المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الذّاريات بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الذاريات)، وهي مكية، وهي - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٩

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة الذّاريات بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الذاريات)، وهي مكية، وهي

‌سورة الذّاريات

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الذاريات)، وهي مكية، وهي ستون آية، وثلاثمئة وستون كلمة، وألف ومئتان وتسعة وثلاثون حرفا. انتهى. خازن.

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَالذّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6)}

الشرح: {وَالذّارِياتِ ذَرْواً:} هي الرياح التي تذرو التراب، وغيره. قال تعالى في سورة (الكهف) رقم [45]:{تَذْرُوهُ الرِّياحُ} . {فَالْحامِلاتِ وِقْراً:} هي السحب؛ التي تحمل المطر من مكان إلى آخر بأمر الله تعالى، ومعنى {وِقْراً:} ثقلا، {فَالْجارِياتِ يُسْراً:} هي السفن التي تسير على وجه الماء بقدرة الله تعالى. {فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً:} هم الملائكة؛ لأنهم يقسمون الأمور من الأمطار، والأرزاق، وغيرها حسب أوامر الله تعالى لهم، فجبريل عليه السلام صاحب الوحي إلى الأنبياء الأمين عليه، وصاحب الغلظة على الكافرين، والفاسدين، والمفسدين، وميكائيل عليه السلام صاحب الرزق، والرحمة. وإسرافيل عليه السلام صاحب الصور، واللوح.

وعزرائيل عليه السلام صاحب قبض الأرواح. وقيل: هذه الأوصاف الأربعة في الرياح؛ لأنها تنشئ السحاب، وتسيره، ثم تحمله، وتقله، ثم تجري به جريا سهلا، ثم تقسم الأمطار بتصريف السحاب. والمعتمد الأول، وهو المروي عن علي، وعمر-رضي الله عنهما وأرضاهما-.

فقد روي عن سعيد بن المسيب-رحمه الله تعالى-قال: جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب-رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرني عن: {وَالذّارِياتِ ذَرْواً} فقال: هي الرياح، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن الجاريات يسرا؟ قال: هي السفن، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته. رواه الحافظ البزار، وهكذا فسّرها ابن عباس، وابن عمر، وغير واحد. وقد أغرب البيضاوي حيث جوز تفسير (الذاريات) و (الحاملات) بالنساء، فهذا لم يقل به أحد غيره.

{إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ} أي: الذي توعدونه من الخير، والشر، والثواب، والعقاب. {لَصادِقٌ:}

لا كذب فيه. {وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ} أي: الجزاء بعد الحساب لا بدّ أن يقع لا محالة. هذا؛ وإنما

ص: 236

أقسم الله تعالى بهذه الأشياء لشرف ذواتها، ولما فيها من الدلالة على عجيب صنعه، وقدرته.

والمعنى: أقسم بالذاريات، وبهذه الأشياء. ومثل هذا كثير في أوائل السور، وأثنائها. قال الشعبي-رحمه الله تعالى-: الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي أن يقسم إلا بالخالق. وقال أبو حيان-رحمه الله تعالى-: أقسم الله بهذه الأشياء تشريفا لها، وتنبيها على ما يظهر فيها من عجائب صنع الله، وقدرته، وقوام الوجود بإيجادها. وقيل: فيه مضمر، تقديره:

ورب الذاريات

إلخ. هذا؛ ووقع جواب القسم في سورة (المرسلات) قوله: {إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ} وهو يشبه الجواب هنا.

بقي أن تعرف حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات، كما في هذه الايات، وفي أوائل (الصافات) وأوائل (المرسلات) و (النازعات) ومنه قول ابن زيابة، وهو الشاهد رقم [296] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [السريع] يا لهف زيّابة للحارث الصّ

ابح فالغانم فالايب

قيل: إما أن تدل على ترتيب معانيها في الوجود، كما في هذا البيت، كأنه قال: الذي صبح، فغنم، فآب. وإما أن تدل على ترتيب موصوفاتها في ذلك، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:«رحم الله المحلّقين، فالمقصّرين» وإما على ترتيبها في التفاوت من بعض الوجوه، كقولك: خذ الأفضل، فالأكمل، واعمل الأحسن، فالأجمل. انتهى.

الإعراب: {وَالذّارِياتِ:} الواو: حرف قسم وجر. (الذاريات): مقسم به مجرور، أو المقسم به محذوف، كما رأيت تقديره في الشرح، والجار والمجرور على الاعتبارين متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم، وفاعل (الذاريات) مستتر فيه، ومفعوله محذوف، التقدير: الذاريات التراب ونحوه.

{ذَرْواً:} مفعول مطلق، عامله:(الذاريات)، والجملة القسمية ابتدائية، لا محلّ لها. {فَالْحامِلاتِ:}

معطوف على (الذاريات)، وفاعله مستتر فيه أيضا. {وِقْراً:} مفعول به له. (الجاريات): معطوف على ما قبله أيضا، وفاعله مستتر فيه. {يُسْراً:} صفة مفعول مطلق، التقدير: جريا ذا يسر، أو هو مصدر في موضع الحال؛ أي: ميسرة. {فَالْمُقَسِّماتِ:} معطوف على ما قبله، وفاعله مستتر فيه.

{أَمْراً:} مفعول به. وقيل: هو حال بمعنى مأمورة، والأول أقوى. {إِنَّما:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب اسم (إنّ). {تُوعَدُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوف، وهو العائد؛ إذ التقدير: إن الذي توعدونه. هذا؛ وإن اعتبرت (ما) مصدرية؛ فتؤول مع ما بعدها بمصدر في محل نصب اسم (إنّ)، التقدير: إن وعد الله لكم لصادق.

{لَصادِقٌ:} اللام: هي المزحلقة. (صادق): خبر: (إنّ)، والجملة الاسمية جواب القسم، لا محلّ لها، وجملة:{وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ} معطوفة عليها، وإعرابها واضح إن شاء الله تعالى.

ص: 237

{وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)}

الشرح: {وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ:} لقد فسر {الْحُبُكِ} بعدة تفاسير، وكلّها ترجع إلى شيء واحد، وهو: الحسن، والبهاء، كما قال ابن عباس-رضي الله عنهما-فإنها من حسنها مرتفعة شفافة صفيقة، شديدة البناء، متسعة الأرجاء، أنيقة البهاء، مكللة بالنجوم الثوابت، والسيارات، موشحة بالكواكب الزاهرات. هذا؛ وفي المختار: الحباك، والحبيكة: الطريقة في الرمل، ونحوه، وجمع الحباك:

حبك، وجمع الحبيكة: حبائك، ويقرأ (الحبك) بقراآت كثيرة، وانظر شرح {ذاتِ} في (الحديد) [6]. {إِنَّكُمْ:} الخطاب لأهل مكة. {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} يعني: في القرآن، وفي محمد صلى الله عليه وسلم: أنه ساحر، وشاعر، وكاهن، ومجنون، فهو كقوله تعالى في سورة (ق) رقم [5]:{فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} .

{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ:} يصرف عن الإيمان بالقرآن، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم من صرف حتى يكذبه، وهو من حرمه الله الإيمان. وهذا الصرف لا صرف أشد منه، وأعظم، وإنه لا يصرف عن الإيمان إلا من سبق في علم الله أنه مأفوك عن الحق لا يهتدي ولا يرعوي، وهو بهذا المعنى من باب ضرب، ومصدره أفكا كضربا، وهو من الباب الرابع بمعنى كذب، ومصدره إفكا كعلما، ويغلب مجيء الأول بالبناء للمجهول وقد يجيء بالبناء للمعلوم، كما في قوله تعالى:{قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا} سورة (الأحقاف) رقم [22] ومن مجيئه بمعنى الكذب قوله تعالى في سورة (الشعراء) رقم [45]: {فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ} انظر شرحها هناك تجد ما يسرك، والأفاك كثير الكذب، كما في سورة (الجاثية) رقم [7]:{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ} .

الإعراب: {وَالسَّماءِ:} متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم، فهذا قسم ثان، وانظر تفصيل إعراب {وَالذّارِياتِ} فهو مثله. {ذاتِ:} صفة (السماء)، وهو مضاف، و {الْحُبُكِ:} مضاف إليه.

{إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {لَفِي:} اللام: هي المزحلقة. (في قول):

متعلقان بمحذوف خبر (إن). {مُخْتَلِفٍ:} صفة: {قَوْلٍ،} والجملة الاسمية جواب القسم لا محلّ لها والقسم وجوابه كلام مستأنف، لا محلّ له. {يُؤْفَكُ:} مضارع مبني للمجهول. {عَنْهُ:}

متعلقان به. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع نائب فاعل. {أُفِكَ:} ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل تقديره:«هو» ، يعود إلى:{مَنْ،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، وجملة:{يُؤْفَكُ..} . إلخ، مستأنفة، لا محلّ لها.

{قُتِلَ الْخَرّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)}

الشرح: {قُتِلَ الْخَرّاصُونَ:} هو دعاء عليهم، كقوله تعالى في سورة (عبس):{قُتِلَ الْإِنْسانُ ما}

ص: 238

{أَكْفَرَهُ} وأصله: الدعاء بالقتل، والهلاك، ثم جرى مجرى: لعن، وقبح. و {الْخَرّاصُونَ:} الكذابون المقدّرون ما لا يصح، وهم أصحاب القول المختلف، و {الْخَرّاصُونَ} جمع: خراص مبالغة:

خارص. وقد خرص، يخرص بضم الراء؛ أي: كذب. يقال: خرص، واخترص، وخلق، واختلاق، وبشك، وابتشك، وسرج، واسترج، ومان، بمعنى: كذب حكاه النحاس. والخرص أيضا: حزر ما على النخل، والكرم من الرطب تمرا، ومن العنب زبيبا.

{الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ} أي: في غفلة، وعمى، وجهالة مطبقة. {ساهُونَ:} غافلون لاهون عن أمر الاخرة. والغمرة: ما ستر الشيء، وغطّاه، ومنه: نهر غمر؛ أي: يغمر من دخله، والغمرة هنا مراد بها: الحيرة، والغفلة، والضلالة، والجهالة، والغمرة في الأصل ما يغمرك، ويعلوك من ماء، ونحوه، فهي مستعارة لما في قلوبهم من كفر، ونحوه، ومنه: الغمر: الحقد؛ لأنه يغطي القلب. وهو بكسر الغين، وبفتحها: الماء الكثير؛ لأنه يغطي الأرض، وبضم الغين لمن لم يجرب الأمور؛ أي: فيه غباء، أو غباوة. وغمر الرداء الذي يشمل الناس بالعطاء، قال الشاعر في ممدوحه:[الكامل] غمر الرّداء إذا تبسّم ضاحكا

غلقت لضحكته رقاب المال

{يَسْئَلُونَ أَيّانَ يَوْمُ الدِّينِ} أي: يقولون: متى يوم الجزاء؟ استهزاء، وشكا في القيامة، والحساب، والجزاء. والكلام على حذف مضاف، التقدير: أيان وقوع يوم الدين؛ لأنّ الأحيان إنما تقع ظروفا للحدثان. {يَوْمَ هُمْ عَلَى النّارِ} أي: في النار. {يُفْتَنُونَ:} يحرقون، وهو من قولهم: فتنت الذهب؛ أي: أحرقته لتختبره، وأصل الفتنة: الامتحان، والاختبار، وهي بهذا المعنى كثيرة في القرآن الكريم، قال تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [35]:{كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ} وفي سورة (البروج) رقم [10] فضل زيادة.

{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} أي: يقال لهم: ذوقوا عذابكم. أو المعنى: ذوقوا جزاء تكذيبكم، وهو التحريق في نار الجحيم. {هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} أي: هذا العذاب الذي كنتم تطلبون استعجاله استهزاء، وسخرية، وهو فحوى قوله تعالى في سورة (يس):{وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} وكذا في كثير من السّور.

