصر الكافرين علينا، فيكون ذلك فتنة لنا في الدين، أو لا تمتحنا بأن تعذبنا على أيديهم. وقال مجاهد: المعنى: لا تهلكنا بأيدي أعدائنا، ولا تعذبنا بعذاب من عندك، فيقول أعداؤنا: لو كانوا على حق؛ لم نسلط عليهم، فيفتنوا. وقال أبو مجلز، وأبو الضحاك: يعني: لا تظهرهم علينا، فيروا: أنهم خير منا، فيزدادوا طغيانا، وكفرا. وقيل: المعنى لا تسلطهم علينا، فيفتنونا، ويعذبونا. {وَاغْفِرْ لَنا:}
ذنوبنا. {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ:} القوي القاهر، الغالب القادر. {الْحَكِيمُ:} تفعل ما تشاء، ولا تفعل إلا ما فيه حكمة.
فائدة: قال مكي بن أبي طالب القيسي-رحمه الله تعالى-: ونداء الرب قد كثر حذف (يا) النداء منه في القرآن الكريم، وعلة ذلك: أن في حذف (يا) من نداء الرب تعالى فيه معنى التعظيم له، والتنزيه، وذلك: أن النداء فيه ضرب من معنى الأمر؛ لأنك إذا قلت: يا زيد؛ فمعناه: تعال يا زيد، أدعوك يا زيد، فحذفت (يا) من نداء الرب ليزول معنى الأمر، وينقص؛ لأن (يا) تؤكده، وتظهر معناه، فكان في حذف (يا) التعظيم، والإجلال، والتنزيه للرب تعالى، فكثر حذفها في القرآن، والكلام العربي في نداء الرب لذلك المعنى. انتهى. أقول: والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء. (ونا): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لا تَجْعَلْنا:} فعل مضارع مجزوم ب: {لا،} والفاعل مستتر تقديره: «أنت» ، و (نا) مفعول به أول، {فِتْنَةً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية مستأنفة مع الجملة الندائية قبلها، لا محل لهما؛ لأنهما دعاء متعدد لا ارتباط لكلّ بسابقه، كالجمل المتعددة، وليس هو، وما بعده بدلا مما قبله، كما قيل؛ لعدم اتحاد المعنيين لا كلا، ولا
جزآ، ولا ملابسة بينهما سوى الدعاء. انتهى. جمل نقلا عن الشهاب. {لِلَّذِينَ:} متعلقان ب: {فِتْنَةً،} أو بمحذوف صفة له، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. وجملة:{وَاغْفِرْ:} مع المفعول المحذوف معطوفة على ما قبلها. {تَجْعَلْنا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {رَبَّنا:} توكيد لفظي لما قبله. {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {أَنْتَ:} ضمير فصل، لا محل له، أو هو توكيد لاسم (إنّ) على المحل؛ إذ محله الرفع على الابتداء. {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ:} خبران ل: (إنّ)، وإن اعتبرت الضمير مبتدأ؛ فهما خبران له، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية تعليل للدعاء لا محل لها.
الشرح: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ} أي: في إبراهيم، والذين معه. {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي: قدوة صالحة. وهذا التكرير لمزيد الحث على التأسي بإبراهيم، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. و (الأسوة) بضم الهمزة، وكسرها، مثل: القدوة بضم القاف وكسرها، والمراد بالأسوة الحسنة: التبرؤ من الكفار. {لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ} أي: يرجو رحمته، ومثله:{يَخافُونَ رَبَّهُمْ} أي:
عذابه بدليل قوله تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ} . {وَالْيَوْمَ الْآخِرَ:} هو آخر يوم من أيام الدنيا، فيه الحشر، والنشر، والميزان، والصراط إلى دخول أهل الجنة الجنة، ودخول أهل النار النار. هذا؛ والرجاء في الأصل: الأمل في الشيء، والطماعية فيه، قال الشاعر:[الوافر] أترجو أمة قتلت حسينا
…
شفاعة جدّه يوم الحساب
وقد يأتي الرجاء بمعنى الخوف، وبه فسر قوله تعالى في سورة (العنكبوت) الاية رقم [5]:
{مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ..} . إلخ وغيرها كثير، وهي لغة تهامة، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي في صفة عسّال؛ أي: الذي يقطف عسل النحل: [الطويل] إذا لسعته الدّبر لم يرج لسعها
…
وخالفها في بيت نوب عواسل
وقال بعض العلماء: لا يقع الرجاء بمعنى الخوف إلا مع الجحد؛ أي: النفي، كقوله تعالى:{ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً} وقال بعضهم: بل يقع في كل موضع، دل عليه المعنى، وهو المعتمد. {وَمَنْ يَتَوَلَّ} أي: يعرض عن التأسي، والاقتداء بإبراهيم، والأنبياء، والمرسلين؛ الذين جاؤوا معه بالهدى، والنور، وامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه.
{فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ:} عن عباده غير محتاج إليهم في شيء. {الْحَمِيدُ:} المحمود بكل لسان، الممجد في كل مكان على كل حال، وهو مستحق للحمد في ذاته، تحمده الملائكة، وتنطق بحمده ذرات المخلوقات. هذا؛ وانظر شرح (التولي) في سورة (الذاريات) رقم [54].
الإعراب: {لَقَدْ:} (اللام): لام الابتداء، أو هي واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: والله ونحوه. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِيهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. {أُسْوَةٌ:} اسم {كانَ} مؤخر. {حَسَنَةٌ:} صفة له، وجملة:{لَقَدْ كانَ..} . إلخ: مبتدأ، أو جواب القسم المقدر، لا محل لها على الاعتبارين. وفيها معنى التوكيد لقوله تعالى:{لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . {لِمَنْ:}
جار ومجرور بدل من {لَكُمْ،} أو هما متعلقان بمحذوف صفة {حَسَنَةٌ} وهو المعتمد عند البصريين؛ لأنهم لا يجيزون إبدال الغائب من المخاطب، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {كانَ} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى (من)، وهو العائد، أو الرابط. {يَرْجُوا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل يعود إلى (من) أيضا، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان). {اللهَ:} منصوب على التعظيم. (اليوم): معطوف عليه. {الْآخِرَ:} صفة (اليوم) وجملة: {كانَ..} . إلخ صلة (من) أو صفتها. وهذا مذكور بحروفه في سورة (الأحزاب) رقم [21].
