الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الصّفّ
بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الصف) مدنية في قول الجميع فيما ذكره الماوردي. وقيل: إنها مكية. ذكره النحاس عن ابن عباس-رضي الله عنهما. وهي أربع عشرة آية، ومئتان وإحدى وعشرون كلمة، وتسعمئة حرف. انتهى. خازن.
بسم الله الرحمن الرحيم
{سَبَّحَ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}
انظر شرح هذه الاية، وإعرابها في أول سورة (الحديد). هذا؛ وسميت السورة ب:(الصف)؛ أي: صف القتال في الحرب.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2)}
الشرح: قيل: سبب نزول الاية وما بعدها ما روي عن عبد الله بن سلام-رضي الله عنه قال: قعدنا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله؛ لعملناه؟ فأنزل الله الايات. قال عبد الله بن سلام-رضي الله عنه: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه الترمذي. وقال المفسرون: إن المؤمنين قالوا: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعملناه، ولبذلنا فيها أموالنا، وأنفسنا، فأنزل الله عز وجل:{إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} وأنزل الله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ..} . إلخ رقم [10] الاتية، فابتلوا يوم أحد، فولّوا مدبرين، وكرهوا الموت، وأحبوا الحياة، فأنزل الله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ..} .
إلخ وهذا يفيد: أن صدر السورة الكريمة متأخر في النزول عن الايات المذكورة.
وقيل: لما أخبر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثواب أهل بدر؛ قالت الصحابة: لئن لقينا قتالا؛ لنفرغنّ فيه وسعنا! ففروا يوم أحد، فعيرهم الله بهذه الاية. وقيل: نزلت في شأن القتال، كان الرجل يقول: قاتلت، ولم يقاتل، وأطعمت، ولم يطعم، وضربت، ولم يضرب، فنزلت هذه الاية. وقال صهيب-رضي الله عنه: كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر، وأنكاهم، فقتلته، فقال رجل: يا نبي الله إني قتلت فلانا! ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال عمر، وعبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنهما: يا صهيب! أما أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنك قتلت فلانا، فإن فلانا
انتحل قتله! فأخبره: فقال: «أكذلك يا أبا يحيى؟!» . قال: نعم، والله يا رسول الله! فأنزل الله الاية في المنتحل. وقال ابن زيد-رحمه الله تعالى-: نزلت في المنافقين، كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: إن خرجتم، وقاتلتم؛ خرجنا معكم، وقاتلنا. فلما خرجوا؛ نكصوا عنهم، وتخلفوا، وهذا حصل منهم في غزوة أحد، وفي غزوة تبوك، وغيرهما. هذا فيكون نداؤهم بالإيمان على زعمهم، وادعائهم.
هذا؛ وقد حكى الله عنهم مثل ذلك في سورة (النساء) بقوله: {فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ} رقم [77]، وأيضا قوله تعالى في سورة محمد صلى الله عليه وسلم:{فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} رقم [20].
{لِمَ:} كلمة مؤلفة من حرف، واسم، فالحرف: اللام الجارة، والاسم:(ما) الاستفهامية، وقد حذفت ألفها، كما تحذف مع كل جار، نحو قوله تعالى في سورة (النازعات):
{فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها} وقوله في سورة (الحجر) رقم [54]: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ،} وقوله في سورة (النبأ): {عَمَّ يَتَساءَلُونَ،} وكما في الاية التي نحن بصدد شرحها، والاية رقم [5] الاتية، وذلك للفرق بين الموصولة، والاستفهامية. ويقال: للفرق بين الخبر، والاستخبار، ومن شواهدها الشعرية قول الكميت-وهو الشاهد رقم [554] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، إعراب شواهد مغني اللبيب-:[الطويل] فتلك ولاة السّوء قد طال مكثهم
…
فحتّام حتّام العناء المطوّل؟
وأيضا قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي المذحجي-رضي الله عنه-وهو الشاهد [250] من الكتاب المذكور: [الطويل] علام تقول الرمح يثقل عاتقي
…
إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرّت؟
هذا؛ وقد ثبتت ألفها مع دخول الجار عليها في ضرورة الشعر، ومنه قول حسان بن ثابت-رضي الله عنه-يهجو به رجلا من بني مخزوم، وهو الشاهد رقم [556] من الكتاب المذكور:[الوافر] على ما قام يشتمني لئيم
…
كخنزير تمرّغ في دمان؟
الإعراب: {يا أَيُّهَا:} (يا): أداة نداء تنوب مناب أدعو. (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب بأداة النداء، و (ها) حرف تنبيه لا محل له، أقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه، ولا يجوز اعتبار الهاء ضميرا في محل جر بالإضافة؛ لأنه حينئذ يجب نصب المنادى. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدلا من لفظ (أيها). {آمَنُوا:}
فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مع المتعلق
المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {لِمَ:} (اللام): حرف جر. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل جر باللام، والسكون هو الألف المحذوفة كما رأيت في الشرح، والجار والمجرور متعلقان بما بعدهما. {تَقُولُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: تقولون الذي، أو شيئا لا تفعلونه.
{كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3)}
الشرح: {كَبُرَ مَقْتاً:} عظم مقتا عند الله قولكم الذي لا تفعلونه، والفعل {كَبُرَ} محول إلى صيغة فعل بضم العين التي هي للذم هنا، وتكون للمدح أيضا، كقوله تعالى:{وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} إذ كل فعل ثلاثي متصرف يمكن تحويله إلى صيغة فعل للذم، أو للمدح. وفي الكشاف:
قصد في {كَبُرَ} التعجب من غير لفظه، ومعنى التعجب: تعظيم الأمر في قلوب السامعين؛ لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره، وأشكاله. ونصب {مَقْتاً} على التمييز دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص، لا شوب فيه؛ لفرط تمكن المقت منه، واختير لفظ (المقت) لأنه أشد البغض، وأبلغه، {عِنْدَ اللهِ} أبلغ من ذلك؛ لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله؛ فقد تم كبره، وشدته، وانزاحت عنه الشكوك. هذا؛ وفي سورة (غافر) رقم [35]:{كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا،} وفي سورة (الكهف) رقم [5]: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ} .
فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبدا؛ نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء؛ لم تلفه إلاّ مقيتا ممقتا، فإذا لم تلفه إلا مقيتا ممقتا؛ نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة؛ لم تلفه إلا خائنا مخوّنا، فإذا لم تلفه إلاّ خائنا مخوّنا؛ نزعت منه الرّحمة، فإذا نزعت منه الرّحمة؛ لم تلفه إلا رجيما ملعنا، فإذا لم تلفه إلا رجيما ملعنا؛ نزعت منه ربقة الإسلام» . رواه ابن ماجه، الربقة بكسر الراء وفتحها: واحدة الربق، وهي عرى في حبل تشد به الغنم ونحوها، وتستعار لغيره.
هذا؛ وتفيد الايتان: أنه حصل وعد من المسلمين، وخلف لما وعدوا به، كما رأيت في شرحهما، ثم وقع توبيخ شديد، بل، وتهديد عظيم من الله تعالى لهذا الخلف. لذا فإني أتكلم على هذا بإسهاب هنا، والله الموفق والمعين، فأقول وبالله أستعين: الوعد يستعمل في الخير وفي الشر، فإذا قلت: وعدت فلانا من غير أن تتعرض لذكر الموعود به؛ كان ذلك خيرا، وإذا قلت: أوعدت فلانا من غير ذكر الموعود به؛ كان ذلك شرا، وهو ما في قول طرفة بن العبد من معلقته رقم [120]:[الطويل]
وإنّي وإن أوعدته أو وعدته
…
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وهذا هو قول الجوهري، وقول كثير من أئمة اللغة، وأما عند ذكر الموعود به، أو الموعد به، فيجوز أن يستعمل (وعد) في الخير وفي الشر، فمن الأول قوله تعالى في سورة (المائدة):
{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ،} ومن الثاني قوله تعالى شأنه، وتعالت حكمته في سورة (الحج) رقم [72]:{قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وأنشدوا: [الطويل] إذا وعدت شرّا أتى قبل وقته
…
وإن وعدت خيرا أراث وعتّما
كما يستعمل (أوعد) فيهما أيضا، كقولك:«أوعدت الرجل خيرا، وأوعدته شرا» . هذا؛ والمركّز في الطبائع: أن من مكارم الأخلاق، وجميل العادات: أنك إذا وعدت غيرك أن تنزل به شرا؛ كان الخلف محمدة، وإن وعدته خيرا؛ كان الخلف منقصة، وهذا ما أراده طرفة في بيته المتقدم الذكر.