هذا؛ والذوق يكون محسوسا، ومعنى، وقد يوضع موضع الابتلاء، والاختبار، تقول: اركب هذا الفرس، فذقه؛ أي: اختبره، وانظر فلانا، فذق ما عنده، قال الشماخ يصف قوسا:[الطويل] فذاق فأعطته من اللّين جانبا

كفى ولها أن يغرق السّهم حاجز

وقد يعبر بالذوق عمّا يطرأ على النفس، وإن لم يكن مطعوما لإحساسها به، كإحساسها بذوق المطعوم، قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:[الطويل] فذق هجرها إن كنت تزعم أنّها

فساد ألا يا ربّما كذب الزّعم

ص: 239

وتقول: ذقت ما عند فلان؛ أي: خبرته، وذقت القوس: إذا جذبت وترها؛ لتنظر ما شدتها؟ وأذاقه الله وبال أمره: أي: عقوبة كفره، ومعاصيه، قال طفيل بن سعد الغنوي:[الطويل] فذوقوا كما ذقنا غداة محجّر

من الغيظ في أكبادنا والتّحوّب

وتذوقته؛ أي: ذقته شيئا فشيئا، وأمر مستذاق؛ أي: مجرب معلوم، قال الشاعر:[الوافر] وعهد الغانيات كعهد قين

ونت عند الجعائل مستذاق

وأصله: الذوق بالفم، و (ذوقوا) في كثير من الايات للإهانة، وفيه استعارة تبعية تخييلية، وفي ذكر العذاب في كثير من الايات استعارة مكنية، حيث شبّه العذاب بشيء يدرك بحاسة الأكل، وشبّه الذوق بصورة ما يذاق، وأثبت للذوق تخييلا.

الإعراب: {قُتِلَ:} ماض مبني للمجهول. {الْخَرّاصُونَ:} نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدل من: {الْخَرّاصُونَ،} أو هو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، أو هو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أعني: {الَّذِينَ} . {هُمْ:} مبتدأ. {فِي غَمْرَةٍ:} متعلقان بما بعدهما. {ساهُونَ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محلّ لها. {يَسْئَلُونَ:}

مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، وهو معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. {أَيّانَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بمحذوف خبر مقدم. {يَوْمُ:} مبتدأ مؤخر، وانظر الشرح لحذف المضاف، و {يَوْمُ} مضاف، و {الدِّينِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب سدّت مسدّ مفعولي:{يَسْئَلُونَ} . وقال ابن هشام: الجملة في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: يسألون عن يوم الدين متى هو؟ والجملة الفعلية في محل نصب حال من: {الْخَرّاصُونَ،} أو هي مستأنفة، لا محلّ لها.

{يَوْمَ:} خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو يوم، فهو مبني على الفتح في محل رفع، وقرئ برفعه، فهو يوضح ذلك الاعتبار. وقيل: هو ظرف زمان منصوب متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هذا الجزاء يوم، أو هو متعلق بفعل محذوف، التقدير: يقع الجزاء يوم.

{هُمْ:} مبتدأ. {عَلَى النّارِ:} متعلقان بما بعدهما. {يُفْتَنُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:«هم يفتنون على النار» في محل جر بإضافة: {يَوْمَ} إليها.

{ذُوقُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: يقال لهم: ذوقوا. {فِتْنَتَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {هذَا:} الهاء: حرف تنبيه لا محلّ له. (ذا): اسم إشارة مبني

ص: 240

على السكون في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية فيها معنى التعليل للأمر. {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {بِهِ:} متعلقان بما بعدهما، وجملة:{بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} في محل نصب خبر:

(كان)، وجملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ، صلة الموصول، لا محلّ لها.

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16)}

الشرح: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ} أي: هم في بساتين، وحدائق، فيها عيون جارية على غاية ما يسر القلب، ويشرح الصدر، ويقرّ العين من ماء، وعسل، ولبن، وخمر. انظر الاية رقم [15] من سورة (محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا بعد أن ذكر الله حال الكفار ذكر حال المؤمنين ومصيرهم في الاخرة، وذلك من باب المقابلة، وتلك سنة اقتضتها حكمة العليم الخبير ورحمته في كتابه بأن لا يذكر التكذيب من الكافرين، والمنافقين؛ إلاّ ويذكر التصديق من المؤمنين، ولا يذكر الإيمان؛ إلا ويذكر الكفر، ولا يذكر الجنة، ونعيمها؛ إلا ويذكر النار، وجحيمها، ولا يذكر الرحمة؛ إلا ويذكر الغضب، والسخط، ليكون المؤمن راغبا، راهبا، خائفا، راجيا. {آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ} أي: ما أعطاهم من الثواب، وأنواع الكرامات، والنعيم المقيم، والخير العميم.

{إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ} أي: قبل دخول الجنة في الدنيا. {مُحْسِنِينَ:} قد أحسنوا العمل في الدنيا، وبين إحسانهم فيما يأتي. هذا؛ ويقال لهم في الجنة:{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيّامِ الْخالِيَةِ} . هذا؛ وقوله تعالى: {فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ} المعنى: وتكون العيون، وهي الأنهار الجارية بحيث يرونها، وتقع عليها أبصارهم، لا أنهم فيها، وفي كثير من الايات:{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ} و {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} أي: من تحت القصور؛ التي يسكنونها، ويقيمون فيها.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْمُتَّقِينَ:} اسم: {إِنَّ} منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ. {فِي جَنّاتٍ:} متعلقان بمحذوف خبر: {إِنَّ} . {وَعُيُونٍ:} الواو: حرف عطف.

(عيون): معطوف على ما قبله. {آخِذِينَ:} حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف منصوب

إلخ، وفاعله مستتر فيه. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به ل: {آخِذِينَ} . {آتاهُمْ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والهاء في محل نصب مفعول به أول. {رَبُّهُمْ:} فاعل مرفوع، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، التقدير:

آخذين الذي آتاهم ربهم إياه. {إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه. {قَبْلَ:} ظرف زمان متعلق ب: {مُحْسِنِينَ} بعده، و {قَبْلَ}

ص: 241

مضاف، و {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {مُحْسِنِينَ:} خبر (كان) منصوب

إلخ، وجملة:{كانُوا..} . إلخ، في محل رفع خبر:{إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّهُمْ..} . إلخ، تعليل لما أنعم الله به عليهم.

{كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)}

الشرح: {كانُوا} أي: المتقون، الذين استحقوا نعيم الجنة. {قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ} أي:

ينامون. يقال: هجع، يهجع هجوعا؛ أي: نام، ينام نوما. قال عمرو بن معدي كرب الزبيدي رضي الله عنه-يتشوق أخته، وكان أسرها الصمة أبو دريد بن الصّمّة في الجاهلية:[الوافر] أمن ريحانة الدّاعي السّميع

يؤرّقني وأصحابي هجوع؟

هذا؛ وباب الفعل فتح يفتح، والهجعة النومة الخفيفة، ويقال: أتيت فلانا بعد هجعة؛ أي:

بعد نومة خفيفة، قال الشاعر:[السريع] قد حصّت البيضة رأسي فما

أطعم نوما غير تهجاع

أسعى على جلّ بني مالك

كلّ امرئ في شأنه ساع

واختلف في {ما} فقيل: صلة زائدة. قاله إبراهيم النخعي، والتقدير: كانوا قليلا من الليل يهجعون؛ أي: ينامون قليلا من الليل، ويصلّون أكثره. وقيل: ليست {ما} صلة، بل الوقف عند قوله:{قَلِيلاً} ثم يبتدئ بما بعدها. ف: {ما} للنفي، وهو نفي النوم عنهم البتة، وهذا يفيد: أنّ المعنى: كان عددهم يسيرا. وهو فاسد معنى؛ لأن الاية تدل على قلة نومهم، لا على قلة عددهم. وقيل:{ما} مصدرية، والتقدير: كانوا قليلا من الليل هجوعهم، ونومهم.

{وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي: ربما مدّوا عبادتهم إلى وقت السحر، ثم أخذوا بالاستغفار، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم. وقيل: يستغفرون من تقصيرهم في العبادة. وقيل: يستغفرون من ذلك القدر القليل الذي كانوا ينامونه من الليل.

{وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ:} الحق هنا: الزكاة المفروضة. وقيل: إنه حق سوى الزكاة، يصل به رحما، أو يقري به ضيفا، أو يحمل به كلاّ، أو يغني به محروما. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما؛ لأنّ السورة مكية، وفرضت الزكاة بالمدينة. والأقوى في هذه الاية:

أنها الزكاة، لقوله تعالى في سورة (المعارج):{وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} والحق المعلوم هو الزكاة؛ التي بيّن الشرع قدرها وجنسها، ووقتها، فأما غيرها لمن يقول به فليس بمعلوم؛ لأنه غير مقدر، ولا مجنس، ولا موقت.

ص: 242

أما السائل؛ فهو الذي يسأل الناس لفاقته. والمحروم هو الذي حرم المال لسبب من الأسباب، وأظهر الأقوال فيه: أنه المتعفف؛ لأنه قرن بالسائل، والمتعفف لا يسأل، ولا يكاد الناس يعطون من لا يسأل، وإنما يفطن له متيقظ، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ليس المسكين الذي تردّه اللّقمة، واللّقمتان، والتمرة، والتمرتان، ولكن المسكين الّذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له، فيتصدّق عليه، ولا يقوم فيسأل النّاس» . أخرجه البخاري ومسلم. وأصله في اللغة: الممنوع، من: الحرمان، وهو المنع، قال علقمة:[البسيط] ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه

أنّى توجّه والمحروم محروم

وعن أنس-رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة، يقولون: ربنا ظلمونا حقوقنا التي وضعت لنا عليهم. فيقول الله تعالى: وعزّتي وجلالي لأقربنكم، ولأبعدنّهم!» ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} . رواه الطبراني، والثعلبي.

هذا؛ وقد حثّ الرسول صلى الله عليه وسلم على إعطاء السائل، وبذل المال له مهما كان قليلا، ومهما كانت هيئة السائل، وحالته، فقال صلى الله عليه وسلم:«لا تردّوا السائل ولو بظلف محرق» . وقال: «أعطوا السّائل ولو جاء على ظهر فرس» . وفي الوقت نفسه حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم من السؤال، والمسألة، وشدّد النكير على الذين يتسوّلون. وخذ ما يلي: فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتّى يأتي الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم» .

أخرجه البخاري، ومسلم. وعنه أيضا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المسألة كلوح في وجه صاحبها يوم القيامة، فمن شاء استبقى على وجهه» . رواه الإمام أحمد.

فالرسول صلى الله عليه وسلم يريد من المسلم أن يكون عزيز النفس، مرفوع الرأس، لذا نفر من السؤال، والمسألة، ورغب في العمل، فعن الزبير بن العوام-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«لأن يأخذ أحدكم أحبله، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره، فيبيعها، فيكفّ بها وجهه خير له من أن يسأل الناس، أعطوه، أم منعوه» وغير ذلك كثير. وخذ ما يلي عن الأصمعي-رحمه الله تعالى-، قال: مررت في بعض سكك الكوفة، فإذا برجل قد خرج من حش على كتفه جرة، وهو يقول:[الطويل] وأكرم نفسي إنني إن أهنتها

وحقّك لم تكرم على أحد بعدي

فقلت له: أتكرمها بمثل هذا؟ قال: نعم، وأستغني عن سفلة مثلك؛ إذا سألته، ثم قال:

صنع الله بك، وترك! فقلت: تراه عرفني، فأسرعت، فصاح بي وأنشد:[الوافر] لنقل الصخر من قلل الجبال

أحبّ إليّ من منن الرّجال

يقول الناس: كسب فيه عار

وكلّ العار في ذلّ السّؤال

ص: 243

أما الصلاة في الليل بالإضافة لما ذكرته في سورة (الإسراء)[79] وفي سورة (الفرقان) رقم [64] فخذ ما يلي: عن عبد الله بن سلام-رضي الله عنه-قال: أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، فكنت فيمن جاءه، فلما تأمّلت وجهه، واستبنته عرفت: أنّ وجهه ليس بوجه كذّاب، قال: فكان أول ما سمعت من كلامه أن قال: «أيّها النّاس! أفشوا السّلام، وأطعموا الطّعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا باللّيل؛ والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام» . رواه الترمذي، وابن ماجه، والحاكم.