{وَمَنْ:} (الواو): حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَتَوَلَّ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى (من) تقديره:«هو» ، والمتعلق محذوف، انظر تقديره في الشرح. {فَإِنَّ:} (الفاء): واقعة في جواب الشرط. (إنّ): حرف مشبه بالفعل.
{اللهَ:} اسمها. {هُوَ:} ضمير فصل لا محل له. {الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ:} خبران ل: (إنّ). هذا؛ وإن اعتبرت الضمير مبتدأ و {الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} خبرين له. فالجملة الاسمية تكون في محل رفع خبر (إنّ)، ورجح الأول؛ لأنه قرئ بإسقاط الضمير، والجملة الاسمية: (إن الله
…
) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما رأيت في الاية رقم [1]. هذا؛ وإن اعتبرت جواب الشرط محذوفا، تقديره: ومن يتول عن الإيمان فلا يضر إلا نفسه، فلا بأس به، بل هو أجود؛ لأن الجملة الاسمية: (إن الله
…
) إلخ خالية من رابط يربطها باسم الشرط، كما هو واضح، وعليه تكون الجملة تعليلا لجواب الشرط المقدر، والجملة الاسمية:{وَمَنْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وهذه الجملة مذكورة في الاية رقم [24] من سورة (الحديد).
الشرح: {عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} أي: لعل الله جل وعلا يجعل بينكم وبين الذين عاديتموهم من أقاربكم المشركين محبة، ومودة، محبة بعد البغضاء، وألفة بعد
الشحناء، ومودة بعد النفار. قال في التسهيل: لما أمر الله المسلمين بعداوة الكفار، ومقاطعتهم على ما كان بينهم وبين الكفار من القرابة، والمودة، وعلم الله صدقهم؛ آنسهم بهذه الاية، ووعدهم بأن يجعل بينهم مودة؛ أي: محبة، وهذه المودة كملت في فتح مكة، فإنه أسلم حينئذ سائر قريش، وجمع الله الشمل بعد التفرق. وقال الرازي-رحمه الله تعالى-: و {عَسَى} وعد من الله تعالى، وقد حقق ما وعدهم به من اجتماع كفار مكة بالمسلمين، ومخالطتهم لهم حين فتح مكة، وقد قال تعالى ممتنّا:{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً} هذا؛ ومما يؤثر من قول علي-كرم الله وجهه ورضي عنه-: أحبب حبيبك هونا مّا؛ عسى أن يكون بغيضك يوما مّا، وأبغض بغيضك هونا مّا؛ عسى أن يكون حبيبك يوما مّا.
ورحم الله من يقول: [الطويل] وأحبب إذا أحببت حبّا مقاربا
…
فإنك لا تدري متى أنت نازع؟
وأبغض إذا أبغضت بغضا مجانبا
…
فإنك لا تدري متى أنت راجع؟
هذا؛ ويذكر المفسرون من المودة زواج النبي صلى الله عليه وسلم برملة أم حبيبة بنت أبي سفيان، فقال أبو سفيان، وهو مشرك حينئذ بلغه تزويج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته: ذلك الفحل لا يقدع أنفه. يقال: هذا الفحل لا يقدع أنفه؛ أي: لا يضرب أنفه، وذلك لشرفه، وأصالته، وكرامته.
{وَاللهُ قَدِيرٌ:} قادر، لا يعجزه شيء، يقدر على تأليف القلوب، وتغيير الأحوال، وقلب البغض محبة، والعداوة صداقة، وألفة. {وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ:} يغفر للكافرين كفرهم؛ إذا تابوا منه، وأنابوا إلى ربهم، وأسلموا له، وهو الرحيم بكل من تاب إليه من أي ذنب كان. وعن ابن شهاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان على بعض اليمن، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل، فلقي ذا الخمار مرتدا، فقاتله، فكان أول من قاتل في الردة، وجاهد في الدين، وهو ممن أنزل الله فيه:{عَسَى اللهُ..} . إلخ الاية. أخرجه ابن أبي حاتم، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
وانظر شرح (بين) في الاية رقم [25] من سورة (الرحمن).
الإعراب: {عَسَى:} فعل ماض جامد يدل على الرجاء مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {اللهُ:} اسم {عَسَى} . {أَنْ:} حرف ناصب. {يَجْعَلَ:} مضارع منصوب ب: {أَنْ} وهو بمعنى: يخلق، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب خبر {عَسَى،} ويجب تأويله باسم الفاعل جاعلا؛ لأن المصدر لا يخبر به عن الجثة، وجملة:{عَسَى..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {بَيْنَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَبَيْنَ:} ظرف مكان معطوف على ما قبله، وهو مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة.
{عادَيْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: الذين عاديتموهم. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، العائد على الموصول، و (من) بيان لما أبهم في الموصول. {مَوَدَّةً:} مفعول به ليجعل، والجملة الاسمية:{وَاللهُ قَدِيرٌ} مستأنفة، لا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها، لا محل لها مثلها.
الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت في خزاعة، وذلك: أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ألاّ يقاتلوه، ولا يعينوا عليه أحدا، فرّخص الله في برهم. انتهى. أي:
وكانوا لا يزالون كفارا. وقال عبد الله بن الزبير-رضي الله عنهما: نزلت في أمه أسماء-رضي الله عنها، وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العزّى، وكانت كافرة، وقد طلقها أبو بكر-رضي الله عنه-حين أبت الإسلام، ويقال: طلقها في الجاهلية قبل الإسلام. وبقيت في مكة كافرة، قدمت على ابنتها أسماء-رضي الله عنها-المدينة بهدايا، ضبابا، وأقطا، وسمنا، فقالت أسماء-رضي الله عنها: لا أقبل منك هدية، ولا تدخلي عليّ بيتا؛ حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته:
فأنزل الله تعالى هذه الاية، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها، وأن تقبل هديتها، وتكرمها، وتحسن إليها.
