المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الحديد بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الحديد) مدنية في قول - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٩

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة الحديد بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الحديد) مدنية في قول

‌سورة الحديد

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الحديد) مدنية في قول الجميع، وهي تسع وعشرون آية، وخمسمئة وأربع وأربعون كلمة، وألفان وأربعمئة، وستة وسبعون حرفا. انتهى. خازن. فعن العرباض بن سارية-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقرأ بالمسبّحات قبل أن يرقد، ويقول:«إن فيهنّ آية أفضل من ألف آية» . يعني بالمسبحات: (الحديد، والحشر، والصف، والجمعة، والتغابن). أخرجه أحمد وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وقال الترمذي: حديث غريب.

أقول: لعل الاية المشار إليها في الحديث هي قوله تعالى في هذه السورة: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أو هي قوله تعالى في سورة (الحشر): {هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عالِمُ..} . إلخ إلى آخر السورة، ثلاث آيات، وأطلق عليهن لفظ آية تجوزا.

هذا؛ وسميت السورة سورة (الحديد)؛ لذكر الحديد فيها، وهو قوة الإنسان في السلم، والحرب، وعدته في البنيان، والعمران، فمن الحديد تبنى الجسور الضخمة، وتشاد العمائر الفخمة، وتصنع آلات الحروب من الدروع، والسيوف، والرماح، وتكون الدبابات، والطائرات، والغواصات

إلى غير ما هنالك من منافع، انظر شرح الاية رقم [25].

بسم الله الرحمن الرحيم

{سَبَّحَ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}

الشرح: {سَبَّحَ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ} أي: مجد الله، وقدسه، ونزهه عن السوء. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-صلّى الله {ما فِي السَّماواتِ} ممن خلق من الملائكة. {وَالْأَرْضِ:} من شيء فيه روح، أو لا روح فيه. قال تعالى في سورة (الإسراء):{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} واختلف في هذا العموم، فقالت فرقة: المراد به تسبيح الدلالة، وكل محدث يشهد على نفسه بأن الله عز وجل خالق قادر. وقالت فرقة أخرى: هذا التسبيح حقيقة، وكل شيء على العموم يسبّح تسبيحا لا يسمعه البشر، ولا يفقهه. وهذا هو المعتمد. قال الزجاج-رحمه الله تعالى-: لو كان هذا تسبيح الدلالة، وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة، فلم قال:{وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ؟} ويستدل له بقوله تعالى في سورة (ص): {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوّابٌ (17) إِنّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ} . وقوله جل ذكره في سورة (البقرة)

ص: 480

الاية رقم [74]: {وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} وقوله جل شأنه في سورة (مريم): {وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً} .

فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: ما من صباح، ولا رواح إلا تنادي بقاع الأرض بعضها بعضا: يا جاراه! هل مرّ بك اليوم عبد، فصلى لله، أو ذكر الله عليك؟ فمن قائلة: لا، ومن قائلة: نعم، فإذا قالت: نعم رأت بذلك فضلا عليها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا يسمع صوت المؤذّن جنّ، ولا إنس، ولا شجر، ولا حجر، ولا مدر، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» . رواه ابن ماجه، ومالك من حديث أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه. وخبر حنين الجذع أيضا مشهور في هذا الباب، وأخرجه البخاري في مواضع كثيرة في كتابه، وإذا ثبت ذلك في جماد واحد جاز في جميع الجمادات، ولا استحالة في شيء من ذلك، فكل شيء يسبح للعموم، ولو كان ذلك التسبيح تسبيح دلالة حال (كما يقول البعض) فأي تخصيص لتسبيح الجبال مع داود عليه السلام؟ وإنما ذلك تسبيح المقال بخلق الحياة، والإنطاق بالتسبيح كما تقدم. هذا؛ وفي قوله تعالى:{ما فِي} تغليب غير العاقل على العاقل.

{الْعَزِيزُ:} القوي الغالب؛ الذي لا يغلب. {الْحَكِيمُ:} الذي يضع الأمور في مواضعها حسب ما تقتضيه الحكمة. وقدم {الْعَزِيزُ} لتقدم العلم بقدرته على العلم بحكمته.

الإعراب: {سَبَّحَ:} فعل ماض. {لِلّهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به. وقيل: اللام صلة، وعليه فلفظ الجلالة مجرور لفظا، منصوب محلا. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل {سَبَّحَ،} والجملة الفعلية ابتدائية لا محل لها من الإعراب: {فِي السَّماواتِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {وَالْأَرْضِ:} الواو:

حرف عطف. (الأرض): معطوف على ما قبله. {وَهُوَ:} (الواو): واو الحال. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْعَزِيزُ:} خبر أول. {الْحَكِيمُ:} خبر ثان، والجملة الاسمية في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، والضمير.

{لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)}

الشرح: {لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} يعني: ملكا، وخلقا، وعبيدا، فهو يتصرف بذلك كيف يشاء. {يُحْيِي وَيُمِيتُ:} الإحياء يكون بالخلق والإيجاد الظاهرين، ويكون الإحياء بالإيمان على سبيل الاستعارة التبعية. وقل مثله في الإماتة. قال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [122]:{أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ} فالاستعارة تمثيلية واضحة التقدير: له ملك السموات، والأرض محييا، ومميتا. {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ:} من الإحياء، والإماتة. هذا؛ ولا تنس الطباق بين {يُحْيِي} و (يميت).

ص: 481

هذا؛ و «شيء» في اللغة عبارة عن كل موجود، إما حسا كالأجسام، وإما حكما كالأقوال، نحو قلت: شيئا، وجمع الشيء: أشياء (غير منصرف) واختلف في علته اختلافا كبيرا، والأقرب ما حكي عن الخليل-رحمه الله تعالى-: أن وزنه: شيآء، وزان حمراء، فاستثقل وجود همزتين في تقدير الإجماع، فنقلت الأولى إلى أول الكلمة: فبقيت لفعاء، كما قلبوا أدؤرا فقالوا: آدر وشبهه، وجمع الأشياء: أشايا.

الإعراب: {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مُلْكُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، و {مُلْكُ} مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه. {يُحْيِي:}

فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى الله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المجرور بقوله:{لَهُ،} والرابط: الضمير فقط. هذا؛ واللام مفيدة للملك الحقيقي، الذي هو اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور، أو هي في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو يحيي. والجملة الاسمية هذه في محل نصب حال من الضمير في {لَهُ،} وإن اعتبرت الجملة الفعلية مستأنفة فلا محل لها. {وَيُمِيتُ:} الواو: حرف عطف. (يميت): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الله أيضا، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيها. {وَهُوَ:} (الواو): واو الحال. (هو): مبتدأ. {عَلى كُلِّ:} متعلقان ب: {قَدِيرٌ} بعدهما، و {كُلِّ} مضاف، و (شيء):

مضاف إليه. {قَدِيرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا ب:{لَهُ،} والرابط: الواو، والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.

{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)}

الشرح: اختلف في معاني هذه الأسماء، وقد شرحها رسول الله صلى الله عليه وسلم شرحا يغني عن قول كل قائل، فقال في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه:«اللهمّ أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الاخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنّا الدين، وأغننا من الفقر» . عنى بالظاهر: الغالب، وبالباطن: العالم. والله أعلم. انتهى. قرطبي. {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ:} بما كان، ويكون، وسيكون، فلا يخفى عن علمه شيء، وهو السميع العليم.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: هو الأول قبل كل شيء بلا ابتداء، كان هو، ولم يكن شيء موجودا. والاخر بعد فناء كل شيء بلا انتهاء يفني الأشياء كلها، ويبقى هو. والظاهر الغالب العالي على كل شيء. والباطن العالم بكل شيء. هذا؛ والطباق ظاهر بين {الْأَوَّلُ} و (الاخر) وبين (الظاهر) و (الباطن) وهو من المحسنات البديعية. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم، فيقول: «اللهمّ ربّ السموات السبع وربّ العرش العظيم، ربّنا وربّ كلّ شيء،

ص: 482

منزل التوراة، والإنجيل، والفرقان، فالق الحبّ، والنّوى، لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شرّ كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الاخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر، فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء. اقض عنّا الدين، وأغننا من الفقر!» رواه الإمام أحمد، وأخرجه مسلم بلفظ: عن سهل بن أبي صالح قال: كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن، ثم يقول: اللهم رب السموات

إلخ.

وعن عائشة-رضي الله عنها: أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بفراشه، فيفرش له مستقبل القبلة، فإذا أوى إليه؛ توسد كفه اليمنى، ثم همس، ما يدرى ما يقول، فإذا كان في آخر الليل؛ رفع صوته، فقال:«اللهمّ ربّ السموات السبع، وربّ العرش العظيم، إله كل شيء، ومنزل التوراة، والإنجيل، والفرقان، فالق الحب والنوى، أعوذ بك من شرّ كل شيء أنت آخذ بناصيته! اللهم أنت الأول؛ الذي ليس قبلك شيء، وأنت الاخر؛ الذي ليس بعدك شيء، وأنت الظاهر، فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر!» . أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي. انتهى. خازن وابن كثير.

الإعراب: {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْأَوَّلُ:} خبر المبتدأ، والأسماء بعده معطوفة عليه، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المستتر في (الظاهر) و (الباطن) والرابط: الواو، والضمير.

هذا؛ وقال الزمخشري: الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين: الأولية، والاخرية، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور، والخفاء، وأما الوسطى؛ فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين، ومجموع الصفتين الأخريين، فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية، والاتية، وهو في جميعها ظاهر، وباطن، جامع للظهور بالأدلة، والخفاء، فلا يدرك بالحواس. وفي هذا حجة على من جوز إدراكه في الاخرة بالحاسة، أقول: وهذا يتمشى مع مذهبه في الاعتزال، ونحن نقول: رؤية الله ممكنة في الدنيا، والاخرة؛ لأنه موجود، وكل موجود ممكن أن يرى، ولكنه لم تقع في الدنيا، إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم، وأما في الاخرة، فإنها جائزة، بل وواقعة لجميع المؤمنين، والمؤمنات، كما ستقف عليه في سورة (القيامة) إن شاء الله تعالى.

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)}

الشرح: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ} أي: في ستة أوقات، أو في مقدار ستة أيام، فإن اليوم المتعارف عليه: زمان طلوع الشمس إلى غروبها، لم يكن حينئذ موجودا. وفي

ص: 483

خلق الأشياء مدرّجا مع القدرة على خلقها دفعة واحدة دليل للاختيار، واعتبار للنظار، وحث على التأني في الأمور. هذا؛ وما ذكر من أن الله ابتدأ الخلق يوم الأحد، وفرغ منه يوم الجمعة عصرا، فخلق الأرض في يومين: الأحد والاثنين، وخلق ما فيها في يومين: الثلاثاء، والأربعاء، وخلق السموات، وما فيها في يومين: الخميس، والجمعة، كل ذلك لم يثبت، وإن أسنده القرطبي في سورة (غافر) إلى عبد الله بن سلام-رضي الله عنه. ألا قاتل الله اليهود، فإنهم يقولون: استراح ربنا يوم السبت، فلذا اختاروه للراحة والعبادة، ولذا رد الله عليهم بقوله في سورة (ق) الاية رقم [38]:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ} .

{ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ:} استولى، ولا يجوز تفسيره باستقر، وثبت، فيكون الله من صفات الحوادث، وهذا التأويل ينبغي أن يقال في كل ما يوهم وصفا، لا يليق به تعالى. والقول الفصل قول علي بن أبي طالب-رضي الله عنه: الاستواء غير مجهول، والتكييف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ لأنه تعالى كان، فهو على ما كان قبل خلق المكان لم يتغير عما كان. والمنقول عن جعفر الصادق، والحسن البصري، وأبي حنيفة، ومالك-رضي الله عنهم-أجمعين يشبه ذلك. هذا؛ وهناك من يقول: استوى استواء يليق به، وهو قول السلف.

هذا؛ و (استوى) في سورة (القصص) رقم [14] بمعنى بلوغ أربعين عاما.

أما {الْعَرْشِ} فقد قال الراغب في كتابه: (مفردات القرآن): وعرش الله-عز وجل-مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم، لا بالحقيقة، وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة، فإنه لو كان كذلك؛ لكان حاملا له، تعالى الله عن ذلك. انتهى. خازن. وقد قال سليمان الجمل: وأما المراد به هنا؛ فهو الجسم النوراني المرتفع عن كل الأجسام المحيط بكلها، وانظر ما ذكرته في آية الكرسي رقم [254] من سورة (البقرة).

هذا؛ وذكر الله-عز وجل-في هذه الاية وغيرها من آثار قدرته، ودلائل عظمته خلق السموات، والأرض، وخصهما بالذكر هنا، وفي كثير من الايات؛ لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد، وجمع السموات دون الأرض، وهي مثلهن؛ لأن طبقاتها مختلفة بالذات، متفاوتة بالصفات، والاثار والحركات، وقدمها لشرفها، وعلو مكانها، وتقدم وجودها، ولأنها متعبد الملائكة، ولم يقع فيها معصية كما في الأرض، وأيضا: لأنها كالذّكر، فنزول المطر من السماء على الأرض، كنزول المني من الذكر في المرأة؛ لأن الأرض تنبت، وتخضر بالمطر.

{يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} أي: يدخل في الأرض من المطر، والكنوز، والأموات، والدفائن.

{وَما يَخْرُجُ مِنْها} أي: من النبات، والشجر، والعيون، والمعادن، والأموات؛ إذا بعثوا يوم القيامة. {وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ} أي: من المطر، والثلج، والبرد، والصواعق، والأرزاق، والمقادير، والبركات، والملائكة، والكتب التي أنزلها على الرسل. {وَما يَعْرُجُ فِيها} أي: يصعد

ص: 484

في السماء من الملائكة، وأعمال العباد، والأبخرة، والأدخنة، والغبار وغير ذلك. هذا؛ و (يلج) أصله: يولج، وماضيه ولج، فحذفت الواو من مضارع المتكلم، والمخاطب قياسا عليه، والمصدر: الولوج؛ وهذا من الثلاثي وانظره من الرباعي في الاية رقم [6].

هذا؛ و {السَّماءِ} يذكر، ويؤنث. والسماء: كل ما علاك، فأظلك، ومنه قيل لسقف البيت:

سماء. والسماء: المطر. يقال: ما زلنا نطأ السماء؛ حتى أتيناكم. قال معاوية بن مالك: [الوافر] إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

أراد بالسماء المطر، ثم أعاد الضمير عليه في رعيناه بمعنى النبات، وهذا يسمى في فن البديع بالاستخدام. وأصل «سماء»: سماو، فيقال في إعلاله: تحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ولم يعتد بالألف الزائدة لأنها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة، والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية همزة.

{وَهُوَ مَعَكُمْ} أي: بالعلم، والقدرة فليس أحد ينفك من تعليق علم الله تعالى وقدرته به أينما كان من أرض، أو سماء، برا، أو بحرا. وقيل: هو معكم بالحفظ، والحراسة. {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: رقيب عليكم، عالم بأعمالكم، حيث كنتم في ليل، أو نهار، في البيوت، أو في القفار، الجميع في علمه سواء، فيسمع كلامكم، ويرى مكانكم، ويعلم سركم، ونجواكم.

قال تعالى في سورة (الرعد) رقم [11]: {سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ} فلا إله غيره، ولا رب سواه. وقد ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام لما سأله عن الإحسان: «أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . وفي الحديث قال رجل: يا رسول الله! ما تزكية المرء نفسه؟ فقال: «يعلم أن الله معه حيث كان» . أخرجه أبو نعيم من حديث عبد الله العامري مرفوعا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أفضل الإيمان أن تعلم: أنّ الله معك حيثما كنت» . أخرجه أبو نعيم عن عبادة بن الصامت، وكان الإمام أحمد-رحمه الله تعالى-ينشد هذين البيتين:[الطويل] إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل

خلوت ولكن قل عليّ رقيب

ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة

ولا أنّ ما تخفي عليه يغيب

هذا؛ والفعل {يَعْلَمُ} من المعرفة، لا من العلم اليقيني، والفرق بينهما: أن المعرفة تكتفي بمفعول واحد. قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز] لعلم عرفان وظنّ تهمه

تعدية لواحد ملتزمه

بخلافه من العلم اليقيني، فإنه ينصب مفعولين، أصلهما مبتدأ، وخبر، وأيضا: فالمعرفة تستدعي سبق جهل، وأن متعلقها الذوات دون النسب بخلاف العلم فإن متعلقه المعاني

ص: 485

والنسب، وتفصيل ذلك: أنك إذا قلت: عرفت زيدا، فالمعنى أنك عرفت ذاته، ولم ترد أنك عرفت وصفا من أوصافه، فإذا أردت هذا المعنى لم يتجاوز مفعولا؛ لأن العلم، والمعرفة تناول الشيء نفسه، ولم يقصد إلى غير ذلك. وإذا قلت: علمت زيدا قائما؛ لم يكن المقصود أن العلم تناول نفس زيد فحسب، وإنما المعنى: أن العلم تناول كون زيد موصوفا بهذه الصفة.

الإعراب: {هُوَ:} مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {خَلَقَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {السَّماواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنها ملحق بجمع المؤنث السالم.

{وَالْأَرْضَ:} الواو: حرف عطف. (الأرض): معطوف على ما قبله. {فِي سِتَّةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {سِتَّةِ} مضاف، و {أَيّامٍ} مضاف إليه، {ثُمَّ:} حرف عطف. {اِسْتَوى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى (الذي) أيضا، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {عَلَى الْعَرْشِ:} متعلقان بما قبلهما.

{يَعْلَمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} أيضا، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل {اِسْتَوى} المستتر، والرابط: الضمير فقط، أو هي مستأنفة، لا محل لها. {ما:}

اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {يَلِجُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {ما،} وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة {ما،} أو صفتها. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَما يَخْرُجُ مِنْها:} إعرابها مثل سابقتها، وهي معطوفة عليها، وكذلك {وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها} الجملتان معطوفتان على ما قبلهما.

{وَهُوَ:} (الواو): واو الحال. (هو): مبتدأ. {مَعَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، التقدير: وهو شاهد معكم، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل {يَعْرُجُ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها. {أَيْنَ ما:} اسم شرط جازم مبني على السكون، ويقال: مبني على الفتح. و {ما:} صلة في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بمحذوف خبر (كان) مقدم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير:

أينما كنتم فالله معكم، والجملة الشرطية مستأنفة، أو في محل نصب حال من فاعل {يَعْرُجُ} .

{وَاللهُ:} (الواو): حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {بَصِيرٌ} بعدهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والرابط، أو العائد محذوف، التقدير:

بالذي، أو بشيء تعملونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بعملكم. {بَصِيرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

ص: 486

{لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5)}

الشرح: {لَهُ مُلْكُ..} . إلخ: هذا التكرير للتأكيد؛ أي: هو المعبود على الحقيقة. وقال البيضاوي: ذكره مع الإعادة، كما ذكره مع الإبداء؛ لأنه كالمقدمة لهما. انتهى. ويعني بالإعادة: الرجوع إلى الله، ويعني بالإبداء: الإحياء، والإماتة. {وَإِلَى اللهِ..}. إلخ: أي: إليه المرجع، والماب يوم القيامة، فيحكم في خلقه بما يشاء. قال تعالى في سورة (الليل):{وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى} وقال جل ذكره، وتعالى شأنه في سورة (النجم):{فَلِلّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى} .

هذا؛ والفعل رجع يكون متعديا، ويكون لازما، فمن الأول قوله تعالى في سورة (التوبة):

{فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ} الاية رقم [83]. وهو بمعنى ردك، ومن الثاني قوله تعالى في سورة (التوبة) أيضا:{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} الاية رقم [94] وهو بمعنى عدتم إليهم، هذا؛ والفعل:{تُرْجَعُ} يقرأ بالبناء للمجهول، فيكون من المتعدي، ويقرأ بالبناء للمعلوم فيكون من اللازم.

الإعراب: {لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مُلْكُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، و {مُلْكُ} مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه. {وَالْأَرْضِ:} الواو: حرف عطف. (الأرض): معطوف على ما قبله. {وَإِلَى:} (الواو): حرف عطف. (إلى الله): جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، والتقديم يفيد الاختصاص. {تُرْجَعُ:} فعل مضارع. {الْأُمُورُ:}

فاعل، أو نائب فاعل حسب ما رأيت في الشرح، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، لا محل لها.

{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)}

الشرح: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ..} . إلخ: يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل؛ أي: يزيد من هذا في ذلك، ومن ذلك في هذا، أو بسبب أنه خالق الليل، والنهار، ومصرفهما، فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير، والشر. وقيل: المراد بالإيلاج: أنه سبحانه وتعالى يجعل ظلمة الليل مكان ضياء النهار، وذلك بغيبوبة الشمس، ويجعل ضياء النهار مكان ظلمة الليل بطلوع الشمس. أو المراد بإيلاج الليل في النهار، وبالعكس بأن يزيد كل منهما بما نقص من الاخر، كما هو ظاهر في طول الليل، وقصره تبعا لفصول السنة. قال تعالى في سورة (النور) الاية رقم [24]:{يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ} . هذا؛ وفي الاية ردّ العجز على الصدر، وهو من المحسنات البديعية. هذا؛ و {يُولِجُ} من: أولج الرباعي، أصله: يؤولج، حذفت الهمزة منه حملا على المبدوء بالهمزة:«أؤولج» للتخفيف، ومصدره:

الإيلاج. وانظره من الثلاثي في الاية رقم [4].