وعن سلمان الفارسي-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسّيّئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للدّاء عن الجسد» . رواه الطبراني في الكبير.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله رجلا قام من الليل فصلّى، وأيقظ امرأته، فإن أبت؛ نضح في وجهها الماء» . رواه أبو داود، والنسائي، وغيرهما. وقد ذكر أن أبا ذر-رضي الله عنه-وقف يوما عند الكعبة في حجة حجها، أو عمرة اعتمرها، فاكتنفه الناس، فقال لهم: لو أنّ أحدكم أراد سفرا أليس يعد زادا؟ فقالوا: بلى! فقال: سفر القيامة أبعد مما تريدون، فخذوا ما يصلحكم، فقالوا: وما يصلحنا؟ قال: حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يوما شديدا حرّه ليوم النشور، وصلوا في الليل لوحشة القبور. وروي أنّ الإمام الجنيد-رحمه الله تعالى-رؤي في المنام بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: طاحت تلك الإشارات، وذهبت تلك العبارات، ودرست تلك العلوم، وفنيت تلك الرسوم، وما نفعنا إلاّ ركيعات كنا نركعها وقت السحر. وروي عن بعض المتهجدين: أنه أتاه آت في منامه فأنشده: [الطويل] وكيف تنام اللّيل عين قريرة

ولم تدر في أيّ المجالس تنزل؟

ويروى عن أبي خلاد: أنه قال: حدثني صاحب لي قال: فبينا أنا نائم ذات ليلة؛ إذ مثلت لي القيامة، فنظرت إلى أقوام من إخواني قد أضاءت وجوههم، وأشرقت ألوانهم، وعليهم الحلل من دون الخلائق، فقلت: ما بال هؤلاء مكتسون؛ والناس عراة، ووجوههم مشرقة، ووجوه الناس مغبرة؟ فقال لي قائل: الذين رأيتهم مكتسون فهم المصلون بين الأذان، والإقامة، والذين وجوههم مشرقة فأصحاب السهر، والتهجد. قال: ورأيت أقواما على نجائب، فقلت: ما بال هؤلاء ركبانا، والناس مشاة حفاة؟ فقال لي: هؤلاء الذين قاموا على أقدامهم تقربا لله تعالى، فأعطاهم الله بذلك خير الثواب. قال: فصحت في منامي: واها للعابدين ما أشرف مقامهم! ثم استيقظت من منامي وأنا خائف. انتهى. قرطبي. ورحم الله القائل: [الطويل] أراني بعيد الدار لا أقرب الحمى

وقد نصبت للسّاهرين خيام

علامة طردي طول ليلي نائم

وغيري يرى أنّ المنام حرام

ص: 244

الإعراب: {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {قَلِيلاً:} صفة مفعول مطلق عامله ما بعده، التقدير: يهجعون هجوعا قليلا، أو هو صفة ظرف محذوف، التقدير:

يهجعون وقتا قليلا. {مِنَ اللَّيْلِ:} متعلقان ب: {قَلِيلاً،} و {يَهْجَعُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، وعلى هذا ف:{ما} صلة، وأجيز اعتبار {ما} مصدرية تؤول بمصدر في محل رفع فاعل ب:{قَلِيلاً،} و {قَلِيلاً} خبر (كان)، التقدير: كانوا قليلا من الليل هجوعهم، وعلى هذين الوجهين فالجار والمجرور متعلقان ب:{قَلِيلاً،} أو هما متعلقان بمحذوف صفة له. هذا؛ وقيل: الوقف على: {قَلِيلاً،} ويبتدأ بما بعدها. و {ما} نافية، والجار والمجرور متعلقان بالفعل بعدهما. وبينات فساده في الشرح. هذا؛ وجملة:{كانُوا قَلِيلاً..} . إلخ، بدل من سابقتها، أو هي تفسير لها.

(بالأسحار): متعلقان بالفعل بعدهما. {هُمْ:} مبتدأ. {يَسْتَغْفِرُونَ:} مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة:{يَهْجَعُونَ} على جميع الوجوه فيها. (في أموالهم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة، {حَقٌّ:} مبتدأ مؤخر. {لِلسّائِلِ:} متعلقان ب: {حَقٌّ،} أو بمحذوف صفة له. {وَالْمَحْرُومِ:}

معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها أيضا.

{وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22)}

الشرح: {وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ:} لما ذكر أمر الفريقين؛ أي: الكافرين، والمؤمنين؛ بيّن سبحانه: أنّ في الأرض علامات تدلّ على قدرته على البعث والنشور، فمنها عود النبات بعد أن صار هشيما، ومنها: أنه قدر الأقوات فيها للحيوانات، ومنها: سيرهم في البلدان التي يشاهدون فيها آثار الهلاك النازل بالأمم المكذبة. والموقنون: هم العارفون المحققون واحدانية ربهم، وصدق نبوة نبيهم، وخصّهم بالذكر؛ لأنهم المنتفعون بتلك الايات، وتدبرها. انتهى. قرطبي.

وفي النسفي: {وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ:} تدل على الصانع، وقدرته، وحكمته، وتدبيره؛ حيث هي مدحوة كالبساط لما فوقها، وفيها المسالك، والفجاج للمتقلبين فيها، وهي مجزأة، فمن سهل، ومن جبل، وصلبة ورخوة، وعذبة وسبخة، وفيها عيون متفجرة، ومعادن مبثوثة، ودواب منبثة، مختلفة الصور، والأشكال، متباينة الهيئات، والأفعال. {لِلْمُوقِنِينَ:} للموحدين؛ الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة: فهم نظارون بعيون باصرة، وأفهام نافذة، كلّما رأوا آية؛ عرفوا وجه تأمّلها، فازدادوا إيقانا مع إيقانهم.

ص: 245

{وَفِي أَنْفُسِكُمْ} أي: آيات، ودلالات على قدرة الصانع الحكيم؛ إذ كنتم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظما إلى أن تنفخ الروح. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد اختلاف الألسنة، والصور، والألوان والطبائع. وقيل: يريد سبيل الغائط، والبول، يأكل، ويشرب من مدخل واحد، ويخرج من سبيلين. وقيل: يعني تقويم الأعضاء: السمع، والبصر، والنطق، والعقل إلى غير ذلك من العجائب المودعة في ابن آدم. {أَفَلا تُبْصِرُونَ} كيف خلقكم، فتعرفوا قدرته؛ ولذا قيل: من عرف نفسه؛ عرف ربه؛ أي: عرف نفسه بالضعف، والعجز، عرف ربه بالقدرة، والعظمة.

{وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ:} قال سعيد بن جبير، والضحاك: الرزق هنا: ما ينزل من السماء من مطر، وثلج ينبت به الزرع، ويحيا به الخلق. وعن الحسن البصري: أنه كان إذا رأى السحاب، قال لأصحابه: فيه والله رزقكم، ولكنكم تحرمونه بخطاياكم. وقال أهل المعاني:{وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ:} معناه: وفي المطر رزقكم، سمّي المطر سماء؛ لأنه من السماء ينزل. قال معوّد الحكماء معاوية بن مالك:[الوافر] إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

{وَما تُوعَدُونَ:} يعني من الجنة والنار. وقيل: من الثواب، والعقاب. وقيل: من الخير، والشر. أو أراد ما ترزقونه في الدنيا، وما توعدونه في العقبى، كله مقدر ومكتوب في السماء.

الإعراب: {وَفِي:} الواو: حرف عطف. (في الأرض): متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{آياتٌ:} مبتدأ مؤخر. {لِلْمُوقِنِينَ:} متعلقان بمحذوف صفة: {آياتٌ،} والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {وَفِي:} الواو: حرف عطف. (في أنفسكم): متعلقان بمحذوف خبر، والمبتدأ محذوف، التقدير: وفي أنفسكم آيات، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي. الفاء: حرف استئناف.

(لا): نافية. {تُبْصِرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {وَفِي السَّماءِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {رِزْقُكُمْ:}

مبتدأ مؤخر، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {وَما:}

الواو: حرف عطف. (ما): اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع معطوفة على:{رِزْقُكُمْ} . {تُوعَدُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: والذي، أو شيء توعدونه.

{فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)}

الشرح: {فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ:} الضمير يعود إلى (الرزق)، أو إلى:(ما توعدون).

{مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} أي: مثل نطقكم، كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون؛ ينبغي ألاّ تشكوا

ص: 246

في تحقق ذلك، ففيه تشبيه تحقق ما أخبر الله عنه، ووعد به من الرزق بتحقق نطق الادمي. وخذ ما يلي:

عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو فرّ أحدكم من رزقه؛ أدركه، كما يدركه الموت» . رواه الطبراني، وعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيّها النّاس اتقوا الله، وأجملوا في الطلب، فإنّ نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطّلب، خذوا ما حلّ، ودعوا ما حرم» . رواه ابن ماجه، والحاكم.

روي أن قوما من الأعراب زرعوا زرعا، فأصابته جائحة، فحزنوا لأجله، فخرجت عليهم أعرابية، فقالت: ما لي أراكم قد نكستم رؤوسكم، وضاقت صدوركم؟! هو ربنا والعالم بنا، رزقنا عليه، يأتينا به من حيث شاء، ثم أنشأت تقول:[البسيط] لو كان في صخرة في البحر راسية

صما ململمة ملسا نواحيها

رزق لنفس يراه الله لانفلقت

حتّى تؤدّي إليها كلّ ما فيها

أو كان بين طباق السبع مسلكها

لسهّل الله في المرقى مراقيها

حتى تنال الّذي في اللّوح خطّ لها

إن لم تنله وإلا سوف يأتيها

ولكن الناس في هذه الأيام لا يؤمنون بهذا، ويعتبرون جمع المال من أي طريق كان شطارة، ويعتبرون اللف، والدوران، والغش، والتدليس حذقا، ومهارة، فلا حول، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وخذ ما يلي: فعن الأصمعي-رحمه الله تعالى-أنه قال: أقبلت من جامع البصرة، فطلع أعرابي على قعود له، فقال: ممن الرجل؟ فقلت: من بني أصمع، قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، قال: اتل عليّ، فتلوت:{وَالذّارِياتِ} فلما بلغت: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ} قال: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها، ووزعها على من أقبل، وأدبر، وعمد إلى سيفه، وقوسه، فكسرهما، وولّى، فلما حججت مع الرشيد، وطفقت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفت؛ فإذا أنا بالأعرابي قد نحل، واصفر، فسلام عليّ، واستقرأ السورة، فلما بلغت الاية صاح، وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت {فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} فصاح، وقال: يا سبحان الله! من ذا الذي أغضب الجليل؛ حتى حلف؟ لم يصدقوه بقوله حتى حلف! قالها ثلاثا، وخرجت معها نفسه. انتهى. كشاف، وقرطبي، ونسفي.

فائدة: القسم أمران: أحدهما: أن العادة جارية بتأكيد الخبر في اليمين. والثاني: أنّ في إقسام الله تعالى باسمه مضافا إلى السماء، والأرض رفعا منه لشأنهما، كما رفع من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى في سورة (مريم) رقم [68]:{فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ..} . إلخ ومثلها في سورة (النساء) رقم [65]. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

ص: 247

الإعراب: {فَوَ رَبِّ:} الفاء: حرف استئناف. (وربّ): جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. و (ربّ): مضاف، و {السَّماءِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَالْأَرْضِ:} الواو: حرف عطف. (الأرض): معطوف على ما قبله. {إِنَّهُ:}

حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {لَحَقٌّ:} اللام: هي المزحلقة. (حق): خبر: (إنّ)، والجملة الاسمية جواب القسم، لا محلّ لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف، لا محلّ له. {مِثْلَ:} يقرأ بالرفع صفة: (حق)، أو خبر ثان، أو على أنهما خبر واحد، مثل: حلو حامض، و {ما} زائدة على الأوجه الثلاثة. انتهى. عكبري. ويقرأ بالفتح وفيه وجهان:

أحدهما: هو معرب، ثم في نصبه على هذا أوجه: إما هو حال من النكرة؛ أي: حق، أو من الضمير فيها، أو على إضمار: أعني، أو على أنه مرفوع الموضع، ولكنه فتح كما فتح الظرف في قوله تعالى:{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} الاية رقم [94] من سورة (الأنعام) على قول الأخفش، و {ما} على هذه الأوجه زائدة أيضا. والوجه الثاني: هو مبني، وفي كيفية بنائه وجهان: أحدهما: أنه ركب مع (ما) كخمسة عشر، و {ما} على هذا يجوز أن تكون زائدة، وأن تكون نكرة موصوفة. والثاني: أن تكون بنيت؛ لأنها أضيفت إلى مبهم، وفيها نفسها إبهام. وقد ذكر مثله في قوله تعالى:{وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} رقم [66] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، فتكون {ما} على هذا أيضا، إما زائدة، وإما بمعنى شيء، وأما المصدر المؤول من:{أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} فيجوز أن يكون في محل جر بإضافة: {مِثْلَ} إليه؛ إذا جعلت {ما} زائدة، وأن يكون بدلا منها؛ إذا كانت بمعنى شيء، ويجوز أن يكون في موضع نصب بإضمار: أعني، أو في موضع رفع على تقدير: هو أنكم تنطقون. انتهى. عكبري بتصرف.