فعن أسماء-رضي الله عنها-قالت: قدمت عليّ أمي، وهي مشركة في عهد قريش؛ إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدّتهم مع أبيها فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إن أمي قدمت عليّ، وهي راغبة؛ أفأصلها؟ قال:«نعم صليها» . متفق عليه، زاد ابن عيينة في رواية:
فأنزل الله فيها: {لا يَنْهاكُمُ اللهُ..} . إلخ.
أقول: الاية صريحة في إباحة معاملة المشركين الذين لا يناصبوننا العداء، بل وهي صريحة في الإحسان إليهم، والبر بهم، ومعنى (تقسطوا إليهم): تعطوهم قسطا من أموالكم على وجه الصلة، والإحسان لكن لا يكون هذا من مال الزكاة الواجبة، ولا من أموال الكفارات، والنذور، ومعنى {الْمُقْسِطِينَ:} المحسنين، وليس المراد به العدل المذكور في سورة (الحجرات) رقم [9] تنبه لذلك، واحفظه.
الإعراب: {لا:} نافية. {يَنْهاكُمُ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والكاف مفعول به. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {عَنِ}
{الَّذِينَ:} متعلقان بما قبلهما. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يُقاتِلُوكُمْ:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، وهو العائد، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {فِي الدِّينِ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ} معطوفة على جملة الصلة، وإعرابها مثلها. {مِنْ دِيارِكُمْ:}
متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب.
{تَبَرُّوهُمْ:} مضارع منصوب ب: «أن» ، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والمصدر المؤول من المضارع وناصبه في محل جر بدل اشتمال من {الَّذِينَ؛} إذ المعنى:
لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم. {وَتُقْسِطُوا:} معطوف على ما قبله فهو منصوب مثله، ومؤول مثله بمصدر، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَنْ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:}
اسمها. {يُحِبُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر {أَنْ،} والجملة الاسمية تعليل للنفي، لا محل لها. {الْمُقْسِطِينَ:} مفعول به منصوب
…
إلخ.
الشرح: {إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ:} خطاب للمؤمنين الصادقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويعم كل مؤمن إلى يوم القيامة. {عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} أي: حاربوكم، وآذوكم، وقاتلوكم من أجل إيمانكم بالله، وتصديقكم رسوله. والمراد بهم: كفار قريش، ويعم كذلك كل كافر يفعل فعلهم إلى يوم القيامة.
{وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ:} في مكة؛ حيث ألجؤوكم إلى الهجرة إلى المدينة المنورة. {وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ:} وعاونوا على إخراجكم، وطردكم من دياركم. والمراد من تعاون مع كفار قريش، وتحالف معهم على إخراج المؤمنين من ديارهم. {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} أي: تتولوهم. فتتخذوهم أولياء، وأنصارا، وأحبابا. {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ:} ومن يصادق أعداء الله، ويجعلهم أنصارا، وأحبابا، ويمنحهم مودته، وصداقته. {فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} لأنفسهم بتعريضها للعذاب الشديد في نار الجحيم.
هذا؛ وقال تعالى في سورة (المائدة) رقم [51]: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} .
الإعراب: {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {يَنْهاكُمُ:} فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والكاف مفعول به. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، أو مبتدأة، لا محل لها. {عَنِ الَّذِينَ:} متعلقان بما قبلهما. {قاتَلُوكُمْ:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {فِي الدِّينِ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ}
{دِيارِكُمْ:} معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها، والكاف مع الفعل مفعول به، ومع الاسم في محل جر بالإضافة. {وَظاهَرُوا:} الواو: حرف عطف. (ظاهروا): ماض مبني على الضم والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة أيضا. {عَلى إِخْراجِكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ:} مثل {أَنْ تَبَرُّوهُمْ،} والمصدر المؤول في محل جر بدل اشتمال من {الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ} . إذ التقدير: ينهاكم الله عن تولي الذين قاتلوكم في الدين. {وَمَنْ:} الواو:
حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع. {يَتَوَلَّهُمْ:} مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى (من)، تقديره:«هو» ، والهاء مفعول به. {فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} انظر إعراب مثلها في الاية رقم [8] من سورة (الحشر)، والجملة الاسمية هنا في محل جزم جواب الشرط، وقل في خبر المبتدأ ما رأيته في الاية رقم [1]، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ وقد روعي لفظ:(من) برجوع الفاعل إليها، ومعناها في رجوع اسم الإشارة إليها.
الشرح: قال المفسرون: كان صلح الحديبية الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار مكة قد تضمن: أن من أتى أهل مكة من المسلمين؛ لم يردّ إليهم، ومن أتى المسلمين من أهل مكة المشركين؛ ردّ إليهم، وقد رأيت ذلك في سورة (الفتح) مفصلا، فجاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مهاجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج في أثرها أخوالها: عمارة والوليد، فقالا للنبي صلى الله عليه وسلم: ردها علينا بالشرط. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كان الشرط في الرجال، لا في النساء» . وكانت متزوجة من عمرو بن العاص. وقيل: إن التي جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية، وزوجها صيفي بن الراهب. وقيل: مسافر المخزومي. فلم يردها النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطى زوجها مهرها، وما أنفق عليها، فتزوجها عمر بن الخطاب-رضي الله عنه. وقيل: إن التي جاءت أميمة بنت بشر وأمّها رقيقة، وهي أخت السيدة خديجة، وخالة فاطمة الزهراء-رضي الله عنهن جميعا-.