هذا؛ والثابت عند الأشاعرة: أنه يجوز إخلاف الوعيد في حقه تعالى كرما. وعند الماتريدية لا يجوز. وأما الوعد؛ فلا يجوز الخلف في حقه تعالى اتفاقا. دليل الأشاعرة قول النبي صلى الله عليه وسلم:
هذا؛ والوفاء بالوعد حلية الأنبياء، وشعار ذوي التقى، والفضل من الأصفياء، ورمز الثقة من ذوي الرأي، والحكمة من العقلاء، وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أمر العهد، وشدد في طلب الوفاء بالوعد، وبين أن من أخلف الوعد، ونكث العهد؛ فقد خان الله ورسوله، وباع آخرته بدنياه، وخرج عن دينه، ودخل في النفاق. فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه. قال: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» . رواه أحمد، والطبراني.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث؛ إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» . رواه البخاري، ومسلم، وزاد مسلم في رواية له:«وإن صلّى وصام، وزعم أنه مسلم» . وزاد أبو يعلى من رواية أنس: «وإن صام وصلّى، وحجّ واعتمر، وقال: إني مسلم» . وقال الشاعر المسلم: [الطويل] فإن تجمع الافات فالبخل شرّها
…
وشرّ من البخل المواعيد والمطل
ولا خير في وعد إذا كان كاذبا
…
ولا خير في قول إذا لم يكن فعل
ومن أحسن ما قيل في تشبيه من يخلف الوعد بمسيلمة الكذاب قول بعضهم: [الطويل] ووعدتني وعدا حسبتك صادقا
…
فبقيت من طمعي أجيء وأذهب
فإذا جلست أنا وأنت بمجلس
…
قالوا مسيلمة وهذا أشعب
وفي الايتين الكريمتين أكبر رادع، وأعظم زاجر للذين يعدون، ولا يفون، ويقولون، ولا يفعلون. ولولا الإطالة عليك؛ لذكرت لك الكثير من الأحاديث النبوية، والشواهد الشعرية.
الإعراب: {كَبُرَ:} فعل ماض. {مَقْتاً:} تمييز. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق ب: {مَقْتاً} لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له. و {عِنْدَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {تَقُولُوا:} مضارع منصوب ب: {أَنْ،} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {ما لا تَفْعَلُونَ} إعرابه مثل إعراب ما قبله.
و {أَنْ تَقُولُوا} في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ مؤخر، والجملة الفعلية:{كَبُرَ مَقْتاً..} .
إلخ في محل رفع خبر مقدم، وعليه ففاعل {كَبُرَ} ضمير يفسره التمييز، ويجوز أن يكون المصدر المؤول في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو قولكم ما لا تفعلون، ويكون فاعل {كَبُرَ} ضميرا مميزا، التقدير: كبر المقت مقتا. وحسن أن تكون جملة: {كَبُرَ مَقْتاً} خبرا مقدما للقول على الوجه الأول؛ لأنه بمعنى الذم، تقديره: قولكم ما لا تفعلون مذموم، وقامت الجملة الفعلية مقامه، كما تقول: زيد نعم رجلا، فترفع زيدا، بالابتداء، وما بعده خبره، وليس فيه ما يعود عليه، لكنه جاز، وحسن؛ لأن معناه المدح، فكأنه قال: زيد الممدوح، وقام «نعم رجلا» مقام:«ممدوح» فافهمه. انتهى. مكي بتصرف كبير مني.
{إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)}
الشرح: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} أي: يحب المجاهدين الذين يصفّون أنفسهم عند القتال صفا، ويثبتون في أماكنهم عند لقاء العدو. {كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ} أي: كأنهم في تراصهم، وثبوتهم في المعركة بناء قد رصّ بعضه إلى بعض، وألصق، وأحكم حتى صار شيئا واحدا. وقال القرطبي: ومعنى الاية: أن الله تعالى يحب من يثبت في الجهاد في سبيل الله، ويلزم مكانه كثبوت البناء. وهذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوهم، لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان. هذا؛ وفي الاية تشبيه مرسل مفصل- {كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ} -فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يضحك الله إليهم: الرجل يقوم من الليل، والقوم إذا صفّوا للصّلاة، والقوم إذا صفّوا للقتال» . أخرجه ابن ماجه، والإمام أحمد، ومعنى ضحكه تعالى شأنه: رحمته ورضوانه، وهذه الاية ترغّب المؤمنين في الجهاد، ومحاربة الكفار. وخذ ما يلي:
فعن سهل بن سعد-رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا، وما عليها، والروحة
يروحها العبد في سبيل الله، أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها». رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما. وعن أبي أمامة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن صلاة المرابط تعدل خمسمئة صلاة، ونفقة الدينار والدرهم منه أفضل من سبعمئة دينار ينفقه في غيره» . رواه البيهقي. وعن عثمان بن عفان-رضي الله عنه. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «حرس ليلة في سبيل الله، أفضل من ألف ليلة، يقام ليلها، ويصام نهارها» . رواه الحاكم. وعن زيد بن خالد الجهني-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من جهّز غازيا في سبيل الله؛ فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله بخير؛ فقد غزا» . رواه البخاري ومسلم وغيرهما. هذا؛ وحبذا لو نوى المجند الجهاد في سبيل الله، فيكون كل عمله جهادا؛ حتى يسرح من جنديته.
عن ثوبان-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها» . فقال قائل: من قلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل! ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم! وليقذفنّ في قلوبكم الوهن!» . قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: «حبّ الدنيا، وكراهية الموت» . رواه أبو داود، وأحمد، وغيرهما. وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزّرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلّط الله عليكم ذلاّ، لا ينزعه عنكم؛ حتى ترجعوا إلى دينكم» . رواه أبو داود.
وقد روي من طرق مختلفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: «ما تعدّون الشهيد فيكم؟» . قلنا يا رسول الله: من قتل في سبيل الله. قال: «إنّ شهداء أمتي إذا لقليل! من قتل في سبيل الله فهو شهيد، والمتردّي شهيد، والنفساء شهيد، والغريق شهيد، والسّلّ شهيد، والحريق شهيد، والغريب شهيد» . وفي رواية أخرى: «والمبطون شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمطعون شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد» . ومعنى: «والمرأة تموت بجمع» . أي: تموت وفي بطنها ولد. وقيل: التي تموت بكرا. وعن سعيد بن زيد-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد» . رواه أبو داود، وغيره.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «فلا تعطه مالك» . قال: أرأيت إن قاتلني. قال: «قاتله» .
قال: أرأيت إن قتلني. قال: «فأنت شهيد» . قال: أرأيت إن قتلته. قال: «هو في النّار» . رواه مسلم والنسائي.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يُحِبُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة،
لا محل لها على الاعتبارين. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، والجملة بعده صلته، لا محل لها. {فِي سَبِيلِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {صَفًّا:} حال بمعنى: مصطفين، أو صافين، فهو مصدر بمعنى اسم الفاعل، وصاحب الحال: واو الجماعة. {كَأَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {بُنْيانٌ:} خبر (كأن). {مَرْصُوصٌ:} صفة له، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المستتر في {صَفًّا،} فهي حال متداخلة. وإن اعتبرتها حالا من واو الجماعة، فهي حال متعددة.
الشرح: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ:} لما ذكر الله أمر الجهاد؛ بيّن أن موسى، وعيسى-على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام-أمرا بالتوحيد، وجاهدا في سبيل الله، وحل العقاب بمن خالفهما؛ أي: واذكر لقومك يا محمد هذه القصة. {يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ} أي: لم توصلون الأذى إلي؛ وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة؟! وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من كفار مكة. هذا؛ وأنواع الإيذاء التي آذى بها بنو إسرائيل موسى كثيرة، لا تعدّ ولا تحصى، منها: قولهم: {أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً،} وقولهم: {لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ} وقولهم: {اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ،} وقولهم:
{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ} وقولهم: (إنّك يا موسى قتلت هارون). ومنها:
ما ذكر في قصة قارون: أنه دس إلى امرأة تدعي على موسى الفجور كما رأيت في سورة (القصص). ومنها: أنهم رموا موسى بالأدرة. انظر ما ذكرته في الاية رقم [69] من سورة (الأحزاب) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
تنبيه: من المشهور عند أهل العربية: أن «قد» تصحب الماضي لتقربه من الحال، وإذا صحبت المضارع، فإنها تفيد التقليل، مثل قولهم:(إن الكذوب قد يصدق) ولكنها هنا جاءت مع المضارع للتكثير؛ أي: لتكثير علمهم؛ أي: تحقيق تأكيده على عكس معناها الأصل في التقليل، وإذا اعتبرت الفعل:{تَعْلَمُونَ} بمعنى علمتم زال الإشكال.