هذا؛ والتركيب الذي ذكره تركيب مزج، مثل: كلما، وطالما، وأينما، وقلما، فيقال في إعرابه:(مثلما) مبني على السكون في محل رفع على أنه صفة ل: (حق) و (مثلما) مضاف، والمصدر المؤول من:{أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} في محل جر بالإضافة. انتهى. جمل بتصرف. هذا؛ ونقل القرطبيّ عن الزّجّاج، والفرّاء جواز اعتبار {مِثْلَ} صفة مصدر محذوف. التقدير: لحق حقا مثل نطقكم، و {ما} زائدة للتوكيد، ونقل عن بعض الكوفيين صحة اعتبار {مِثْلَ} منصوبا على نزع الخافض، التقدير: كمثل نطقكم، و {ما} زائدة. انتهى. هذا؛ وجملة:{تَنْطِقُونَ} في محل رفع خبر (أن).

{هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)}

الشرح: ذكر الله قصة إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-ليبين بها: أنه أهلك المكذب بآياته، كما فعل بقوم لوط، وقد مضى الكلام في ضيف إبراهيم، وما جرى لهم

ص: 248

مع قوم لوط في سورة (هود) وسورة (الحجر) وغيرهما. هذا؛ و «ضيف» يقع للواحد، والاثنين، والجمع بلفظ الواحد، كما في الاية الكريمة؛ لأنه في الأصل مصدر، قال الشاعر:[الرجز] لا تعدمي الدّهر شفار الجازر

للضيف والضيف أحقّ زائر

وقد يثنى، فيقال: ضيفان؛ وقد يجمع على: أضياف وضيوف، وضيفان، وضياف. والأول أكثر استعمالا، كقولك: رجال صوم، وفطر، وزور، وأصل الضيف: الميل، يقال: ضفت إلى كذا: إذا ملت إليه، والضيف: من مال إليك نزولا بك. هذا؛ والضيفن: من يجيء من غير دعوة مع الضيف متطفلا، قال الشاعر:[الطويل] كلا الضّيفن المشنوء والضّيف واجد

لديّ المنى والأمن في العسر واليسر

{الْمُكْرَمِينَ} أي: عند الله تعالى، أو عند إبراهيم؛ إذ خدمهم بنفسه.

قال عبد الوهاب، قال لي علي بن عياض: عندي هريسة ما رأيك فيها؟ قلت: ما أحسن رأيي فيها، قال: امض بنا، فدخلت الدار، فنادى الغلام، فإذا هو غائب، فما راعني إلا به، ومعه القمقمة، والطست، وعلى عاتقه المنديل، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، لو علمت يا أبا الحسن: أن الأمر هكذا! قال: هوّن عليك، فإنك عندنا مكرم، والمكرم إنما يخدم بالنفس، انظر إلى قوله تعالى:{هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ..} . إلخ. انتهى. قرطبي. وخذ قول حاتم الطائي. وقيل:

هو لقيس بن عاصم المنقري الصحابي-رضي الله عنه: [الطويل] وإنّي لعبد الضيف ما دام ثاويا

وما فيّ إلاّ تلك من شيم العبد

وقد حثّ النبي صلى الله عليه وسلم على إكرام الضيف، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«من كان يؤمن بالله واليوم الاخر، فليكرم ضيفه

إلخ». رواه البخاري، ومثله من رواية أبي شريح خويلد بن عمرو العدوي-رضي الله عنه. هذا؛ واختلف في عدد ضيوف إبراهيم، فقيل:

كانوا اثني عشر ملكا. وقيل: كانوا ثلاثة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل. وهو المعتمد. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما. هذا؛ وقيل:{هَلْ} هنا بمعنى: قد، كقوله تعالى في أول سورة (الدّهر):{هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} هذا؛ ويجمع: «حديث» على:

أحاديث شذوذا، كما شذّ: أباطيل، وأعاريض، وأفاظيع في جمع: باطل، وعريض، وفظيع.

الإعراب: {هَلْ:} حرف استفهام، وتنبيه، وتفخيم، وتعظيم. {أَتاكَ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والكاف مفعول به. {حَدِيثُ:} فاعله، وهو مضاف، و {ضَيْفِ} مضاف إليه، و {ضَيْفِ} مضاف، و {إِبْراهِيمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {الْمُكْرَمِينَ:} صفة: {ضَيْفِ إِبْراهِيمَ} مجرور مثله، وعلامة جره الياء

إلخ، وجملة:{هَلْ أَتاكَ..} . إلخ، مستأنفة.

ص: 249

{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)}

الشرح: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً} أي: نسلم عليكم سلاما. {قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} أي:

عليكم سلام، أنتم قوم منكرون؛ أي: غرباء لا نعرفكم، وذلك لأنهم قدموا عليه في صورة شبان حسان، عليهم مهابة عظيمة. وقيل: أنكرهم؛ لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان. وقال أبو العالية: أنكر سلامهم في ذلك الزمان، وفي تلك الأرض. وقيل: أنكرهم؛ لأنه ظن أنهم بنو آدم، ولم يعرفهم، أو لأنّ السّلام لم يكن تحيتهم، فإنه علم الإسلام. وقيل: أنكرهم: خافهم، يقال: أنكرته: إذا خفته، ومثله: نكر، واستنكر، فالكل بمعنى واحد. قال الأعشى، وقد جمع بين لغتين:[البسيط]

فأنكرتني وما كان الّذي نكرت

من الحوادث إلاّ الشّيب والصّلعا

أقول: وهو فحوى قوله تعالى في سورة (الحجر) رقم [52]: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أي: خائفون. هذا؛ وقال سليمان الجمل-رحمه الله تعالى-: فإن قيل: قال الله تعالى في سورة (هود): {فَلَمّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} فدلّ ذلك على أن إنكاره عليه السلام حصل بعد تقريب العجل إليهم، وقال هاهنا:{قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} ثم قال: {فَراغَ إِلى أَهْلِهِ} بفاء التعقيب، وذلك يدلّ على أن تقريب الطعام إليهم كان بعد حصول إنكاره، فما وجه التوفيق؟ فالجواب: أن الإنكار الذي كان قبل تقريب العجل غير الإنكار الحاصل بعده، فإن الإنكار الحاصل قبله، بمعنى عدم العلم بأنهم من أي بلدة؟ والإنكار الحاصل بعده بمعنى عدم العلم بأنهم دخلوا عليه لقصد الخير، أو الشر، فإن من امتنع من تناول الطعام يخاف من شره. انتهى. نقلا عن زاده. وفي البيضاوي، والنسفي تبعا للزمخشري: والعدول إلى الرفع للدلالة على إثبات السّلام، كأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به أخذا بأدب الله، وهذا أيضا من إكرامه لهم. انتهى.

الإعراب: {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان، مبني على السكون في محل نصب، وفي عامله أربعة أوجه: أحدها: أنه {حَدِيثُ} أي: هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه.

الثاني: أنه منصوب بما في {ضَيْفِ} من معنى الفعل؛ لأنه في الأصل مصدر، ولذلك يستوي فيه الواحد المذكر، وغيره، كأنه قيل: الذين ضافوه في وقت دخولهم عليه. الثالث: أنه منصوب ب: {الْمُكْرَمِينَ،} إن أريد بإكرامهم: أن إبراهيم أكرمهم بخدمته لهم. الرابع: أنه منصوب بإضمار: اذكر، ولا يجوز نصبه ب:{أَتاكَ} لاختلاف الزمانين. انتهى. جمل نقلا عن السمين.

{دَخَلُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذْ} إليها. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. (قالوا): ماض، وفاعله.

{سَلاماً:} مفعول مطلق عامله محذوف، كما رأيت في الشرح تقديره، والجملة الفعلية: «نسلم

ص: 250

سلاما» في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَقالُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها.

{قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى:{إِبْراهِيمَ،} تقديره: «هو» . {سَلامٌ:} مبتدأ، خبره محذوف، التقدير: سلام عليكم، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {قَوْمٌ:} خبر مبتدأ محذوف، التقدير: أنتم قوم. {مُنْكَرُونَ:} صفة: {قَوْمٌ} مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ} مستأنفة، لا محلّ لها.

{فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27)}

الشرح: {فَراغَ إِلى أَهْلِهِ:} مال إليهم سرا. ويقال: راغ، وأراغ لغتان بمعنى واحد.

وراغ، يروغ روغا، وروغانا: مال سرا، وحاد، وطريق رائغ؛ أي: مائل، قال صالح بن عبد القدوس:[الكمال]

لا خير في ودّ امرئ متقلّب

حلو اللسان وقلبه يتلهّب

يلقاك يحلف أنه بك واثق

وإذا توارى عنك فهو العقرب

يعطيك من طرف اللّسان حلاوة

ويروغ عنك كما يروغ الثعلب

أي: يميل عنك كما يميل الثعلب في سيره. وفي المصباح: وراغ الثعلب روغا من باب:

قال، وروغانا، ذهب يمنة، ويسرة في سرعة، وخديعة، فهو لا يستقر في جهة، وراغ فلان إلى كذا: مال إليه سرا. انتهى. وفي القرطبي: ويقال: إن إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-انطلق إلى منزله كالمستخفي من ضيفه لئلا يظهروا على ما يريد أن يتخذ لهم من الطعام. انتهى. وفي البيضاوي: فإن من أدب المضيف أن يبادر بالقرى حذرا من أن يكفه الضيف، أو يصير منتظرا. انتهى.

{فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ:} لأن عامة ماله كانت من البقر، وكان قد شوى العجل، وجاءهم به كما في سورة (هود) رقم [69]:{فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} وفي الصحاح: العجل: ولد البقرة، والعجّول مثله، والجمع: العجاجيل، والأنثى: عجلة، وبقرة معجل: ذات عجل، وعجل: قبيلة من ربيعة. {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ:} بأن وضعه بين أيديهم. {قالَ أَلا تَأْكُلُونَ} أي: عرض عليهم الأكل، فلم يجيبوا.

وفي مختصر ابن كثير للصابوني: وفي الاية انتظمت آداب الضيافة، فإنه جاء بطعام من حيث لا يشعرون بسرعة، وأتى بأفضل ما وجد من ماله، وهو عجل فتيّ، سمين، مشويّ، فقربه إليهم ولم يضعه، وقال اقتربوا، بل وضعه بين أيديهم، ولم يأمرهم أمرا يشق على سامعه بصيغة

ص: 251

الجزم: بل قال: {أَلا تَأْكُلُونَ} على سبيل العرض، والتلطف، كما يقول القائل اليوم: إن رأيت أن تتفضل، وتتكرم، فافعل. انتهى.

الإعراب: {فَراغَ:} الفاء: حرف عطف. (راغ): ماض، وفاعله يعود إلى:{إِبْراهِيمَ،} والجملة الفعلية معطوفة على جملة: {قالَ..} . إلخ. {إِلى أَهْلِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَجاءَ:} الفاء: حرف عطف. (جاء): ماض، وفاعله يعود إلى:

{إِبْراهِيمَ} أيضا، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {بِعِجْلٍ:} متعلقان بما قبلهما. {سَمِينٍ:} صفة: (عجل). {فَقَرَّبَهُ:} الفاء: حرف عطف. (قربه): ماض، والفاعل يعود إلى:{إِبْراهِيمَ،} والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {إِلَيْهِمْ:}

متعلقان بما قبلهما. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{إِبْراهِيمَ} أيضا، {أَلا:} حرف عرض، أو تحضيض. {تَأْكُلُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ أَلا..} . إلخ، في محل نصب حال من الفاعل المستتر، والرابط: الضمير فقط.