ص: 487

هذا؛ و (ذات) بمعنى صاحبة، فجعلت صاحبة الصدور لملازمتها لها، وعدم انفكاكها عنها، نحو قوله تعالى:{أَصْحابُ الْجَنَّةِ،} {أَصْحابُ النّارِ} . هذا؛ و (ذات) مؤنث: ذو، الذي بمعنى:

صاحب. قال تعالى في سورة (الذاريات): {وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ} وقد يثنّى على لفظه، فيقال: ذاتا، أو ذاتي، كذا من غير رد لام الكلمة، وهو القياس، كما يثنى «ذو» ب:«ذوا» ، أو «ذوي» على لفظه، ويجوز فيها «ذواتا» على الأصل برد لام الكلمة، وهي الياء ألفا لتحرك العين، وهي الواو قبلها، وهو الكثير في الاستعمال؛ لأن أصلها:«ذوية» فالواو عين الكلمة، والياء لامها، والتاء للتأنيث؛ لأنه مؤنث «ذو» ، وذو أصله ذوي، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار:

«ذوات» ثم حذفت الواو تخفيفا، وإنما قلبت الياء ألفا دون الواو مع أن كلا منهما متحرك، وما قبله منفتح؛ لأنها طرف، والطرف محل التغيير، وإنما لم ترد هذه الألف في التثنية إلى الياء، فيقال: ذويتان؛ لأنه لما زيدت التاء في هذا اللفظ، تحصنت الألف من الرد إلى الياء. انتهى.

جملا نقلا عن كرخي. وفي تثنيته وجهان: تارة ينظر للفظه الان، فيقال: ذاتان، وتارة ينظر له قبل حذف الواو، فيقال: ذواتان، فقوله تعالى في سورة (سبأ) رقم [16]:{ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} وفي سورة (الرحمن) رقم [48]: {ذَواتا أَفْنانٍ} جاء على الأصل برد لام الكلمة.

هذا؛ والتاء في (ذات) لتأنيث اللفظ، مثل تاء ثمّت، وربّت، ولات، ولكنها تعرب بالحركات الظاهرة على التاء، فالجر كما في الاية الكريمة، ومثلها كثير، والرفع جاء في قوله تعالى في سورة (الرحمن) رقم [11]:{فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ} والنصب جاء في قوله تعالى: {سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ} سورة (تبت) وكلها معانيها في القرآن صاحبة إلا في موضعين، فإنها جاءت بمعنى الجهة، وذلك في قوله تعالى في سورة (الكهف):{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ} وقد رأيت تثنيتها في الايتين المذكورتين في حالتي النصب والجر، ولم ترد في القرآن بمعنى الجمع. هذا؛ ولم يتعرض النحويون لها بهذا المعنى، مع كثرة تعرضهم ل:«ذي» بمعنى صاحب، وتثنيته، وجمعه، ولكنهم ذكروا «ذات» بمعنى: التي، و «ذوات» بمعنى: اللواتي، وذلك في مبحث الاسم الموصول. قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته:[الرجز] وكالّتي أيضا لديهم ذات

وموضع اللاتي أتى ذوات

قال الأشموني: أي عند طيئ ألحقوا ب: «ذو» تاء التأنيث مع بقاء البناء على الضم، حكى الفراء:(بالفضل ذو فضّلكم الله به، والكرامة ذات أكرمكم الله به). وقريب منه لابن هشام في أوضحه، وكلاهما أورد بيت رؤبة شاهدا لذلك:[الرجز] جمعتها من أينق موارق

ذوات ينهضن بغير سائق

والفرق بين الأولى، والثانية: الأولى لا تكون إلا مضافة لما بعدها، كما رأيت، بخلاف الثانية، فإنها لا تضاف؛ لأنها معرفة بالصلة؛ التي تذكر بعدها، كما رأيت في بيت رؤبة. تنبه لهذا؛ وافهمه، فإنه معنى دقيق، واسأل الله لي المزيد من التوفيق.

ص: 488

هذا؛ و {اللَّيْلَ} واحد بمعنى الجمع، واحده: ليلة، مثل: تمر، وتمرة. وقد جمع على ليال، فزادوا فيه الياء على غير قياس، ونظيره: أهل، وأهال. والليل الشرعي: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق، وهو أحد قولين في اللغة، والقول الاخر: من غروبها إلى طلوعها. هذا؛ و {النَّهارِ} ضد الليل، وهو لا يجمع كما لا يجمع العذاب، والسراب، فإن جمعته قلت في الكثير: نهر بضمتين، كسحاب، وسحب، وأنشد ابن كيسان:[الرجز] لولا الثّريدان لمتنا في الضّمر

ثريد ليل، وثريد بالنّهر

وفي القليل: أنهر، والنهار من طلوع الفجر الصادق، أو من طلوع الشمس على ما تقدم في نهاية الليل إلى غروب الشمس، وقد يطلق عليهما اسم اليوم، كما رأيت في الاية رقم [8] من سورة (القمر). هذا؛ والليل يطلق على الحبارى، أو على فرخها وفرخ الكروان، والنهار يطلق على فرخ القطا. انتهى. قاموس. وقد ألغز بعضهم بقوله:[الوافر] إذا شهر الصّيام إليك وافى

فكل ما شئت ليلا أو نهارا

كما ألغز بعضهم في قصب السكر حيث قال: [الطويل] مهفهفة الأعطاف عذب مذاقها

تفوق القنا لكن بغير سنان

ويأخذ كلّ الناس منها منافعا

وتؤكل قبل العصر في رمضان

هذا؛ والنسبة إلى الليل: ليليّ، والنسبة إلى النهار: نهاريّ، كما تجيء النسبة إليه على صفة فعل، فتستعمل للنسب، ويستغنى بها عن يائه، فيقال: نهر، ومنه قول الشاعر، وهو من شواهد ابن عقيل على ألفية ابن مالك-رحمه الله تعالى-:[الرجز] لست بليليّ ولكنّي نهر

لا أدلج الليل ولكن أبتكر

هذا؛ ويطلق على الليل والنهار اسم الجديدين. قالت الخنساء-رضي الله عنها: [البسيط] إنّ الجديدين في طول اختلافهما

لا يفسدان ولكن يفسد النّاس

الإعراب: {يُولِجُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، {اللَّيْلَ:} مفعول به. {فِي النَّهارِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من لفظ الجلالة؛ فلست مفندا، ويكون الرابط: الضمير فقط، والتي بعدها معطوفة عليها. {وَهُوَ:} (الواو): واو الحال. (هو): مبتدأ. {عَلِيمٌ:} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل {يُولِجُ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها. {بِذاتِ:} متعلقان ب: {عَلِيمٌ} . و (ذات) مضاف، و {الصُّدُورِ} مضاف إليه.

ص: 489

{آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)}

الشرح: {آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ} أي: صدقوا، وأيقنوا، واعتقدوا: أن الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. هذا؛ وبعد أن ذكر الله أنواعا من الدلائل الدالة على توحيده، وعلمه، وقدرته؛ خاطب كفار قريش، وغيرهم بهذا الأمر الصريح، كما أمرهم بالإقلال من الدنيا، والإعراض عنها، وأمرهم بإنفاق المال في وجوه الخير، وهو قوله تعالى:{وَأَنْفِقُوا مِمّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} يعني: أن الأموال التي في أيديكم، إنما هي أموال الله بخلقه، وإنشائه لها، وإنما موّلكم إياها للاستمتاع بها، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فليست هي بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء، والنواب، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى، وليهن عليكم الإنفاق منها، كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره؛ إذا أذن له فيه. أو جعلكم مستخلفين ممن قبلكم فيما في أيديكم بتوريثه إياكم، وسينقله منكم إلى من بعدكم، فاعتبروا بحالهم، ولا تبخلوا، فلعل وارثك يطيع الله فيه، فيكون أسعد بما ينعم الله به عليك منك، أو يعصي الله فيه، فتكون قد سعيت في معاونته على الإثم والعدوان.

فعن عبد الله بن الشخير-رضي الله عنه-قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ:{أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ} ثم قال: «يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأمضيت؟» رواه مسلم، والترمذي، والنسائي. وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيّكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله» . قالوا: يا رسول الله ما منّا أحد إلاّ ماله أحبّ إليه. قال: «فإن ماله ما قدّم، ومال وارثه ما أخّر» . رواه البخاري، ورحم الله من يقول:[الطويل] ألا إن مالي الّذي أنا منفق

وليس لي المال الذي أنا تارك

إذا كنت ذا مال فبادر به التي

تخشى وإلاّ استهلكته الهوالك

{فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ:} ترغيب في الإيمان، والإنفاق في وجوه الخير.

والأجر الكبير: هو الجنة، وما فيها من النعيم المقيم، والخير العميم. وفي هذا الوعد مبالغات كثيرة: جعل الجملة اسمية، وهي تدل على الثبوت، والاستمرار، وإعادة ذكر الإيمان، والإنفاق، وبناء الحكم على الضمير، وتنكير الأجر، ووصفه بالكبر.

تنبيه: قال الجلال: نزلت الاية في غزوة العسرة، وهي غزوة تبوك، ثم قال: قوله تعالى:

{فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا..} . إلخ إشارة إلى عثمان-رضي الله عنه. قال الجمل معلقا: فإنه

ص: 490

جهز في غزوة العسرة ثلاثمئة بعير بأقتابها، وأحلاسها، وأحمالها، وجاء بألف دينار، وضعها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. أقول: لم يذكر أحد هنا هذا غير الجلال، مع العلم: أن غزوة تبوك قد فصلت في سورة (التوبة) تفصيلا كافيا، وذكرت هناك ما تبرع به عثمان-رضي الله عنه، وما أثنى به النبي صلى الله عليه وسلم فانظره هناك؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {آمِنُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{بِاللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، {وَرَسُولِهِ:} الواو: حرف عطف. (رسوله): معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَأَنْفِقُوا:} معطوف على ما قبله، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، الأولى بالابتداء، والثانية بالإتباع. {مِمّا:}

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا بفي.

{جَعَلَكُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله)، والكاف مفعول به أول. {مُسْتَخْلَفِينَ:}

مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان ب:

{مُسْتَخْلَفِينَ،} ونائب فاعله مستتر فيه. {فَالَّذِينَ:} الفاء: حرف استئناف، أو حرف تعليل.

(الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {آمِنُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْكُمْ:}

جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و (من) بيان للموصول. {وَأَنْفِقُوا:} الواو: حرف عطف. (أنفقوا): معطوف على ما قبله، والواو فاعله.

{لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَجْرٌ:} مبتدأ مؤخر. {كَبِيرٌ:} صفة {أَجْرٌ،} والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: (الذين

) إلخ مستأنفة، أو تعليل للأمر، لا محل لها.

{وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)}

الشرح: {وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ} أي: أيّ عذر لكم في ترك الإيمان بالله، والرسول بين أظهركم يدعوكم إليه، وينبهكم عليه، ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالحق، والبرهان، والحجج على صحة ما جاءكم به.

وقد روي في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه: «أيّ المؤمنين أعجب إليكم إيمانا؟» . قالوا: الملائكة. قال: «وما لهم لا يؤمنون، وهم عند ربّهم؟!» . قالوا: فالأنبياء.

ص: 491

قال: «وما لهم لا يؤمنون، والوحي ينزل عليهم؟!» . قالوا: فنحن. قال: «وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟! ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم، يجدون صحفا يؤمنون بها» . قال الصابوني: أخرجه البخاري في كتاب الإيمان. ولم أجده في التجريد الصحيح.

وأقول: ولا سيما في أيام الصبر التي ذكرت في الحديث الذي خرجه ابن ماجه، والترمذي، وأبو داود عن أبي ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«فإنّ من ورائكم أيّام الصّبر، الصّبر فيهنّ مثل القبض على الجمر، للعامل فيهنّ مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله» . قيل: يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا، أو منهم؟ قال:«بل أجر خمسين منكم» .

{وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ:} قال مجاهد-رحمه الله تعالى-: هو الميثاق الأول الذي كان، وهم في ظهر آدم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه. أقول: هو ما ذكر في سورة (الأعراف) الاية رقم [171] قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ} . وقيل: {أَخَذَ مِيثاقَكُمْ:} حيث ركب فيكم العقول، ونصب لكم الأدلة، والبراهين، والحجج؛ التي تدعو إلى متابعة الرسول. هذا؛ وميثاق أصله: موثاق، قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة قبلها.

{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: بالحجج، والدلائل، والبراهين. وقيل: المعنى: إن كنتم مؤمنين بحق يوما من الأيام؛ فالان أحرى الأوقات أن تؤمنوا؛ لقيام الحجج، والأعلام ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فقد صحت براهينه. وقيل: إن كنتم مؤمنين بالله خالقكم. وكانوا يعترفون بهذا؛ ولكنهم يجعلون له شريكا: الحجارة، والأوثان. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَما:} (الواو): حرف استئناف. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {لا:} نافية. {تُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط: الضمير فقط، والعامل في الحال (ما) لما فيها من معنى الفعل، وهو:

أستفهم. {وَالرَّسُولُ:} الواو: واو الحال. (الرسول): مبتدأ.

{يَدْعُوكُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل يعود إلى (الرسول)، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، فهي حال متداخلة، والرابط: الواو، والضمير.

{لِتُؤْمِنُوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، التقدير: يدعوكم للإيمان. {بِرَبِّكُمْ:} جار ومجرور متعلقان

ص: 492

بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{وَقَدْ:} (الواو): واو الحال. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَخَذَ:}

فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {مِيثاقَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وهي حال متداخلة. {إِنْ:} حرف بمعنى «إذ» ، أو هي شرطية. {كُنْتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمها. {مُؤْمِنِينَ:} خبرها منصوب

إلخ، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إن) على اعتبارها بمعنى:«إذ» ، ولا محل لها على اعتبار (إن) حرف شرط؛ لأنها ابتدائية، وعلى هذا فالجواب محذوف، التقدير: إن كنتم مؤمنين بحق يوما من الأيام؛ فالان أحرى الأوقات أن تؤمنوا لقيام الحجج، والأعلام

إلخ.

{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9)}

الشرح: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم بإجماع الأمة، والإضافة إضافة تشريف، وتعظيم، وتبجيل، وتفخيم، وتكريم. وذكر العبودية مقام عظيم، ولو كان للنبي صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه لسماه الله به، ولا سيما في ليلة الإسراء، والمعراج؛ حيث قال جل ذكره:{سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى..} . إلخ وفي معناه أنشدوا: [الرجز] يا قوم قلبي عند زهراء

يعرفه السامع والرّائي

لا تدعني إلاّ بيا عبدها

فإنه أشرف أسمائي

علما بأنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر باسمه الصريح في القرآن إلا قليلا، ذكر باسم محمد في سورة (آل عمران) وسورة (الأحزاب)، وسورة (محمد)، وسورة (الفتح)، وذكر باسم أحمد في سورة (الصف)، وذكر باسم طه في سورة (طه)، وذكر باسم ياسين في سورة (يس). هذا؛ والعبد:

الإنسان حرا كان، أو رقيقا، يجمع على: عبيد، وأعبد، وعبدان، وأعبدة، وغير ذلك. قال القشيري-رحمه الله تعالى-: لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية، ألزمه اسم العبودية تواضعا للأمة.

{آياتٍ بَيِّناتٍ} أي: حججا واضحات، ودلائل باهرات، وبراهين قاطعات. هذا؛ و {آياتٍ} جمع آية، وتطلق على معان كثيرة الدلالة على قدرة الله تعالى، كما في قوله تعالى في سورة (الروم):{وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ..} . إلخ، ومثلها كثير، وتطلق على المعجزة

ص: 493

الخارقة للعادة، مثل انشقاق القمر، ونحوه، وعصا موسى، ونحو ذلك. قال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ} وتطلق على الموعظة، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} كما تطلق على جملتين، أو أكثر من كلام الله تعالى، وعلى السورة بكاملها كما في مطلع سورة (النمل) و (الشعراء) ونحوهما.

{لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ:} جمع ظلمة، وقد جمعت باعتبار تعدد معانيها؛ إذ المراد ظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة المعاصي، وظلمة الشهوات. وفيها استعارة لا تخفى، وقال تعالى في المحسوس منها:{وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} سورة (الأنعام) رقم [1] فقد جمعت هنا؛ لأنها متعددة أيضا، وتختلف باختلاف الشيء الذي تكون فيه، مثل ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة المكان الذي يكون فيه الإنسان، فإن كل واحد منها يخالف صاحبه، ووحّد النور؛ لأنه نوع واحد لا يختلف. وقدم الظلمات في الذّكر بجميع معانيها على النور؛ لأنه نوع واحد لا يختلف، وقدم الظلمات؛ لأنها مخلوقة قبل النور، والظلمة بمعانيها المذكورة مستعارة من ظلمة الليل الحقيقية، والجامع بينهما عدم الاهتداء في كلّ منهما، كما أن النور بمعناه المتقدم، أو بمعنييه مستعار من نور النهار، أو من نور المصباح المضيء، والجامع بينهما: الاهتداء في كلّ منهما. {وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ:} حيث هيأ لكم أسباب الاستدلال، وفتح عليكم أبواب المنافع، ودفع عنكم أنواع المضار. هذا؛ والرأفة: أشد الرحمة، و (رؤوف) صيغة مبالغة، فالله أرأف بعباده المؤمنين من الوالدة بولدها.

هذا؛ و {اللهَ} علم على الذات الواجب الوجود، المستحق لجميع المحامد، وهو اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به؛ أجاب، وإذا سئل به أعطى. وإنما تتخلف الإجابة في بعض الأحيان عند الدعاء به لتخلف شروط الإجابة؛ التي أعظمها أكل الحلال. ولم يسم به أحد سواه. قال تعالى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي: هل أحد تسمى الله غير (الله)؟ وقد ذكر في القرآن الكريم في ألفين وثلاثمئة وستين موضعا.

الإعراب: {هُوَ الَّذِي:} مبتدأ، وخبر. {يُنَزِّلُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، والجملة الاسمية مستأنفة، أو مبتدأة لا محل لها.

{عَلى عَبْدِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة.

{آياتٍ:} مفعول به. {بَيِّناتٍ:} صفة {آياتٍ} منصوب، وعلامة نصبهما الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنهما جمعا مؤنث سالمان. {لِيُخْرِجَكُمْ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى {الَّذِي،} والكاف مفعول به، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {يُنَزِّلُ}. {مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ:} كلاهما متعلقان بالفعل قبلهما. {وَإِنَّ:} (الواو): واو الحال. (إنّ): حرف مشبه

ص: 494

بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {بِكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {لَرَؤُفٌ:} (اللام): هي المزحلقة. (رؤوف): خبر: (إنّ). {رَحِيمٌ:} خبر ثان، والجملة الاسمية في محل نصب حال من كاف المخاطب، والرابط: الواو، والضمير. وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها. وقيل:

الواو عاطفة. ولا وجه له.

{وَما لَكُمْ أَلاّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)}

الشرح: {وَما لَكُمْ أَلاّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} أي: أيّ شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله، وفيما يقربكم من ربكم، وأنتم تموتون، وتتركون أموالكم، وهي صائرة إلى الله تعالى؟! فمعنى الكلام التوبيخ على عدم الإنفاق، والخطاب للمؤمنين. {وَلِلّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي: إنهما راجعتان إلى الله بانقراض من فيهما كرجوع الميراث إلى المستحق له.

(لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقتل) أكثر المفسرين على: أن المراد بالفتح: فتح مكة. وقال الشعبي، والزهري: فتح الحديبية. قال قتادة-رحمه الله تعالى-: كان قتالان أحدهما أفضل من الاخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال، والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال، والنفقة بعد ذلك. وفي الكلام حذف، التقدير: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح، وقاتل، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فحذف لدلالة الكلام عليه. وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم؛ لأن حاجة الناس كانت أكثر لضعف الإسلام، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق، والأجر على قدر النّصب. والله أعلم.

{وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى} أي: المتقدمون المتناهون السابقون إلى القتال، والإنفاق في سبيل الله، والمتأخرون اللاحقون، وعدهم الله جميعا الحسنى، وهي الجنة مع تفاوت الدرجات. وما أشبه هذه الاية بآية (النساء) رقم [95] وهي قوله تعالى:{لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ..} . إلخ.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلّ خير

إلخ». أخرجه مسلم. وعنه أيضا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«سبق درهم مئة ألف درهم» . فقال رجل: يا رسول الله! وكيف ذلك؟ قال: «رجل له مال كثير، أخذ من عرضه مئة ألف درهم تصدّق بها، ورجل ليس له إلا درهمان، فأخذ أحدهما، فتصدّق به» . أخرجه النسائي.