{فَلَمّا زاغُوا} أي: مالوا عن الحق وعدلوا عنه. {أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ:} عن الهداية، والتوفيق لصالح الأعمال، وأودع فيها الشك، والحيرة، وعدم الاهتداء. قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [186]:{مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ} . وقال في سورة (يونس) رقم [11]: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ} . وقال تعالى في سورة (النساء) رقم [115]: {وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَنُصْلِهِ}
{جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً} . {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ:} لا يوفقهم إلى طريق الحق والصواب؛ لأنهم مالوا عن طريق الحق والصواب، وظلموا أنفسهم بالمعاصي، والخروج عن طاعة الله، وسبق في علم الله الأزلي: أنهم من أهل النار، ولو تركوا وشأنهم؛ لما اختاروا غير ذلك. وهذا جواب لمن يعترض، ويقول: لماذا لا يهديهم، ولا يوفقهم إلى طريق الحق والصواب. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَإِذْ:} (الواو): حرف عطف، أو حرف استئناف. (إذ): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر وقت، أو هو مفعول به لهذا المحذوف، وهو أولى. {قالَ:} ماض. {مُوسى:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية مع مقولها في محل جر بإضافة (إذ) إليها.
{لِقَوْمِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {يا قَوْمِ:} (يا): أداة نداء تنوب مناب أدعو، أو أنادي. (قوم): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، والياء المحذوفة في محل جر بالإضافة، وحذف الياء هذه إنما هو بالنداء خاصة؛ لأنه لا لبس فيه، ومنهم من يثبت الياء ساكنة، فيقول:(يا قومي)، ومنهم من يثبتها، ويحركها بالفتحة، فيقول:(يا قومي)، ومنهم من يقلبها ألفا بعد فتح ما قبلها، فيقول:
(يا قوما)، ومنهم من يحذف الياء بعد قلبها ألفا، وإبقاء الفتحة على الميم دليلا عليها، فيقول:
(يا قوم) قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز] واجعل منادى صحّ إن يضف ليا
…
كعبد عبدي عبد عبدا عبديا
ويزاد لغة سادسة، وهو لغة القطع (يا قوم) بضم الميم، ففي الحديث الشريف «يقول العبد:
يا ربّ، يا ربّ». وقرئ في سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام: {(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ
…
)} إلخ، والجملة الندائية في محل نصب مقول القول. {لِمَ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، وانظر تفصيل إعرابها في الاية رقم [3]. {تُؤْذُونَنِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {وَقَدْ:} (الواو): واو الحال.
(قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {تَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط:
الواو، والضمير. {أَنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {رَسُولُ:} خبر (إنّ)، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {إِلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من {رَسُولُ اللهِ} وأجيز تعليقهما ب: {رَسُولُ؛} لأنه بمعنى مرسول الله. و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محلّ نصب سد مسد مفعولي {تَعْلَمُونَ} . هذا؛ وساغ اعتبار الجملة الفعلية في محل
نصب حال على توجيهين: الأول: على اعتبار الفعل بمعنى الماضي. والثاني: على اعتبار الجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: وأنتم تعلمون
…
إلخ. وأحد هذين التوجيهين؛ لا يجوز؛ لأن الجملة الفعلية المضارعية الواقعة حالا لا يجوز أن تقترن بالواو. قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز] وذات بدء بمضارع ثبت
…
حوت ضميرا ومن الواو خلت
وذات واو بعدها انو مبتدا
…
له المضارع اجعلنّ مسندا
{فَلَمّا:} (الفاء): حرف استئناف. (لما): انظر الاية رقم [16] من سورة (الحشر).
{زاغُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، تقديره: زاغوا عن الحق، والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا؛ لأنها ابتدائية، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. {أَزاغَ:} فعل ماض. {اللهِ:} فاعله.
{قُلُوبَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية جواب (لمّا)، لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {وَاللهُ:} (الواو): حرف استئناف. (الله):
مبتدأ. {لا:} نافية. {يَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {الْقَوْمَ:} مفعول به. {الْفاسِقِينَ:} صفة {الْقَوْمَ} منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.
الشرح: {وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ} أي: واذكر يا محمد لقومك هذه القصة أيضا.
ولم يقل: «يا قوم» كما قال موسى-على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام-؛ لأنه لا نسب له فيهم، فيكونون قومه؛ لأنه لا أب له، كما هو معروف، ومشهور، والنسب للأب، لا للأم. فتنبه لهذا، واحفظه فإنه جيد، والحمد لله. {إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ} أي: مرسل إليكم رسولا من قبل الله تعالى بالوصف المذكور في التوراة. {مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ} أي: مصدقا، ومعترفا بأحكام التوراة، الموجودة بين يديّ، وكتب الله، وأنبيائه جميعا، ولم آتكم بشيء يخالف التوراة؛ حتى تنفروا عني، وتبتعدوا مني. {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} أي: وجئت لأبشركم ببعثة رسول يأتي من بعدي اسمه: أحمد. قال الالوسي: وهذا الاسم الكريم علم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال حسان-رضي الله عنه:[الكامل]
صلّى الإله ومن يحفّ بعرشه
…
والطّيّبون على المبارك أحمد
فعيسى-عليه الصلاة والسلام-هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل مبشرا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين؛ الذي لا رسالة بعده، ولا نبوة، وهو صريح قوله تعالى في سورة (الأحزاب) رقم [40]:{ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ} . وما أحسن ما أورد البخاري عن جبير بن مطعم. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ لي أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي؛ الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر؛ الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب» . أخرجه البخاري، ومسلم، ومعنى العاقب: الذي لا نبي بعده.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد: لئن بعث محمد، وهو حي ليتبعنّه، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنّه وينصرنّه. وقال محمد بن إسحاق عن خالد بن معدان-رضي الله عنه، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك! قال: «أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور، أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام» . قال ابن كثير:
إسناده جيد. وعن العرباض بن سارية-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأوّل ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين» . أخرجه الإمام أحمد. هذا؛ وبشارة عيسى عليه السلام ما ذكر في هذه السورة، أما دعوة إبراهيم عليه السلام؛ فهي قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [129] حكاية عن قول إبراهيم:{رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
وجملة القول: أن الأنبياء-عليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام-لم تزل تصفه، وتذكره في كتبها على أممها، من لدن آدم إلى عيسى ابن مريم، وتأمرهم باتباعه، ونصرته، ومؤازرته إذا بعث، وكان أول ما اشتهر الأمر في أهل الأرض على لسان إبراهيم الخليل والد الأنبياء، والمرسلين جميعا حين دعا لأهل مكة يوم أسكن ابنه إسماعيل فيها، وبنى الكعبة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم، وكذا على لسان عيسى، كما رأيت.
{فَلَمّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ} أي: فلما جاءهم عيسى بالمعجزات الواضحات من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص، ونحو ذلك من المعجزات الدالة على صدقه في دعوى الرسالة. هذا هو الظاهر أن الضمير يعود إلى عيسى عليه الصلاة والسلام؛ لأنه المحدث عنه، وهو اختيار البيضاوي، والالوسي، وصاحب البحر المحيط. وقال ابن جريج-رحمه الله تعالى-: بل الضمير يعود إلى {أَحْمَدُ} المبشر به في الأعصار المتقادمة، المنوه بذكره في القرون السالفة.
{قالُوا} أي: لما ظهر أمره، وجاء بالبينات؛ قال الكافرون:{هذا سِحْرٌ مُبِينٌ} . في قراءة حمزة، والكسائي:«(ساحر)» وقد استدل البيضاوي بهذه القراءة على أن المراد به عيسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
وعن كعب الأحبار: أن الحواريين قالوا لعيسى: يا روح الله! هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم أمة أحمد: حكماء، علماء، أبرار، أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضوان باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل. انتهى. كشاف.
وخذ ما يلي: فعن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله عز وجل قال: يا عيسى! إنّي باعث من بعدك أمّة إن أصابهم ما يحبّون؛ حمدوا الله، وإن أصابهم ما يكرهون؛ احتسبوا، وصبروا، ولا حلم، ولا علم! فقال: يا ربّ كيف يكون هذا؟ قال: أعطيهم من حلمي، وعلمي» . رواه الحاكم. وقال: صحيح على شرط البخاري.
هذا؛ والسحر: كل ما لطف ودقّ، يقال: سحره: إذا أبدى له أمرا يدق عليه، ويخفى.