وكانت أميمة عند ثابت بن الشّمراخ، ففرت منه، وهو يومئذ كافر، فتزوجها سهل بن حنيف رضي الله عنه-فولدت له عبد الله، والأكثر من أهل العلم: أنها أم كلثوم بنت عقبة، ونزلت
الاية تؤيد ما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التفريق بين رد الرجال المؤمنين لقريش، وعدم ردّ النساء المؤمنات لقريش، وهذا التفريق لأمرين: أحدهما: أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم، فيطؤوهنّ كرها. والثاني: أنهن أرق قلوبا، وأسرع تقلبا من الرجال، فأما المقيمة على شركها؛ فمردودة عليهم، وانظر اللاتي لحقن بالمشركين مرتدات في الاية التالية.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ:} قيل: إنه كانت من أرادت منهن إضرار زوجها لكراهتها له؛ قالت: سأهاجر إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامتحانهن. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كانت المرأة تستحلف بالله: أنها ما خرجت بغضا لزوجها، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، ولا عشقا لرجل منا، بل حبا لله، ورسوله، فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك؛ أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها، وما أنفق عليها، ولم يردّها.
{اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ} أي: هذا الامتحان لكم، والله أعلم بإيمانهن منكم، فإنكم وإن رزتم أحوالهن لا تعلمون ذلك حقيقة، وعند الله حقيقة العلم به؛ لأنه متولي السرائر. {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفّارِ:} أي فإن تحققتم إيمانهن بعد امتحانهن؛ فلا تردوهن إلى أزواجهن الكفار {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} أي: لا حل بين المؤمنة، والمشرك؛ لوقوع الفرقة بينهما لاختلاف الدين. والثاني: للمنع عن الاستئناف بإعادة النكاح؛ إذا لم يسلم الزوج.
{وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا:} أمر الله تعالى إذا أمسكت المرأة المسلمة، ومنعت من زوجها؛ أن يردّ عليه ما أنفق عليها، وذلك من الوفاء بالعهد؛ لأنه لما منع منها بحرمة الإسلام، أمر الله برد المال إليه، حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين: الزوجة، والمال. {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي: مهورهن. أباح الله للمسلمين نكاح المهاجرات من دار الحرب إلى دار الإسلام، وإن كان لهن أزواج كفار في دار الحرب؛ لأن الإسلام فرق بينهن، وبين أزواجهن الكفار، ووقعت الفرقة بانقضاء عدتها، فإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدتها؛ فهي زوجته، وبه قال الأوزاعي، والليث بن سعد، ومالك، والشافعي، وأحمد. وقال أبو حنيفة تقع الفرقة باختلاف الدارين. انتهى. خازن. فإن أسلمت قبل الدخول بها بطل النكاح في الحال، ولها التزوج من غير عدة تعتدها.
{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ:} جمع عصمة، والعصمة: عقد النكاح، وكل ما عصم به الشيء، فهو عصام، وعصمة، و {الْكَوافِرِ} جمع: كافرة، كضوارب في ضاربة. فقد نهى الله عن المقام على نكاح المشركات، والمعنى: من كانت له امرأة كافرة بمكة؛ فلا يعتدها، فقد انقطعت عصمة الزوجية بينهما. قال الزهري: لما نزلت هذه الاية طلق عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-امرأتين له كانتا بمكة مشركتين: قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة، فتزوجها معاوية بن أبي
سفيان، وهما على شركهما في مكة، والأخرى: أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية، وهي أم ابنه عبيد الله، فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غنم، وهما على شركهما، فلما ولي عمر-رضي الله عنه-الخلافة قال أبو سفيان لمعاوية: طلق قريبة لئلا يرى عمر سلبه في بيتك، فأبى معاوية من ذلك. وكانت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب تحت طلحة بن عبيد الله، فهاجر طلحة-رضي الله عنه-وبقيت على دين قومها، ففرق الإسلام بينهما، فتزوجها بعده في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص بن أمية. قال الشعبي: وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع، فأسلمت وهاجرت، ولحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأقام أبو العاص بمكة مشركا، ثم أتى المدينة، فأمنته-رضي الله عنها-ثم أسلم، فردها عليه النبي صلى الله عليه وسلم. قيل: ردت إليه بعد سنتين. وقيل بعد ست سنين، وهو ابن أخت خديجة-رضي الله عنها.
وهذا الحكم يقع بين الزوجين إذا ارتد أحدهما عن الإسلام، فإن رجع المرتد إلى الإسلام قبل انقضاء عدة المرأة، فالنكاح يبقى بينهما، وإن ارتد أحدهما قبل الدخول تقع الفرقة في الحال؛ إذ لا عدة على غير المدخول بها؛ وإن كانا في دار واحدة.
{وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا} قال المفسرون: كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد، يقال للكفار: هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين إذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة: ردوا إلى الكفار مهرها، وكان ذلك نصفا، وعدلا بين الحالتين، وكان هذا حكم الله مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع الأمة. قاله ابن العربي، أقول: وهذا يعني: أن هذا الحكم منسوخ. قال النسفي-رحمه الله تعالى-: وهو منسوخ، فلم يبق سؤال المهر لا منا، ولا منهم. انتهى.
{ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ} أي: جميع ما ذكر في هذه الاية هو حكم الله لا اعتراض عليه. {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ:} فيجب عليكم الرضا به، والانصياع له، وقد انصاع له المؤمنون، وأباه الكافرون، كما ستقف عليه في الاية التالية. {وَاللهُ عَلِيمٌ:} بمصالح العباد. {حَكِيمٌ:} في تشريعه لهم، لا يشرع إلا ما تقتضيه الحكمة البالغة. والله أعلم بمراده.
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الاية رقم [1]. {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب.
{جاءَكُمُ:} فعل ماض، والكاف مفعول به. {الْمُؤْمِناتُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على المشهور المرجوح. {مُهاجِراتٍ:} حال من {الْمُؤْمِناتُ} منصوب وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. هذا؛ و {الْمُؤْمِناتُ} صفة لموصوف محذوف، التقدير: النساء المؤمنات. {فَامْتَحِنُوهُنَّ:} الفاء: واقعة في جواب {إِذا} .
(امتحنوهنّ): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والنون في الجميع
حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الفعلية جواب {إِذا،} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.