ص: 495

{وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي: فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح، وقاتل، ومن فعل ذلك بعد الفتح، وما ذاك إلا لعلمه التام بقصد الأول، وإخلاصه في إنفاقه في حال الجهد، والقلة، والضيق. وينبغي أن تعلم: أن الفعل «يستوي» من الأفعال؛ التي لا يكتفى فيها بواحد، فلو قلت: استوى زيد لم يصح، فمن ثم لزم العطف على الفاعل، أو تعدده.

هذا؛ وقال الكلبي: نزلت الاية في أبي بكر الصديق-رضي الله عنه. ففيها دليل واضح على تفضيله، وتقديمه؛ لأنه أول من أسلم. وعن ابن مسعود-رضي الله عنه: أول من أظهر الإسلام بسيفه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر. ولأنه أول من أنفق على النبي صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عمر-رضي الله عنهما قال: «كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو بكر، وعليه عباءة قد خلّلها في صدره بخلال، فنزل جبريل عليه السلام، فقال: يا نبي الله! ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال؟! فقال:

«قد أنفق عليّ ماله قبل الفتح» . قال: فإن الله يقول لك: اقرأ على أبي بكر السّلام، وقل له:

أراض أنت في فقرك، أم ساخط؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا أبا بكر! إنّ الله عز وجل يقرأ عليك السّلام، ويقول: أراض في فقرك، أم ساخط؟» . فقال أبو بكر-رضي الله عنه-وأرضاه: أأسخط على ربي؟ إني عن ربي لراض! إني عن ربي لراض! إني عن ربي لراض! قال: «فإن الله يقول لك:

قد رضيت عنك، كما أنت عني راض!». فبكى أبو بكر-رضي الله عنه. فقال جبريل عليه السلام: والذي بعثك يا محمد بالحق، لقد تخللت حملة العرش بالعبي منذ تخلل صاحبك هذا بالعباءة». ولهذا قدمته الصحابة على أنفسهم، وأقروا له بالتقدم، والسبق.

وقال علي-رضي الله عنه وكرم الله وجهه-: «سبق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصلّى أبو بكر، وثلّث عمر، فلا أوتى برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد المفتري ثمانين جلدة، وطرح الشهادة» المصلي في السبق هو الثاني، وصلى؛ أي: ثنى، فنال المتقدمون من المشقة أكثر مما نال من بعدهم، وكانت بصائرهم أيضا أنفذ. انتهى. قرطبي. فويل للذين يبغضون أبا بكر! وويل، وويل للذين يشتمونه، ويسبونه!.

الإعراب: {وَما:} (الواو): حرف استئناف. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {أَلاّ:} (أن): حرف مصدري ونصب. (لا): نافية. {تُنْفِقُوا:} فعل مضارع منصوب ب: (أن)، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، ومفعوله محذوف؛ لأنه مفهوم من المقام. {فِي سَبِيلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، و (أن) والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: في عدم الإنفاق، أو من عدم. والجار والمجرور متعلقان ب:(ما) لتضمنها معنى الفعل: أستفهم. وقال أبو البقاء: متعلقان بالخبر المحذوف،

ص: 496

الذي تعلق به {لَكُمْ} وقيل: الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال. ولا وجه له قطعا. وقال أبو الحسن الأخفش: (أن) زائدة، والجملة في محل نصب حال، التقدير: وما لكم غير منفقين؟ مثل قوله تعالى في سورة (يوسف) حكاية عن قول أولاد يعقوب لأبيهم: {ما لَكَ لا تَأْمَنّا عَلى يُوسُفَ..} . إلخ فقد أعمل (أن) وهي زائدة. قال الجمل: وفي السمين: قوله: {أَلاّ تُنْفِقُوا} مثل قوله تعالى: {وَما لَنا أَلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ} الاية رقم [246] من سورة (البقرة)، فالأصل (في أن لا تنفقوا) فلما حذف حرف الجر جرى الخلاف المشهور. انتهى. ويعني الخلاف المشهور في محل المصدر المؤول من (أن) والفعل المضارع، أو المصدر المؤول من (أنّ) واسمها، وخبرها بعد نزع الخافض.

{وَلِلّهِ:} (الواو): واو الحال. (لله): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِيراثُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر الميمي لمفعوله، وفاعله محذوف.

{وَالْأَرْضِ:} الواو: حرف عطف. (الأرض): معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور:{لَكُمْ} وهو فحوى قول الجمل: حال من فاعل الاستقرار، أو من مفعوله، والرابط: الواو فقط. {أَلاّ:} نافية. {يَسْتَوِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من (من) تقدمت عليها، و {مَنْ} بيان لما أبهم فيها. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل {يَسْتَوِي،} والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.

{أَنْفَقَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مَنْ} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والمفعول محذوف، مثل سابقه. {مِنْ قَبْلِ:} متعلقان بما قبلهما، و {قَبْلِ} مضاف، و {الْفَتْحِ} مضاف إليه. {وَقاتَلَ:} الواو: حرف عطف. (قاتل): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها.

{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {أَعْظَمُ:} خبر المبتدأ، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. ولا تنس:

أنه روعي لفظ {مَنْ} في رجوع الفاعل إليها، حيث أفرد الضمير، وروعي معناها حيث جمع اسم الإشارة. {دَرَجَةً:} تمييز. {مِنَ الَّذِينَ:} متعلقان ب: {دَرَجَةً،} أو بمحذوف صفة لها، أو هما متعلقان بأعظم، وجملة:{أَنْفَقُوا} صلة الموصول، لا محل لها، والمفعول محذوف، {مِنْ بَعْدُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وبني {بَعْدُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، وجملة:{وَقاتَلُوا} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والمفعول محذوف أيضا.

{وَكُلاًّ:} (الواو): حرف استئناف. (كلاّ): مفعول به أول مقدم. {وَعَدَ:} فعل ماض.

{اللهِ:} فاعله. {الْحُسْنى:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف

ص: 497

للتعذر. هذا؛ ويقرأ برفع: «(كلّ)» على أنه مبتدأ؛ أي: كلّهم، والجملة الفعلية في محل رفع خبره، والرابط محذوف، التقدير: وعده الله الحسنى. والجملة سواء أكانت فعلية، أم اسمية مستأنفة، لا محل لها. واعتبارها معطوفة على ما قبلها ضعيف. {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} إعرابها مثل إعراب:{وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} بلا فارق بينهما.

{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)}

الشرح: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً:} إقراض الله مثل لتقديم العمل الصالح الذي يطلب به ثوابه. ففيه استعارة تصريحية تبعية؛ حيث شبه الإنفاق في سبيل الله بإقراضه. والجامع إعطاء شيء بعوض. ويقال: الاستعارة تمثيلية؛ حيث مثل لمن ينفق ماله ابتغاء مرضاة الله مخلصا في عمله بمن يقرض ربه قرضا واجب الوفاء به. ونقل الجمل عن القرطبي في سورة (البقرة) ما يلي: وطلب القرض في هذه الاية، وأمثالها لما هو تأنيس، وتقريب بما يفهمون، والله هو الغني الحميد، لكنه تعالى شبه إعطاء المؤمنين، وإنفاقهم في الدنيا؛ الذي يرجون ثوابه في الاخرة بالقرض، كما شبه إعطاء النفوس، والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء حسبما ذكر الله في قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ..} . إلخ الاية رقم [111] من سورة (التوبة). وكنى الله سبحانه وتعالى عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيبا في الصدقة، كما كنى عن المريض، والجائع، والعطشان بنفسه المقدسة عن النقائض والالام، ففي صحيح الحديث إخبارا عن الله تعالى يقول يوم القيامة: «يا بن آدم! مرضت فلم تعدني! يا بن آدم استطعمتك فلم تطعمني! يا بن آدم استسقيتك فلم تسقني! قال:

يا ربّ كيف أسقيك وأنت ربّ العالمين؟!. قال: استسقاك عبدي فلان، فلم تسقه، أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي». وكذا ما قبله، أخرجه البخاري ومسلم، وهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كنى عنه، ترغيبا لمن خوطب به. انتهى. من سورة (البقرة) بحروفه.

ومعنى {قَرْضاً حَسَناً} أي: مقرونا بالإخلاص وطيب النفس، مبتغى به وجه الله، والعرب تقول لكل من فعل فعلا حسنا: قد أقرض. قال لبيد-رضي الله عنه، ويستشهد به على مجيء «ليس» حرف عطف. انظر الشاهد رقم [551] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» . [الرمل] وإذا أقرضت قرضا فاجزه

إنّما يجزي الفتى ليس الجمل

فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه. قال: لما نزلت هذه الاية {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ} قال أبو الدحداح الأنصاري-رضي الله عنه: يا رسول الله! وإن الله تعالى ليريد منا القرض؟ قال: «نعم يا أبا الدّحداح» . قال: أرني يدك يا رسول الله! قال: فناوله يده. قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، وهو حائط فيه ستمئة نخلة، وأم الدحداح، فيه

ص: 498

وعيالها. قال: فجاء أبو الدحداح، فناداها يا أم الدحداح! قالت: لبيك! قال: اخرجي، فقد أقرضته ربي عز وجل، فقالت: ربح بيعك، وقرضك يا أبا الدحداح! ونقلت منه متاعها، وصبيانها إلى بستان لهم آخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح!» . وفي رواية: «ربّ نخلة مدلاّة عروقها من درّ وياقوت لأبي الدحداح في الجنة» .

هذا؛ وقال بعض العلماء: القرض لا يكون حسنا حتى تجتمع فيه أوصاف عشرة، وهي: أن يكون المال من الحلال. وأن يكون من أجود المال. وأن تتصدق به؛ وأنت محتاج إليه. وأن تصرف صدقتك إلى الأحوج إليها. وأن تكتم الصدقة ما أمكنك. وأن لا تتبعها بالمن، والأذى.

وأن لا ترائي بها الناس. وأن تستحقر ما تعطي، وتتصدق به؛ وإن كان كثيرا. وأن يكون من أحب أموالك إليك. وأن لا ترى عز نفسك؛ وذل الفقير. فهذه عشرة أوصاف إذا اجتمعت في الصدقة؛ كانت قرضا حسنا. انتهى. خازن. أقول: ولكل صفة دليل في القرآن، أو في السنة النبوية الشريفة، ولولا الإطالة؛ لبينات الدليل لكل صفة، فأسأل الله أن يوفق القارئ الكريم لاستنباطه مما ذكرت. والله ولي التوفيق.

{فَيُضاعِفَهُ لَهُ:} ما بين السبع إلى سبعمئة إلى ما شاء الحليم الكريم. وفي سورة (البقرة) رقم [244]: {فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً} وانظر الاية رقم [18] الاتية.

الإعراب: {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {ذَا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة {ذَا،} أو بدل منها. هذا؛ وجوز أن يكون (من ذا) اسما مركبا مبنيا على السكون في محل رفع مبتدأ، و {الَّذِي} خبره. {يُقْرِضُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {الَّذِي،} وهو العائد. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {قَرْضاً:}

مفعول مطلق. وقيل: مفعول به، وهو ضعيف. {حَسَناً:} صفة {قَرْضاً} . {فَيُضاعِفَهُ:} (الفاء):

للسببية. (يضاعفه): فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد الفاء، والفاعل يعود إلى {اللهَ} والهاء مفعول به. {اللهَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: من ذا الذي يحصل منه إقراض لله تعالى، فمضاعفة له. هذا؛ ويقرأ الفعل بالرفع، فتكون الجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: فهو يضاعفه، والجملة الاسمية مستأنفة على حد قوله تعالى:{كُنْ فَيَكُونُ} في كثير من الايات، وعلى هذين الوجهين يكون كل ما جاء بعد الفاء؛ إذا وقعت في جواب الأمر، والنهي، والدعاء، والتمني، والعرض، والترجي، والاستفهام؛ لأن كل ذلك طلب، والنفي بأنواعه أيضا. قال النابغة الذبياني:[الطويل] فلا زال قبر بين تبنى وجاسم

عليه من الوسميّ جود ووابل

ص: 499

فينبت حوذانا وعوفا منوّرا

سأتبعه من خير ما قال قائل

فيروى (فينبت) بالنصب والرفع، فالنصب بأن مضمرة بعد الفاء في جواب الدعاء، وذلك قوله:«فلا زال» والرفع على الاستئناف. (له): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{أَجْرٌ:} مبتدأ مؤخر. {كَرِيمٌ:} صفة {أَجْرٌ،} والجملة الاسمية معطوفة، أو مستأنفة، ولا محل لها على الاعتبارين. وقيل: في محل نصب حال، وهو وجه ضعيف. والجملة الاسمية:

{مَنْ ذَا الَّذِي..} . إلخ مستأنفة أيضا لا محل لها.

{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)}

الشرح: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ..} . إلخ: يخبر الله تعالى عن مصير المؤمنين المتصادقين المخلصين: أنهم يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم بحسب أعمالهم، كما قال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-في قوله تعالى:{يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} قال: على قدر أعمالهم حين يمرون على الصراط، فمنهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نورا من نوره في إبهامه يتقد مرة، ويطفأ مرة. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.

وقال الضحاك-رحمه الله تعالى-: ليس أحد إلا يعطى نورا يوم القيامة، فإذا انتهوا إلى الصراط؛ طفئ نور المنافقين، فإذا رأى ذلك المؤمنون؛ أشفقوا أن يطفأ نورهم، كما طفئ نور المنافقين، فيقولون في سورة (التحريم):{رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا} . {وَبِأَيْمانِهِمْ} أي: يسعى نورهم (بمعنى: يوجد) ويكون عن أيمانهم. وقيل: المعنى: وبأيمانهم كتبهم، كما قال تعالى:{فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ} والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يتأتى منه الرؤية.

{بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنّاتٌ..} . إلخ: أي: تقول لهم الملائكة: بشراكم اليوم دخول جنات، تجري من تحتها الأنهار؛ أي: من تحتهم، أو من تحت قصورهم أنهار اللبن، والماء، والخمر، والعسل.

{خالِدِينَ فِيها:} ماكثين فيها أبدا، لا يخرجون ولا يبرحون. {ذلِكَ:} الإشارة إلى ما تقدم من النور، والبشارة بالجنات المخلدة. {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي: النجاح، والفلاح العظيم، الذي لا يعدله شيء. هذا؛ وانظر شرح (الأنهار) المذكورة في الاية رقم [15] من سورة (محمد صلى الله عليه وسلم.

هذا؛ و {تَرَى} ماضيه: رأى، وقياس المضارع ترأي، وقد تركت العرب الهمز في مضارعه لكثرته في كلامهم، وربما احتاجت إلى همزه، فهمزته، كما في قول سراقة بن مرداس البارقي، وهو الشاهد رقم [504] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» . [الوافر] أري عينيّ ما لم ترأياه

كلانا عالم بالتّرّهات

ص: 500

وربما جاء ماضيه بغير همز، وبه قرأ نافع في:(أرأيتكم) و (أرأيت) أرايتكم، أرأيت، بدون همز، وقال الشاعر:[الخفيف] صاح هل ريت أو سمعت براع

ردّ في الضّرع ما قرى في الحلاب؟!

وإذا أمرت منه على الأصل، قلت: ارء، وعلى الحذف: ره بهاء السكت، وقل في إعلال ترى: أصله: ترأي، قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وحذفت الهمزة بعد إلقاء حركتها على الراء للتخفيف.

هذا؛ والإيمان الصحيح هو: الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، والعمل بالأركان. ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان. قال:«الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، والقدر خيره، وشرّه من الله تعالى» . والإيمان يزيد، وينقص على المعتمد، كما رأيت في الاية رقم [2] من سورة (الأنفال) وله شعب كثيرة، وهي سبع وسبعون شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق. وهو بفتح الهمزة جمع: يمين، وهو الحلف بالله، أو بصفة من صفاته، أو اسم من أسمائه. قال تعالى في سورة (البقرة) الاية رقم [224]:{وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ} واليمين أيضا اليد اليمنى، وتجمع أيضا على: أيمان كما في الايات الكثيرة، ولا يجمع إذا كان بالمعنى الأول؛ لأنه مصدر.

الإعراب: {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق ب: {كَرِيمٌ،} أو بمحذوف صفة ثانية ل: {أَجْرٌ،} أو هو متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر، أو هو مفعول به له، وهو أقوى. وقيل: متعلق بالفعل (يضاعفه)، أو بالفعل:{يَسْعى} وهذان ضعيفان، وأضعف منهما تعليقه بفعل محذوف. تقديره:

يؤجرون يوم، وقال ابن عطية: ويظهر لي: أن العامل فيه {ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . {تَرَى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {الْمُؤْمِنِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ. {وَالْمُؤْمِناتِ:} الواو: حرف عطف. (المؤمنات): معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {يَسْعى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {نُورُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ،} والرابط: الضمير فقط، والرؤية بصرية، وهذا على الوجه الأول في تعليق الظرف، وأما على تعليق الظرف به؛ فالجملة ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل (يسعى)، أو بمحذوف حال من (نورهم) التقدير: نورهم كائنا، و {بَيْنَ} مضاف، و {أَيْدِيهِمْ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَبِأَيْمانِهِمْ:} الواو:

حرف عطف. (بأيمانهم): معطوفان على ما قبلهما.

ص: 501

{بُشْراكُمُ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والكاف في محل جر بالإضافة. {الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلق ب: (بشرى)؛ لأنه مصدر. {جَنّاتٌ:} خبر المبتدأ، وهو على حذف المضاف، التقدير: بشراكم اليوم دخول جنات، وهذه الجملة في محل نصب مقول القول لقول محذوف: ويقال لهم: بشراكم. والجملة المقدرة معطوفة على جملة:

{تَرَى..} . إلخ فهي في محل جر مثلها. {تَجْرِي:} فعل مضارع. {مِنْ تَحْتِهَا:} متعلقان بالفعل قبلهما، (وها): في محل جر بالإضافة. {الْأَنْهارُ:} فاعل {تَجْرِي،} والجملة الفعلية في محل رفع صفة {جَنّاتٌ} . {خالِدِينَ:} حال من كاف الخطاب منصوب، وعلامة نصبه الياء، وفاعله مستتر فيه والعامل في الحال المضاف المحذوف، الذي رأيت تقديره. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان ب: {خالِدِينَ} .

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {هُوَ:} ضمير فصل لا محل له. {الْفَوْزُ:} خبر المبتدأ. {الْعَظِيمُ:} صفة له. هذا؛ وإن اعتبرت الضمير مبتدأ ثانيا و {الْفَوْزُ} خبره، فتكون الجملة الاسمية في محل رفع خبر {ذلِكَ،} والجملة الاسمية هذه مستأنفة، لا محل لها.

{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا اُنْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ اِرْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13)}

الشرح: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ:} انظر شرح (النفاق) في سورة (المنافقون) إن شاء الله تعالى. {اُنْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ:} بهمزة الوصل وضم الظاء من: نظر، والنظر: الانتظار؛ أي: انتظرونا. وقرئ بقطع الهمزة، وكسر الظاء من الإنظار؛ أي: أمهلونا، وأخرونا. هذا؛ وقال تعالى في سورة (البقرة) رقم [104]:{لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا} وقال في سورة (النساء) رقم [46]: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ} . هذا؛ ويقال: أنظرته أخرته، واستنظرته: أي: استمهلته. وقال الفراء: تقول العرب: أنظرني:

انتظرني، وأنشد لعمرو بن كلثوم رقم [28] من معلقته:[الوافر] أبا هند فلا تعجل علينا

وأنظرنا نخبّرك اليقينا

ومعنى {نَقْتَبِسْ} نستضيء. هذا؛ والقبس: الشعلة من النار، واقتبس منه أيضا نارا، وعلما؛ أي: استفاده. قيل: {اِرْجِعُوا وَراءَكُمْ:} يقول لهم ذلك المؤمنون، أو الملائكة الموكلون بهم استهزاء بهم: ارجعوا وراءكم من حيث جئتم. وقيل: ارجعوا إلى الدنيا، فاعملوا فيها أعمالا يجعلها الله لكم نورا. وقيل: معناه لا نور لكم عندنا، فارجعوا وراءكم. {فَالْتَمِسُوا نُوراً}

ص: 502

أي: اطلبوا لأنفسكم هناك نورا؛ أي: لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا، فيرجعون في طلب النور، فلا يجدون شيئا، فينصرفون إليهم ليلقوهم، فيميز بينهم، وبين المؤمنين، فذلك قوله تعالى:{فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ} أي: بين المؤمنين، والمنافقين. {بِسُورٍ:} وهو حائط عظيم بين الجنة، والنار. {لَهُ} أي: لذلك السور. {بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} أي: في باطن ذلك السور الرحمة، وهي الجنة. {وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ} أي: من جهة ذلك الظاهر العذاب، وهو النار، وبينهما مقابلة واضحة، وهي من المحسنات البديعية.

قيل: تغشى الناس ظلمة شديدة يوم القيامة، فيعطي الله المؤمنين نورا على قدر أعمالهم، كما رأيت فيما سبق، يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين أيضا نورا خديعة لهم، واستهزاء بهم، فبينما هم يمشون؛ إذ بعث الله ريحا، وظلمة. فأطفأت نور المنافقين، فذلك قوله تعالى في سورة (التحريم) رقم [8]:{يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا} مخافة أن يسلبوا نورهم، كما سلب نور المنافقين.