وقال الغزالي-رحمه الله-في الإحياء ما نصه: السحر نوع يستفاد من العلم بخواص الجواهر، وبأمور حسابية في مطالع النجوم، فيتخذ من تلك الخواص هيكل على صورة الشخص المسحور، ويترصد له وقت مخصوص من المطالع، وتقرن به كلمات يتلفظ بها من الكفر، والفحش المخالف للشرع، ويتوصل بسببها إلى الاستغاثة بالشياطين، ويحصل من مجموع ذلك بحكم إجراء الله العادة أحوال غريبة في الشخص المسحور. انتهى. هذا؛ والمعتمد أنّ من تعلّمه لدفع الضرر عن نفسه، أو عن غيره، أو اتخذه الشخص ذريعة للاتقاء عن الاغترار بمثله بقي على الإيمان، فلا كفر باعتقاد حقيقته، وجواز العمل به من غير إضرار بأحد. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَإِذْ قالَ عِيسَى:} هو مثل الاية السابقة بلا فارق. {اِبْنُ:} صفة {عِيسَى،} أو هو بدل منه، و {اِبْنُ} مضاف، و {مَرْيَمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والتأنيث المعنوي. {يا بَنِي:} (يا): أداة نداء تنوب مناب أدعو.
(بني): منادى منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و (بني) مضاف، و {إِسْرائِيلَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {رَسُولُ:} خبر (إنّ) وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {إِلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من {رَسُولُ اللهِ} وأجيز تعليقهما ب: {رَسُولُ} نفسه؛ لأنه بمعنى: مرسول الله.
{مُصَدِّقاً:} حال من الضمير المستكن في {رَسُولُ اللهِ} لتأويله ب: «مرسل» وهو العامل في الحال بهذا الاعتبار. انتهى. جمل. وقال مكي: حال من (عيسى). {لِما:} جار ومجرور متعلقان ب:
{مُصَدِّقاً} ف: (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل جر باللام. هذا؛ وقد اعتبر ابن هشام اللام في مغنيه زائدة، وسماها لام التقوية. وعليه ف:(ما) مجرورة لفظا، منصوبة محلا، مثل قوله تعالى:{لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ،} {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ،} {نَزّاعَةً لِلشَّوى،} {وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ،} {فَعّالٌ لِما يُرِيدُ} وأورد قول حاتم الطائي. وقيل: قول قيس بن عاصم المنقري-رضي الله عنه-وهو الشاهد رقم [398] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» : [الطويل] إذا ما صنعت الزّاد فالتمسي له
…
أكيلا فإني لست آكله وحدي
{بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (ما)، و {بَيْنَ} مضاف، و {يَدَيَّ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، وياء المتكلم في محل جر بالإضافة. {مِنَ التَّوْراةِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستقر في الظرف، و {مِنَ} بيان لما أبهم في الموصول. {وَمُبَشِّراً:} معطوف على {مُصَدِّقاً} . {بِرَسُولٍ:}
متعلقان ب: (مبشرا). {يَأْتِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (رسول)، والجملة الفعلية في محل جر صفة (رسول). {مِنْ بَعْدِي:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {اِسْمُهُ:} مبتدأ. {أَحْمَدُ:}
خبره، أو هو مبتدأ مؤخر، واسمه خبر مقدم، والجملة الاسمية في محل جر صفة ثانية ل:(رسول)، أو هي في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. {فَلَمّا:} (الفاء): حرف استئناف. (لمّا): انظر الاية رقم [16] من سورة (الحشر). {جاءَهُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {عِيسَى،} أو إلى (رسول) انظر الشرح، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لما) حرفا؛ لأنها ابتدائية، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها، على اعتبارها ظرفا.
{بِالْبَيِّناتِ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، أو هما متعلقان بالفعل قبلهما. {قالُوا:}
فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {سِحْرٌ:} خبر المبتدأ. {مُبِينٌ:} صفة {سِحْرٌ} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا هذا..} . إلخ جواب (لما)، لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.
الشرح: {وَمَنْ أَظْلَمُ..} . إلخ: أي: لا أحد أظلم، وأفسد، وأشقى ممن يدعى إلى الإسلام الظاهر حقيته المقتضي له خير الدارين، فيضع موضع إجابته الافتراء على الله بتكذيب رسوله،
وتسمية آياته سحرا. فإنه يعم إثبات المنفي، ونفي الثابت. وقرئ:«(يدّعي)» اي ينتسب. يقال:
دعاه وادّعاه، كلمسه، والتمسه. انتهى. هذا؛ والإسلام: الاستسلام، والخضوع، والانقياد لأوامر الله تعالى مع تنزيه الله عن الولد، والوالد، والصاحبة. وكله مضمون التوحيد، وفحواه؛ الذي جاء به الرسل جميعا، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم «الأنبياء بنو علاّت» . وبنو العلات أولاد الضرائر، وأبوهم واحد، يقصد النبي صلى الله عليه وسلم: أن الأنبياء جميعا جاؤوا بالتوحيد، وإن اختلفت الأحكام، والتكاليف الإلهية، ولذلك نطق الأنبياء بالإسلام، ومعناه: التوحيد. وخذ ما يلي:
فإبراهيم، وإسماعيل-عليهما السلام-قالا:{رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} . سورة (البقرة) رقم [128]. وقال يوسف-عليه السلام-سائلا ربه بقوله: {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ} سورة (يوسف) رقم [101]. ومن قول سليمان عليه السلام: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنّا مُسْلِمِينَ} سورة (النمل) رقم [42]. وبلقيس قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} سورة (النمل) رقم [44]. وغير ذلك كثير.
الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم استفهام مفيد للنفي، مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَظْلَمُ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.
{مِمَّنِ:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَظْلَمُ} و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(من). {اِفْتَرى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى (من) وهو العائد، أو الرابط. {عَلَى اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الْكَذِبَ:}
مفعول به، والجملة الفعلية صلة (من)، أو صفتها. {وَهُوَ:} (الواو): واو الحال. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {يُدْعى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل يعود إلى: الظالم. {إِلَى الْإِسْلامِ:}
متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل {اِفْتَرى} المستتر، والرابط: الواو، والضمير. {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} انظر إعراب مثلها في الاية رقم [5]:{وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} .
الشرح: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ} أي: يريد الكفار إبطال نور الله، وهو القرآن الكريم، أو الإسلام، أو المراد: حجج الله ودلائله. هذا؛ والإطفاء هو: الإخماد، يستعملان في النار، ويستعملان فيما يجري مجراها من الضياء، والظهور، ويفترقان من وجه، وهو: أن الإطفاء يستعمل في القليل، والكثير، والإخماد لا يستعمل إلا في الكثير، فيقال: اطفأت السراج. ولا يقال: أخمدت السراج، والاستعارة واضحة، حيث استعار نور الله لدينه، وشرعه الواضح،
وشبه من أراد إبطال هذا الدين بمن أراد إطفاء الشمس بفمه الحقير، على طريق الاستعارة التمثيلية. وهذا من لطيف الاستعارات.
{بِأَفْواهِهِمْ:} جمع: فوه على الأصل؛ لأن الأصل في فم: فوه، مثل: حوض، وأحواض، والمراد الكلام الذي يخرج من أفواههم، كطعن في الإسلام، وطعن في القرآن، وطعن في النبي صلى الله عليه وسلم. قال الفخر الرازي: وإطفاء نور الله تعالى تهكم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن: إنه سحر، إنه كهانة، شبهت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه، وفيه تهكم وسخرية بهم.
{وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ} أي: والله مظهر لدينه بنشره في الافاق، وإعلائه على جميع الأديان، والمراد: أن هذا الدين سينتشر في مشارق الأرض، ومغاربها، وهو فحوى قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها، ومغاربها، وإنّ ملك أمّتي سيبلغ ما زوي لي منها» . {وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} أي: ولو كره ذلك أعداء الله المشركون بالله وغيرهم، فإن الله سيعز شأن هذا الدين رغم أنف الكافرين. قال زاده: كان كفار مكة يكرهون هذا الدين الحق من أجل توغلهم في الشرك، والضلال، فكان المناسب إذلالهم، وإرغامهم بإظهار ما يكرهون من الحق، وليس المراد من إظهاره ألا يبقى في العالم من يكفر بهذا الدين، بل المراد أن يكون أهله عالين غالبين على سائر الأديان بالحجة، والبرهان، والسيف، واللسان إلى آخر الزمان. انتهى. صفوة التفاسير. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (التوبة) رقم [32]:{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} أي: كرهوا الإسلام، وإعلاء كلمته، وقد كان ذلك يوم اختار الله، وهيأ لهذا الدين من حمل لواءه، وبذلوا ما بذلوا حتى سطح نوره، وعم ربوع الدنيا، والتاريخ شاهد صدق على ذلك.