{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)}

الشرح: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أي: أضمر. وقيل: أحس من الملائكة خوفا، وفزعا لمّا لم يتحرموا بطعامه، ومن أخلاق الناس أن من تحرّم بطعام إنسان أمنه. قال الشاعر:[البسيط]

جاء البريد بقرطاس يخبّ به

فأوجس القلب من قرطاسه جزعا

قال عمرو بن دينار: قالت الملائكة: لا نأكل إلا بالثمن، قال: كلوا، وأدوا ثمنه. قالوا: وما ثمنه؟ قال: تسمون الله إذا أكلتم، وتحمدونه إذا فرغتم. فنظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: لهذا اتخذك الله خليلا. {قالُوا لا تَخَفْ:} إنا رسل الله، لا نأكل، ولا نشرب، وإنا مرسلون لإهلاك قوم لوط. وفي البيضاوي: قيل مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه، فقام يدرج حتى لحق بأمه، فعرفهم، وأمن منهم. {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ:} هو إسحاق، على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام. ومعنى {عَلِيمٍ:} يكمل علمه إذا بلغ؛ أي: باعتبار ما يؤول إليه أمره، فهو مجاز مرسل. هذا؛ والبشارة لإبراهيم بشارة لزوجه؛ لأن الولد منهما، فكل منهما بشر به.

هذا؛ و «غلام» يطلق على الصبي دون البلوغ، وجمعه: غلمان، وغلمة، وأغلمة، كما يطلق على العبد، والأجير اسم الغلام، وإن كانا كبيرين. هذا؛ وقد يقال للأنثى: غلامة. خذ قول الشاعر: [الطويل] فلم أر عاما عوض أكثر هالكا

ووجه غلام يشترى وغلامه

ص: 252

الإعراب: {فَأَوْجَسَ:} الفاء: حرف عطف، أو حرف استئناف. (أوجس): ماض، وفاعله يعود إلى:{إِبْراهِيمَ} . {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{خِيفَةً،} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {خِيفَةً:} مفعول به، وجملة: (أوجس

) إلخ لا محلّ لها على الوجهين المعتبرين في الفاء. {قالُوا:} ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لا تَخَفْ:}

مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا} مستأنفة، لا محلّ لها. {وَبَشَّرُوهُ:} الواو: حرف عطف.

(بشروه): ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قالُوا} لا محلّ لها مثلها. {بِغُلامٍ:} متعلقان بما قبلهما. {عَلِيمٍ:} صفة: (غلام). تأمّل، وتدبّر.

{فَأَقْبَلَتِ اِمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)}

الشرح: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ:} لما سمعت زوجة إبراهيم-واسمها سارة-البشارة المذكورة وكانت في زاوية من زوايا البيت، فجاءت عند الضيوف، وقالت ما ذكر. هذا؛ و (الصرة): الضجة، والصيحة، و (الصرة): الجماعة، و (الصرة): الشدة من كرب، وغيره. قال امرؤ القيس في معلّقته رقم [76]:[الطويل] فألحقه بالهاديات ودونه

جواحرها في صرّة لم تزيّل

يحتمل هذا البيت الوجوه الثلاثة. وصرة القيظ: شدة حره. وصرة الشتاء: شدة برده. هذا؛ وإن سارة عليهاالسّلام لما بشرت بالولد؛ جاءت صائحة؛ لأنها وجدت حرارة دم الحيض، الذي فاجأها وقت البشارة، كما قال تعالى في سورة (هود) رقم [71]:{وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ} انظر شرحها هناك؛ تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.

{فَصَكَّتْ وَجْهَها:} اختلف في هذا الصك، فقيل: هو الضرب باليد مبسوطة. وقيل: هو ضرب الوجه بأطراف الأصابع مثل التعجب، وهي عجوز عقيم. وقيل: وجدت حرارة دم الحيض الذي فاجأها بعد اليأس، فلطمت وجهها من الحياء، والأول أقوى. {وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أي: أنا عجوز عاقر، فكيف ألد؟! وفي سورة (هود) رقم [72]:{قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} .

{عَجُوزٌ:} هي الطاعنة في السن، ويقال لها أيضا، شهلة، وشهبرة، وشهربة، وشمطاء، وشيخة. قال صاحب مختار الصحاح: ولا تقل عجوزة، والعامة تقوله. والجمع: عجائز، وعجز، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم:«إنّ الجنّة لا يدخلها العجز» . وأيام العجوز عند العرب خمسة

ص: 253

أيام: هي صنّ، وصنّبر، وأخيّهما وبر، ومطفئ الجمر، ومكفئ الظعن. وقال أبو الغوث: هي سبعة أيام، وأنشد لابن أحمر:[الكامل] كسع الشتاء بسبعة غبر

أيام شهلتنا من الشّهر

فإذا انقضت أيامها ومضت

صنّ وصنّبر مع الوبر

وبآمر وأخيه مؤتمر

ومعلّل وبمطفئ الجمر

ذهب الشتاء مولّيا عجلا

وأتتك واقدة من النجر

قلت: ترتيبها هو الترتيب في الشعر، إلا في مطفئ الجمر فإنه السادس، ومكفئ الظعن فإنه السابع، وهو الذي ذكر:«معلّل» مكانه، أقول: وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الأيام، وهي التي أهلك الله فيها قوم عاد، وهي في سورة (الحاقة) قال تعالى:{وَأَمّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ} كما ستقف عليه هناك إن شاء الله تعالى. وخذ هذه الطرفة من قول رؤية بن العجاج: [الرجز] إذا العجوز غضبت فطلّق

ولا ترضّاها ولا تملّق

واعمد لأخرى ذات دلّ مونق

ليّنة المسّ كمسّ الخرنق

{عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أي: لا تلد، قال تعالى في سورة (الشورى) رقم [50]:{وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً} وهذا قد يكون في بعض الذكور، ويكون في بعض الإناث. يقال: رجل عقيم، وامرأة عقيم. يستوي فيه المذكر، والمؤنث. وعقمت المرأة، تعقم عقما، مثل: حمد، يحمد، وعقمت تعقم مثل عظم، يعظم. وأصله: القطع. ومنه: الملك العقيم؛ أي: تقطع فيه الأرحام بالقتل، والعقوق خوفا على الملك. وريح عقيم؛ أي: لا تلقح سحابا، ولا شجرا. وانظر الاية رقم [41] الاتية. ويوم القيامة يوم عقيم؛ لأنه لا يوم بعده. ويقال: نساء عقم، وعقم بسكون القاف، وضمها، قال أبو دهبل يمدح عبد الله بن الأزرق المخزومي:[الكامل] عقم النساء فما يلدن شبيهه

إنّ النساء بمثله عقم

الإعراب: {فَأَقْبَلَتِ:} الفاء: حرف عطف. (أقبلت): فعل ماض، والتاء للتأنيث حرف لا محل له. {اِمْرَأَتُهُ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {فِي صَرَّةٍ:} متعلقان بمحذوف حال من امرأته أي: صارة.

{فَصَكَّتْ:} الفاء: حرف عطف. (صكت): ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى امرأته.

{وَجْهَها:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{وَقالَتْ:} الواو: حرف عطف. (قالت): فعل ماض، والتاء للتأنيث. {عَجُوزٌ:} خبر لمبتدأ

ص: 254

محذوف، التقدير: أنا عجوز، أو هو فاعل لفعل محذوف، التقدير: أتلد عجوز، والجملة على الاعتبارين في محل نصب مقول القول. {عَقِيمٌ:} صفة: {عَجُوزٌ،} وجملة: (قالت

) إلخ معطوفة على ما قبلها.

{قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)}

الشرح: {قالُوا} أي: الملائكة. {كَذلِكَ:} مثل ذلك الذي بشرناكما به. {قالَ رَبُّكِ} أي: قضى، وحكم في الأزل: أنه من جهته تعالى، فلا تعجبي منه، ولا تشكي فيه، فإنه حاصل، وواقع لا محالة. {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ:} بصنعه، وقوله. {الْعَلِيمُ:} بخلقه، لا يكون قوله إلاّ حقا، ولا يكون فعله إلاّ محكما. هذا؛ وكان بين البشارة والولادة سنة، وكانت سارة عليهاالسّلام عقيما كما ذكرت فولدت، وهي بنت تسع وتسعين سنة، وإبراهيم كان عمره مئة وعشرين سنة، ولا تنس: أن سارة بشرت بالحفيد يعقوب أيضا، كما بشرت بإسحاق. خذ قوله تعالى في سورة (هود) رقم [71]:{فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ} وذلك ليتم سرورها وفرحها بالحفيد كما يتم بالوليد.

فائدة: عاش إبراهيم من العمر مئة وخمسا وسبعين سنة، وبينه وبين نوح ألف وستمئة وأربعون سنة، وعاش إسحاق مئة وثمانين سنة، وعاش يعقوب مئة وخمسا وأربعين سنة، وعاش يوسف الصديق مئة وعشرين سنة، وعاش إسماعيل مئة وسبعا وثلاثين سنة، وأمه هاجر القبطية، وتزوج إبراهيم غير سارة، وهاجر امرأة، اسمها: قطورة، فولدت له: زمران، ويقشان، ومدان، ومديان، ويشباق، وشوما، فيكون جملة أولاده من صلبه ثمانية، وهم ذكور، ولم يذكر له بنات، فألف صلاة، وألف سلام على حبيبنا، وشفيعنا، وعلى إبراهيم، وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين، ارحمنا، واحشرنا معهم؛ برحمتك يا أرحم الراحمين!.

الإعراب: {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {كَذلِكَ:} الكاف: حرف تشبيه، وجر، و (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة مصدر محذوف، عامله ما بعده، التقدير: قال ربك قولا مثل ذلك القول؛ الذي أخبرناك به. وقيل: متعلقان بمحذوف خبر مبتدأ محذوف، التقدير: الأمر كذلك. والجملة الاسمية تصلح أن تكون مقولا ل: (قال) الأولى، ومقولا للثانية، وهو الأرجح، وجملة:{قالُوا..} . إلخ، لا محلّ لها؛ لأنها مستأنفة. {قالَ رَبُّكِ:} ماض، وفاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول للأولى، أو هي مستأنفة. وفيها معنى التأكيد لما قبلها. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {هُوَ:} ضمير فصل لا

ص: 255

محلّ له من الإعراب، أو هو توكيد لاسم:(إنّ)، وعليهما ف:{الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} خبران ل:

(إنّ). هذا؛ وإن اعتبرت الضمير مبتدأ، و {الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} خبرين عنه؛ فالجملة الاسمية تكون في محل رفع خبر:(إنّ). والجملة الاسمية: {إِنَّهُ..} . إلخ، في محل نصب مقول القول ل:

(قال) الأولى، وفيها معنى التعليل.

{قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)}

الشرح: {*قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ:} فلما تيقن إبراهيم عليه السلام: أنهم ملائكة بإحياء العجل، والبشارة بالولد؛ قال: فما شأنكم، وقصتكم، وفيم جئتم أيها المرسلون؟ والخطب: الأمر العظيم. قال البيضاوي: ولعله علم: أن كمال المقصود ليس البشارة؛ لأنهم كانوا عددا، والبشارة لا تحتاج إلى عدد، ولذلك اكتفى بالواحد في بشارة زكريا، ومريم عليهما السلام، أو لأنهم بشروه في تضاعيف الحال؛ لإزالة الوجل، ولو كانت البشارة تمام المقصود لابتدؤوه بها. انتهى.

{قالُوا} أي: الملائكة، {إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} أي: كافرين لإهلاكهم، وهم يعنون قوم لوط. {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ} أي: لنرجمهم بها. {مُسَوَّمَةً} أي: معلمة، من السيما، وهي العلامة، قيل: كانت مخططة بسواد، وبياض. وقيل: مكتوب على كل حجر منها اسم من رمي بها، وكانت لا تشاكل حجارة الأرض. {عِنْدَ رَبِّكَ} أي: عند الله، وقد أعدها لرجم من قضى برجمه. ثم قيل: كانت مطبوخة طبخ الاجر. قاله ابن زيد، وهو معنى قوله تعالى:{حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} . هذا، ولا تنس أن هذه الحجارة إنما أرسلت عليهم بعد قلب قرى قوم لوط، وهذه الحجارة إنما أرسلت على من كان خارج هذه القرى من مسافريهم، قيل: إن الحجارة اتبعت شذاذ قوم لوط؛ حتى إن واحدا منهم دخل الحرم، فبقي الحجر معلقا في السماء أربعين يوما حتى خرج ذلك الرجل من الحرم، فسقط عليه الحجر، فأهلكه. خذ قوله تعالى في سورة (هود) رقم [83]:{فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} ومعنى المسرفين: المجاوزين الحد في الفجور، وهو ما عرف عنهم من إتيان الذكور في أدبارهم.

الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{إِبْراهِيمَ} . {فَما:} الفاء: حرف صلة، أو هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر؛ أي: إن كنتم ملائكة كما تقولون {فَما خَطْبُكُمْ:}

(ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {خَطْبُكُمْ:} خبره، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {أَيُّهَا:} منادى نكرة مقصودة، حذف منه أداة النداء، مبني على الضم في محل نصب ب:«يا» المحذوفة، و (ها): حرف تنبيه لا

ص: 256

محل له، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه. {الْمُرْسَلُونَ:} بدل من: (أي)، أو عطف بيان عليه، أو صفة، فهو مرفوع تبعا للفظه، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الندائية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ، مستأنفة، لا محلّ لها.

{قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها وبقيت الألف دليلا عليها. {أُرْسِلْنا:} ماض مبني للمجهول مبني على السكون، و (نا): نائب فاعله. {إِلى قَوْمٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني.

{مُجْرِمِينَ:} صفة: {قَوْمٍ} مجرور

إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ، في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ، مستأنفة، لا محلّ لها. هذا؛ والايتان مذكورتان بحروفهما في سورة (الحجر) رقم [57] و [58].

{لِنُرْسِلَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر وجوبا، تقديره:«نحن» ، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{أُرْسِلْنا} . {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{حِجارَةً:} مفعول به. {مِنْ طِينٍ:} متعلقان بمحذوف صفة: {حِجارَةً} . {مُسَوَّمَةً:} صفة ثانية للحجارة، أو حال منها بعد وصفها بما تقدم، وهي اسم مفعول، فنائب فاعله يعود إلى:

{حِجارَةً} . {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق ب: {مُسَوَّمَةً،} و {عِنْدَ} مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لِلْمُسْرِفِينَ:}

متعلقان ب: {مُسَوَّمَةً} أيضا. تأمّل، وتدبّر، وربك أعلم، وأجلّ، وأكرم.

{فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)}

الشرح: {فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها} أي: لما أردنا إهلاك قوم لوط؛ أخرجنا من كان في قومه من المؤمنين؛ لئلا يهلك المؤمنون. والضمير في قوله: {فِيها} يعود إلى قرى قوم لوط، ولم يجر لها ذكر لكونها معلومة. {فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ} أي: غير أهل بيت، وهم لوط، وابنتاه.

وقيل: كان لوط، وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر. {مِنَ الْمُسْلِمِينَ:} وصفوا بالإيمان، والإسلام؛ أي هم مصدقون بقلوبهم، عاملون بجوارحهم الطاعات. هذا؛ وقال الخطابي وغيره: إن المسلم قد يكون مؤمنا وقد لا يكون، والمؤمن مسلم دائما، فهو أخصّ، وبهذا يستقيم تأويل الايات، والأحاديث وقوله تعالى في سورة (الحجرات) رقم [14]:{قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا..} . إلخ، يدلّ على الفرق بين الإيمان، والإسلام، وهو مقتضى حديث جبريل عليه السلام في صحيح مسلم، وغيره.

ص: 257

{وَتَرَكْنا فِيها آيَةً} أي: تركنا في قرى قوم لوط عبرة، وعلامة لأهل ذلك الزمان، ومن بعدهم، كما في قوله تعالى في سورة (العنكبوت) الاية رقم [35]:{وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . {لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ:} فإنهم هم المنتفعون بالايات، دون القاسية قلوبهم، التي لا تتأثر، ولا تتعظ بالايات، والعبر. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {فَأَخْرَجْنا:} الفاء: حرف استئناف. (أخرجنا): فعل، وفاعل. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى:{مَنْ} . {فِيها:} متعلقان بمحذوف خبر: {كانَ} . {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، و {مَنْ} بيان لما أبهم في الموصول، والجملة الفعلية: (أخرجنا

) إلخ مستأنفة، لا محلّ لها. {فَما:} الفاء: حرف عطف. (ما): نافية.

{وَجَدْنا:} فعل، وفاعل. {فِيها:} متعلقان بالفعل قبلهما. {غَيْرَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {بَيْتٍ} مضاف إليه. {مِنَ الْمُسْلِمِينَ:} متعلقان بمحذوف صفة: {بَيْتٍ،} والجملة الفعلية: (ما وجدنا

) إلخ معطوفة على ما قبلها. {وَتَرَكْنا:} الواو: حرف عطف. (تركنا): فعل، وفاعل.

{فِيها:} متعلقان بالفعل قبلهما. {آيَةً:} مفعول به. {لِلَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف صفة:

{آيَةً،} وجملة: {يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ} صلة الموصول، لا محلّ لها، وجملة: (تركنا

) إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. وجملة:{كانَ..} . إلخ، صلة الموصول.

{وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)}

الشرح: {وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ:} التقدير: وتركنا أيضا في قصة موسى آية. {إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ:} بحجة ظاهرة، وبرهان واضح، وهي معجزة اليد، والعصا. {فَتَوَلّى بِرُكْنِهِ} أي:

أعرض عن الإيمان بجموعه، وجنوده؛ الذين كان يتقوى، ويعتز بهم. ومنه قوله تعالى في سورة (هود) رقم [80]:{أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} . وقال ابن عباس، وقتادة: أي بقوته، ومنه قول عنترة:[الوافر] فما أوهى مراس الحرب ركني

ولكن ما تقدم من زماني

{ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} أي: لا يخلو أمرك فيما جئتني به من أن تكون ساحرا، أو مجنونا.

وقال القرطبي: {أَوْ} بمعنى الواو؛ لأنهم قالوها جميعا، قاله المؤرج، والفراء، وأنشدا بيت جرير:[الوافر] أثعلبة الفوارس أو رياحا

عدلت بهم طهيّة والخشابا

ص: 258

أقول: ومن شواهده أيضا قول جرير. وهو الشاهد رقم [96] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» : [البسيط] جاء الخلافة أو كانت له قدرا

كما أتى ربّه موسى على قدر

{فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ:} فأغرقناهم في البحر. {وَهُوَ مُلِيمٌ:} آت بما يلام عليه، من كفره، وعناده، وإنما وصف يونس على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام في سورة (الصافات) رقم [142] بقوله تعالى:{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} لأنّ موجبات اللوم تختلف، وعلى حسب اختلافها، تختلف مقادير اللوم، فراكب الكفر ملوم على مقداره، وراكب الكبيرة، أو الصغيرة على مقدارها؛ ألا ترى إلى قوله تعالى:{وَعَصَوْا رُسُلَهُ} وقوله جلّ ذكره: {وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ} لأنّ الكبيرة، والصغيرة يجمعهما اسم العصيان، كما يجمعهما اسم القبيح، والسيئة.

هذا؛ و (سلطان): تسلط، وولاية، ويأتي بمعنى: الحجة، والبرهان، كما هنا، ويأتي بمعنى: الكتاب. قال تعالى في سورة (الروم) رقم [35]: {أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} . وقال بعض المحققين: سميت الحجة سلطانا؛ لأن صاحب الحجة يقهر من لا حجة له، كالسلطان يقهر غيره بقوته. وقال الزجاج: السلطان هو الحجة، وسمّي السلطان سلطانا؛ لأنه حجة الله في أرضه. انتهى. ولا تنس ما قاله عثمان بن عفان-رضي الله عنه:

(إنّ الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) أي: يكف عن المعاصي، ويردع، وجمعه بمعنى الحاكم، والمالك: سلاطين، ولا يجمع إذا كان بمعنى الحجة، والبرهان. هذا؛ وزعم الفراء:

أن العرب تؤنث السلطان، تقول: قضت به عليك السلطان، أما البصريون فالتذكير عندهم أفصح، وبه جاء القرآن الكريم، والتأنيث عندهم جائز؛ لأنه بمعنى الحجة. هذا؛ والسلطان ما يدفع به الإنسان عن نفسه أمرا يستوجب به عقوبة، كما قال تعالى حكاية عن قول سليمان-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-في حق الهدهد في سورة (النمل) رقم [21]:{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} .

أما {مُبِينٍ} فهو اسم فاعل من: أبان الرباعي، أصله مبين بسكون الباء، وكسر الياء، فنقلت كسرة الياء إلى الباء بعد سلب سكونها؛ لأن الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة.

ولا تنس: أن اسم الفاعل من «بان» الثلاثي بائن أصله باين، وإعلاله مثل إعلال قائل.

الإعراب: {وَفِي:} الواو: حرف عطف. (في موسى): قال الزمخشري، ووافقه النسفي، والبيضاوي: معطوفان على قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ} رقم [20]، ورده ابن هشام بقوله:

وفيه بعد، وإنما هما معطوفان على:{فِيها} من قوله: {وَتَرَكْنا فِيها آيَةً..} . إلخ. وقال الزمخشري أيضا: أو هما معطوفان على قوله: {وَتَرَكْنا فِيها آيَةً} على معنى: وجعلنا في موسى آية، كقول الشاعر: وهذا هو الشاهد رقم [1074] من كتابنا «فتح القريب المجيب» : [الرجز]

ص: 259

علفتها تبنا وماء باردا

حتّى غدت همّالة عيناها

ونقل الجمل عن السمين هذا القول عن الزمخشري، وقول ابن هشام أيضا. {إِذْ:} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه متعلق ب: {آيَةً} على قول ابن هشام المتقدم: أي تركنا في قصة موسى علامة في وقت إرسالنا إياه. والثاني: متعلق بمحذوف نعت ل: {آيَةً} أي: آية في وقت إرسالنا. الثالث: أنه متعلق ب: (تركنا). {أَرْسَلْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {إِلى فِرْعَوْنَ:} متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة.

{بِسُلْطانٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من: {مُوسى،} أو من ضميره. {مُبِينٍ:} صفة (سلطان). {فَتَوَلّى:} الفاء: حرف عطف. (تولى): فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف، والفاعل يعود إلى:{فِرْعَوْنَ،} والجملة الفعلية معطوفة على جملة:

{أَرْسَلْناهُ..} . إلخ، فهي في محل جر مثلها. {بِرُكْنِهِ:} متعلقان بما قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من: {فِرْعَوْنَ،} والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. (قال): ماض، وفاعله يعود إلى:(فرعون) أيضا. {ساحِرٌ:} خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو ساحر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {أَوْ:} حرف عطف. {مَجْنُونٌ:} معطوف على: {ساحِرٌ} عطف مفرد على مفرد. وإن اعتبرته خبر لمبتدأ محذوف؛ فالعطف يكون عطف جملة على جملة، وجملة:{وَقالَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {فَأَخَذْناهُ:}

فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَجُنُودَهُ:} معطوف على الضمير، فهو منصوب مثله. وقيل: مفعول معه، وهو ضعيف لإمكان العطف، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَنَبَذْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر أيضا. {فِي الْيَمِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَهُوَ:} الواو: واو الحال.

(هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط:

الواو، والضمير.

{وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)}

الشرح: {وَفِي عادٍ} أي: وتركنا في عاد آية لمن تأمل. {إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ:} وهي التي لا تلقح سحابا، ولا شجرا، وليس فيها رحمة، ولا بركة، ولا منفعة. ومنه: امرأة عقيم لا تحمل، ولا تلد، كما رأيت في الاية رقم [29]، ثم قيل: هي الجنوب، والأصح: أنها ريح غربية وهي المسماة بالدّبور، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد

ص: 260

بالدّبور». وقال عبيد بن عمير: مسكنها الأرض الرابعة، وما فتح الله على عاد منها إلا كقدر منخر الثور. وفي الكلام استعارة مكنية، حيث شبه الريح التي لا منفعة فيها من إنشاء مطر، أو تلقيح شجر بالمرأة العاقر؛ التي لا تحمل. {ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ:} من أنفسهم، وأموالهم، وأنعامهم. {إِلاّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} أي: كالشيء الهالك البالي، وهو يابس، وديس من نبات الأرض، يقال للنبت إذا يبس، وتفتت: رميم، وهشيم. قال جرير يرثي ابنه:[البسيط] تركتني حين كفّ الدهر من بصري

وإذ بقيت كعظم الرّمّة البالي

أي: الهالك البالي، وأصل الكلمة من: رمّ العظم إذا بلي. وفي سورة (يس) قوله تعالى حكاية عن قول الكافر: {قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} . نقول: رمّ العظم، يرم بالكسر رمّة، فهو رميم، قال الشاعر:[الكامل] ورأى عواقب خلف ذاك مذمّة

تبقى عليه والعظام رميم

هذا؛ و {عادٍ} اسم للحي، ولذلك صرف، ومنهم من جعله اسما للقبيلة، ولذلك منعه، و (عاد) في الأصل اسم الأب الكبير، وهو عاد بن عوص بن إرم، بن سام، بن نوح على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، فسميت به القبيلة، أو الحي، وكذلك ما أشبهه من نحو (ثمود) إن جعلته اسما لمذكر صرفته، وإن جعلته اسما لمؤنث منعته، ورسول قوم عاد هو هود بن عبد الله، ابن رباح، بن الخلود، بن عاد بن عوص، بن إرم، بن سام، بن نوح. وقال ابن إسحاق: هو هود ابن شامخ، بن أرفخشذ، بن سام، بن نوح. هذا؛ وكان بين هود، ونوح ثمانمئة سنة، وعاش عاد أربعمئة وأربعا وستين سنة، وقبيلة عاد كانت تسكن الأحقاف من أرض اليمن.