وقيل: بل يستضيئون بنور المؤمنين، ولا يعطون النور، فإذا سبقهم المؤمنون؛ بقوا في الظلمة، وقالوا للمؤمنين:{اُنْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} .

هذا؛ و (السور) حاجز بين الجنة والنار، فالجنة من جهة الباطن؛ أي: الداخل، والنار وما فيها من جهة الظاهر، وذكرت لك في سورة (فصلت) رقم [40]: أن من الإلحاد في القرآن ما يدعيه الباطنيون الملحدون، فإنهم يقولون: القرآن فيه ظاهر وباطن، وإن الظاهر غير مراد أصلا، وإنما المراد الباطن، ويستدلون بهذه الاية! وقصدهم من وراء ذلك نفي الشريعة، وإبطال الأحكام، وهذا بلا شك إلحاد في الدين.

الإعراب: {يَوْمَ:} بدل من: {يَوْمَ تَرَى} وقيل: منصوب ب: «اذكر» محذوفا. {يَقُولُ:} فعل مضارع. {الْمُنافِقُونَ:} فاعل مرفوع. {وَالْمُنافِقاتُ:} الواو: حرف عطف. (المنافقات): معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل {يَقُولُ،} وجملة: {آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {اُنْظُرُونا:}

فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، (ونا): مفعول به. {نَقْتَبِسْ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«نحن» . {مِنْ نُورِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، والكلام:{اُنْظُرُونا} في محل نصب مقول القول.

{قِيلَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {اِرْجِعُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {وَراءَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع نائب فاعله. وهذا على رأي من يجيز وقوع الجملة فاعلا، أو نائب فاعل، ويكون جاريا على القاعدة:«يحذف الفاعل ويقام المفعول به مقامه» .

ص: 503

وقيل: نائب الفاعل مستتر تقديره: «هو» ، يعود إلى مصدر الفعل. وقيل: نائب الفاعل الجار والمجرور المقدران بعد الفعل. {فَالْتَمِسُوا:} (الفاء): حرف عطف. (التمسوا): فعل أمر

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{اِرْجِعُوا وَراءَكُمْ} .

{نُوراً:} مفعول به، وجملة:{قِيلَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَضُرِبَ:} (الفاء): حرف عطف. (ضرب): ماض مبني للمجهول. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِسُورٍ:} (الباء): حرف جر صلة. (سور):

نائب فاعل (ضرب) مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. وقيل: الباء حرف جر أصلي، والجار والمجرور في محل رفع نائب فاعل. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها من كلام، انظر تقديره في الشرح. {لَهُ:}

جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {بابٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل جر صفة (سور). {باطِنُهُ:} مبتدأ. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الرَّحْمَةُ:}

مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} في محل رفع صفة {بابٌ،} أو في محل جر صفة (سور) والتي بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق بينهما.

{يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَاِرْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (14)}

الشرح: {يُنادُونَهُمْ:} ينادي المنافقون المؤمنين من وراء ذلك السور حين حجز بينهم، وبقوا في الظلمة. {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} أي: في الدنيا نصلي كما تصلون، ونصوم كما تصومون، ونغزو كما تغزون

إلخ {قالُوا بَلى} أي: أجاب المؤمنون المنافقين قائلين: بلى قد كنتم معنا. {وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ:} أهلكتموها بالنفاق والكفر، واستعملتموها في المعاصي، والشهوات، وكلها فتنة. {وَتَرَبَّصْتُمْ} أي: ترقبتم بالنبي صلى الله عليه وسلم الموت، وبالمؤمنين الدوائر، وقلتم:

يوشك أن يموت الرسول صلى الله عليه وسلم، فنستريح منه، وعندئذ ننقض على المسلمين، ونقضي عليهم.

{وَارْتَبْتُمْ:} شككتم في نبوته، وفيما أوعدكم من الحساب، والعقاب، والجزاء، والجنة، والنار

إلخ. {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ} أي: الأباطيل، وذلك ما كنتم تتمنون من هلاك النبي صلى الله عليه وسلم، ونزول الدوائر بالمؤمنين، ومن الأماني الباطلة: الطمع في المغفرة من غير عمل صالح. والله يقول في حديث قدسي: «كيف أجود بجنتي على من بخل عليّ بطاعتي؟!» . {حَتّى جاءَ أَمْرُ اللهِ:}

المعنى ما زلتم في هذه الأماني حتى جاءكم الموت، وحل ما حل بكم من المقت والسخط والوبال. {وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ} يعني: الشيطان. قال قتادة: ما زالوا على خدعة من الشيطان حتى

ص: 504

قذفهم في النار. هذا؛ وغرور الشيطان لهم هو ما كان يعدهم به؛ حيث يقول لهم: إن الله كريم حليم لا يعذبكم، إن الله غفور رحيم، وماذا عسى أن تكون ذنوبكم عنده، وهو عظيم، ومحسن، وحليم، فلا يزال بالإنسان؛ حتى يوقعه في شر أعماله.

هذا؛ وبلى حرف إثبات لما ادعوه من كونهم كانوا مع المؤمنين في الدنيا، وهي حرف جواب ك:«نعم، وجير، وأجل، وإي» إلا أن بلى جواب لنفي متقدم؛ أي: إبطال، ونقض، وإيجاب له، سواء دخله الاستفهام، أم لا؟ فتكون إيجابا له، نحو قول القائل: ما قام زيد.

فتقول: بلى. أي قد قام. وقوله: أليس زيد قائما؟ فتقول: بلى. أي: هو قائم. قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [171]: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لو قالوا: نعم لكفروا.

الإعراب: {يُنادُونَهُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير في {بَيْنَهُمْ،} أو هي مستأنفة، وهذا الاستئناف مبني على سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا يفعلون بعد ضرب السور، ومشاهدة العذاب، فقيل: ينادونهم. {أَلَمْ:} (الهمزة): حرف استفهام وتقرير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.

{نَكُنْ:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب: (لم)، واسمه ضمير مستتر تقديره:«نحن» . {مَعَكُمْ:}

ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر {نَكُنْ،} والجملة مفسرة للنداء، أو هي في محل نصب مقول القول لقول واقع حالا، التقدير: قائلين لهم: ألم نكن معكم. {قالُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بَلى:} حرف جواب في محل نصب مقول القول.

{وَلكِنَّكُمْ:} الواو: حرف عطف. (لكنكم): حرف مشبه بالفعل، والكاف في محل نصب اسمها. {فَتَنْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لكن) والجملة الاسمية:

{وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ} معطوفة على (بلى) والكلام المقدر بعدها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا. {أَنْفُسَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة.

{وَتَرَبَّصْتُمْ:} فعل، وفاعل. {وَارْتَبْتُمْ:} الواو: حرف عطف. (ارتبتم): فعل، وفاعل، والجملتان معطوفتان على ما قبلهما، فهما في محل رفع مثلها، ومتعلق الأفعال الثلاثة محذوف، كما رأيت تقديره في الشرح. {وَغَرَّتْكُمُ:} الواو: حرف عطف. (غرتكم): فعل ماض، والتاء للتأنيث، والكاف مفعول به. {الْأَمانِيُّ:} فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا. {حَتّى:} حرف غاية، وجر بعدها «أن» مضمرة. {جاءَ:} فعل ماض. {أَمْرُ:}

فاعله، وهو مضاف، و (الله): مضاف إليه، و «أن» المضمرة بعد حتى، والفعل {جاءَ} في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل (غرتكم)، وبعضهم يعتبر حتى حرف ابتداء، والجملة الفعلية بعدها مستأنفة، والمعتمد الأول. وجملة:{وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا.

ص: 505

{فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)}

الشرح: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: ففي هذا اليوم العصيب، لا يقبل منكم بدل، ولا فداء، ولا عوض يا معشر المنافقين، ولا من الكافرين. ولم يؤنث الفعل {يُؤْخَذُ} لأن (فدية) مؤنث غير حقيقي، ولأنه قد فصل بينها، وبين الفعل بفاصل، وإنما عطف الكفار على المنافقين، وإن كان المنافق كافرا في الحقيقة؛ لأن المنافق أبطن الكفر، والكافر أظهره، فصار غير المنافق، فحسن عطفه على المنافق، وقدم المنافقين على الكافرين في هذه الاية وفي الاية الأخيرة من سورة (الأحزاب) وفي سورة (الفتح) رقم [6]؛ لأن المنافقين كانوا أشد على المؤمنين من المشركين؛ لأن الكافر يمكن الاحتراز منه، ويجاهد؛ لأنه عدو مبين، والمنافق لا يمكن أن يحترز منه، ولا يجاهد، فكان شره أكثر من شر المشرك، فكان أحق بالتقديم على المشرك. جاء في الحديث:«إن الله تعالى يقول للكافر: أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا، أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار؟ فيقول: نعم يا ربّ، فيقول الله تبارك وتعالى: قد سألتك ما هو أيسر عليك من ذلك، وأنت في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي، فأبيت إلاّ الشّرك» . وهذا الحديث ذكرته لك في سورة (آل عمران) برقم [91] مع اختلاف في بعض ألفاظه، وخرجه هناك الإمام مسلم عن أنس بن مالك-رضي الله عنه.

{مَأْواكُمُ النّارُ:} مقركم، ومصيركم. {هِيَ مَوْلاكُمْ:} وهي أولى بكم، لما أسلفتم من الكفر، والنفاق واجتراح السيئات. والمعنى: هي التي تلي أمركم؛ لأنها استولت عليكم، فلا محيص لكم عنها، ولا مخرج لكم منها. هذا؛ ولفظ (المولى) يطلق في الأصل على الإله المعبود بحق، ومن أسماء الله الحسنى: المولى، ويطلق على العبد، والسيد، والأمير، وابن العم، والحليف، والنصير، والمعين، والناصر. قال تعالى في آخر سورة (الحج) الاية رقم [78]:{فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} وقال تعالى في سورة (محمد صلى الله عليه وسلم رقم [11]: {ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ} .

كما يطلق على مولى العتاقة، والمحالفة، وكل منهما لا يكون متصل النسب في القبيلة، ولكنه لصيق بها. والموالي في نظر العرب من الخسة، والضعة بحيث لا يرونهم في مصافهم.

{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ:} بئس المقر، والمال نار جهنم لمن دخلها، وانظر الاية رقم [48] من سورة (الذاريات).

الإعراب: {فَالْيَوْمَ:} (الفاء): حرف عطف، أو حرف استئناف. وقيل: الفصيحة، ولا وجه له. (اليوم): ظرف زمان متعلق بما بعده. {لا:} نافية. {يُؤْخَذُ:} فعل مضارع مبني للمجهول،

ص: 506

{مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فِدْيَةٌ:} نائب فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها؛ إن كانت من قول المؤمنين للمنافقين، ومستأنفة؛ إن كانت من قول الله تعالى، أو من قول الملائكة للمنافقين. {وَلا:} (الواو): حرف عطف. (لا): نافية، ويقال: صلة لتأكيد النفي. {مِنَ الَّذِينَ:} جار ومجرور معطوفان على قوله: {مِنْكُمْ،} وجملة: {كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {مَأْواكُمُ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والكاف في محل جر بالإضافة. {النّارُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو هي معطوفة على ما قبلها، لا محل لها على الاعتبارين، والمخصوص بالذم محذوف، التقدير: هي النار.

{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16)}

الشرح: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ؟ أي يقرب ويحين. قال الشاعر: [الطويل] ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا

وأن يحدث الشّيب المبين لنا عقلا؟!

وماضيه: أنى، يأني مثل: رمى، يرمي، ويقال: آن لك أن تفعل كذا، يئين أينا؛ أي:

حان، مثل: أنى لك، وهو مقلوب منه، وأنشد ابن السكيت:[الطويل] ألمّا يئن لي أن تجلّى عمايتي

وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا

فجمع بين اللغتين: {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ:} والمعنى أما حان للمؤمنين أن ترق قلوبهم، وتلين قلوبهم لمواعظ الله. {وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} أي: ولما نزل من آيات القرآن المبين.

{وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ} يعني: اليهود، والنصارى، وذلك أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمعوا التوراة، والإنجيل؛ خشعوا لله، ورقت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان؛ غلبهم الجفاء، والقسوة، واختلفوا، وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف، والتزييف للتوراة، والإنجيل.

{فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} أي: الزمان الذي بينهم وبين أنبيائهم. {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ:} باتباع الشهوات، وارتكاب المعاصي؛ حتى صلبت، وصارت كالحجارة، أو أشد قسوة. قال تعالى مخاطبا لليهود اللؤماء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في سورة (البقرة) الاية رقم [74]:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ} . هذا؛ وقال تعالى في سورة

ص: 507

(المائدة) رقم [13]: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ} .

{وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ:} خارجون عن طاعة الله، مارقون من دينهم الحقيقي، رافضون لما في التوراة، والإنجيل؛ حيث تركوا اليهود الإيمان بعيسى، ومحمد، عليهما السلام، والنصارى تركوا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. فجملة المعنى من الاية الكريمة: أن الله تعالى نهى المؤمنين أن يكونوا في صحبة القرآن كاليهود والنصارى الذين قست قلوبهم لما طال عليهم الزمان بينهم وبين أنبيائهم. وانظر شرح (الفسق) في سورة (الذاريات)[46].

تنبيه: سبب نزول هذه الاية الكريمة: أن المهاجرين كانوا في مكة في ضيق شديد، وبلاء مزيد، فلما هاجروا إلى المدينة؛ استقبلهم أهلها، ورحبوا بهم، وأحسنوا ضيافتهم، حيث آخى الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بينهم، فجعل مع كل أنصاري مهاجرا يقوم بخدمته، ويساعده في معيشته، فكان الأنصاري يعطف على المهاجري عطف الوالد على ولده، والأخ على أخيه، والأم على ولدها، ويقسم ما يملكه من نخيل، وعقار قسمة شرعية، وكاد أحدهم يتنازل عن إحدى زوجتيه لأخيه المهاجر محبة دينية، ولذا مدح الله الأنصار بقوله:{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ..} . إلخ الاية رقم [9] من سورة (الحشر)، فبعد أن كان المهاجرون بمكة ضعفاء؛ أصبحوا في المدينة أقوياء، وبعد أن كانوا بمكة فقراء؛ أصبحوا في المدينة أغنياء؛ لأنهم تاجروا وعملوا، وغنموا من جهادهم غنائم كثيرة، وكسبوا مكاسب عظيمة عند ذلك ترك بعض المهاجرين قيام الليل، وصيام النهار، وغفلوا عن ذكر الله، فعاتبهم الله بهذه الاية الكريمة.

هذا؛ وذكر السيوطي في أسباب النزول: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ظهر فيهم المزاح، والضحك، فنزلت الاية في ذلك، ونقل أيضا عن السدي، عن القاسم؛ قال: ملّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة، فقالوا: يا رسول الله! حدثنا، فأنزل الله:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} الايات من أول سورة (يوسف)، ثم ملّوا ملة، فقالوا: حدثنا يا رسول الله فأنزل الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ. وأخرج ابن المبارك في الزهد قال: أنبأنا سفيان عن الأعمش قال: لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأصابوا من العيش ما أصابوا بعد ما كان فيهم من الجهد فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه، فنزلت:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ..} . إلخ.

تنبيه: هذه الاية كانت سبب توبة كثير من المسلمين، الذين كانوا تائهين عن الصراط المستقيم، فلما سمعوها عادوا إلى حظيرة الدين، وصاروا من عباد الله الصالحين المقربين أمثال الفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك، ومالك بن دينار، رحمهم الله تعالى، ولكل واحد منهم قصة في حكاية توبته، ورجوعه إلى ربه خالقه ورازقه، لا يتسع المقام هنا لذكرها.

هذا؛ و (القلب) قطعة صغيرة على هيئة الصّنوبرة، خلقها الله في الادمي، وجعلها محلا للعلم، فيحصي به العبد من العلوم ما لا يسع في أسفار. يكتبه الله بالخط الإلهي، ويضبطه فيه

ص: 508

بالحفظ الرباني، حتى يحصيه، ولا ينسى منه شيئا، وهو بين لمّتين، لمة من الملك، ولمة من الشيطان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، خرجه الترمذي عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه. وقد مضى في الاية رقم [266] من سورة (البقرة) وهو محل الخطرات، والوساوس، ومكان الكفر، والإيمان، وموضع الإصرار، والإنابة، وموضع الانزعاج، والطمأنينة، ولا يجتمع في القلب الضدان. قال تعالى في سورة (الأحزاب) رقم [4]:{ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} وهذا نفي لكل ما توهمه أحد في ذلك من حقيقة، أو مجاز.

هذا؛ و {أُوتُوا} أصله: «أوتيوا» فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان: الياء، والواو، فحذفت الياء لعلة الالتقاء، فصار:«أوتوا» ثم قلبت الكسرة ضمة لمناسبة الواو.

خاتمة: قسوة القلب سبب في شقاء الفرد، وشقاء المجتمع، وسبب في إهمال واجبات الله، وارتكاب المعاصي، والسيئات. فإن قلت: ما هي أسباب قسوة القلب؟ فها أنذا أذكر بعضها على سبيل الاختصار، فأقول؛ وبالله التوفيق: منها: أكل الحرام. ومنها: إتباع الهوى، والانقياد للشيطان الرجيم. ومنها: كثرة الشغف بالمجادلة، والمخاصمة بالباطل. ومنها: الغفلة عن ذكر الله تعالى، وعدم مراقبته في السر، والعلن. ومنها: إهمال واجبات الله تعالى، كالصلاة، وغيرها. ومنها: الانغماس في الشهوات، والملذات، والإغراق في الترف، والنعيم، وكثرة الأكل، والشرب. قال بعض العلماء: من كثر أكله؛ كثر شربه، ومن كثر شربه؛ كثر نومه؛ ومن كثر نومه؛ كثر تخمه، ومن كثر تخمه؛ قسا قلبه، ومن قسا قلبه؛ غرق في الاثام، ومن غرق في الاثام؛ فالنار أولى به! ورحم الله من يقول:[الطويل] يميت الطعام القلب إن زاد كثرة

كزرع إذا بالماء قد زاد سقيه

وإنّ لبيبا يرتضي نقص عقله

بأكل لقيمات لقد ضلّ سعيه

تنبيه: دواء قسوة القلب: الإكثار من التقوى، والإخلاص في العبادة، والتهجد في الليل، وقراءة القرآن، وتدبر معانيه، ومجالسة أهل الخير، والتقوى، والصلاح، والإقلال من الطعام، والشراب، ورحم الله من يقول:[البسيط] دواء قلبك خمس عند قسوته

فدم عليها تفز بالخير والظفر

خلاء بطن وقرآن تدبّره

كذا تضرّع باك ساعة السّحر

كذا قيامك اللّيل أوسطه

وأن تجالس أهل الخير والخبر

وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي» .

أخرجه الترمذي. ورحم الله ابن المبارك؛ إذ يقول: [المتقارب]

ص: 509

رأيت الذنوب تميت القلوب

وقد يورث الذّلّ إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب

وخير لنفسك عصيانها

الإعراب: {أَلَمْ:} (الهمزة): حرف استفهام توبيخي. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.

{يَأْنِ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم)، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {أَنْ تَخْشَعَ:} فعل مضارع منصوب ب: {يَأْنِ،} والمصدر المؤول منهما في محل رفع فاعل: {يَأْنِ،} والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {قُلُوبُهُمْ:} فاعل {تَخْشَعَ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {لِذِكْرِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ذكر) مضاف، و (الله) مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، التقدير: لذكرها الله. {وَما:} (الواو): حرف عطف. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على (ذكر الله). {نَزَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (ما)، وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول. {مِنَ الْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و (من) بيان لما أبهم في (ما). {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {يَكُونُوا:}

فعل مضارع ناقص معطوف على {تَخْشَعَ} منصوب مثله، وجوز اعتباره مجزوما ب:(لا) على اعتبارها ناهية، وعلامة النصب، أو الجزم حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه، والألف للتفريق.

{كَالَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (تكونوا). هذا؛ وإن اعتبرت الكاف اسما بمعنى: «مثل» فهي الخبر، وتكون مضافة، و (الذين) اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة. {أُوتُوا:} فعل ماض مبني للمجهول، وواو الجماعة نائب فاعله، وهو المفعول الأول. والألف للتفريق. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْ قَبْلُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى. هذا؛ وأجيز تعليق الجار والمجرور بمحذوف حال من نائب الفاعل، وهو واو الجماعة. {فَطالَ:} الفاء: حرف عطف. (طال): فعل ماض. {عَلَيْهِمُ:} جار ومجرور متعلقان به. {الْأَمَدُ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{فَقَسَتْ:} الفاء: حرف عطف. (قست): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث؛ التي هي حرف لا محل له. {قُلُوبُهُمْ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {وَكَثِيرٌ:} (الواو): واو الحال. (كثير): مبتدأ.

{مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: (كثير)، أو بمحذوف صفة له. {فاسِقُونَ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير العائد على واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.

ص: 510

{اِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)}

الشرح: جاء في مختصر ابن كثير للصابوني ما يلي: فيه إشارة إلى أن الله يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلتها، ويفرج الكروب بعد شدتها، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتان الوابل، كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل، ويولج إليها النور بعد أن كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال، هو الذي لما يشاء فعال، وهو الحكيم العدل في كل الفعال، اللطيف الخبير الكبير المتعال. انتهى.