الإعراب: {يُرِيدُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من الظالمين، أو من الضمير المستتر فيه، والرابط: الضمير فقط، وهو واو الجماعة. {يُطْفِؤُا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعليه فالمفعول محذوف، التقدير: يريدون الكذب. أو يريدون الافتراء لإطفاء نور الله بأفواههم. هذا؛ ويجوز اعتبار اللام صلة، والمصدر المؤول في محل نصب مفعول به محلا، وفي محل جرّ باللام لفظا. قال الزمخشري: أصله يريدون أن يطفئوا نور الله، كما جاء في سورة (التوبة) وهي الاية الانفة الذكر، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة توكيدا له لما فيها من معنى التقوية. وهناك قول ثالث: أنها بمعنى (أن) الناصبة، وأنها ناصبة للفعل
بنفسها. قال الفراء: العرب تجعل لام كي في موضع: «أن» في: (أراد، وأمر) وإليه: ذهب الكسائي أيضا. انتهى. جمل نقلا من السمين. هذا؛ ومثل هذه الاية قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [26]: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ،} والاية رقم [71] من سورة (الأنعام): {وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ،} والاية رقم [33] من سورة (الأحزاب) ومثل ذلك كله قول كثير عزة وهو الشاهد رقم [394] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» : [الطويل] أريد لأنسى ذكرها فكأنما
…
تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل
{نُورَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {بِأَفْواهِهِمْ:} متعلقان بالفعل (يطفئوا)، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَاللهُ:} (الواو): واو الحال. (الله): مبتدأ. {مُتِمُّ:}
خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {نُورِهِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والهاء في محل جر بالإضافة. هذا؛ وقرئ بتنوين «(متم)» ونصب «(نوره)» على أنه مفعول به صريح، والجملة الاسمية:(الله متم نوره) في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو وإعادة اللفظ الكريم، وجاءت الحال من المضاف إليه؛ لأن المضاف كجزئه، انظر الاية رقم [10] من سورة (الممتحنة). {وَلَوْ:} (الواو): حرف عطف. (لو): وصلية، والجملة الفعلية:
{كَرِهَ الْكافِرُونَ} معطوفة على ما قبلها، والمفعول محذوف، تقديره: ولو كره الكافرون إتمام نوره. وانظر الاية التالية:
الشرح: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى} أي: الله هو الذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن، والإسلام. {وَدِينِ الْحَقِّ} أي: دين الإسلام. {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي: ليعليه على جميع الأديان بالحجج الدامغات، والبراهين الساطعات بالإضافة لما ذكرته في الاية السابقة. وخذ ما يلي:
فعن تميم الداري-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر، ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، يعز عزيزا، ويذل ذليلا، عزّا يعز الله به الإسلام، وذلاّ يذل الله به الكفر» . فكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير، والشرف، والعز، ولقد أصاب من كان كافرا منهم الذل، والصغار، والجزية. أخرجه الإمام أحمد في مسنده. {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ:} هو مثل الاية السابقة.
قال الجمل-رحمه الله تعالى-: فإن قيل: قال أولا: {وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ،} وقال ثانيا {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} فما الحكمة في ذلك؟ أجيب: بأنه تعالى أرسل رسوله، وهو من نعم الله تعالى، والكافرون كلهم في كفران النعم سواء، فلهذا قال:{وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ؛} لأن لفظ
الكافر أعم من لفظ المشرك، فالمراد من الكافرين هنا: اليهود، والنصارى، والمشركون، فلفظ الكافر أليق به، وأما قوله:{وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} فذلك ب: {لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ} فلم يقولوها، فلهذا قال:{وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} . انتهى. نقلا من الخطيب.
تنبيه: قال أبو هريرة، والضحاك: هذا (أي: ما ذكر في الاية الكريمة) عند نزول عيسى عليه السلام. وقال السدي: ذاك عند خروج المهدي، ولا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام، وأيد ذلك القرطبي، وذكره الزمخشري بلفظ: قيل. ولا تنس: أن الاية مذكورة بحروفها في سورة (التوبة) برقم [33]، وفي سورة (الفتح) برقم [28].
تنبيه: قال الله تعالى في سورة (النساء) رقم [141]: {فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} في تأويل هذا الجعل أقوال:
أحدها: وهو قول علي، وابن عباس-رضي الله عنهم أجمعين-: أن المراد به في يوم القيامة، بدليل عطفه على ما قبله. الثاني: أن هذا في الدنيا. والمعنى: أن حجة المؤمنين غالبة في الدنيا على الكافرين، وليس لأحد يغلبهم بالحجة. الثالث: معناه: أن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا بأن يمحو دولة المؤمنين بالكلية حتى يستبيحوا بيضتهم، فلا يبقى أحد من المؤمنين. الرابع: أن شريعة الإسلام باقية إلى يوم القيامة، لا تتغلب عليها شريعة ما. ويتفرع على هذا مسائل، منها: أن الكافر لا يرث المسلم. ومنها: أن الكافر لا يحق له أن يشتري عبدا مسلما. ومنها: أن الكافر لا يتزوج مسلمة. هذا؛ وقد قال الله تعالى في سورة (المائدة) رقم [56]: {فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ} أي: الغالبون بالحجة، والبرهان، فإنها مستمرة أبدا، لا بالدولة، والصولة، وإلا فقد غلب حزب الله غير مرة حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. قاله الجمل، وغيره، وهو كلام لا غبار عليه.
هذا؛ وقد عدّ محمد علي الصابوني-جزاه الله خيرا-في كتابه: (التبيان في علوم القرآن) من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم الوفاء بالوعد في كل ما أخبر عنه، وكل ما وعد به عباده.
قال: وهذا الوعد ينقسم إلى قسمين: وعد مطلق، ووعد مقيد، فالوعد المطلق كوعده بنصر رسوله، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه، ونصر المؤمنين على الكافرين. وقد تحقق ذلك كله.
وذكر مطلع سورة (الفتح) وسورة (النصر) بكاملها، والاية التي نحن بصدد شرحها. ثم قال:
ومن الوعد المطلق قوله جل ثناؤه في سورة (الروم) رقم [47]: {وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وقد تحقق نصر المؤمنين في مواطن عديدة: في بدر، والأحزاب، وحنين، وغير ذلك من المعارك العظيمة؛ التي شهدها تاريخ الإسلام. وذكر آيات (الأنفال). ثم قال: ومن الوعد المطلق أيضا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ..} . إلخ الاية هنا، وهي في سورة (التوبة) برقم [33]، وفي سورة (الفتح) برقم [28]، وأيضا قوله تعالى في سورة (غافر) رقم [51]:{إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ} .
أما الوعد المقيد، فهو ما كان فيه شرط، كشرط التقوى، أو شرط الصبر، أو شرط النصرة لدين الله، وما شابه ذلك. قال تعالى:{إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ} رقم [7] من سورة (محمد صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى في سورة (الطلاق): {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} . والاية رقم [4] منها: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً،} وقد وعد الله المؤمنين بالنصر بشرط الصبر، كما قال تعالى في سورة (الأنفال) رقم [65]:{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} . انتهى. بتصرف كبير مني.
الإعراب: {هُوَ} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {أَرْسَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى الذي، وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {رَسُولَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{هُوَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {بِالْهُدى:} متعلقان بمحذوف حال من {رَسُولَهُ} التقدير: مقرونا، أو ملتبسا بالهدى، أو هما متعلقان بالفعل قبلهما وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {وَدِينِ:} الواو: حرف عطف. (دين): معطوف على (الهدى)، و (دين) مضاف، و {الْحَقِّ} مضاف إليه من إضافة الموصوف للصفة؛ إذ الأصل:
الدين الحق. {لِيُظْهِرَهُ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى (الله)، والهاء مفعوله، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {أَرْسَلَ}. {عَلَى الدِّينِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {كُلِّهِ:}
توكيد للدين؛ لأنه بمعنى: جميع الأديان، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَلَوْ:} (الواو): واو الحال. (لو): وصلية. {كَرِهَ:} فعل ماض. {الْمُشْرِكُونَ:} فاعله، ومفعوله محذوف، التقدير:
ولو كره المشركون إظهار دينه، والجملة الفعلية في محل نصب حال من (دين الحق)، والرابط:
الواو، والضمير المقدر مع المفعول المحذوف. هذا؛ وإن اعتبرت (لو) شرطية امتناعية؛ ففعل شرطها المذكور، وجوابها محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: ولو كره المشركون إظهار دينه؛ لأظهره الله، وعليه فالجملة الشرطية معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. وقيل:(لو) شرطية، وهذا يتعارض مع قول من يقول: إن (الواو) واو الحال قطعا؛ لأن الشرطية لتعليق الفعل بالمستقبل، وهذا يتنافى مع الحال.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10)}
الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} هذا نداء من الله تعالى للمؤمنين بأكرم وصف، وألطف عبارة؛ أي: يا من صدقتم بالله ورسوله، وتحليتم بالإيمان الذي هو زينة الإنسان. {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ..}. إلخ: أي: تخلصكم، وتنقذكم من عذاب شديد، ومؤلم. هذا؛ ويقرأ الفعل بتشديد الجيم وتخفيفها، وانظر ما ذكرته في أول السورة. وخذ ما يلي:
قال مقاتل-رحمه الله تعالى-: نزلت في عثمان بن مظعون-رضي الله عنه-وذلك: أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أذنت لي، فطلقت خولة، وترهبت، واختصيت، وحرمت اللحم، ولا أنام بليل أبدا، ولا أفطر بنهار أبدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنّ من سنتي النكاح، ولا رهبانية في الإسلام، إنما رهبانيّة أمتي الجهاد في سبيل الله، وخصاء أمتي الصوم، ولا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم. ومن سنّتي: أنام، وأقوم، وأفطر، وأصوم، فمن رغب عن سنّتي، فليس منّي» .