{اللهُ:} مبتدأ. {أَعْلَمُ:} خبره. {بِإِيمانِهِنَّ:} متعلقان ب: {أَعْلَمُ،} والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية معترضة، لا محل لها. {فَإِنْ:} الفاء: حرف عطف، أو استئناف، (إن): حرف شرط جازم. {عَلِمْتُمُوهُنَّ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، والهاء مفعوله الأول. {الْمُؤْمِناتُ:} مفعوله الثاني، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا):
ناهية. {تَرْجِعُوهُنَّ:} مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. {إِلَى الْكُفّارِ:} متعلقان بما قبلهما، و (إن) ومدخولها كلام لا محل له على الوجهين المعتبرين بالفاء.
{فَلا:} نافية. {فَامْتَحِنُوهُنَّ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {حِلٌّ:} خبره.
{لَهُمْ:} متعلقان ب: {حِلٌّ،} والجملة الاسمية تعليل للنهي لا محل لها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {لَهُمْ:} مبتدأ. {يَحِلُّونَ:} مضارع مرفوع، والواو فاعله. {لَهُنَّ:} جار ومجرور متعلقان به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {وَآتُوهُمْ:} الواو: حرف عطف. (آتوهم): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله الأول. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {أَنْفَقُوا:} فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: آتوهم الذي، أو شيئا أنفقوه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة جواب الشرط.
{وَلا:} (الواو): حرف استئناف. (لا): نافية للجنس تعمل عمل (إنّ). {جُناحَ:} اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (لا)، ولا يجوز تعليقهما ب:{جُناحَ؛} لأنه يصير شبيها بالمضاف، فيجب حينئذ نصبه، وتنوينه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ:} مضارع منصوب ب: «أن» ، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والمصدر المؤول في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: في نكاحهن، والجار والمجرور متعلقان بالخبر المحذوف.
{إِذا:} ظرف زمان مجرد عن الشرطية مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله.
{آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ:} إعراب هذه الجملة مثل إعراب: {عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ} بلا فارق، والجملة الفعلية هنا في محل جر بإضافة {إِذا} إليها.
{وَلا:} (الواو): حرف عطف. {تُمْسِكُوا:} مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، لا محل لها مثلها. {بِعِصَمِ:} متعلقان بما قبلهما، وهو مضاف، و {الْكَوافِرِ} مضاف إليه. {وَسْئَلُوا:}
الواو: حرف عطف. (اسألوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: اسألوا الذي، أو شيئا أنفقتموه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَلْيَسْئَلُوا:} الواو: حرف عطف. (ليسألوا): مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله. {ما أَنْفَقُوا:} انظر مثله، وجملة:{وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا:} معطوفة على ما قبلها.
{ذلِكُمْ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {حُكْمُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {يَحْكُمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله). {بَيْنَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من:{حُكْمُ اللهِ،} والرابط محذوف، التقدير: يحكم الله به. هكذا قدر بعضهم الضمير. هذا؛ وأرى صحة مجيء الحال من لفظ الجلالة؛ لأن المضاف كجزئه، وخذ قول ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز] ولا تجز حالا من المضاف له
…
إلاّ إذا اقتضى المضاف عمله
أو كان جزأ ماله أضيفا
…
أو مثل جزئه فلا تحيفا
الشرح: روى الزهري عن عروة بن الزبير، عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: حكم الله عز وجل بين المسلمين، وبين الكافرين، فقال جل ثناؤه:{وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا} فكتب إليهم المسلمون: قد حكم الله عز وجل بيننا وبينكم بأنه إن جاءتكم امرأة منا أن توجهوا إلينا بصداقها، وإن جاءتنا امرأة منكم وجهنا إليكم بصداقها. فكتبوا إليهم: أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئا، فإن كان لنا عندكم شيء فوجهوا به إلينا، فأنزل الله عز وجل:{وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ..} .
إلخ انتهى. قرطبي.
{وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفّارِ} أي: وإن فرت زوجة أحد من المسلمين، ولحقت بالكفار. {فَعاقَبْتُمْ:} معناه: غزوتم، فغنمتم، وأصبتم من الكفار عقبى، وهي الغنيمة. وقيل:
معناه ظهرتم، وكانت العاقبة لكم. {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ:} إلى الكفار. {مِثْلَ ما أَنْفَقُوا:}
معناه أعطوا الذين ذهبت أزواجهم منكم إلى الكفار مرتدات مثل ما أنفقوا عليها من الغنائم؛ التي صارت في أيديكم من أموال الكفار.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة: أم الحكم بنت أبي سفيان، وكانت تحت عياض بن أبي شداد الفهري. وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة، أخت أم سلمة، وكانت تحت عمر بن الخطاب-رضي الله عنه. فلما أراد عمر أن يهاجر بها أبت، وارتدت. وبروع بنت عقبة، وكانت تحت شماس بن عثمان. وعبدة بنت عبد العزى بن نضلة، وتزوجها عمرو بن عبد ود. وهند بنت أبي جهل بن هشام، وكانت تحت هشام بن العاص بن وائل، وأم كلثوم بنت جرول، وكانت تحت عمر بن الخطاب-رضي الله عنه. فكلهن رجعن عن الإسلام، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهن مهور نسائهم من الغنائم؛ التي امتن بها على المؤمنين الصادقين فيما بعد.
{وَاتَّقُوا اللهَ} أي: راقبوا الله في جميع أقوالكم، وجميع أفعالكم، واحذروا عذابه، وانتقامه إن خالفتم أوامره، وعصيتموه. {الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} أي: الذي آمنتم بوجوده، واعترفتم بقدرته، وعظمته، فإن من مستلزمات الإيمان تقوى الرحمن، وامتثال أمره، واجتناب نهيه. هذا؛ وذكر القرطبي-رحمه الله تعالى-: أن النساء المرتدات، اللاتي لحقن بالمشركين، لم يكن منهن قرشية غير أم الحكم بنت أبي سفيان، ثم عادت إلى الإسلام، وانظر اللاتي لحقن بالمسلمين في الاية السابقة.