هذا؛ وفي الجمل نقلا عن زاده: يعني: أن قوله: {يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} استعارة تمثيلية، والمعنى: يلين القلوب بالذكر بعد قساوتها، شبه تليين القلوب بالخشوع المسبب عن الذكر، وتلاوة القرآن بإحياء الأرض الميتة بالغيث؛ من حيث اشتمال كل واحد منهما على بلوغ الشيء إلى كماله المتوقع بعد خلوه عنه. ويحتمل أن يكون تمثيلا لإحياء الأموات؛ بأن شبّه إحياؤها بإحياء الأرض الميتة، فمن قدر على الثاني، فهو قادر على الأول، فحقه أن تخشع القلوب لذكره. وإنما حمل على التمثيل لترتبط هذه الاية بما قبلها. انتهى. وانظر مثل هذه الترجي في الاية رقم [49] من سورة (الذاريات).

هذا؛ والعقل: نور روحاني به تدرك النفس ما لا تدركه بالحواس الظاهرة. وسمي العقل عقلا؛ لأنه يعقل صاحبه؛ أي: يمنعه من فعل الرذائل؛ لذا فإن كل شخص لا يسير على الجادة المستقيمة لا يكون عاقلا بالمعنى الصحيح، وخذ قول الشاعر:[البسيط] لم يبق من جلّ هذا الناس باقية

ينالها الوهم إلا هذه الصور

لا يدهمنّك من دهمائهم عدد

فإنّ جلّهم بل كلّهم بقر

يقول: لا يدهمنك من جماعتهم الكثيرة عدد فيهم غناء ونصرة، فإن كلهم كالأنعام والبهائم، ولله در القائل:[المنسرح] لا يدهمنك اللّحاء والصور

تسعة أعشار من ترى بقر

في شجر السّرو منهم شبه

له رواء ما له ثمر

ورضي الله عن حسان بن ثابت؛ إذ يقول: [البسيط] لا بأس بالقوم من طول ومن عظم

جسم البغال وأحلام العصافير

فقد ورد: أن رجلا معتوها مرّ على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم:(هذا رجل مجنون) فقال سيد الخلق، وحبيب الحق، الناطق بالصدق: «هذا مصاب،

ص: 511

إنّما المجنون من أصر على معصية الله تعالى». هذا؛ والعقل أيضا: الدية. سميت بذلك؛ لأن الإبل المؤداة دية تعقل بباب ولي القتيل، والعقال بكسر العين الحبل الذي تشد به ركبة الجمل عند بروكه على الأرض ليمنعه من القيام، والمشي، والعقال أيضا صدقة عام. قال شاعر يهجو عاملا على الصدقات في عهد بني أمية:[البسيط] سعى عقالا، فلم يترك لنا سبدا

فكيف لو قد سعى عمرو عقالين؟

لأصبح الناس أوبادا ولم يجدوا

عند التّفرّق في الهيجا جمالين

هذا؛ والعقال زكاة المال في سنة واحدة، والسبد: المال القليل، واللبد: المال الكثير، وأوبادا: هلكى، جمع: وبد. فهو يقول: صار عمرو عاملا على الصدقات سنة واحدة، فظلم، وأخذ أموال الناس بغير حق؛ حتى لم يبق لنا إلا شيء قليل من المال، فكيف حالنا، أو كيف يبقى لأحد شيء لو صار عمرو عاملا في زكاة عامين؟! ثم أقسم، وقال: والله لو صار عاملا عامين لصارت القبيلة هلكى، فلا يكون لها عند التفرق في الحرب جمالان! فيختل أمر الغزوات.

الإعراب: {اِعْلَمُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب (أقيموا) في الاية رقم [9] من سورة (الرحمن). {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل.

{اللهَ:} اسمها. {يُحْيِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {اللهَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر {أَنَّ،} {الْأَرْضَ:} مفعول به.

{بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، وهو مضاف، و {مَوْتِها} مضاف إليه، و (ها): في محل جر بالإضافة. و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي {اِعْلَمُوا،} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها مبتدأة، أو مستأنفة. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {بَيَّنّا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، واعتبارها في محل نصب حال من واو الجماعة فيه ضعف. {لَكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.

{الْآياتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم.

{لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها، وجملة:{تَعْقِلُونَ} في محل رفع خبر (لعلّ)، والجملة الاسمية تعليل لتبيين الايات، لا محل لها.

{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)}

الشرح: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ:} بتشديد الصاد، والدال فيهما، وأصلهما (المتصادقين والمتصدقات) وقرئ بهما على هذا الأصل، كما قرئ بتخفيف الصاد فيهما،

ص: 512

وتشديد الدال، بمعنى الذين صدّقوا وصدّقن الله ورسوله. من: التصديق. هذا؛ ونص الاية صريح بإثابة النساء اللاتي يعملن الصالحات من الصدقات، وغيرها، ودليل واضح على أن المرأة مكلفة بالطاعات، ومنهية عن المعاصي، والمخالفات كالرجل. وانظر ما ذكرته في آية (الأحزاب) رقم [35]. {وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً:} ففيه تغليب الرجال على النساء، أو المعنى:

أقرضوا، وأقرضن الله قرضا

إلخ وانظر ما ذكرته في الاية رقم [11].

{يُضاعَفُ لَهُمْ:} ويقرأ «(يضعّف)» بتشديد العين، والمضاعفة: المكاثرة، وضعف الشيء (بكسر الضاد، وسكون العين): مثله، وضعفاه: مثلاه، وأضعافه: أمثاله، هذا هو الأصل في الضعف، ثم استعمل في المثل وما زاد، وليس للزيادة حد، فيقال: هذا ضعف هذا؛ أي: مثله، أو مثلاه، أو ثلاثة أمثاله، وهكذا. ويقال: أضعفت الشيء، وضعّفته، وضاعفته، فمعناه:

ضممت إليه مثله، فصاعدا. وقال بعضهم: ضاعفت أبلغ من: ضعّفت، ولذا قرأ أكثرهم في هذه الاية:{يُضاعَفُ لَهُمْ} وفي سورة (الأحزاب) رقم [30]: {يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ} وفي الاية رقم [69] من سورة (الفرقان): {يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ} وفي الاية رقم [40] من سورة (النساء): {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها} هذا؛ وللضعف (بفتح الضاد) والضّعف (بكسرها) والضعف (بضمها) معان نظمها بعضهم بقوله: [الرجز] في الرأي والعقل يكون الضّعف

والوهن في الجسم فذاك الضّعف

زيادة المثل كذا والضّعف

جمع ضعيف وهو شاكي الضّرّ

{وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي: ثواب عظيم، وهو الجنة، وفي سورة (الأنفال) رقم [4]:{وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} . وفسر بما لا ينتهي عدده، ولا ينقطع مدده، صاف عن كد الاكتساب، وخوف الحساب، لا منة فيه ولا عذاب، وانظر شرح {كَرِيمٌ} في سورة (الدخان) رقم [26].

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل، {الْمُصَّدِّقِينَ:} اسم {إِنَّ} منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، {وَالْمُصَّدِّقاتِ:} الواو: حرف عطف. (المصدقات): معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {وَأَقْرَضُوا:}

(الواو): حرف عطف. (أقرضوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {قَرْضاً:} مفعول مطلق. {حَسَناً:} صفة {قَرْضاً} . هذا؛ و (أقرضوا) ماض معطوف على {الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ} وهو عطف فعل على اسم، وساغ ذلك؛ لأن الاسم في تقدير الفعل؛ إذ المعنى: إن الذين تصدقوا وأقرضوا، ومنه قوله تعالى في سورة (العاديات):

{وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} إذ المعنى: فاللاتي أغرن صبحا فأثرن به نقعا. هذا؛ وقال عمرو بن كلثوم التغلبي في معلقته رقم [95]: [الوافر] وأنّا الشّاربون الماء صفوا

ويشرب غيرنا كدرا وطينا

ص: 513

إذ المعنى: وأنا الذين يشربون الماء، ويشرب

إلخ. هذا؛ وقال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز] واعطف على اسم شبه فعل فعلا

وعكسا استعمل تجده سهلا

قال ابن عقيل-رحمه الله تعالى-في شرح هذا البيت: يجوز أن يعطف الفعل على الاسم المشبه للفعل كاسم الفاعل، ونحوه، ويجوز أن يعطف على الفعل الواقع موقع الاسم اسم، فمن الأول قوله تعالى

وذكر آية (العاديات) والاية التي نحن بصدد شرحها، وقال: ومن الثاني قول الشاعر: [الطويل] فألفيته يوما يبير عدوّه

ومجر عطاء يستحقّ المعابرا

ف: «مجر» عطاء معطوف على: «يبير» وقول الشاعر: [الرجز] بات يعشّيها بعضب باتر

يقصد في أسوقها وجائر

ف: «جائر» معطوف على: «يقصد» . {يُضاعَفُ:} مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل فيه وجهان: أحدهما وهو الظاهر أنه الجار والمجرور: (لهم). والثاني: أنه ضمير التصدق، ولا بد من تقدير مضاف محذوف، التقدير: يضاعف لهم ثواب التصدق. والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ} . {وَلَهُمْ:} (الواو): حرف عطف. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَجْرٌ:} مبتدأ مؤخر. {كَرِيمٌ:} صفة {أَجْرٌ،} والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)}

الشرح: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ..} . إلخ: لقد اختلف في هذه الاية، هل الشهداء هم الصديقون، أم هم غيرهم؟ فقال مجاهد، وزيد بن أسلم: إن الشهداء، والصديقين هم المؤمنون أنفسهم، وروي معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه فلا يوقف على قوله:{الصِّدِّيقُونَ} . وهذا قول ابن مسعود-رضي الله عنه-في تأويل الاية. وروي عن ابن عباس، ومسروق-رضي الله عنهما:

أن الشهداء غير الصديقين، مثل قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [69]:{وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً} .

وعلى القول الأول ففي الشهداء قولان: أحدهما أنهم الرسل يشهدون على أممهم بالتصديق والتكذيب. قاله الكلبي، ودليله قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [41]:{فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41)} .

ص: 514

الثاني: أن أمم الرسل يشهدون يوم القيامة، وفيما يشهدون به قولان: أحدهما: أنهم يشهدون على أنفسهم بما عملوا من طاعة، ومعصية. الثاني: أنهم يشهدون لأنبيائهم بتبليغهم الرسالة إلى أممهم. وعلى جميع ما تقدم؛ فالشهداء جمع: شاهد. وعلى القول الثاني: فالمراد بهم: الشهداء الذين يقتلون في سبيل الله، وهو على هذا فالشهداء: جمع: شهيد، والشهيد على ثلاثة أنواع:

الأول: شهيد الدنيا، وهذا من قاتل رياء، أو حبا في الغنيمة، أو حبا في السمعة، والشهرة، والمحمدة، فهذا تجري عليه أحكام الشهادة في الدنيا، ولا ثواب له في الاخرة.

والثاني: شهيد الاخرة فقط، فقد روى الطبراني عن ابن عباس-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم:«ما تعدّون الشهيد فيكم؟!» . قلنا يا رسول الله! من قتل في سبيل الله. قال: «إنّ شهداء أمّتي إذا لقليل، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، والمتردي شهيد، والنفساء شهيد، والغريق شهيد، والسّلّ شهيد، والحريق شهيد، والغريب شهيد» . قال الحافظ المنذري-رحمه الله تعالى-: ورواه الطبراني من طريق عبد الملك بن مروان بن عنترة-وهو متروك-عن أبيه عن جده. والثالث: شهيد الدنيا، والاخرة، وهو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.

هذا؛ ومعنى: (الشهداء عند ربهم) أي: في جنات النعيم، كما قال تعالى في سورة (آل عمران) رقم [169]:{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فعن ابن عباس-رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنّة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلّقة في ظلّ العرش» . أخرجاه في الصحيحين. هذا؛ و {الصِّدِّيقُونَ} جمع: صدّيق، وهو كثير الصدق. واختلف فيهم فالمعتمد:

أنهم أفاضل الصحابة كأبي بكر وبقية العشرة المبشرين بالجنة، وغيرهم من السابقين إلى الإسلام. وقال مقاتل بن حيان: الصديقون هم الذين آمنوا بالرسل، ولم يكذبوهم طرفة عين، مثل مؤمن آل فرعون، وصاحب آل ياسين، وأبي بكر، وأصحاب الأخدود.

{لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي: لهم عند الله أجر جزيل، ونور عظيم، يسعى بين أيديهم، وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في دار الدنيا من الأعمال، انظر ما ذكرته في الاية رقم [12].

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} بالله، {وَكَذَّبُوا بِآياتِنا} أي: بالرسل، والمعجزات. {أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ} أي: لا ثواب لهم إلا النار، وبئس القرار! وقال البيضاوي: وفيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار؛ من حيث إن التركيب يشعر بالاختصاص، والصحبة تدل على الملازمة عرفا، انتهى. وينبغي أن تعلم أنه تعالى لما ذكر السعداء، ومالهم؛ ذكر الأشقياء، وبين حالهم. وهذا من باب المقابلة. انظر ما ذكرته في الاية رقم [15] من سورة (الذاريات).

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} (الواو): حرف استئناف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {آمَنُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق،

ص: 515

والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَرُسُلِهِ:} الواو:

حرف عطف. (رسله): معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {هُمُ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ ثان. {الصِّدِّيقُونَ:} خبر الضمير، والجملة الاسمية في محل رفع خبر:{أُولئِكَ،} وإن اعتبرت الضمير فصلا، ف:{الصِّدِّيقُونَ} خبر {أُولئِكَ،} والجملة الاسمية في محل رفع خبر (الذين) والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{وَالشُّهَداءُ:} الواو: حرف عطف. (الشهداء): معطوف على {الصِّدِّيقُونَ} على اعتبارهما لمعنى واحد، ومبتدأ على اعتبارهما متغايرين. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق ب: (الشهداء) على الوجه الأول فيه، ومتعلق بمحذوف خبره على اعتباره مبتدأ، و {عِنْدَ:} مضاف، و {رَبِّهِمْ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَجْرُهُمْ:} مبتدأ مؤخر، {وَنُورُهُمْ:}

معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل رفع خبر ثان ل:

(الشهداء) على اعتباره مبتدأ، أو في محل رفع خبر ثان ل:(أولئك) على الوجه الأول في (الشهداء). {وَالَّذِينَ:} (الواو): حرف استئناف. (الذين): مبتدأ، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلته، وجملة:{وَكَذَّبُوا بِآياتِنا:} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها.

{أُولئِكَ:} مبتدأ. {أَصْحابُ:} خبره، وهو مضاف، و {الْجَحِيمِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (الذين)، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{اِعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20)}

الشرح: {اِعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا:} في هذا الحصر إشارة إلى تحقير الدنيا كيف لا؛ وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء! ولقد وصف الله تعالى في هذه الاية وغيرها الحياة التي يحياها ابن آدم ب:{الدُّنْيا} لدناءتها وحقارتها، وأنها لا تساوي عنده جناح بعوضة، ورحم الله الحريري؛ إذ يقول:[الكامل] يا خاطب الدّنيا الدّنية إنها

شرك الرّدى وقرارة الأكدار

دار متى ما أضحكت في يومها

أبكت غدا تبّا لها من دار

ص: 516

أو هي من الدنو، وهو القرب؛ لأنها في متناول يد الإنسان ما دام حيا. وقال سليمان بن الضحاك:[السريع] ما أحسن الدنيا ولكنّها

مع حسنها غدّارة فانيه

ما أنعم الله على عبده

بنعمة أوفى من العافيه

وكلّ من عوفي في جسمه

فإنه في عيشة راضيه

والمال حلو حسن جيد

على الفتى لكنه عاريه

وانظر ما ذكرته في سورة (العنكبوت) رقم [64] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{لَعِبٌ وَلَهْوٌ} أي: كما يلعب الصبيان، ويلهون به، ويجتمعون عليه، ويبتهجون به ساعة، ثم يتفرقون عنه متعبين، واللعب العبث، واللهو: الاستمتاع بلذات الدنيا. وقيل: هو الاشتغال بما لا يعني الإنسان، وما لا يهمه. والمعنى: ليس ما أعطاه الله الأغنياء من حطام الدنيا؛ إلا وهو يضمحل، ويزول، كاللعب، واللهو؛ الذي لا حقيقة له، ولا ثبات. وقال الخازن: واللعب ما يشغل الإنسان، وليس فيه منفعة في الحال، ولا في المال، ثم إذا استعمله الإنسان، ولم يشغله عن غيره، ولم ينسه أشغاله المهمة؛ فهو اللعب، وإن أشغله عن مهمات نفسه؛ فهو اللهو.

{وَزِينَةٌ} أي: وزينة يتزين بها الجهلاء، كالملابس الحسنة، والمراكب البهية، والمنازل الرفيعة. {وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ} أي: ومباهاة، وافتخار بالأحساب، والأنساب، والمال، والولد، كما قال القائل:[الوافر] أرى أهل القصور إذا أميتوا

بنوا فوق المقابر بالصخور

أبوا إلاّ مباهاة وفخرا

على الفقراء حتّى في القبور

{وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ} أي: مباهاة، ومفاخرة بكثرة الأموال، والأولاد. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يجمع المال من سخط، ويتباهى به على أولياء الله، ويصرفه في مساخط الله، فهو ظلمات بعضها فوق بعض. وقال النسفي-رحمه الله تعالى-في هذه الاية:

لعب كلعب الصبيان، ولهو كلهو الفتيان، وزينة كزينة النسوان، وتفاخر بينكم كتفاخر الأقران، وتكاثر كتكاثر الدهقان.

{كَمَثَلِ غَيْثٍ:} وهو المطر الذي يأتي بعد قنوط الناس، كما قال تعالى في سورة (الشورى) رقم [28]:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا} وسمي المطر غيثا؛ لأنه يغيث الناس، فيزيل همهم، ويفرج كربهم، ويطلق مجازا على الجواد الكريم.

قال ذو الرمة في مدح بلال بن أبي بردة الأشعري: [الوافر] سمعت الناس ينتجعون غيثا

فقلت لصيدح: انتجعي بلالا

ص: 517

فقد جعله أجود من الغيث، وأنفع، وصيدح: اسم ناقته. وللزمخشري قوله: [البسيط] لا تحسبوا أنّ في سرباله رجلا

ففيه غيث وليث مسبل مشبل

{أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ} أي: يعجب الزراع نبات ذلك الزرع؛ الذي نبت بالغيث، وكما يعجب الزراع ذلك، كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار بزهرتها وزينتها، فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها. وسمي الزارع كافرا؛ لأنه يغطي البذر، ويستره بالتراب. وسمي الكافر كافرا؛ لأنه يغطي الحق، ويستره بجحوده، وإنكاره. {ثُمَّ يَهِيجُ} أي: يجف بعد خضرته، وييبس، {فَتَراهُ مُصْفَرًّا} أي: متغيرا عما كان عليه من النضرة، والخضرة الحسنة. {ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً} أي: فتاتا، وتبنا، فتذهب بهجته، ونضرته.

هكذا الحياة الدنيا تكون أولا شابة، ثم تكتهل، ثم تكون عجوزا شوهاء. والإنسان يكون كذلك في أول عمره، وعنفوان شبابه غضا طريا، لين الأعطاف، بهي المنظر، ثم يكبر، فيصير شيخا كبيرا ضعيف القوى، كما قال تعالى في سورة (الروم) رقم [54]:{اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً}

ورحم الله من قال: [البسيط] ما أنت إلاّ كزرع عند خضرته

لكلّ شيء من الافات مقصود

فإن سلمت من الافات أجمعها

فأنت من بعد ذا لا بدّ محصود

تنبيه: في الاية الكريمة تشبيه التمثيل، الذي هو منتزع من متعدد، فقد شبه الله الدنيا، وبهجتها، وإقبالها على العبد، وركونه إليها بالنبات الذي ينزل عليه المطر، وهذا النبات يقوى، ويشتد، ويزهو يوما بعد يوم، ولكنه لا يلبث أن يصفر، ثم ييبس، ثم يكون هشيما، وحطاما.

وكذلك الدنيا مالها إلى الهلاك، والدمار، والفناء. هذا؛ ويشبه هذه الاية في تمثيل الدنيا الاية رقم [45] من سورة (الكهف).

{وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ} أي: لمن كانت حياته بهذه الصفة. قال أهل المعاني: زهّد الله في هذه الاية في العمل للدنيا، وهذه صفة حياة الكافرين، وحياة من يشتغل باللعب، واللهو ورغّب في العمل للاخرة بقوله:{وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ} أي: لأوليائه، وأهل طاعته. وقيل: عذاب شديد لأعدائه، ومغفرة من الله، ورضوان لأوليائه؛ لأن الاخرة إما عذاب، وإما نعيم، ولا تنس المقابلة بين معنى الجملتين. وهو من المحسنات البديعية. والموت لا بد واقع بكل إنسان، ورحم الله من يقول:[البسيط] الموت باب وكلّ الناس داخله

فليت شعري بعد الباب ما الدّار؟

ورحم الله من رد الجواب بما يلي: [البسيط]

ص: 518

الدار جنة عدن إن عملت بما

يرضي الإله وإن خالفت فالنّار

هما محلاّن ما للنّاس غيرهما

فانظر لنفسك ماذا أنت مختار؟

{وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ} أي: لمن عمل لها، ولم يعمل للاخرة، فمن اشتغل في الدنيا بطلب الاخرة، فهي له بلاغ إلى ما هو خير منه، وهي متاع الغرور لمن لم يشتغل فيها بطلب الاخرة. هذا؛ وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في ذم الدنيا كثيرة لا تعد، ولا تحصى، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم مدحها إذا تزود منها المسلم العمل الصالح لاخرته حيث ورد قوله:«نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لاخرته» . ولا تنس المقابلة في آخر الاية.