فقال عثمان-رضي الله عنه: والله لوددت يا نبيّ الله أن أعلم أيّ التجارات أحبّ إلى الله، فأتجر فيها؟ فنزلت الاية الكريمة. ما أشبه سبب نزول هذه الاية بسبب نزول قوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [87 و 88]:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ..} . إلخ. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} انظر الاية رقم [2]. {هَلْ:} حرف استفهام، وتشويق، وترغيب. {أَدُلُّكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {عَلى تِجارَةٍ:} متعلقان بما قبلهما. {تُنْجِيكُمْ:}
فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى التجارة، تقديره هي، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر صفة {تِجارَةٍ}. {مِنْ عَذابٍ:}
متعلقان بما قبلهما. {أَلِيمٍ:} صفة {عَذابٍ،} وهو بمعنى: مؤلم.
الشرح: {تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ:} هذا تفسير للتجارة المذكورة في الاية السابقة، وانظر الإيمان في الاية رقم [16] من سورة (المجادلة). {وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ:} هذه الجملة من جملة تفسير التجارة. {بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ:} قدم الأموال على النفس لعزتها في ذلك الوقت، أو لأنها قوام النفس، أو لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق، أو لأن المال شقيق الروح، فقد يفرط الإنسان في نفسه دفاعا عن ماله، وهذا معروف ومشهور. والمراد: تجاهدون أعداء الدين بالمال، والنفس؛ لإعلاء كلمة الله.
قال المفسرون: جعل الله الإيمان والجهاد في سبيله تجارة تشبيها لهما بالتجارة، فإنها عبارة عن مبادلة شيء بشيء طمعا في الربح، ومن آمن، وجاهد بماله، ونفسه؛ فقد بذل ما عنده، وما في وسعه؛ لنيل ما عند ربه من جزيل ثوابه، والنجاة من أليم عقابه. فشبه هذا الثواب، والنجاة من العذاب بالتجارة لقوله تعالى:{إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الاية رقم [111] من سورة (التوبة).
قال الإمام الفخر الرازي: والجهاد ثلاثة أنواع:
1 -
جهاد فيما بينه وبين نفسه، وهو قهر النفس، ومنعها عن اللذات والشهوات.
2 -
جهاد فيما بينه وبين الخلق، وهو أن يدع الطمع منهم، ويشفق عليهم ويرحمهم.
3 -
جهاد أعداء الله بالنفس، والمال نصرة لدين الله. انتهى. صفوة التفاسير.
والأول هو الجهاد الأكبر؛ الذي نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى البيهقي بإسناد حسن صحيح:
أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قدموا من الجهاد تلقاهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال لهم:«مرحبا بكم! قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» . قالوا: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟! قال: «جهاد النفس» . هذا؛ وبالإضافة لما ذكرته في الاية رقم [4] أذكر ما يلي:
عن عمران بن حصين-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مقام الرجل في الصفّ في سبيل الله أفضل من عبادة الرّجل ستين سنة» . أخرجه الحاكم. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ في الجنّة مئة درجة، أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدّرجتين، كما بين السماء والأرض» . أخرجه البخاري. هذا؛ وقال تعالى في سورة (النساء) رقم [95]: {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} .
وعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه: أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل؛ ليذكر، والرجل يقاتل؛ ليرى مكانه؛ فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله» . أخرجه البخاري، ومسلم، وغيرهما.
الإعراب: {تُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {بِاللهِ:}
متعلقان بما قبلهما. {وَرَسُولِهِ:} الواو: حرف عطف. (رسوله): معطوف على لفظ الجلالة، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وهي بمنزلة جواب السؤال المقدر، كأنهم قالوا: كيف نعمل؟ فقال: {تُؤْمِنُونَ..} . إلخ. وقيل: الجملة في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هي تؤمنون، وعليه فالجملة الاسمية مفسرة للتجارة لا محل لها، والخبر نفس المبتدأ، فلا رابط لها، والفعل عند سيبويه، والمبرد، والزجاج بمعنى: آمنوا.
ولهذا أجيب بقوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ} بالجزم على أنه جواب للأمر، ويدل عليه قراءة ابن مسعود-رضي الله عنه:«(آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا)» وإنما جيء به على لفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال، فهو يخبر عن إيمان، وجهاد موجودين. وقال الفراء: الفعل: {يَغْفِرْ لَكُمْ}
مجزوم بجواب الاستفهام. ورده ابن هشام في قطر الندى بقوله: وليس جوابا للاستفهام؛ لأن غفران الذنوب لا يتسبب عن نفس الدلالة، بل عن الإيمان، والجهاد. هذا؛ وقرأ زيد بن علي:
«(تؤمنوا وتجاهدوا)» على إضمار لام الأمر. ومثله، أو ومنه قول حسان بن ثابت-رضي الله عنه وهو الشاهد رقم [409] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الوافر] محمد تفد نفسك كلّ نفس
…
إذا ما خفت من شيء تبالا
هذا؛ وأجاز ابن هشام في مغني اللبيب اعتبار الفعل مجزوما بجواب الاستفهام تنزيلا للسبب، وهو الدلالة منزلة المسبب، وهو الامتثال، فيكون كلامه نقضا لما ذكره في قطر الندى.
هذا؛ وجملة: {وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ} معطوفة على ما قبلها. {بِأَمْوالِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما.
{وَأَنْفُسِكُمْ:} معطوف على ما قبله، والكاف فيهما في محل جر بالإضافة.
{ذلِكُمْ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {خَيْرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {بِأَمْوالِكُمْ:}
جار ومجرور متعلقان ب: {خَيْرٌ} . {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {تَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، وجواب الشرط محذوف أيضا، التقدير: إن كنتم تعلمون: أنه خير لكم؛ فافعلوه. هذا؛ وقد جعله الزمخشري من حذف المفعول للعلم به اختصارا. وجعله البيضاوي منزلا منزلة اللازم؛ حيث قال: إن كنتم من أهل العلم؛ لأن الجاهل لا يعتد بفعله، فلا يثاب عليه، ولا يكون فيه خير. وقال الكرخي: وتفسيره أبلغ، وأدل على التوبيخ؛ لدلالته على الشك في كونهم من أهل العلم مطلقا. انتهى. جمل بتصرف. هذا؛ وجملة:{تَعْلَمُونَ} في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، والجملة الشرطية بكاملها مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ:} الخطاب للمؤمنين الصادقين المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. ومغفرة الذنوب هي الغاية العظمى التي يسعى لها، ويرغب فيها المؤمنون. {وَيُدْخِلْكُمْ جَنّاتٍ:} جمع جنة، انظر الاية رقم [62] من سورة (الرحمن). {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا} أي: تحت أشجارها، وقصورها، وبينها. {الْأَنْهارُ:} جمع: نهر، وبالإضافة لما ذكر في سورة (محمد صلى الله عليه وسلم رقم [15] أذكر ما يلي: عن أنس-رضي الله عنه. قال: (لعلّكم تظنون أنّ أنهار الجنّة أخدود في الأرض، لا والله إنّها لسائحة على وجه الأرض، إحدى حافتيها اللؤلؤ، والأخرى الياقوت،
وطينه المسك الأذفر. قال: قلت: ما الأذفر؟ قال: الذي لا خلط له) رواه ابن أبي الدنيا موقوفا، ورواه غيره مرفوعا، والموقوف أشبه بالصواب. انتهى. الترغيب والترهيب للحافظ المنذري.