الإعراب: {وَإِنْ:} (الواو): حرف عطف. (إن): حرف شرط جازم. {فاتَكُمْ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والكاف مفعول به. {شَيْءٌ:} فاعل، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {مِنْ أَزْواجِكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف صفة {شَيْءٌ،} التقدير: وإن فاتكم شيء من مهور أزواجكم. {إِلَى الْكُفّارِ:} متعلقان بالفعل {فاتَكُمْ} . وقيل: متعلقان بمحذوف حال.
{فَعاقَبْتُمْ:} الفاء: حرف عطف. (عاقبتم): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فَآتُوا:} (الفاء): واقعة في جواب الشرط. (آتوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به أول، والجملة بعده صلته، {مِثْلَ:} مفعول به ثان، و {مِثْلَ:} مضاف، و {ما:}
اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر بالإضافة. {أَنْفَقُوا:} فعل ماض، وفاعله، والجملة الفعلية صلة ما، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: مثل الذي، أو مثل شيء أنفقوه، وجملة:{وَاتَّقُوا اللهَ:} معطوفة على جملة جواب الشرط. {الَّذِي:} اسم
موصول مبني على السكون في محل نصب صفة لفظ الجلالة، أو بدل منه. {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {مُؤْمِنُونَ:}
خبر المبتدأ مرفوع
…
إلخ، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها.
الشرح: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ..} . إلخ: لمّا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة؛ جاء نساء أهل مكة يبايعنه على الإسلام، كما بايعه الرجال، وكان على الصفا، وعمر بن الخطاب أسفل منه يبلغهن عنه، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها، وكانت قد شقت بطن الحمزة-رضي الله عنه-يوم أحد، وقد نزلت الاية الكريمة التي نحن بصدد شرحها.
هذا؛ ويقرأ بالهمز: «(يا أيها النبيء)» ومعناه: يا أيها المخبر عنا، المأمون على أسرارنا، المبلغ خطابنا إلى أحبابنا، وإنما لم يقل: يا محمد، كما قال: يا آدم، يا نوح، يا موسى
…
إلخ، تشريفا له، وتنويها بفضله، وتصريحه باسمه في قوله جل ذكره:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ} الاية الأخيرة من سورة (الفتح) ونحوها، لتعليم الناس بأنه رسول الله. انتهى. نسفي في غير هذا الموضع، وينبغي أن تعلم: أن الله لم يناد نبيه صلى الله عليه وسلم بلفظ الرسول إلا في سورة (المائدة) رقم [41 و 67].
فقال رسول الله: أبايعهنّ {عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً} . فرفعت هند رأسها، وقالت: والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال-وكان قد بايع الرجال يومئذ على الإسلام، والجهاد فقط-فقال النبي صلى الله عليه وسلم:{وَلا يَسْرِقْنَ} فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصيب من ماله قوتا، فلا أدري أيحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو حلال، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفها، وقال لها:«وإنك لهند بنت عتبة؟» . قالت:
نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك، والمحفوظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها حين قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح: «خذي ما يكفيك وبنيك بالمعروف» .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {وَلا يَزْنِينَ} فقالت هند: أو تزني الحرة؟ فهذا استنكار منها أن تزني المرأة الشريفة؛ لأن الزنى لا تفعله إلا الدنيئة الخبيثة المعدن كالعبدة ونحوها. فلا حول ولا قوة إلا بالله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} فقالت هند: ربيناهم صغارا، وقتلتموهم كبارا، فأنتم وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر كافرا، وكان بكرها، فضحك عمر رضي الله عنه-حتى استلقى، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} . فقالت هند: والله إن البهتان لقبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد، ومكارم الأخلاق. هذا؛ وقيل: كنى بالبهتان المفترى عن اللقيط، وهي من لطائف الكنايات، وهذا قول الجمهور، فقد كانت المرأة تلتقط ولدا، فتلحقه بزوجها، وتقول: هذا ولدي منك. فكان هذا من البهتان والافتراء، فقد كنى سبحانه وتعالى بما بين يديها ورجليها عن الولد؛ لأن بطنها الذي تحمل فيه الولد بين يديها، وفرجها الذي تلد منه بين رجليها، وهذا عام في الإتيان بولد وإلحاقه بالزوج وإن سبق النهي عن الزنى.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قالت هند: ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء. فأقر النسوة بما أخذ عليهن من البيعة. قال ابن الجوزي: وجملة من أحصي من المبايعات أربعمئة وسبعة وخمسون امرأة، ولم يصافح في البيعة امرأة، وإنما بايعهن بالكلام.
عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الاية على أن لا يشركن بالله شيئا، وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة لا يملكها. هذا؛ ومعنى:{وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} أي: في كل ما تأمرهن به، أو تنهاهن عنه. وقيل: في كل أمر وافق طاعة، وكل أمر فيه رشد. وقيل: هو النهي عن النوح، والدعاء بالويل، وتمزيق الثياب، وقص الشعر، ونتفه، وخمش الوجه، وأن لا تحدّث المرأة الرجال الأجانب، وأن لا تخلو برجل غير ذي محرم، ولا تسافر مع غير ذي محرم. قال ابن عباس-رضي الله عنهما-في قوله:{وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} إنما هو شرط شرطه الله على النساء. وأخرجه البخاري.
{فَبايِعْهُنَّ} يعني: إذا بايعنك على هذه الشروط؛ فبايعهن. {وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ} أي: اطلب من الله أن يغفر لهن ما سلف من ذنوبهن، وأهم، وأعظم هذه الذنوب الشرك. وما فعلته هند بالحمزة-رضي الله عنه-من عظائم الإثم. ومع هذا كله فقد أمر الله نبيه أن يعفو عنهن، ويتجاوز عن سيئاتهن، بل وأمره أن يستغفر لهن، ويلتمس من الله العفو عنهن، والمغفرة لذنوبهن، وما ذاك إلا؛ لأن الإسلام يجبّ ما قبله، فعن أميمة بنت أخت السيدة خديجة، وبنت خالة فاطمة الزهراء-رضي الله عنهن. قالت: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة، فقال:«فيما استطعتنّ، وأطعتنّ» . قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا. قلنا: يا رسول الله! ألا تصافحنا؟ قال: «إنّي لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة واحدة قولي لمئة امرأة» . أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وعن سلمى بنت قيس، وكانت إحدى خالات رسول الله، وقد صلت معه إلى القبلتين.