الإعراب: {وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا:} هذا كلام معطوف على قوله تعالى: {وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ..} .

إلخ، وهو مثله في إعرابه في كل ما تقدم. {عَلَيْهِمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.

{الرِّيحَ:} مفعول به. {الْعَقِيمَ:} صفة: {الرِّيحَ} . {ما:} نافية. {تَذَرُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى:{الرِّيحَ،} تقديره هي. {مِنْ:} حرف جر صلة. {شَيْءٍ:} مفعول به أول منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.

{أَتَتْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة؛ لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث الساكنة؛ التي هي حرف لا محلّ له، والفاعل يعود إلى:{الرِّيحَ الْعَقِيمَ،} والجملة الفعلية في محل جر صفة شيء على اللفظ. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {إِلاّ:} حرف حصر. {جَعَلَتْهُ:} ماض، والفاعل يعود إلى:{الرِّيحَ} أيضا، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به أول. {كَالرَّمِيمِ:} الكاف: اسم بمعنى مثل مبني على الفتح في محل نصب مفعول به ثان، والكاف مضاف، و (الرميم) مضاف إليه، وجملة:{جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} في محل نصب مفعول به ثان ل: {تَذَرُ،} وجملة: {ما تَذَرُ..} . إلخ، في محل نصب حال من:{الرِّيحَ الْعَقِيمَ} .

ص: 261

{وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اِسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)}

الشرح: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا} أي: وفيهم أيضا عبرة، وآية حين قيل لهم: عيشوا متمتعين بالدنيا. {حَتّى حِينٍ} أي: إلى وقت الهلاك، وهو ثلاثة أيام، كما قال في سورة (هود) رقم [65]:{تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} . {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أي:

خالفوا أمر الله، وعقروا الناقة. {فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ:} العذاب، وقال صاحب المختار: الصاعقة:

نار تسقط من السماء في رعد شديد، يقال: صعقتهم السماء من باب: قطع: إذا ألقت عليهم الصاعقة. والصاعقة أيضا صيحة العذاب. وكل عذاب مهلك صاعقة. هذا؛ وقال تعالى في سورة (هود) رقم [67]: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ} وقال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [78]: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ} وقال تعالى في سورة (القمر) رقم [31]: {إِنّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً..} . إلخ، والمراد فيها بكل معانيها صيحة جبريل عليه السلام. {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} أي: ينظرون العذاب؛ لأنه نزل بهم نهارا، أو هو من الانتظار؛ أي:

ينتظرون ما وعدوه من العذاب. {فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ} أي: فما قدروا على الهرب من العذاب، أو ما قدروا على النهوض بعد نزول العذاب بهم، أو ما قدروا على دفعه عن أنفسهم. وقيل: ما أطاقوه، تقول: لا أقوم لهذا الأمر؛ أي: لا أطيقه. {وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ} أي: ما كانوا ممتنعين من العذاب، بمعنى لم تكن لهم قوة يدفعون العذاب بها، ولم يكن لهم ناصر يمنعهم منه.

هذا؛ و (ثمود) قبيلة أخرى من العرب ك: (عاد)، سموا باسم أبيهم الأكبر، ثمود بن غابر، بن سام بن نوح، وهو أخو جديس بن غابر. وكانت مساكن ثمود الحجر بين الحجاز، والشام إلى وادي القرى وما حوله. قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلة مائها، والثمد:

الماء القليل، والأول هو المعتمد، وانظر صرفه، وعدمه في الاية رقم [41] وقرئ بصرفه شاذا، ورسول قبيلة ثمود هو صالح بن عبيد، بن آسف، بن ماسح، بن عبيد، بن حاذر، بن ثمود، وليس من أنبياء بني إسرائيل ك:(هود) وكان بينهما مئة سنة، وعاش صالح مئتين وثمانين سنة، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ:} هو مثل {وَفِي مُوسى إِذْ} رقم [38]. {قِيلَ:} ماض مبني للمجهول.

{لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {تَمَتَّعُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {حَتّى حِينٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع نائب فاعل:{قِيلَ} . أفاده ابن هشام في مغنيه، وهذا يكون جاريا على القاعدة العامة:«يحذف الفاعل، ويقام المفعول به مقامه» وهذا لا غبار عليه، وقد ذكرت لك مرارا: أن بعضهم يعتبر نائب

ص: 262

الفاعل ضميرا مستترا تقديره: «هو» يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل، أو هو محذوف، يدلّ عليه المقام؛ أي: وقيل قول، وبعضهم يعتبر الجار والمجرور {لَهُمْ} في محل رفع نائب فاعل، والمعتمد الأول، وأيده ابن هشام في «المغني» حيث قال: إن الجملة التي يراد بها لفظها يحكم لها بحكم المفردات، ولهذا تقع مبتدأ، نحو:«لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنّة» ونحو:

«زعموا مطيّة الكذب» . وجملة: {قِيلَ..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها.

{فَعَتَوْا:} الفاء: حرف عطف. (عتوا): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قِيلَ..} . إلخ، فهي في محل جر مثلها. {عَنْ أَمْرِ:} متعلقان بما قبلهما، و {أَمْرِ:} مضاف، و {رَبِّهِمْ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {فَأَخَذَتْهُمُ:} الفاء: حرف عطف.

(أخذتهم): فعل ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به. {الصّاعِقَةُ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر أيضا. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَنْظُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:«هم ينظرون» في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط:

الواو، والضمير.

{فَمَا:} الفاء: حرف استئناف. وقيل: عاطفة، والأول أقوى. (ما): نافية. {اِسْتَطاعُوا:}

ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {مِنْ:} حرف جر صلة. {قِيامٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {كانُوا:}

ماض ناقص، والواو اسمه. {مُنْتَصِرِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وجملة:{كانُوا مُنْتَصِرِينَ} معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46)}

الشرح: (قوم): اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: رهط، ومعشر

إلخ، وهو يطلق على الرجال دون النساء بدليل قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ..} . إلخ، الاية رقم [11] من سورة (الحجرات).

وقال زهير بن أبي سلمى المزني: [الوافر] وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء؟

ص: 263

وربما دخل فيه النساء على سبيل التبع للرجال، كما في إرسال الرسل لأقوامهم؛ إذ إن كل لفظ (قوم) في القرآن، إنما يراد به الرجال، والنساء جميعا، وهو يذكر، ويؤنث، قال تعالى في سورة (الشعراء) الاية [105]:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} وتأنيثه باعتبار المعنى، وهو أنهم أمة وطائفة وجماعة سمّوا قوما؛ لأنهم يقومون مع داعيهم بالشدائد، والمتاعب، إما بالمعاونة معه على كشفها، وإما بالإيذاء، والمضايقة؛ إن عارضوه، وهذا شأن أعداء الخير، والإصلاح في كل زمان، ومكان.

هذا؛ و {نُوحٍ} اسمه: السكن. وقيل: عبد الغفار، وسمي نوحا لكثرة نوحه على نفسه، وهو ابن لمك بن متوشلح بن أخنوخ، وهو إدريس النبي، وكان نوح نجارا، واختلفوا في سبب نوحه، فقيل: لدعوته على قومه بالهلاك. وقيل: لمراجعته ربّه في شأن ابنه كنعان. وقيل: لأنه مرّ بكلب مجذوم، فقال له: اخسأ يا قبيح! فأوحى الله إليه: أعبتني، أم عبت الكلب؟! وقيل:

أنطق الله الكلب، فقال له: أتسخر من الخالق، أم من المخلوق؟ ونوح أول رسول بعث بشريعة، وأول نذير على الشرك، وأنزل الله عليه عشر صحائف.

وهو أول من عذبته أمته لردهم دعوته، وأهلك الله أهل الأرض بدعائه، وكان أبا البشر كآدم، على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام، وكان أطول الأنبياء عمرا، عمّر ألفا وخمسين سنة. وقيل: عمر ألفا ومئتين وخمسين سنة، ولم تنقص قوته، ولم يشب، ولم تسقط له سن، وصبر على إيذاء قومه طول عمره، وكان أبواه مؤمنين بدليل دعوته لهما بالمغفرة في الاية الأخيرة من السورة المسماة باسمه، ويروى: أنّ جبريل عليه السلام قال له: يا أطول الأنبياء عمرا كيف وجدت الدنيا؟ قال: وجدتها كدار لها بابان، دخلت من أحدهما، وخرجت من الاخر. وبشريعته غيرت بعض أحكام شريعة آدم، ولا سيما تحريم زواج الأخوات.

هذا؛ و {فاسِقِينَ} جمع: فاسق، وأصل الفسق: الخروج عن القصد، والفاسق في الشرع:

الخارج عن أمر الله بارتكاب المعاصي، وله ثلاث درجات: الأولى: التغابي، وهو أن يرتكب الكبيرة أحيانا مستقبحا إياها. والثانية: الانهماك، وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها. والثالثة:

الجحود، وهو أن يرتكبها مستصوبا إياها. فإذا شارف هذا المقام، وتخطى خططه؛ خلع ربقة الإيمان من عنقه، ولابس الكفر. وما دام في درجة التغابي، أو الانهماك؛ فلا يسلب عنه اسم المؤمن؛ لاتصافه بالتصديق، الذي هو مسمى الإيمان.

هذا؛ وقال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: الفسوق: الخروج من الشيء، والانسلاخ منه، يقال: فسقت الرطبة عن قشرها. ومن مقلوبه: فقست البيضة: إذا كسرتها، وأخرجت ما فيها، ومن مقلوبه أيضا: قفست الشيء إذا أخرجته عن يد مالكه مغتصبا له عليه، ثم استعمل في الخروج عن القصد، والانسلاخ من الحق، قال رؤية:[الرجز] فواسقا عن قصدها جوائرا

ص: 264

الإعراب: {وَقَوْمَ:} يقرأ بالجر عطفا على {وَفِي الْأَرْضِ} أو على: {وَفِي مُوسى،} أو على:

{وَفِي عادٍ،} أو على: {وَفِي ثَمُودَ} وهذا هو الظاهر لقربه وبعد غيره، ولم يذكر الزمخشري غيره، فإنه قال: قرئ بالجر على معنى: وفي قوم نوح، ويقويه قراءة عبد الله «(وفي قوم نوح)» ولم يذكر أبو البقاء غير الوجه الأخير لوضوحه، وهو العطف على:{وَفِي ثَمُودَ} .

هذا؛ ويقرأ بالنصب، وفيه ستة أوجه: أحدها: أنه منصوب بفعل مضمر؛ أي: وأهلكنا قوم نوح لأنّ ما قبله يدلّ عليه، الثاني منصوب ب:«اذكر» مقدرا، ولم يذكر الزمخشري غيرها.

الثالث: أنه منصوب عطفا على مفعول (أخذناه). الرابع: أنه معطوف على مفعول {فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ} وناسب ذلك أن قوم نوح مغرقون من قبل، لكن يشكل بأنهم لم يغرقوا في اليم، وأصل العطف يقتضي التشريك في المتعلقات. الخامس: أنه معطوف على مفعول: {فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ} وفيه إشكال؛ لأنهم لم تأخذهم الصاعقة، وإنما أهلكوا بالطوفان، إلا أن يراد بالصاعقة:

الداهية، والنازلة العظيمة من أي نوع كانت، فيقرب ذلك. السادس: أنه معطوف على محل:

{وَفِي مُوسى} نقله أبو البقاء، وهو ضعيف.