{وَمَساكِنَ طَيِّبَةً:} عن عمران بن حصين، وأبي هريرة-رضي الله عنهما-قالا: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ} قال: «قصر في الجنة من لؤلؤة، فيه سبعون دارا من ياقوتة حمراء، في كلّ دار سبعون بيتا، من زمردة خضراء، في كل بيت سبعون سريرا، على كلّ سرير سبعون فراشا من كلّ لون، على كلّ فراش امرأة، في كلّ بيت سبعون مائدة، على كلّ مائدة سبعون لونا من طعام، في كلّ بيت سبعون وصيفا ووصيفة، يعطى للمؤمن من القوة ما يأتي على ذلك كلّه في غداة واحدة» . رواه الطبراني، والبيهقي بنحوه. انتهى. الترغيب والترهيب.
هذا؛ و {جَنّاتِ عَدْنٍ} جنات إقامة، وخلود. يقال: عدن بالمكان: أقام فيه، ومنه المعدن الموجود في باطن الأرض، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«عدن دار الله، الّتي لم ترها عين قطّ، ولم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها إلا ثلاثة: النبيون، والصدّيقون، والشهداء، يقول الله تعالى: طوبى لمن دخلك» . رواه الطبراني عن أبي الدرداء-رضي الله عنه. وقال عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: إن في الجنّة قصرا، يقال له: عدن، حوله البروج، والمروج، فيه خمسة آلاف باب، على كل باب خمسة آلاف حبرة، لا يدخله إلا نبي، أو صدّيق، أو شهيد. والحبرة بكسر الحاء، وفتحها: ضرب من البرود اليمنية مخطط. وروي: أن عمر الفاروق-رضي الله عنه-قال لكعب الأحبار: ما جنات عدن؟ قال: قصور من ذهب في الجنة يدخلها النبيون، والصديقون، والشهداء، وأئمة العدل.
{ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي: السعادة الدائمة الكبيرة. وأصل الفوز: الظفر بالمطلوب. والإشارة إلى ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنة.
الإعراب: {يَغْفِرْ:} مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للاستفهام، أو للأمر المفهوم من قوله:
{تُؤْمِنُونَ} كما رأيت في الاية السابقة. وقال أبو البقاء: في جزمه وجهان: أحدهما: هو جواب شرط محذوف، وعليه الكلام، تقديره: إن تؤمنوا؛ يغفر لكم. والثاني: هو جواب لما دل عليه الاستفهام. والفاعل مستتر تقديره: «هو» يعود إلى (الله). {لَكُمْ:} متعلقان بما قبلهما.
{ذُنُوبَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لوقوعها جوابا لما ذكرته. {وَيُدْخِلْكُمْ:} الواو: حرف عطف. (يدخلكم): معطوف على ما قبله مجزوم مثله، والفاعل يعود إلى (الله)، والكاف مفعول به أول، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {جَنّاتٍ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {تَجْرِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء
للثقل. {مِنْ تَحْتِهَا:} متعلقان بما قبلهما، و (ها): في محل جر بالإضافة. {الْأَنْهارُ:} فاعل {تَجْرِي} والجملة الفعلية في محل نصب صفة {جَنّاتٍ} . {وَمَساكِنَ:} معطوف على {جَنّاتٍ} .
{طَيِّبَةً:} صفة (مساكن). {فِي جَنّاتِ:} متعلقان بمحذوف صفة ثانية ل: (مساكن)، أو في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدم، و {جَنّاتٍ} مضاف، و {عَدْنٍ} مضاف إليه. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له.
{الْفَوْزُ:} خبر المبتدأ، {الْعَظِيمُ:} صفة {الْفَوْزُ،} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.
{وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)}
الشرح: {وَأُخْرى تُحِبُّونَها} أي: ولكم تجارة أخرى. وقيل: لكم خصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الاخرة. أو التقدير: ويعطكم نعمة أخرى تحبونها. {نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ:}
قيل: هو النصر على قريش، وفتح مكة. وقيل: فتح مدائن فارس، والروم. وقد حقق الله ذلك؛ حيث صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ:} أي يا محمد بشر المؤمنين بالنصر المؤزر في الدنيا، وبالجنة في الاخرة. وهذا يفيد: أن خير الدنيا موصول بنعيم الاخرة لمن أطاع الله، ورسوله، ونصر الله، ودينه. وقد قال تعالى في سورة (محمد) رقم [7]:{إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ،} وقال جل ذكره في سورة (الحج) رقم [40]: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} . هذا؛ وانظر شرح {الْأُخْرى} في الاية رقم [47] من سورة (النجم)، وانظر (البشارة) في الاية رقم [8] من سورة (الجاثية).
الإعراب: {وَأُخْرى:} الواو: حرف عطف. (أخرى): قال الفراء، والأخفش:«أخرى» معطوفة على «تجارة» ، فهي في محل خفض. وقيل: محلها رفع؛ أي: ولكم خصلة أخرى، وتجارة أخرى تحبونها. انتهى. قرطبي. هذا؛ وقدر الجلال: ويؤتكم نعمة أخرى. قال الجمل:
وهذا المقدر معطوف على الجوابين قبله، وهو جواب ثالث. وفي السمين: ويصح أن يكون منصوبا بفعل مضمر يفسره: {تُحِبُّونَها} فيكون من الاشتغال، وحينئذ لا يكون {تُحِبُّونَها} نعتا؛ لأنه مفسر للعامل قبله. انتهى. ويصح أن يكون مبتدأ خبره:{نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ،} ويصح خفضها عطفا على {تِجارَةٍ} . انتهى. كرخي، وقال أبو البقاء الأوجه المذكورة باختصار. وقال ابن هشام:
وقد يتخيّل ورود اعتراض ابن الشجري على أبي البقاء في تجويزه في: {وَأُخْرى تُحِبُّونَها} كونه ك:
زيدا ضربته، ويجاب بأن الأصل: وصفة أخرى. ويجوز كون {تُحِبُّونَها} صفة، والخبر إما {نَصْرٌ،} وإما محذوف؛ أي: ولكم نعمة أخرى، و {نَصْرٌ} بدل، أو خبر لمحذوف. {تُحِبُّونَها:}
فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون. والواو فاعله، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية خذ محلها من إعراب (أخرى). {نَصْرٌ:} خبر مبتدأ محذوف؛ أي: تلك النعمة الأخرى نصر من
الله، والجملة الاسمية مفسرة ل: نعمة أخرى. ويجوز عطفه على (أخرى) على اعتبارها مرفوعة، التقدير: ولكم نصر. كما أجيز اعتباره خبرا عنها على اعتبارها مبتدأ، كما قرئ بنصبه عطفا عليها، على تقدير الجلال المتقدم. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب: {نَصْرٌ،} أو بمحذوف صفة له. {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ:}
معطوف على ما قبله. {وَبَشِّرِ:} (الواو): حرف عطف. (بشر): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:
«أنت» . {الْمُؤْمِنِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء، والجملة الفعلية معطوفة على كلام مقدر قبلها التقدير: قل: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم
…
وبشر المؤمنين، أو هي معطوفة على جملة:{تُؤْمِنُونَ..} . إلخ؛ لأنها بمعنى آمنوا
…
إلخ، كما رأيت فيما سبق.
الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الاية رقم [10]. {كُونُوا أَنْصارَ اللهِ} أي: كونوا أنصار دينه في جميع أحوالكم بأقوالكم، وأفعالكم، وأنفسكم، وأموالكم. {كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ} أي: مع الله. وقيل: المعنى: من معيني في الدعوة إلى الله عز وجل. هذا؛ والحواريون هم أتباع عيسى الذين بعثهم دعاة من قبله إلى جهات متفرقة.
هذا؛ وقال عبد الوهاب النجار-رحمه الله تعالى-: هم أصحاب المسيح عيسى ابن مريم، صلوات الله، وسلامه عليه، وخاصته الذين اختارهم؛ ليكونوا تلاميذه، وبادروا إلى الإيمان به، وتتلمذوا له، وتعلموا منه، وكانوا اثني عشر رجلا، وهذا اللفظ لم أعرفه عبرانيّا، وأما عربيّا فقد قال صاحب القاموس: وقد جاء إطلاق حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم على الزبير بن العوام، ويظهر: أن لفظ الأنصار في جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة الحواريين في جانب المسيح عليه السلام، والأناجيل تعبر عنهم بلفظ: التلاميذ.
وإذا جاز لي هذا اللفظ، فإني أقول: إن معناه الإخوان في طلب العلم، من لفظ: حبور العبري، وهو: التلميذ، وجمعه: حبوريم، نطق به في العربية: حواري، وحواريين. وذكرت أسماء الحواريين في «متّى» في الإصحاح العاشر من إنجيله، وقد ذكر «برنابا» أسماء التلاميذ في الفصل الرابع عشر من إنجيله، وهذه أسماء التلاميذ الاثني عشر من إنجيله:
1 -
سمعان الذي يقال له: بطرس.
2 -
أندراوس أخو سمعان بطرس.
3 -
يعقوب بن زيدي.
4 -
يوحنّا أخو يعقوب.