قالت: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم نبايعه في نسوة من الأنصار، فلما شرط علينا ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف؛ قال:«ولا تغششن أزواجكن» . قالت: فبايعناه، ثم انصرفنا، فقلت لامرأة منهن:
ارجعي، فسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما غشّ أزواجنا؟ قال: فسألته، فقال:«تأخذ ماله فتحابي به غيره» . أخرجه الإمام أحمد.
وعن أم عطية-رضي الله عنها-قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا {أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً} ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة منّا يدها، فقالت: فلانة أسعدتني، فأريد أن أجزيها، فما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فانطلقت، ورجعت فبايعها، فما وفى منهن امرأة غيرها، وغير أم سليم ابنة ملحان. أخرجه البخاري، ومسلم، أما مبايعة الرجال؛ فخذها مما يلي:
فعن عبادة بن الصامت-رضي الله عنه-قال: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء: «ألاّ تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا يعضه بعضكم بعضا، ولا تعصوا في معروف أمركم به» . ثم قال صلى الله عليه وسلم: «فمن وفى منكم؛ فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا، فعوقب؛ فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا، فستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عذّبه، وإن شاء غفر له منها» . رواه البخاري. هذا؛ ومعنى: (يعضه): يسحر، والعضه: السحر.
قال القرطبي رحمه الله: ذكر الله-عز وجل-ورسوله صلى الله عليه وسلم في صفة البيعة خصالا شتى، صرح فيهن بأركان النهي في الدين، ولم يذكر أركان الإيمان، وهي ستة أيضا: الشهادة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحجّ، والاغتسال من الجنابة، وذلك؛ لأن النهي دائم في كل الأزمان وكل الأحوال، فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد. وقيل: إن هذه المناهي كان في النساء كثير من يرتكبها، ولا يحجزهن عنها شرف النسب، فخصّت بالذكر لهذا.
تنبيه: كان قتل الأولاد فاشيا في الجاهلية، لذا فقد نهى الله عنه في كثير من الايات، ولكن هذا القتل هل كان يقتصر على البنات، أو يتعدى إلى الذكور؟ المعروف: أن عامتهم كانوا يكرهون البنات، وأن الكثير منهم كانوا يئدون البنات؛ حتى نتج عن ذلك نقص في الإناث في بعض القبائل العربية، ولذا اضطر الواحد منهم إلى التزوج من قبيلة أخرى بمهر كثير، وأما قتل الذكور، فكان قليلا جدا، وكان لا يقع إلا في حالات شدة المعيشة، والفقر الشديد؛ لأنهم كانوا يتكثرون بالذكور، ويعتزون بهم، كما هو معروف، ومشهور.
هذا؛ ويكثر السؤال في هذه الأيام عن منع الحمل، بل، وعن إسقاط الجنين باستعمال بعض العقاقير. والجواب يكون بعونه تعالى كما يلي: منع الحمل إذا كان على اتفاق بين الزوجين قبل العلوق، ولسبب من الأسباب، كضعف الزوجة، وعجزها عن القيام بخدمة الأولاد، فهو من المباحات؛ التي لا حرج فيها، وأما إذا كان هربا من نفقات الأولاد، وتكاليف الحياة، فهو مكروه كراهة شديدة، فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وهو يدخل تحت قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«العزل هو الوأد الخفيّ» . وإسقاط الجنين بعد التخلق مكروه كراهة شديدة، ما لم يكن هناك خطر على المرأة، كما يحدث في بعض الحالات، فهو من المباحات، أما إسقاطه بعد نفخ الروح؛ فهو قتل نفس، ويدخل تحت الوعيد الشديد؛ الذي قال الله تعالى فيه:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ..} . إلخ الاية رقم [93] من سورة (النساء) ما لم تكن هناك ضرورة شديدة تدعو لإسقاطه، والله أعلم.
الإعراب: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ:} انظر الاية رقم [1] و [10]. {يُبايِعْنَكَ:} فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، والنون فاعله، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {الْمُؤْمِناتُ،} وهي حال مقدرة؛ أي: حال كونهن طالبات للمبايعة. {عَلى:} حرف جر. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {لا:} نافية. {يُشْرِكْنَ:}
فعل مضارع مبني على السكون، وهو في محل نصب ب:{أَنْ،} والنون فاعله، و {أَنْ} والفعل {يُشْرِكْنَ} في تأويل مصدر في محل جر بعلى، التقدير: على عدم الشرك، أو عدم شركهن، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {بِاللهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {شَيْئاً:}
مفعول به، أو هو مفعول مطلق. {وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ} هذه الأفعال معطوفة على:{لا يُشْرِكْنَ} فهي مثله في الإعراب، وداخلة معه في التأويل بمصدر. {أَوْلادَهُنَّ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {وَلا يَأْتِينَ:} معطوف على: {أَنْ لا يُشْرِكْنَ} . {بِبُهْتانٍ:} متعلقان بما قبلهما. {يَفْتَرِينَهُ:} مضارع مبني على السكون، والنون فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر صفة (بهتان)، أو هي في محل نصب حال من نون النسوة في {يَأْتِينَ}. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بما قبله. وقيل: متعلق بمحذوف حال من الضمير المنصوب. و {بَيْنَ} مضاف، و {أَيْدِيهِنَّ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء للثقل، والهاء في محل جر بالإضافة، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {وَأَرْجُلِهِنَّ:} معطوف على ما قبله. {وَلا يَعْصِينَكَ} معطوف على: {أَنْ لا يُشْرِكْنَ} فهو مثله في إعرابه، وداخل معه في المصدرية بسبب العطف. {فِي مَعْرُوفٍ:} متعلقان بما قبلهما. {فَبايِعْهُنَّ:} الفاء: واقعة في جواب {إِذا} . (بايعهن): فعل أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية جواب {إِذا،} لا محل لها، وإذا ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {وَاسْتَغْفِرْ:} الواو: حرف عطف. (استغفر): فعل أمر، وفاعله:
أنت، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {أَرْجُلِهِنَّ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {بِاللهِ:} منصوب على التعظيم. {أَنْ:} حرف مشبه بالفعل. {بِاللهِ:} اسمها.