هذا؛ ويجري على ألسنة العوام: أن متاع الغرور هو ما تحمله المرأة من خرق في أيام حيضها فمن أين أتوا بهذا المعنى الذي لا يقره عقل، ولا ذوق فضلا عن عدم وجوده في كتب اللغة. ولا تنس أن الغرور بفتح الغين، إنما هو الشيطان. قال تعالى في سورة (لقمان) رقم [33]:{فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ} .

الإعراب: {اِعْلَمُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب (أقيموا) في سورة (الرحمن) رقم [9]. {أَنَّمَا:} كافة ومكفوفة. {الْحَياةُ:} مبتدأ.

{الدُّنْيا:} صفة {الْحَياةُ} مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف. {لَعِبٌ:} خبر المبتدأ، والأسماء بعده معطوفة عليه. {بَيْنَكُمْ:} ظرف مكان متعلق ب: (تفاخر)؛ لأنه مصدر.

وقيل: متعلق بمحذوف صفة له. {وَتَكاثُرٌ:} الواو: حرف عطف. (تكاثر): معطوف على ما قبله. {فِي الْأَمْوالِ:} متعلقان ب: (تكاثر)؛ لأنه مصدر أيضا. وقيل: متعلقان بمحذوف صفة له.

{وَالْأَوْلادِ:} معطوف على ما قبله، و (أنما) وما بعدها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي {اِعْلَمُوا،} والجملة الفعلية ابتدائية لا محل لها من الإعراب.

{كَمَثَلِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هي كمثل، والجملة الاسمية في محل رفع خبر ثان ل:{الْحَياةُ الدُّنْيا،} أو الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر ثان. وقيل: متعلقان بمحذوف صفة ل: (تفاخر)، وهو ضعيف جدا. وقيل:

متعلقان بمحذوف حال من معنى ما تقدم؛ أي: ثبتت لها هذه الصفات مشبهة بغيث. هذا؛ وإن اعتبرت المحل للكاف؛ لأنها بمعنى مثل؛ فهو ضعيف جدا، و (مثل) مضاف، و {غَيْثٍ} مضاف إليه. {أَعْجَبَ:} فعل ماض، {الْكُفّارَ:} مفعول به. {نَباتُهُ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر صفة {غَيْثٍ} .

{ثُمَّ:} حرف عطف. {يَهِيجُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {نَباتُهُ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {فَتَراهُ:} (الفاء): حرف عطف. (تراه): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعوله.

ص: 519

{مُصْفَرًّا:} حال من الضمير المنصوب، أو مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {يَكُونُ:} فعل مضارع ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى النبات.

{حُطاماً:} خبر {يَكُونُ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{وَفِي:} (الواو): حرف استئناف. (في الاخرة): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر. {شَدِيدٌ:} صفة {عَذابٌ،} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. وقيل: معطوفة على ما قبلها. ولا وجه له. {وَمَغْفِرَةٌ:} الواو: حرف عطف. (مغفرة):

معطوف على {عَذابٌ} . {مِنَ اللهِ:} متعلقان بمغفرة، أو بمحذوف صفة له، {وَرِضْوانٌ:}

معطوف على (مغفرة).

{وَمَا:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (ما): نافية لا عمل لها. {الْحَياةُ:}

مبتدأ. {الدُّنْيا:} صفة. {إِلاّ:} حرف حصر. {مَتاعُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {الْغُرُورِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية لا محل لها على الوجهين المعتبرين في الواو. تأمل وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)}

الشرح: {سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: سارعوا بالأعمال الصالحة؛ التي توجب المغفرة لكم من ربكم. وقيل: سارعوا بالتوبة؛ لأنها تؤدي إلى المغفرة. {وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} لو وصل بعضها ببعض. وقيل: إن الله شبه عرض الجنة بعرض السموات، والأرض؛ لو وصل بعضها ببعض. قيل: إن السموات السبع، والأرضين السبع لو جعلت صفائح، وألزق بعضها ببعض؛ لكان عرض الجنة في قدرها جميعا. وقيل: إن الله شبه عرض الجنة بعرض السموات، والأرض، ولا شك: أن الطول يكون أزيد من العرض، فذكر العرض تنبيها على أن طولها أضعاف ذلك، ومن عادة العرب: أنها تعبر عن سعة الشيء بعرضه دون طوله. قال الشاعر: [الطويل] كأنّ بلاد الله وهي عريضة

على الخائف المطلوب كفّة حابل

وقيل: هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه، ويقع في نفوسهم، وأفكارهم، وأكثر مما يقع في نفوسهم مقدار السموات، والأرض. فشبه عرض الجنة بعرض السموات، والأرض على ما يعرفه الناس. {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ} أي: هيئت، ويفهم من الاية الكريمة: أن الجنة مخلوقة موجودة، كما أن النار أعدت وهيئت بالذات للكافرين وبالعرض للعصاة الذين حادوا عن الصراط المستقيم، فهي أيضا مخلوقة، وموجودة. قال تعالى في سورة (آل عمران) رقم [131]:{وَاتَّقُوا النّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ} .

ص: 520

هذا؛ وقال أكثر المفسرين: فيه دليل على أن الإيمان وحده كاف في استحقاق دخول الجنة، وفيه أعظم رجاء، وأقوى أمل؛ لأن الله ذكر: أن الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسوله، ولم يذكر مع الإيمان شيئا آخر، وهذا غير مسلّم لهم من عدة وجوه: أولها: أن الله عز وجل قال: {سابِقُوا..} . إلخ؛ وقد رأيت ما ذكرته لك آنفا: أن المعنى: سابقوا، وسارعوا بالأعمال الصالحة، وليس المعنى سابقوا، وسارعوا إلى دخول الجنة بدون عمل. والله جلت قدرته يقول في الحديث القدسي:«ما أقلّ حياء من يطمع بجنتي من غير عمل، فكيف أجود بجنتي على من بخل عليّ بطاعتي؟!» .

وثانيها: الايات الكثيرة التي تقرن الإيمان بالعمل الصالح، وسميته في محالّه احتراسا.

وثالثها: الأحاديث الشريفة الكثيرة؛ التي تشترط العمل مع الإيمان لدخول الجنة، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«الإيمان والعمل قرينان، لا يقبل الله أحدهما بدون صاحبه» . «ليس الإيمان بالتمنّي، ولكن ما وقر في القلب، وصدّقه العمل

» إلخ.

وروى الإمام أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مفتاح الجنة شهادة أن لا إله إلاّ الله» . وزاد البخاري: «ولكن ليس من مفتاح إلا وله أسنان، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك» . والمراد بالأسنان: الأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة.

ورابعها: أن ما أطلق هنا قيد في الايات رقم [133] و [134] و [135] من سورة (آل عمران) -انظر شرحها هناك؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك-بالتقوى، وإنفاق المال في السراء، والضراء، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس المسيئين، والإحسان إليهم، والتوبة من الذنب، وعدم الإصرار عليه. فلماذا لا يحمل المطلق على المقيد، وهذا معروف في علم الأصول لا خفاء فيه. لذا ما قاله بعض المفسرين لا يعتد به، والله الموفق، والمعين، وبه أستعين.

هذا؛ ولا تنس قوله تعالى في سورة (الجاثية) رقم [21]: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ} .

وأيضا قوله تعالى في سورة (السجدة) رقم [18]: {أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} .

{ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ} أي: إن الجنة لا تنال، ولا تدخل إلا برحمة الله، وفضله، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحدا عمله الجنّة

إلخ». انظر الجمع بين هذا الحديث، وبين قوله تعالى في سورة (الزخرف) الاية رقم [72]:{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تجد ما يسرك ويثلج صدرك.

{وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ:} فلا يبعد أن يتفضل، ويتكرم بذلك؛ وإن عظم قدره، وخذ ما يلي: عن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا:

ص: 521

يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، بالدرجات العلى، والنعيم المقيم. قال:«وما ذاك؟» .

قالوا: يصلون كما نصلّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون، ولا نتصدّق، ويعتقون، ولا نعتق. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلاّ من صنع مثل ما صنعتم؟» . قالوا: بلى يا رسول الله؟ قال:

«تسبّحون وتكبّرون، وتحمدون دبر كلّ صلاة ثلاثا وثلاثين مرّة» . قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» . رواه البخاري ومسلم.

تنبيه: ذكر الله عز وجل: أن عرض الجنة كعرض السماء والأرض للمبالغة في وصفها بالسعة؛ لأن العرض دون الطول، يقال: هذه صفة عرضها؛ فكيف طولها؟! قال الزهري: إنما وصف عرضها، فأما طولها فلا يعلمه إلا الله تعالى، وهذا على سبيل التمثيل، لا أنها كالسموات، والأرض لا غير، بل معناه: كعرض السموات السبع، والأرضين السبع عند ظنكم؛ لو وصل بعضها ببعض. روي: أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب-رضي الله عنه: إذا كانت الجنة عرضها ذلك، فأين تكون النار؟ فقال لهم: أرأيتم إذا جاء الليل فأين يكون النهار، وإذا جاء النهار؛ فأين يكون الليل؟ فقالوا: إنه لمثلها في التوراة. ومعناه حيث شاء الله. وسئل أنس بن مالك-رضي الله عنه-عن الجنة: أفي السماء، أم في الأرض؟ فقال: وأي سماء وأي أرض تسع الجنة؟ قيل: فأين هي؟ قال: فوق السموات السبع تحت العرش. وقال قتادة-رضي الله عنه: كانوا يرون: أن الجنة فوق السموات السبع، وأن جهنم تحت الأرضين السبع. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {سابِقُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها. {إِلى مَغْفِرَةٍ:} متعلقان بما قبلهما. {مِنْ رَبِّكُمْ:} متعلقان ب: {مَغْفِرَةٍ،} أو بمحذوف صفة له. {وَجَنَّةٍ:} معطوف على (مغفرة).

{عَرْضُها:} مبتدأ، (وها): في محل جر بالإضافة. {كَعَرْضِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، وإن اعتبرت الكاف اسما؛ فهي الخبر، وتكون مضافة، و (عرض): مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل جر صفة (جنة). {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، {أُعِدَّتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث، ونائب الفاعل يعود إلى جنة، والجملة الفعلية في محل جر صفة ثانية ل:(جنة)، أو في محل نصب حال منها بعد وصفها بالجملة الاسمية بعدها، وتكون «قد» قبلها مقدرة، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ} صلة الموصول، لا محل لها.

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {فَضْلُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و (الله) مضاف إليه، من إضافة

ص: 522

المصدر لفاعله، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {يُؤْتِيهِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (الله)، والهاء مفعول به أول.

{مِنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يؤتيه الذي، أو شخصا يشاء إيتاءه، والجملة الفعلية في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والعامل اسم الإشارة لما فيه من معنى الفعل، والرابط: الضمير فقط. {وَاللهُ:} (الواو): حرف عطف. (الله):

مبتدأ. {ذُو:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، و {ذُو} مضاف، و {الْفَضْلِ} مضاف إليه. {الْعَظِيمِ:} صفة {الْفَضْلِ} .

{ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (22)}

الشرح: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ} أي: لا يحدث في الأرض مصيبة من المصائب كقحط، وزلزلة، وآفة في الزروع، وجائحة في الثمار، وعاهة في الحيوانات المسخرة لمنفعة الإنسان. {وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} أي: من الأمراض، والأوصاب، والفقر، وذهاب الأولاد. {إِلاّ فِي كِتابٍ:} المراد به: اللوح المحفوظ، {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها} أي: نخلقها، ونبرزها للوجود.

والضمير يعود إلى الخليقة، والنسمة. وقال بعضهم: الضمير عائد على النفوس. وقيل: عائد على المصيبة، والأحسن عوده على الخليقة، والبرية لدلالة الكلام عليها، كما روي عن منصور بن عبد الرحمن؛ قال: كنت جالسا مع الحسن، فقال رجل: سله عن قوله تعالى: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ..} . إلخ. فسألته عنها، فقال: سبحان الله، ومن يشك في هذا؟ كل مصيبة بين السماء والأرض في كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة.

هذا؛ و «أصاب» يحتمل معاني كثيرة، تقول: أصاب السهم يصيب: لم يخطئ هدفه، وأصاب الرجل في قوله، أو في رأيه: أتى بالصواب، وأصاب فلانا البلاء يصيبه: وقع عليه، وهو ما في هذه الاية، وأصابهم المطر: نزل عليهم. قال تعالى في سورة (الروم) رقم [48]:

{فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} .

وأصاب: قصد وأراد. قال تعالى في سورة (ص) رقم [36]: {فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ} قاله مجاهد. والعرب تقول: أصاب الصواب، وأخطأ الجواب. قاله ابن الأعرابي، وقال الشاعر:[المتقارب] أصاب الكلام، فلم يستطع

فأخطا الجواب لدى المفصل

ص: 523

هذا؛ والمضارع يصيب، وانظر إعلال (يوقنون) في الاية رقم [36] من سورة (الطور)، فهو مثله. وهذه الاية الكريمة من أدل دليل على القدرية نفاة العلم السابق لله تعالى قبحهم الله تعالى! روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» . وزاد ابن وهب:

«وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ}. أخرجه مسلم، وأحمد، ورواه الترمذي بالزيادة، وقال: حسن صحيح. {إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} أي: إن علمه تعالى بالأشياء قبل وجودها سهل عليه عز وجل؛ لأنه يعلم ما كان وما يكون. هذا؛ وقال قتادة-رحمه الله تعالى-: وبلغنا: أنه ليس أحد يصيبه خدش عود، ولا نكبة قدم، ولا خلخال عرق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، أقول:

هو فحوى قوله تعالى في سورة (الشورى) رقم [30]: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} انظر شرحها هناك؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

وأقول أيضا: عفو الله عن كثير من الذنوب يتجلى بقوله تعالى في سورة (النحل) رقم [61]:

{وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} . وبقوله جل ذكره في سورة (فاطر) رقم [45]: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} .

هذا؛ وبين الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الشريفة أن المصائب على اختلاف أنواعها، وتفاوت مراتبها تكفر السيئات، وتمحو الخطايا. وخذ نبذة من ذلك فيما يلي:

عن أبي سعيد، وأبي هريرة-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما يصيب المؤمن من نصب، ولا وصب، ولا همّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غمّ؛ حتّى الشوكة يشاكها إلاّ كفّر الله بها من خطاياه» . رواه البخاري، ومسلم. وعن عائشة-رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«إذا اشتكى العبد المؤمن؛ أخلصه الله من الذنوب، كما يخلّص الكير خبث الحديد» . رواه الطبراني، وغيره. وعن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الصداع، والمليلة لا تزال بالمؤمن، وإنّ ذنبه مثل أحد، فما تدعه؛ وعليه من ذلك مثقال حبّة من خردل» . رواه أحمد، وغيره.

هذا؛ وليست كل المصائب انتقاما، ولا تكفيرا للسيئات، ولا دليلا على أن الله يبغض العبد المبتلى، والمصاب، بل على العكس قد تكون المصائب دليلا على أن الله يحب العبد، ويبتليه ليرفع درجاته في أعلى عليين، وكلما كان أقوى إيمانا؛ اشتد بلاؤه، فعن مصعب بن سعد عن أبيه-رضي الله عنه. قال: قلت: يا رسول الله! أيّ الناس أشدّ بلاء؟ قال: «الأنبياء، ثمّ الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإذا كان دينه صلبا؛ اشتدّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقّة؛ ابتلاه الله على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد؛ حتّى يمشي على الأرض؛ وما عليه خطيئة» . رواه ابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وعن محمود بن لبيد-رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

ص: 524

قال: «إذا أحبّ الله قوما؛ ابتلاهم، فمن صبر؛ فله الصّبر، ومن جزع، فله الجزع» . رواه الإمام أحمد. وعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإنّ الله تعالى إذا أحبّ قوما؛ ابتلاهم، فمن رضي؛ فله الرّضا، ومن سخط؛ فله السّخط» . رواه ابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن غريب. ورحم الله من قال: [الطويل] بنى الله للأخيار بيتا سماؤه

هموم وأحزان وحيطانه الضّرّ

وأدخلهم فيه وأغلق بابه

وقال لهم: مفتاح بابكم الصّبر

وانظر ما أذكره في سورة (التغابن) رقم [11] إن شاء الله تعالى.

الإعراب: {ما:} نافية. {أَصابَ:} فعل ماض. {مِنْ:} حرف صلة. {مُصِيبَةٍ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والمفعول محذوف؛ إذ التقدير: ما أصابكم مصيبة. والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل {أَصابَ،} أو بمحذوف صفة {مُصِيبَةٍ} على اللفظ، أو على المحل، أو هما متعلقان بنفس {مُصِيبَةٍ}. هذا؛ وذكّر الفعل {أَصابَ؛} لأن {مُصِيبَةٍ} مؤنث مجازي. {وَلا:} (الواو): حرف عطف. (لا): نافية، ويقال: صلة لتأكيد النفي. {فِي أَنْفُسِكُمْ:} معطوفان على ما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِلاّ:} حرف حصر.

{فِي كِتابٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من {مُصِيبَةٍ} وجاز ذلك وإن كانت نكرة؛ لتخصصها إما بالعمل، أو بالصفة، أو هما متعلقان بمحذوف خبر مبتدأ محذوف التقدير:

إلا هي كائنة في كتاب، وتكون الجملة الاسمية في محل نصب حال من {مُصِيبَةٍ}. {مِنْ قَبْلِ:} متعلقان بما تعلق به ما قبلهما، التقدير: إلا ثابتة في كتاب من قبل. {أَنْ نَبْرَأَها:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والفاعل مستتر تقديره: «نحن» ، (وها): مفعول به، و {أَنْ نَبْرَأَها} في تأويل مصدر في محل جر بإضافة قبل إليه.

{أَنْ:} حرف مشبه بالفعل. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب اسم {أَنْ،} واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {عَلَى اللهِ:} متعلقان بما بعدهما.

{يَسِيرٌ:} خبر {أَنْ،} والجملة الاسمية ابتدائية، أو مستأنفة، أو تعليلية، لا محل لها على جميع الاعتبارات.

{لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23)}

الشرح: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ} أي: أعلمناكم بتقدم علمنا، وسبق كتابتنا للأشياء قبل وجودها، وقبل إظهارها لكم. وأخبرناكم بتقديرنا الأمور قبل وجودها؛ لتعلموا علما يقينيا: أن

ص: 525

ما أصابكم لم يكن ليخطئكم، وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فلا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق، أو من أمور الدنيا. وعن ابن مسعود-رضي الله عنه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجد أحدكم طعم الإيمان؛ حتّى يعلم: أنّ ما أصابه؛ لم يكن ليخطئه، وما أخطأه؛ لم يكن ليصيبه» .

ثم قرأ: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ} .

{وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ} أي: أعطاكم. قال عكرمة-رحمه الله تعالى-: ليس أحد إلا وهو يفرح، ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكرا، والحزن صبرا. قال صاحب الكشاف: إن قلت: ما من أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به، ولا عند منفعة ينالها ألاّ يحزن ولا يفرح، قلت: المراد: الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر، والتسليم لأمر الله، ورجاء ثواب الصابرين. والفرح المطغي الملهي عن الشكر، فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام، والسرور بنعمة الله، والاعتداد بها مع الشكر؛ فلا بأس بهما، والله أعلم.

وقال جعفر الصادق بن محمد الباقر-رضي الله عنهما: يا بن آدم! ما لك تأسف على مفقود لا يرده إليك الفوت؟! وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت؟! هذا؛ وأصل «تأسوا» : تأسيون، تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصارت: تأساون، فالتقى ساكنان: الألف، والواو التي هي الفاعل، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار وزنه:

(تفعون)؛ لأن لامه التي هي الياء المنقلبة ألفا قد حذفت، والمصدر: أسى، فهو مقصور، فيقال: أسي أسى، مثل: جوي جوى.

هذا؛ والفرح لذة في القلب بإدراك المحبوب؛ ولذا أكثر ما يستعمل في اللذات البدنية الدنيوية، وقد ذم الله الفرح في مواضع من كتابه، كقوله تعالى في سورة (القصص) الاية رقم [76]:{لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ،} وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} رقم [10] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، ولكنه مطلق، فإذا قيد الفرح؛ لم يكن ذما، لقوله تعالى في حق الشهداء:{فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} رقم [170] من سورة (آل عمران)، وقال جل ذكره:{فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} رقم [58] من سورة (يونس)، وقال عز وجل في سورة (الروم):{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللهِ} رقم [3] من سورة (الروم).

{وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ} أي: متكبر. {فَخُورٍ:} يفخر على الناس، ويعدد عليهم مناقبه تطاولا، وتكبرا، ومعنى عدم محبة الله للمتكبر: سخطه، وغضبه عليه، وإبعاده من رحمته، وعفوه، ورضوانه. وهذا يشمل الذكر، والأنثى؛ وإن كان المخاطب به الذكر وحده.

تنبيه: في الاية الكريمة مسألة بيانية لم يتعرض لها المفسرون ألبتة، وهي ما إذا وقعت «كل» في حيز النفي؛ كان النفي موجها إلى الشمول خاصة، وأفاد بمفهومه ثبوت الفعل لبعض الأفراد، كقولك: ما جاء كلّ القوم، ولم آخذ كلّ الدراهم، وكلّ الدراهم لم آخذ. وإن وقع

ص: 526

النفي في حيزها، اقتضى السلب عن كل فرد، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له ذو اليدين: أنسيت أم قاصرات الصلاة يا رسول الله؟!: «كلّ ذلك لم يكن» . وقد يشكل على قولهم في القسم الأول قوله تعالى في سورة (القلم): {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاّفٍ مَهِينٍ} .

وقوله تعالى في سورة (البقرة)، الاية [276]:{وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ أَثِيمٍ} . والاية التي نحن بصدد شرحها، ومثلها في سورة (لقمان) رقم [18] حيث وقعت (كلّ) في حيز النفي، فتفيد أن المنفي الشمول، وأن البعض ثابت له المحبة من الله.

والجواب عن الايات: أن دلالة المفهوم إنما يعول عليها عند عدم المعارض، وهو هنا موجود؛ إذ دل الدليل، وهو الإجماع على تحريم الاختيال، والفخر، والحلف، والكفر مطلقا، ومستند هذا الإجماع الأحاديث الشريفة الكثيرة. هذا؛ ويعبر عما تقدم بسلب العموم، وعموم السلب.

هذا؛ وفي الاية الكريمة نهي عن الكبر، والتكبر، والفخر، والتفاخر، والخيلاء. وقد نهى الله عنه في كثير من الايات القرآنية، وبين أنه يكون سببا في صرف العبد المتكبر عن قبول الحق، واتباع الهوى. وقد ذكرت في سورة (لقمان) وغيرها كثيرا من الأحاديث الشريفة التي تشدد النكير على المتكبرين، وتتوعدهم بالعذاب الشديد والعقاب الأليم، وخذ هنا ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يمشي في حلّة، تعجبه نفسه، مرجّل رأسه، يختال في مشيته؛ إذ خسف الله به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» . رواه البخاري، ومسلم. وعن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من تعظّم في نفسه، أو اختال في مشيته؛ لقي الله تبارك وتعالى، وهو عليه غضبان» .

رواه الطبراني في الكبير، والحاكم بنحوه، وقال: صحيح على شرط مسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله جل وعلا: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما؛ ألقيته في النار» . رواه ابن ماجه.

الإعراب: {لِكَيْلا:} (اللام): حرف تعليل وجر. (كي): حرف مصدري، ونصب. (لا):

نافية. {تَأْسَوْا:} فعل مضارع منصوب ب: (كي) وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، و (كي) والفعل {تَأْسَوْا} في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، انظر تقديره في الشرح. {عَلى:} حرف جر. {ما:}

نكرة موصوفة، أو اسم موصول مبني على السكون في محل جر ب:{عَلى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فاتَكُمْ:} فعل ماض، والكاف مفعول به، والفاعل يعود إلى {ما،} وهو الرابط، أو العائد، والجملة الفعلية صفة {ما،} أو صلتها. {وَلا:} (الواو): حرف عطف. (لا): نافية. {تَفْرَحُوا:} معطوف على ما قبله منصوب مثله، والواو فاعله، والألف

ص: 527

للتفريق. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة.

{آتاكُمْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (الله)، والكاف مفعول به أول، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، وهو المفعول الثاني؛ إذ التقدير: بالذي، أو بشيء آتاكموه الله.

{وَاللهُ:} (الواو): حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {لِكَيْلا:} نافية. {يُحِبُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الله. {كُلَّ:} مفعول به، وهو مضاف، و {مُخْتالٍ:} مضاف إليه، وهو صفة لموصوف محذوف. {فَخُورٍ:} صفة ثانية، وجملة:{لا يُحِبُّ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية (الله

) إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)}

الشرح: (البخل) هو منع المال، وإمساكه عن التصدق به في وجوه الخير، وشر البخلاء الذي يكون بخيلا، وينهى الناس عن الإنفاق، ويحثهم على الإمساك. وفي القرطبي: قيل: أراد رؤساء اليهود الذين يبخلون ببيان صفة النبي صلى الله عليه وسلم؛ التي في كتبهم، لئلا يؤمن به الناس، فتذهب مأكلتهم. قاله السدي، والكلبي. وقال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-:{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} يعني: بالعلم {وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ} أي: بألا يعلّموا الناس شيئا. انتهى.

أقول: والتي نزلت في حق اليهود صراحة قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [37]: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} .

{وَمَنْ يَتَوَلَّ} أي: يعرض عن الإيمان، وعن أمر الله، وطاعته في إنفاق المال في وجوهه المشروعة، ولا سيما المفروض منه، كزكاة، وكفارة، ومن تعليم العلم، ومن نشره، وإذاعة أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم. {فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ:} عن عباده غير محتاج إليهم في شيء. {الْحَمِيدُ:}

المحمود بكل لسان، الممجد في كل مكان على كل حال، وهو مستحق للحمد في ذاته، تحمده الملائكة، وتنطق بحمده ذرات المخلوقات.

هذا؛ والبخل على أنواع: البخل قد يكون من الإنسان على أولاده، وزوجه، فهو في سعة، ويقتر عليهم؛ بينما يبذر على نفسه وعلى أصحابه في المعاصي والمنكرات، وقد يبخل الإنسان على نفسه، ويسخو على أولاده، وزوجه، وهذا نوع آخر من البخل. والبخل قد يكون بما فرض الله على الإنسان من زكاة، وكفارة، ونذر، ونحو ذلك. وهذا مذموم، ولا سيما إذا كان ينفق المال في الشهوات الدنيئة. وخذ ما يلي:

ص: 528

عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إن كلّ جواد في الجنة حتم على الله، وأنا كفيل به. ألا وإنّ كل بخيل في النار حتم على الله، وأنا به كفيل» . قالوا: يا رسول الله! من الجواد، ومن البخيل؟ قال:«الجواد من جاد بحقوق الله عز وجل في ماله، والبخيل من منع حقوق الله، وبخل على ربّه، وليس الجواد من أخذ حراما، وأنفق إسرافا» . رواه الأصبهاني.

هذا؛ وقال الشاعر الحكيم يذم البخل بجميع أنواعه: [البسيط] البخل شين ولا يرضى به أحد

إلاّ الأسافل أهل الذمّ والعار

المنافقون لهم إخلاف ما بذلوا

والممسكون لهم إتلاف مع نار

هذا؛ ومن أنواع البخل البخل بإلقاء السّلام على من عرفت من المسلمين، ومن لم تعرف، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«أفشوا السّلام بينكم» . ما لم يكن مانع من إفشائه كفسق، وفجور وإهمال واجب لله تعالى، فيكون عدم السّلام زجرا، وردعا للفاسق عن فسوقه، وللعاصي عن عصيانه.

وأبخل الناس من يبخل بالصلاة والسّلام على سيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم عند سماع ذكره، فعن أبي ذر الغفاري-رضي الله عنه-قال: خرجت ذات يوم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«ألا أخبركم بأبخل الناس؟!» . قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ، فذلك أبخل الناس» . رواه ابن أبي عاصم في كتاب الصلاة من طريق علي بن يزيد عن القاسم.

هذا؛ وأشنع أنواع البخل من يكون بخيلا بنوع من الأنواع المذكورة، ثم يأمر غيره، ويحثه على البخل. قال أبو تمام الشاعر المعروف:[الطويل] وإنّ امرأ ضنّت يداه على امرئ

بنيل يد من غيره لبخيل

والاية هنا وآية (النساء) تنعيان هذا النوع من البخل على صاحبه، وفي أمثال العرب: أبخل من الضنين بنائل غيره. وقيل: أبخل الناس من بخل بما في يد غيره. قال الزمخشري: ولقد رأينا ممن بلي بداء البخل من إذا طرق سمعه أن أحدا جاد على أحد شخص به وعلا صوته، واضطرب، ودارت عيناه في رأسه كأنما نهب رحله، وكسرت خزانته ضجرا من ذلك.

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب بدلا من {كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ،} بدل كل من كل. وأجيز اعتباره صفة ل: {كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ،} كذا في المغني؛ لكنه ضعفه. أو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف. تقديره: أعني الذين. أو هي في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف؛ التقدير: هم الذين، أو في محل مبتدأ خبره محذوف، التقدير: لهم وعيد شديد وعذاب أليم. {يَبْخَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها. {بِالْبُخْلِ:}

متعلقان بما قبلهما.

ص: 529

{وَمَنْ:} (الواو): حرف استئناف، (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَتَوَلَّ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى (من) تقديره:«هو» ، والمتعلق محذوف، انظر تقديره في الشرح. {فَإِنَّ:} (الفاء): واقعة في جواب الشرط. (إنّ): حرف مشبه بالفعل.

{اللهَ:} اسم (إنّ). {هُوَ:} ضمير فصل لا محل له. {الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ:} خبران ل: (إنّ). هذا؛ وإن اعتبرت الضمير مبتدأ، و {الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} خبرين له؛ فالجملة الاسمية تكون في محل رفع خبر (إنّ)، ورجح الأول؛ لأنه قرئ بإسقاط الضمير، والجملة الاسمية (إن الله

) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط. وقيل: جملة الجواب.

وقيل: الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين. هذا؛ وإن اعتبرت جواب الشرط محذوفا، التقدير: ومن يتول عن الإيمان؛ فلا يضر إلا نفسه فلا بأس به، بل هو أجود؛ لأن الجملة الاسمية (إن الله

) إلخ خالية من رابط يربطها باسم الشرط كما هو واضح، وعليه تكون الجملة الاسمية تعليلا لجواب الشرط المقدر، وهذه الجملة مذكورة في سورة (الممتحنة) برقم [6]. والجملة الاسمية: (من يتولّ

) إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)}

الشرح: {لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ} أي: بالمعجزات الباهرة، والحجج الدامغة، والبراهين الساطعة. وقيل: المراد بالرسل: الملائكة، وقيل المراد: جبريل، وجمع للتشريف، والتعظيم، والدليل قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ} أي: الكتب، وجمهور المفسرين على حمل الرسل على البشر، وأولات (مع) بمعنى: إلى.

{وَالْمِيزانَ} أي: العدل؛ أي: وأمرنا بالعدل. قال القشيري: وإذا حملناه على الميزان المعروف، فالمعنى: أنزلنا الكتاب، ووضعنا الميزان، فهو من باب قول الشاعر:[الرجز] علفتها تبنا وماء باردا

حتّى غدت همّالة عيناها

انظر ما أذكره في الاية رقم [9] من سورة (الحشر). قال القرطبي: ويدل على هذا التأويل قوله تعالى في سورة (الرحمن): {وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ} . {لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ} أي:

بالعدل. قال تعالى في سورة (الرحمن) الاية رقم [9]: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} . انظر شرح هاتين الايتين في محلهما.

ص: 530

{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ:} قيل: إن الله تعالى أنزل مع آدم-عليه الصلاة والسلام-لما أهبط إلى الأرض السندان، والمطرقة، والكلبتين. روى عمر-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: الحديد، والنار، والماء، والملح» . وروى عكرمة عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم عليه السلام: الحجر الأسود؛ وكان أشد بياضا من الثلج، وعصا موسى؛ وكانت من آس الجنة، طولها عشرة أذرع مع طول موسى، والحديد، أنزل معه ثلاثة أشياء: السندان، والكلبتان، والميقعة، وهي المطرقة. هذا؛ وقيل:(أنزلنا) هنا بمعنى: أنشأنا، وأحدثنا الحديد، وذلك: أن الله أخرج لهم الحديد من المعادن، وعلمهم صنعته بوحيه وإلهامه، فيكون كقوله في سورة (الزمر):{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ} رقم [6].

{فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي: لإهراق الدماء. والمعنى فيه قوة شديدة، فمنه: جنة، وهي آلة الوقع والدفع، والدفاع عن النفس، ومنه: السيف ونحوه، وهي آلة الهجوم والضرب. {وَمَنافِعُ لِلنّاسِ} أي: ومنه ما ينتفعون به في مصالحهم، كالسكين، والفأس، والإبرة، ونحو ذلك؛ إذ الحديد آلة لكل صنعة، فلا غنى لأحد عنه.

{وَلِيَعْلَمَ اللهُ} أي: وأرسلنا رسلنا، وأنزلنا معهم هذه الأشياء، أو أنشأناها ليتعامل الناس بالحق، والعدل، وليعلم الله، علم ظهور؛ لأن الله قد علم كل شيء قبل وجوده. ومثله كثير. قال تعالى في سورة (آل عمران):{وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا} . {مَنْ يَنْصُرُهُ:} من ينصر دينه. {وَرُسُلَهُ} أي: وينصر رسله. {بِالْغَيْبِ} أي: ينصرون دين الله وينصرون رسله، وهم لم يروا الله، ولم يروا رسله، ولم يروا الاخرة؛ التي يعملون لها، وإنما يحمد، ويثاب من أطاع، وامتثل بالغيب. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: ينصرونه، ولا يبصرونه. {إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ:} يدفع بقوته بأس من يعرض عن ملته. {عَزِيزٌ:} غالب لا يغالب، يربط بعزته جأش من يتعرض لنصرته.

والمناسبة بين هذه الأشياء الثلاثة: أن الكتاب قانون الشريعة، ودستور الأحكام الدينية، يبين سبل المراشد، والعهود، ويتضمن جوامع الأحكام، والحدود، ويأمر بالعدل، والإحسان، وينهى عن البغي، والطغيان، واستعمال العدل، والاجتناب عن الظلم، إنما يقع بآلة يقع بها التعامل، ويحصل بها التساوي، والتعادل، وهي الميزان، ومن المعلوم: أن الكتاب الجامع للأوامر الإلهية، والالة الموضوعة للتعامل بالسّويّة، إنما تحض العامة على اتباعهما بالسيف، الذي هو حجة الله على من جحد، وعند، ونزع عن صفقة الجماعة اليد، وهو الحديد، الذي يوصف بالبأس الشديد. انتهى. نسفي.

هذا؛ و (الناس) اسم جمع لا واحد له من لفظه: مثل: معشر، ونفر

إلخ، واحده:

إنسان من غير لفظه، وهو يطلق على الإنس، والجن، لكن غلب استعماله في الإنس. قال تعالى

ص: 531

في سورة (الناس): {مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ} وأصله: الأناس، حذفت منه الهمزة تخفيفا على غير قياس، وحذفها مع لام التعريف كاللازم، لا يكاد يقال: الأناس، وقد نطق القرآن الكريم بهذا الأصل، لكن بدون لام التعريف. قال تعالى:{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} رقم [71] من سورة (الإسراء). وقيل: إن أصله: النّوس، ولم يحذف منه شيء، وإنما قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. وانظر (الإنس) في الاية رقم [56] من سورة (الرحمن)، وشرح {الْإِنْسانَ} في الاية رقم [19] من سورة (المعارج)، ولا تنس قوله تعالى في سورة (الفرقان) رقم [49]:{وَأَناسِيَّ كَثِيراً} .

الإعراب: {لَقَدْ:} (اللام): واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: والله. وبعضهم يعتبرها لام الابتداء. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل.

{أَرْسَلْنا:} مفعول به، و (نا) في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية جواب القسم المقدر لا محل لها. {بِالْبَيِّناتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {أَرْسَلْنا} أي:

مؤيدين بالبينات، {وَأَنْزَلْنا:} الواو: حرف عطف. (أنزلنا): فعل، وفاعل، والجملة معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {مَعَهُمُ:} ظرف مكان متعلق بما قبله. وأجيز تعليقه بمحذوف حال من {الْكِتابَ وَالْمِيزانَ} والأول أقوى، والهاء في محل جر بالإضافة. {الْكِتابَ:} مفعول به.

{وَالْمِيزانَ:} معطوف على ما قبله. {لِيَقُومَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد اللام.

{النّاسُ:} فاعل. {بِالْقِسْطِ:} متعلقان بالفعل (يقوم)، و «أن» المضمرة والفعل (يقوم) في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(أنزلنا). {وَأَنْزَلْنا:} الواو: حرف عطف. (أنزلنا): فعل، وفاعل. {الْحَدِيدَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {بَأْسٌ:} مبتدأ مؤخر.

{شَدِيدٌ:} صفة له، والجملة الاسمية في محل نصب حال من {الْحَدِيدَ،} والرابط: الضمير فقط.

{وَمَنافِعُ:} معطوف على ما قبله. {لِلنّاسِ:} متعلقان ب: (منافع).

{وَلِيَعْلَمَ:} (الواو): حرف عطف. (ليعلم): هو مثل {لِيَقُومَ} في الإعراب، والتأويل، والجار، والمجرور الناتجان معطوفان على {لِيَقُومَ} وهو قول الجلال، لكن المعطوف عليه إرسال الرسل، وإنزال الكتاب والميزان، والمعطوف علة لإنزال الحديد. وفي أبي السعود: أنه معطوف على محذوف دلت عليه الجملة الحالية، وهي قوله:{فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} وعبارته: عطف على محذوف، يدل عليه ما قبله، فإنه حال متضمنة للتعليل، كأنه قيل: ليستعملوه، وليعلم الله.

{اللهُ:} فاعل ليعلم. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به.

{يَنْصُرُهُ:} مضارع، والهاء مفعول به، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {وَرُسُلَهُ:} معطوف على الضمير المنصوب، والهاء في محل جر

ص: 532

بالإضافة. {بِالْغَيْبِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب العائد على {اللهُ}. {الْمِيزانَ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {قَوِيٌّ عَزِيزٌ:}

خبران ل: {الْمِيزانَ،} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26)}

الشرح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ:} لما ذكر الله بعثه الرسل؛ ذكر هنا شيخ الأنبياء نوحا، وأبا الأنبياء إبراهيم، على حبيبنا، وشفيعنا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام. وبين أنه جعل في نسلهما النبوة، والكتب السماوية؛ أي: وبالله لقد أرسلنا نوحا، وإبراهيم، وجعلنا النبوة في نسلهما، كما أنزلنا الكتب الأربعة، وهي: التوراة، والزبور، والإنجيل، والقرآن على ذريتهما، وإنما خص نوحا وإبراهيم بالذكر تشريفا لهما، وتخليدا لماثرهما الحميدة. هذا؛ وقال تعالى في حق نوح عليه الصلاة والسلام سورة (الصافات) رقم [77]:{وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ} وقال تعالى في حق إبراهيم على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ} سورة (العنكبوت) رقم [27]، وانظر شرح ذرية في الاية رقم [21] من سورة (الطور).

{فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ} أي: فمن ذرية نوح وإبراهيم أناس مهتدون ممتثلون أوامر الله تعالى. {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ} أي: خارجون عن طاعة الله، مخالفون لأوامره، ومثله قوله تعالى في سورة (الصافات) رقم [113]:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} .

الإعراب: {وَلَقَدْ} انظر إعراب هذا اللفظ في الاية رقم [13] من سورة (النجم). {أَرْسَلْنا:}

فعل، وفاعل. {نُوحاً:} مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها. (إبراهيم):

معطوف على {نُوحاً} . (جعلنا): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والقسم وجوابه كلام مستأنف، لا محل له. {فِي ذُرِّيَّتِهِمَا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، ويقال: هما في محل المفعول الثاني تقدم على الأول، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {النُّبُوَّةَ:} مفعول به. {وَالْكِتابَ:}

معطوف على ما قبله.

{فَمِنْهُمْ:} (الفاء): حرف تفريع، واستئناف. (منهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مُهْتَدٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين. هذا الإعراب هو الظاهر والمتعارف عليه في مثل هذه الجملة، والأصح: أن مضمون الجار والمجرور (منهم) مبتدأ، و {مُهْتَدٍ} هو الخبر؛ لأن (من) الجارة دالة على التبعيض، التقدير: وبعضهم مهتد. وجمع الضمير يؤيد ذلك، ولا استبعاد في وقوع الظرف بتأويل معناه

ص: 533

مبتدأ، يرشدك إلى ذلك الجملة التالية، وأيضا قوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [110]:

{مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} فعطف (كثير) و (أكثرهم) على (منهم) يؤيد أن معناه:

بعضهم، وخذ قول الحماسي:[الكامل] منهم ليوث لا ترام وبعضهم

ممّا قمشت وضمّ حبل الحاطب

حيث قابل لفظ: «منهم» بما هو مبتدأ، أعني لفظة:«بعضهم» وهذا مما يدل على أن مضمون «منهم» مبتدأ. هذا؛ وليوث جمع: ليث، وهو الأسد. «لا ترام»: لا تقصد. «قمشت» : جمعت من هنا وهناك، والمراد: رذالة الناس، والقمش: الرديء من كل شيء. (كثير): مبتدأ. {فَمِنْهُمْ:}

جار ومجرور متعلقان بكثير، {فاسِقُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع.

{ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً اِبْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ اِبْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)}

الشرح: {ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا} أي: أتبعناهم رسولا في إثر رسول: موسى وهارون، وإلياس، وداود، وسليمان، وغيرهم على نبينا، وحبيبنا، وعليهم ألف صلاة، وألف سلام. هذا؛ وأصل {قَفَّيْنا} قفونا، قلبت الواو ياء لوقوعها رابعة. واشتقاقه من: قفوته: إذا اتبعت قفاه، ثم اتسع فيه، فأطلق على كل تابع، وإن بعد زمان التابع من زمان المتبوع. والقفا:

مؤخر العنق، ويقال له: القافية أيضا، ومنه قافية الشعر، وهي آخر حرف من البيت. هذا؛ وقال تعالى في سورة (البقرة) رقم [87]:{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} . وقال في سورة (المائدة) رقم [46]: {وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} .

{عَلى آثارِهِمْ:} قال القرطبي: على آثار الذرية. وقال البيضاوي: الضمير إلى نوح، وإبراهيم، ومن أرسلا إليهم، أو من عاصرهما من الرسل، لا للذرية، فإن الرسل المقفّى بهم من الذرية. هذا؛ و (الرسل) جمع: رسول، وهو بضم الراء، والسين، ويجوز تسكين السين. قال عيسى بن عمر: كل اسم على ثلاثة أحرف، أوله مضموم، وأوسطه ساكن، فمن العرب من يخففه، ومنهم من يثقله، وذلك مثل: عسر، ويسر، ورحم

إلخ.

{وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ:} فهو من ذرية إبراهيم، وهو آخر الأنبياء من بني إسرائيل. {وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ} أي: وأنزلنا عليه الإنجيل، الذي فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم. {وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}

ص: 534

{رَأْفَةً:} عطفا، ولينا، وشفقة، والمراد بهم: الحواريون. قال في التسهيل: هذا ثناء من الله عليهم بمحبة بعضهم لبعض، كما وصف الله تعالى أصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم:{رُحَماءُ بَيْنَهُمْ} سورة (الفتح)[29] وهؤلاء بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم، وحرفوا الكلم عن مواضعه.

هذا؛ و {الْإِنْجِيلَ} هو الكتاب الذي أنزله الله على عيسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، يذكر، ويؤنث، فمن أنث أراد الصحيفة، ومن ذكر أراد الكتاب، وهو الأكثر، وهو مشتق من النجل، وهو الأصل، كأنه أصل الدين، يرجع إليه، ويؤتم به، والإنجيل خال من الأحكام، وكل ما فيه حكم، ومواعظ، لذا فالنصارى عيال علينا في كثير من الأحكام، وخاصة المواريث، وقد دخل الإنجيل التحريف، والتزييف، كما دخلا التوراة، وما إنجيل متى، ومرقس

إلخ إلا من اختراعهم، وابتداعهم.

{وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها} أي: اختلفوها واصطنعوها من قبل أنفسهم؛ أي: أحدثها القسس والرهبان من تلقاء أنفسهم لم يفرضها الله عليهم، كما قال تعالى:{ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ} أي: ولا أمرناهم بها. وقيل: إنه معطوف على (الرأفة، والرحمة) والمعنى على هذا: أن الله تعالى أعطاهم إياها، فغيروا، وبدلوا، وابتدعوا فيها. والأول أقوى، وهو المشهور. والرهبانية: رفض النساء، وشهوات الدنيا، واتخاذ الصوامع.

وسببها: أن ملوكهم غيروا، وبدلوا، وبقي نفر قليل، فترهبوا، وتبتلوا. قال الضحاك-رحمه الله: إن ملوكا بعد عيسى-عليه السلام-ارتكبوا المحارم ثلاثمئة سنة، فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى، فقتلوهم، فقال قوم بقوا بعدهم: نحن إذا نهيناهم؛ قتلونا، فليس يسعنا المقام بينهم، فاعتزلوا الناس، واتخذوا الصوامع.

{ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ} أي: ما فرضناها عليهم، ولا أمرناهم بها {إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ:}

استثناء منقطع؛ أي: ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله. وقيل: متصل، فإن معنى {ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ:} ما تعبدناهم بها. وهو كما ينفي الإيجاب المقصود منه دفع العقاب؛ ينفي الندب المقصود منه مجرد حصول مرضاة الله، وهو يخالف قوله:{اِبْتَدَعُوها} إلا أن يقال: ابتدعوها، ثم ندبوا إليها، أو ابتدعوها بمعنى: استحدثوها، وأتوا بها أولا، لا أنهم اخترعوها من تلقاء أنفسهم. انتهى. بيضاوي.

{فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها:} فما حفظوها حق حفظها؛ أي: كما ينبغي بل ضيعوها، وضموا إليها التثليث، والاتحاد. يقولون: اتحد اللاهوت بالناسوت. وكفروا بدين عيسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، ودخلوا في دين ملوكهم، وأقام أناس منهم على دين عيسى عليه السلام حتى أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فآمنوا به. {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} أي: أعطينا الذين ثبتوا على الإيمان الصحيح في شريعة عيسى، وعملوا الصالحات، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ثوابا

ص: 535

عظيما، وأجرا جزيلا. {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ} أي: وكثير من النصارى خارجون عن حدود الطاعة منتهكون لمحارم الله تعالى، كقوله عز وجل في سورة (التوبة) رقم [34]:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ..} . إلخ فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، ولم يبق منهم إلا قليل؛ جاؤوا من الكهوف، والصوامع، والغيران فآمنوا به، وهم الذين قال تعالى في حقهم في سورة (المائدة):{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ} .

قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: وهذه الاية دالة على أن كل محدثة بدعة، فينبغي لمن ابتدع خيرا أن يدوم عليه، ولا يعدل عنه إلى ضده، فيدخل في الاية. وعن أبي أمامة الباهلي، -واسمه: صدي بن عجلان-. قال: أحدثتم قيام رمضان (التراويح) ولم يكتب عليكم، إنما كتب عليكم الصيام، فدوموا على القيام؛ إذ فعلتموه، ولا تتركوه، فإن ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا، لم يكتبها الله عليهم، ابتغوا بها رضوان الله، فما رعوها حقّ رعايتها، فعابهم الله بتركها فقال:{وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها..} . إلخ.

ثم قال: وفي الاية دليل على العزلة عن الناس في الصوامع، والبيوت، وذلك مندوب إليه عند فساد أهل الزمان، وتغير الأصدقاء، والإخوان. انتهى. أقول: وقد جاء الحث، والترغيب في العزلة في الأحاديث الشريفة مثل قول النبى صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان-رضي الله عنه-من الحديث الطويل:«اعتزل تلك الفرق كلّها، ولو أن تعضّ بأصل شجرة» . وهو في البخاري:

«يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال يفرّ بدينه من الفتن» . وحديث عقبة بن عامر-رضي الله عنه-مشهور لما سأله عن النجاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك» . رواه الترمذي.

هذا؛ وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن مسعود-رضي الله عنه. قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«يا بن مسعود! اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة، نجا منها ثلاث، وهلك سائرهن: فرقة وازرت الملوك، وقاتلوهم على دين عيسى، فأخذوهم، وقتلوهم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك، ولا أن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى، فساحوا في البلاد، وترهبوا، وهم الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ» }. قال صلى الله عليه وسلم: «من آمن بي، وصدّقني، واتبعني؛ فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي؛ فأولئك هم الهالكون» . وعنه-رضي الله عنه-قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي:«يا بن أم عبد، هل تدري من أين أخذت بنو إسرائيل الرهبانية؟» . قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه السلام يعملون بالمعاصي، فغضب أهل

ص: 536

الإيمان، فقاتلوهم، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات، فلم يبق منهم إلا القليل، فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء؛ فتنونا، ولم يبق أحد يدعو إليه تعالى، فتعالوا: لنتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى-يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم-فتفرقوا في غيران الجبال، وأحدثوا الرهبانية، فمنهم من تمسك بدينه، ومنهم من كفر». ثم تلا هذه الاية:{وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ} أي: من الذين ثبتوا عليها {أَجْرَهُمْ} .

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا بن أمّ عبد! أتدري ما رهبانيّة أمّتي؟» . قلت: الله ورسوله أعلم. قال:

«الهجرة، والصلاة، والجهاد، والصوم، والحجّ، والعمرة، والتكبير على التلاع» . وروي عن أنس بن مالك-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ لكلّ أمة رهبانية، ورهبانية هذه الأمّة الجهاد في سبيل الله» .

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {قَفَّيْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جواب القسم، لا محل لها مثلها. {عَلى آثارِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِرُسُلِنا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، وصنيع أبي السعود يقتضي: أن الباء زائدة في المفعول، ونصه: أي: ثم أرسلنا بعدهم رسلنا.

انتهى. جمل. و (نا) في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَقَفَّيْنا بِعِيسَى} معطوفة على ما قبلها، والإعراب مثلها. {اِبْنِ:} صفة عيسى، أو هو بدل منه، وهو مضاف، و {مَرْيَمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي. وجملة:{وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ:} معطوفة على ما قبلها. (جعلنا): فعل، وفاعل. {فِي قُلُوبِ:} متعلقان بما قبلهما، {قُلُوبِ:} مضاف، و {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، {اِتَّبَعُوهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {رَأْفَةً:} مفعول به لجعلنا. (رحمة): معطوف على ما قبله، وهو مرادف له.

{وَرَهْبانِيَّةً:} فيه وجهان: أحدهما: أنه معطوف على {رَأْفَةً وَرَحْمَةً،} وجعل إما بمعنى: خلق، أو بمعنى صير، و {اِبْتَدَعُوها} في هذا صفة ل:(رهبانية) وإنما خصت بذكر الابتداع؛ لأن الرأفة، والرحمة في القلب أمر غريزي، لا تكسّب للإنسان فيه، بخلاف الرهبانية فإنها من أفعال البدن، وللإنسان فيها تكسّب، إلا أبا البقاء منع هذا الوجه بأن ما جعله الله لا يبتدعونه. وجوابه ما تقدم من أنها لما كانت مكتسبة صح ذلك فيها. والوجه الثاني: أنها منصوبة بفعل مقدر، يفسره الظاهر، فتكون المسألة من باب الاشتغال، وإليه نحا الفارسي، والزمخشري، وأبو البقاء، وجماعة؛ إلا أن هؤلاء يقولون: إنه إعراب المعتزلة، وذلك: أنهم يقولون: ما كان من فعل الإنسان؛ فهو مخلوق له، فالرأفة، والرحمة لمّا كانتا من فعل الله؛ نسب خلقهما إليه، والرهبانية لما لم تكن من فعل الله تعالى، بل من فعل العبد يستقل بفعلها؛ نسب ابتداعها إليه. انتهى. جمل نقلا عن السمين.

ص: 537

{اِبْتَدَعُوها:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب صفة (رهبانية) على اعتبارها معطوفة على ما قبلها، ولا محل لها على اعتبارها مفسرة لجملة محذوفة مستأنفة.

قال ابن هشام في مغنيه: والمشهور: أنه عطف على ما قبله، و {اِبْتَدَعُوها} صفة. ولا بد من تقدير مضاف؛ أي: وحب رهبانية. انتهى.

{ما:} نافية. {كَتَبْناها:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب صفة (رهبانية) أو هي مستأنفة، لا محل لها. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {إِلاَّ:}

أداة استثناء. {اِبْتِغاءَ:} استثناء منقطع. وقيل: هو متصل مما هو مفعول من أجله، والمعنى:

ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا لابتغاء مرضاة الله، ويكون (كتب) بمعنى: قضى، وهذا قول مجاهد، وإلى الأول ذهب قتادة، وجماعة. قالوا: معناه: لم نفرضها عليهم، ولكنهم ابتدعوها. انتهى. نقلا عن السمين. هذا؛ وأجيز اعتباره بدلا من (ها) والمعنى: ما كتبنا عليهم إلا ابتغاء، وهو ضعيف معنى كما ترى، و {اِبْتِغاءَ} مضاف، و {رِضْوانِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، و {رِضْوانِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه.

{فَما:} (الفاء): حرف استئناف. (ما): نافية. {رَعَوْها:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ التي هي فاعله، (وها): مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {حَقَّ:} مفعول مطلق، أو نائب مفعول مطلق، و {حَقَّ} مضاف، و {رِعايَتِها} مضاف إليه، (وها): في محل جر بالإضافة. {فَآتَيْنَا:}

(الفاء): حرف استئناف. (آتينا): فعل، وفاعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به أول، وجملة:{آمَنُوا} صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة. {أَجْرَهُمْ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَكَثِيرٌ:} (الواو): حرف استئناف.

(كثير): مبتدأ. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (كثير). {فاسِقُونَ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. وإن اعتبرتها في محل نصب حال من الضمير العائد على الموصول، أو من الموصول نفسه؛ فالرابط: الواو، والضمير.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} الخطاب لأهل الكتابين من اليهود، والنصارى، المعنى:

يا أيها الذين آمنوا بموسى، وعيسى. {اِتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ:} محمد صلى الله عليه وسلم {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ:}

نصيبين. {مِنْ رَحْمَتِهِ:} يعني يؤتكم أجرين لإيمانكم بعيسى، والإنجيل، وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن،

ص: 538

كما قال تعالى في سورة (القصص) رقم [54]: {أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا} . فعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فله أجران، وعبد مملوك أدّى حقّ الله وحقّ مواليه فله أجران ورجل أدّب أمته، فأحسن تأديبها، ثمّ أعتقها، وتزوّجها، فله أجران» . أخرجه البخاري ومسلم.

هذا؛ وقال سعيد بن جبير-رضي الله عنه: لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين (انظر القصص رقم [54]) أنزل الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم هذه الاية في حق هذه الأمة.

وفي أسباب النزول للسيوطي مثله، وقد أسنده إلى مقاتل، فجعل لهم أجرين مثل أجور مؤمني أهل الكتاب، وزادهم بقوله:{وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} يعني: هدى يتبصر به من العمى، والجهالة، وسبيلا واضحا في الدين تهتدون به في الدنيا، وأيضا في الاخرة على الصراط كما رأيت في الاية رقم [12]. {وَيَغْفِرْ لَكُمْ:} هذا زيادة من فضله تعالى. ومثل هذه الاية قوله تعالى في سورة (الأنفال) رقم [29]: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . ومما يؤيد هذا القول ما يلي:

فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلكم، ومثل اليهود، والنصارى، كمثل رجل استعمل عمّالا، فقال: من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ ألا فعملت اليهود. ثم قال: من يعمل لي من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ ألا فعملت النصارى. ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشّمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين عملتم، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر عملا وأقل عطاء! قال: هل ظلمتكم من أجركم شيئا؟ قالوا: لا. قال: فإنّما هو فضلي أوتيه من أشاء» . أخرجه الإمام أحمد.

وعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المسلمين، واليهود، والنصارى كمثل رجل استعمل قوما يعملون له عملا، يوما إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا، وما عملنا باطل، فقال لهم:

لا تفعلوا، أكملوا بقية عملكم، وخذوا أجركم كاملا! فأبوا، وتركوا. واستأجر آخرين بعدهم، فقال: أكملوا يومكم، ولكم الذي شرطت لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان حين صلّوا العصر؛ قالوا: ما عملنا باطل، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه، فقال: أكملوا بقية عملكم، فإنما بقي من النهار شيء يسير، فأبوا. فاستأجر قوما أن يعملوا له بقية يومهم، فعملوا بقية يومهم حتّى غابت الشمس، فاستكملوا أجرة الفريقين كليهما، فذلك مثلهم، ومثل ما قبلوا من هذا النور». رواه البخاري. انتهى. مختصر ابن كثير للصابوني.

هذا؛ وقال القرطبي-رحمه الله تعالى-: وفي البخاري: حدثنا الحكم بن نافع؛ قال:

حدثنا شعيب عن الزهري؛ قال: أخبرني سالم بن عبد الله: أن عبد الله بن عمر-رضي الله

ص: 539

عنهما-. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول وهو قائم على المنبر:«إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أعطي أهل التوراة التوراة، فعملوا بها؛ حتى انتصف النهار، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا به حتى صلاة العصر، ثمّ عجزوا، فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أعطيتم القرآن، فعملتم به حتى غربت الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين. قال أهل التوراة: ربّنا هؤلاء أقلّ عملا، وأكثر أجرا! قال: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا. فقال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء» .

وفي رواية: «فغضبت اليهود، والنصارى، وقالوا: ربنا

». الحديث. انتهى.

الإعراب: {يا أَيُّهَا:} (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب بأداة النداء، (وها): حرف تنبيه لا محل لها، أقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدل من (أيها)، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {اِتَّقُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها، وجملة:{وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ:} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {يُؤْتِكُمْ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب، وجزمه عند الجمهور بشرط محذوف، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى الله تقديره:«هو» ، والكاف مفعول به أول. {كِفْلَيْنِ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية لا محل لها. {مِنْ رَحْمَتِهِ:} متعلقان بمحذوف صفة {كِفْلَيْنِ} .

{وَيَجْعَلْ:} الواو: حرف عطف. (يجعل): معطوف على {يُؤْتِكُمْ،} والفاعل يعود إلى (الله).

{لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {نُوراً:} مفعول به. {تَمْشُونَ:} فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب صفة {نُوراً}. {وَيَغْفِرْ:} الواو: حرف عطف. (يغفر): فعل مضارع معطوف على (يجعل). {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان به، والفاعل يعود إلى (الله) أيضا، والجملة الاسمية:{وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} مستأنفة، لا محل لها.

{لِئَلاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}

الشرح: {لِئَلاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ} المعنى: ليعلم أهل الكتاب. قال قتادة-رحمه الله تعالى-: حسد أهل الكتاب المسلمين، فنزلت الاية الكريمة. وقال مجاهد-رحمه الله تعالى-:

ص: 540

قالت اليهود: يوشك أن يخرج منا نبي يقطع الأيدي، والأرجل، فلما خرج من العرب؛ كفروا، فنزلت الاية الكريمة، وهو فحوى قول المفسرين: إن أهل الكتاب كانوا يقولون: الوحي، والرسالة فينا، والكتاب، والشرع ليس إلا لنا، والله خصنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين جميع العالمين. فرد الله عليهم بهذه الاية الكريمة، ورمى كيدهم في نحورهم، ثم بين جل جلاله، وتعالى شأنه بأنهم عاجزون، لا يستطيعون تحصيل شيء من فضل الله، وأن الفضل: النبوة، والنعمة، وخيرات الدنيا بيد الله، يختص بها من يشاء من عباده، والله هو صاحب الفضل العظيم، والخير العميم. قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [105] وسورة (آل عمران) رقم [74]:

{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وقال عز وجل في سورة (البقرة) رقم [269]:

{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ} ومعنى {بِيَدِ اللهِ:} في ملكه، وتصرفه {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ} الله؛ لأنه قادر مقتدر مختار، وانظر شرح (اليد) في الاية رقم [47] من سورة (الذاريات).

الإعراب: {لِئَلاّ:} (اللام): حرف تعليل وجر. (أن): حرف مصدري، ونصب، واستقبال.

(لا): صلة. {يَعْلَمَ:} مضارع منصوب ب: «أن» . {أَهْلُ:} فاعل، وهو مضاف، و {الْكِتابِ} مضاف إليه، و (أن) والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، التقدير: أعلمكم بذلك؛ ليعلم

إلخ. وقال أبو البقاء: وقيل: ليست زائدة، والمعنى: لئلا يعلم أهل الكتاب عجز المؤمنين. انتهى. (أن): مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنهم. (لا): نافية. {يَقْدِرُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أن)، و (أن) المخففة، واسمها المحذوف وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي (يعلم). {عَلى شَيْءٍ:}

متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ فَضْلِ:} متعلقان بمحذوف صفة {شَيْءٍ،} و {فَضْلِ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {وَأَنَّ:} الواو: حرف عطف. (أنّ): حرف مشبه بالفعل. {الْفَضْلَ:} اسمها. {بِيَدِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (أن). و (يد) مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والمصدر المؤول من (أنّ) واسمها، وخبرها معطوف على ما قبله.

{يُؤْتِيهِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، منع من ظهورها الثقل، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} والهاء مفعوله الأول. {مِنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبني على السكون في محل نصب مفعول به ثان، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، لا محل لها. وقيل في محل رفع خبر ثان ل:(أنّ). وقيل: هي الخبر وحدها، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من الفضل، وهي حال لازمة؛ لأن كونه بيد الله لا ينتقل ألبتة. انتهى. نقلا عن السمين. هذا؛ وأقول: يجوز اعتبار الجار والمجرور متعلقين ب: {الْفَضْلَ؛} لأنه مصدر.

ص: 541

{وَاللهُ:} (الواو): حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {ذُو:} خبره مرفوع وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذُو:} مضاف، و {الْفَضْلَ:} مضاف إليه. {الْعَظِيمِ:}

صفة {الْفَضْلَ،} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.

انتهت سورة (الحديد) شرحا وإعرابا بحمد الله وتوفيقه.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 542