5 -
فيلبس.
6 -
برثو لماوس.
7 -
توما.
8 -
متّى العشّار.
9 -
يعقوب بن حلفي.
10 -
لباوس الملقب تداوس.
11 -
سمعان القانوني.
12 -
يهوذا الأسخريوطي
وهذه أسماء التلاميذ الاثني عشر عند برنابا.
1 -
اندراوس.
2 -
بطرس.
3 -
برنابا.
4 -
متّى العشار.
5 -
يوحنا بن زيدي.
6 -
يعقوب بن زيدي.
7 -
تداوس.
8 -
يهوذا.
9 -
برثو لماوس.
10 -
فيلبس.
11 -
يعقوب بن حلفي.
12 -
يهوذا الأسخريوطي.
ومن ذلك نرى: أن برنابا نقص من الحواريين عند متّى اثنين، وهما: توما، وسمعان الغيور، المعروف بالقانوني، ووضع مكانهما اسمه، واسم تداوس، فهل الصواب معه؟ ولكن الكنيسة لما رأت إنجيله يخالف ما تهوى؛ حذفت اسمه، واسم سمعان من بين التلاميذ؛ لأنهما كانا متطابقين في الرأي، قد يكون ذلك، وأنهم اكتفوا في عقابه بهذا مع بقاء اسمه بين الرسل؛ الذين حملوا قسطا عظيما في نشر الدعوة، والتبشير باقتراب ملكوت السموات.
هؤلاء الحواريون الذين استجابوا للمسيح عليه السلام، وهم الذين بثهم في القرى اليهودية ليدعوا الكفار بدعوة المسيح، ومن غلا في شأنه، أو كذبه، ورد دعوته، وقد قص الله تعالى شأن الحواريين في سورة (آل عمران) رقم [52] و [53]، وفي سورة (المائدة) رقم [111]، وفي سورة (الصف) رقم [14]. انتهى. بتصرف.
وهذا يدل على أن رسالة عيسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-أعم من رسالة جميع المرسلين قبله. هذا؛ وحواري الرجل: صفوته، وخالصته، ومنه قيل للحضريات:
الحواريّات لخلوص ألوانهن، ونظافتهن. قال الشاعر:[الطويل] فقل للحواريّات يبكين غيرنا
…
ولا تبكنا إلاّ الكلاب النّوابح
المعنى: قل للنساء الحضريات يبكين غيرنا، فلسنا ممن عرف بالحضر على الفراش، بل نحن من أهل البدو، والمحاربة، ولا يبكي علينا إلا الكلاب النوابح؛ اللاتي تساق معنا في البدو، والصيد، أو الكلاب التي جرت عادتهن يأكلن قتلانا في المحاربة.
وقيل: سموا حواريين لبياض ثيابهم، يقال: حورت الشيء بمعنى: بيضته. وقيل: كانوا قصارين، سموا بذلك؛ لأنهم كانوا يحورون الثياب؛ أي: يبيضونها. وقيل: سموا حواريين لصفاء قلوبهم، ولما ظهر عليهم من أثر العبادة، ونورها. وقيل: الحواريون هم الخلفاء. وقيل:
هم الوزراء، وكانوا خلفاء عيسى، ووزراءه. وقيل: الحواريون هم الأنصار، والحواريّ الناصر، والحواريّ الرجل الذي يستعان به.
فعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق، فانتدب الزبير، ثم ندبهم، فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن لكل نبي حواريّا، وحواريّ الزبير» .
{قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ} أي: أنصار دين الله، ورسوله، وأعوانه وهو جمع: ناصر كصاحب، وأصحاب، أو جمع: نصير، كشريف، وأشراف. هذا؛ وفي سورة (آل عمران) رقم [52] قوله تعالى:{فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ} .
{فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ} أي: لما بلغ عيسى-عليه الصلاة والسلام رسالة ربه إلى قومه، ووازره من وازره من الحواريين؛ اهتدت طائفة من بني إسرائيل بما جاءهم به، وضلت طائفة، فخرجت عما جاءهم به، وجحدوا نبوته، ورموه، وأمه بالعظائم، وهم اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وغلت فيه طائفة ممن اتبعه؛ حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة، وافترقوا فرقا، وشيعا، فمن قائل منهم: إنه ابن الله، وقائل: إنه ثالث ثلاثة:
(الأب، والابن، وروح القدس)، ومن قائل: إنه الله. انتهى. مختصر ابن كثير. وانظر ما ذكرته في سورة (التوبة) رقم [30] تجد ما يسرك.
{فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ} أي: نصرناهم على من عاداهم من فرق النصارى. {فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ} أي: غالبين لهم عالين عليهم، من قولك: ظهرت على الحائط؛ أي: علوت عليه. وذلك ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، واتباعه، والاهتداء بهديه، و (أصبحوا) بمعنى: صاروا، ف:(أصبحوا) ليست على بابها من التوقيت في الصبح. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الإعراب مفصلا في الاية رقم [2]. {كُونُوا:} فعل أمر ناقص مبني على حذف النون، والواو اسمه، والألف للتفريق. {أَنْصارَ:} خبر {كُونُوا،} وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه من إضافة جمع اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. هذا؛ ويقرأ:«(أنصارا لله)» ، واللام تحتمل أن تكون مزيدة في المفعول الصريح لزيادة التقوية، لكون العامل فرعا، كما في قوله تعالى:{مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ} رقم [6]، وأن تكون غير مزيدة، ويكون الجار والمجرور نعتا للأنصار، والأول أظهر. انتهى. جمل نقلا عن السمين. {كَما قالَ..}. إلخ: قال السمين فيه أوجه: أحدها: أن الكاف في موضع نصب على إضمار القول؛ أي: قلنا لهم ذلك كما قال عيسى. الثاني: أنها نعت لمصدر محذوف، تقديره: كونوا كونا. قاله مكي. وفيه نظر؛ إذ لا يؤمرون بأن يكونوا كونا. الثالث: أنه كلام محمول على معناه دون لفظه. وإليه نحا الزمخشري، فإنه قال: فإن قلت: ما وجه صحة التشبيه، وظاهره تشبيه كونهم أنصارا بقول عيسى: من أنصاري إلى الله؟ قلت: التشبيه محمول على المعنى، وعليه يصح، والمراد كونوا أنصار الله، كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: من أنصاري إلى الله. انتهى. جمل. أما تفصيل الإعراب فهو كما يلي:
{كَما:} (الكاف): حرف تشبيه وجر. (ما) مصدرية. {قالَ:} فعل ماض. {عِيسَى:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {اِبْنُ:} صفة {عِيسَى} وهو مضاف، و {مَرْيَمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والتأنيث المعنوي. {لِلْحَوارِيِّينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل {قالَ} . {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَنْصارِي:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، وياء المتكلم في محل جر بالإضافة، من إضافة جمع اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِلَى اللهِ:} متعلقان بمحذوف حال من ياء المتكلم، التقدير: متوجها إلى نصرة الله. أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر العائد إلى {مَنْ} والمعنى يبقى: متوجها إلى نصرة الله معي.
والجملة الاسمية: {مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ} في محل نصب مقول القول، و (ما) والفعل {قالَ} في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، التقدير: كقول عيسى. هذا؛ وإن اعتبرت (ما) موصولة مبني على السكون في محل جر بالكاف؛ فالجملة الفعلية: {قالَ عِيسَى..} . إلخ صلتها، ويكون العائد محذوفا، التقدير: كالذي قاله عيسى بن مريم، وعليه فالجملة الاسمية:{مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ} مفسرة لهذا العائد المحذوف.
{قالَ:} فعل ماض. {الْحَوارِيُّونَ:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة، والجملة الاسمية:{نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ} في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ الْحَوارِيُّونَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. (آمنت): فعل ماض، والتاء للتأنيث. {طائِفَةٌ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {مِنْ بَنِي:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {طائِفَةٌ} وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {بَنِي} مضاف، و {إِسْرائِيلَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، وجملة:{وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وقبل هذه الجملة، والتي قبلها كلام مقدر؛ إذ التقدير: فلما رفع عيسى إلى السماء؛ افترق الناس فيه فرقتين، فآمنت طائفة
…
إلخ.
{فَأَيَّدْنَا:} (الفاء): حرف استئناف. (أيدنا): فعل، وفاعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {عَلى عَدُوِّهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَأَصْبَحُوا:}
الفاء: حرف عطف. (أصبحوا): فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {ظاهِرِينَ:} خبر (أصبح) منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وقبلها جملة محذوفة أيضا، التقدير: فاقتتلت الطائفتان، فأيدنا
…
إلخ. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم.
انتهت سورة (الصف) بعون الله وتوفيقه، شرحا وإعرابا.
والحمد لله رب العالمين.