{غَفُورٌ رَحِيمٌ:} خبران ل: {أَنْ،} والجملة الاسمية تعليل للأمر ولا محل لها.
الشرح: ينهى الله تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة، كما نهى عنها في أولها. قال تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ} يعني: اليهود، والنصارى، وسائر الكفار ممن غضب الله عليه، ولعنه، واستحق من الله الطرد، والإبعاد، فكيف توالونهم،
وتتخذونهم أصدقاء، وأخلاء، وهم قوم مغضوب عليهم؟! وهذا يفيد: أن الاية عامة في جميع الكفار. وقال الحسن البصري: هم اليهود والنصارى. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: هم كفار قريش؛ لأن كل كافر عليه غضب من الله. انتهى. صفوة التفاسير، ومختصر ابن كثير.
وفي القرطبي، والكشاف، والخازن: إن ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المؤمنين، ويواصلونهم، فيصيبون بذلك من ثمارهم، فنهوا عن ذلك. وقال السيوطي في أسباب النزول: كان عبد الله بن عمر، وزيد بن الحارث يوادان رجالا من يهود، فأنزل الله الاية. هذا؛ وقال أحمد محشي الكشاف: قد كان الزمخشري ذكر في قوله تعالى: {وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ} إلى قوله: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا} الاية رقم [12] من سورة (فاطر): أن آخر الاية استطراد، وهو فن من فنون البيان، مبوب عليه عند أهله، وآية الممتحنة هذه ممكنة أن تكون من هذا الفن جدا، فإنه ذم اليهود، واستطرد ذمهم بذم المشركين على نوع حسن من النسبة، وهذا لا يمكن أن يوجد للفصحاء في الاستطراد أحسن، ولا أمكن منه، ومما صدروا هذا الفن به قول الشاعر:[الطويل] إذا ما اتقى الله الفتى، وأطاعه
…
فليس به بأس وإن كان من جرم
وقول حسان بن ثابت-رضي الله عنه-في هجاء الحارث بن هشام، وكان هرب في غزوة بدر الكبرى [الكامل] إن كنت كاذبة الّتي حدّثتني
…
فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبّة أن يقاتل دونهم
…
ونجا برأس طمرّة ولجام
{قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} أي: من أن يكون لهم حظ في الاخرة لعنادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون: أنه الرسول المنعوت في التوراة. {كَما يَئِسَ الْكُفّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ} أي: كما يئس الكفار المكذبون بالبعث والنشور من أمواتهم أن يعودوا إلى الحياة مرة ثانية بعد أن يموتوا، فقد كانوا يقولون إذا مات لهم قريب، أو صديق: هذا آخر العهد به، ولن يبعث أبدا. وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والحسن، وقال مجاهد: معناه: أنهم يئسوا من نعيم الاخرة، كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير. والأول أظهر، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
هذا؛ واليأس: القنوط، وقطع الأمل، والطماعية في الشيء. قال تعالى في سورة (يوسف) حكاية عن قول يعقوب لأولاده:{يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ} . هذا؛ والفعل: {يَيْأَسُ} بياء المضارعة قد يأتي بمعنى:
يعلم، وبه فسر قوله تعالى في سورة (الرعد) رقم [31]:{أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النّاسَ جَمِيعاً} . قال الكلبي: هو بمعنى: أفلم يعلم. وهي لغة النخع. وقيل: هي لغة هوازن.
ويؤيده ما روي: أنّ عليا، وابن عباس، وجماعة من الصحابة والتابعين-رضوان الله عليهم
أجمعين-قرؤوا أفلم يتبين وهو تفسيره. وإنما استعمل اليأس بمعنى العلم؛ لأنه مسبب عن العلم بأن الميئوس منه لا يكون. وقال الليث، وأبو عبيدة: هو بمعنى: ألم يعلم. واستدلوا لهذه اللغة بقول سحيم بن وثيل اليربوعي، وقال القرطبي: هو لمالك بن عوف النصري: [الطويل] أقول لهم بالشّعب إذ ييسرونني:
…
ألم تيأسوا أنّي ابن فارس زهدم
زهدم: اسم فرس سحيم، وقال رباح بن عدي:[الطويل] ألم ييأس الأقوام أنّي أنا ابنه
…
وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا؟
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً:} انظر الاية رقم [1]. {غَضِبَ:} فعل ماض.
{اللهُ:} فاعله. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب صفة {قَوْماً}. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {يَئِسُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب صفة ثانية ل:{قَوْماً،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. {مِنَ الْآخِرَةِ:} متعلقان بما قبلهما. {كَما:} (الكاف):
حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {يَئِسَ الْكُفّارُ:} ماض، وفاعله. {مِنْ أَصْحابِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وأجاز الجمل تعليقهما بمحذوف حال من {الْكُفّارُ،} واعتبر {مِنَ} تبعيضية، وقدر الكلام: كما يئس الكفار حال كونهم بعض أصحاب القبور. و {أَصْحابِ} مضاف، و {الْقُبُورِ} مضاف إليه. هذا؛ و (ما) المصدرية، والفعل {يَئِسَ} في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا، التقدير: قد يئسوا من الاخرة يأسا كائنا مثل يأس الكفار. وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم. وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
انتهت سورة (الممتحنة) بحمد الله وتوفيقه شرحا وإعرابا.
والحمد لله رب العالمين.