كما يقرأ بالرفع على أنه مبتدأ، والخبر مقدر؛ أي: أهلكناهم، وقال أبو البقاء: والخبر ما بعده، يعني قوله:{إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ} . انتهى. جمل نقلا عن السمين بتصرف كبير.

و (قوم) مضاف، و {نُوحٍ} مضاف إليه. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بأحد الأفعال المقدرة التي رأيتها، وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى.

{إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء في محل نصب اسمها. {كانُوا:} ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {قَوْماً:} خبر (كان). {فاسِقِينَ:} صفة: {قَوْماً} منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وجملة:{كانُوا..} . إلخ، في محل رفع خبر:(إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُمْ..} . إلخ مستأنفة، أو تعليلية، لا محلّ لها على الاعتبارين، وفي محل رفع خبر على قول رأيته لأبي البقاء.

{وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)}

الشرح: {وَالسَّماءَ بَنَيْناها} أي: جعلناها بناء محكما، وسقفا محفوظا رفيعا، قال تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [32]:{وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} . {بِأَيْدٍ:} هذه الاية من المتشابهات، ومثلها الاية في سورة (ص) رقم [75]:{قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وأيضا الاية رقم [10] من سورة (الفتح): {إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ}

ص: 265

{فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وفي ذلك مذهبان: مذهب السلف: التفويض، يقولون: لله يد تليق به لا نعلمها.

ومذهب الخلف: التأويل، يقولون: اليد بمعنى القدرة، والقوة، والإرادة. انظر تفسير الايتين في محلهما من سورة (ص) وسورة (الفتح) ففيهما بحث كاف ضاف والحمد لله.

هذا؛ واليد تستعمل في الأصل للجارحة، وتطلق، ويراد بها القوة، والقدرة كما رأيت آنفا، وخذ قول عروة بن حزام العذري، وهو الشاهد رقم [116] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [الطويل] وحمّلت زفرات الضّحى فأطقتها

ومالي بزفرات العشيّ يدان

قال تعالى في سورة (يس) رقم [71]: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ} كما تطلق على النعمة، والمعروف؛ يقال: لفلان يد عندي؛ أي: نعمة، ومعروف، وإحسان. وتطلق على الحيلة، والتدبير، يقال: لا يد لي في هذا الأمر؛ أي: لا حيلة لي فيه، ولا تدبير. وينبغي أن تعلم أن (الأيد) في هذه الاية مفرد، وليس بجمع، ومثلها قوله تعالى في سورة (ص) رقم [17]:{وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ} .

{وَإِنّا لَمُوسِعُونَ:} لقادرون. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما. والمعنى: إنا لذو سعة بخلقها، وخلق غيرها لا يضيق، ولا يصعب علينا شيء نريده. وقيل: المعنى: قد وسعنا أرجاءها، ورفعناها بغير عمد؛ حتى استقلت كما هي، وكما ترونها. {وَالْأَرْضَ فَرَشْناها} أي:

بسطناها كالفرش على وجه الماء، ومددناها؛ لتستقروا، وهذا لا ينافي ما قيل في العصر الحديث: إنها كروية الشكل، فإنها لعظمها ترى في العين مثل الفراش المبسوط: قال تعالى في سورة (الحجر) رقم [19] وسورة (ق) رقم [7]: {وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ} . وفي الخازن: ويمكن أن يقال: إن الكرة إذا كانت كبيرة عظيمة، فكل قطعة منها تشاهد ممدودة كالسطح الكبير العظيم، فحصل الجمع بين القول بكرويتها، والقول ببسطها، ومع ذلك فالله تعالى أخبر: أنه مدّ الأرض، وأنه دحاها، وبسطها، وكل ذلك يدل على التسطيح، والله تعالى أصدق قيلا، وأبين دليلا من أصحاب الهيئة. هذا؛ وقد أثبت كروية الأرض الالوسي، والفخر الرازي، كما ستقف عليه في سورة (النبأ) و (النازعات) إن شاء الله تعالى.

{فَنِعْمَ الْماهِدُونَ:} يقال: مهدت الفرش مهدا: بسطته، ووطأته. وتمهيد الأمور: تسويتها، وإصلاحها. وتمهيد العذر: بسطه وقبوله. هذا؛ و (نعم) فعل ماض جامد لإنشاء المدح، وضدها «بئس» لإنشاء الذم. قال في المختار:«نعم» منقول من نعم فلان (بفتح النون وكسر العين): إذا أصابه النعمة، و «بئس» منقول من بئس فلان (بفتح الباء وكسر الهمزة): إذا أصابه بؤس. فنقلا إلى المدح والذم، فشابها الحروف، فلم يتصرفا، وفيهما أربع لغات: نعم وبئس، بكسر فسكون، وهي لغة القرآن. ثم نعم وبئس، بكسر أولهما، وثانيهما، غير أنّ الغالب في نعم أن يجيء بعدها (ما) كقوله تعالى:{إِنَّ اللهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ} سورة (النساء) رقم [58]، وقوله تعالى:

ص: 266

{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ} سورة (البقرة) رقم [271]. وبئس جاءت بعدها (ما) على اللغة الفصحى كقوله تعالى: (بئسما اشتروا به أنفسهم) وقد تكرر هذا التركيب في القرآن كثيرا، واللغة الثالثة: نعم، وبئس بفتح، فسكون، والرابعة: نعم، وبئس بفتح فكسر، وهي الأصل فيهما.

ولا بد لهما من شيئين: فاعل، ومخصوص بالمدح، أو الذم، ويشترط في الفاعل أن يكون مقرونا ب:«أل» ، كما في قوله تعالى:{نِعْمَ الْعَبْدُ،} أو مضافا لمقترن بها. كما في قوله تعالى:

(نعم عقبى الدّار). والقول بفعليتهما إنما هو قول البصريين، والكسائي بدليل دخول تاء التأنيث عليهما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«من توضّأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل؛ فالغسل أفضل» .

وقال الكوفيون إلا الكسائي: هما اسمان بدليل دخول حرف الجر عليهما في قول أعرابي، وقد أخبر بأن امرأته ولدت بنتا له:(والله ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرّها سرقة). وقول غيره:

(نعم السير على بئس العير). وأوله البصريون على حذف كلام مقدر؛ إذ التقدير: (والله ما هي بولد مقول فيه: نعم الولد) و (نعم السير على عير مقول فيه: بئس العير). والمعتمد في ذلك قول البصريين، ويلزم الكوفيين جر الولد والعير بسبب الإضافة، والرواية بالرفع لا غير.

{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ} أي: صنفين، ونوعين مختلفين. قال ابن زيد: أي: ذكرا، وأنثى، وحلوا، وحامضا، ونحو ذلك. وقال مجاهد: يعني الذكر، والأنثى من كل شيء، من السماء، والأرض، والشمس، والقمر، والليل، والنهار، والنور، والظلمة، والسهل، والجبل، والجن، والإنس، والخير، والشر، والبكرة، والعشي، وكالأشياء المختلفة الألوان من الطعوم، والأراييح، والأصوات؛ أي: جعلنا هذا كهذا دلالة على قدرتنا، ومن قدر على هذا فإنه يقدر على الإعادة. انتهى. قرطبي، ويضاف زوجية بين الإيمان والكفر، والجنة والنار، والسعادة والشقاوة، حتى الحيوانات والنباتات.

هذا؛ وقد قال الله تعالى في سورة (يس) رقم [36]: {سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمّا لا يَعْلَمُونَ} قال محمد علي الصابوني: سبحان الله ما أعظم قدرة الله، لقد كان السائد: أن الزوجية إنما تكون بين الإنسان، والحيوان فقط، وجاء القرآن بالمعجزة الباهرة المثبتة لما اكتشفه العلم الحديث منذ زمن قريب، وهي أن الزوجية بين الإنسان والحيوان، والنبات، والذّرّة، وسائر الكائنات، فقد ثبت: أن الذرّة، وهي أصغر أجزاء المادة، مؤلفة من زوجين مختلفين من الإشعاع الكهربائي، سالب، وموجب، يتزاوجان، فيتحدان. وإن بين النبات أعضاء مذكرة، وأعضاء مؤنثة، فسبحان العلي القدير القائل:{سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ..} . إلخ انتهى. هذا؛ وقوله تعالى هنا: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ} عمّم الزوجية في النبات، والإنسان، وفي كل شيء مما نعلمه، ومما لا نعلمه، فسبحان الإله العلي القدير العليم، الذي أحاط علمه بكل الأكوان، وأحصى كل شيء عددا.

ص: 267

{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ:} أصل الفعل: تتذكرون، حذفت إحدى التاءين للتخفيف، وهذا الحذف تجده في كثير من الايات. هذا؛ والترجي في هذه الاية، وأمثالها إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأنّ الله تعالى لا يحصل منه ترجّ ورجاء لعباده، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

الإعراب: {وَالسَّماءَ:} الواو: حرف استئناف. (السماء): منصوب على الاشتغال بفعل محذوف، يفسّره المذكور بعده، وقدّر أبو البقاء المحذوف بقوله:«رفعنا السماء» والأول أقوى، وأولى؛ لأنّ تقديره يصار إليه عند تعذّر الموافق لفظا، نحو زيدا مررت به، وزيدا ضربت غلامه.

والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {بَنَيْناها:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها مفسّرة للجملة المقدرة قبلها. {بِأَيْدٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من (نا)، أو من (ها)؛ أي: ملتبسين، أو ملتبسة بقوة، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين. {وَإِنّا:} الواو: واو الحال. (إنا): حرف مشبه بالفعل.

و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {لَمُوسِعُونَ:} اللام: هي المزحلقة، (موسعون): خبر (إن) مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ. والجملة الاسمية: (إنا لموسعون) في محل نصب حال من: (نا)، والرابط: الضمير فقط.

{وَالْأَرْضَ:} منصوب على الاشتغال بفعل محذوف يفسره المذكور بعده مثل سابقه. هذا؛ وقرأ أبو السمال، وابن مقسم برفعهما على الابتداء، والخبر ما بعدهما، والنصب أرجح لعطف جملة الاشتغال على جملة فعلية قبلها، لذا فالقراءة فوق السبعة. {فَنِعْمَ:} الفاء: حرف عطف. (نعم):

ماض جامد لإنشاء المدح. {الْماهِدُونَ:} فاعل (نعم) مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: نحن، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {وَمِنْ:} الواو: حرف استئناف. (من كل): متعلقان بما بعدها، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. هذا؛ وأجيز تعليق الجار والمجرور بمحذوف حال من:{زَوْجَيْنِ،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا. والأول أقوى معنى. {زَوْجَيْنِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه مثنى، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبّه بالفعل، والكاف اسمه. {تَذَكَّرُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(لعلّ)، والجملة لا محلّ لها؛ لأنها تعليلية.

{فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)}

الشرح: {فَفِرُّوا إِلَى اللهِ} أي: قل يا محمد للناس أجمعين: اهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان، والطاعة له، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما. فروا منه إليه، واعملوا بطاعته.

ص: 268

وقال أبو بكر الوراق: فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن. {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ} أي: من عذابه، وعقابه المعد لمن أشرك، أو عصى. {نَذِيرٌ:} مخوف. {مُبِينٌ} أي: بين الرسالة بالحجة الظاهرة، والمعجزة الباهرة، والبرهان القاطع. {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ} أي:

وحّدوه، ولا تشركوا به شيئا. {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ:} قيل: إنما كرر هذه الجملة عند الأمر بالطاعة، والنهي عن الشرك ليعلم: أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل، كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان، وأنه لا يفوز برضا الله، ودخول الجنة إلا الجامع بينهما، ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [158]:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً} . انتهى. خازن بتصرف. وهذا ذكرته مرارا، وسميته بالاحتراس. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {فَفِرُّوا:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: إذا علمتم:

أن الله فرد لا نظير له؛ ففروا إليه، ووحدوه، ولا تشركوا به شيئا. والكلام كله في محل نصب مقول القول لقول مقدّر، كأنه قيل: قل لهم: إذا كان الأمر كذلك؛ ففروا

إلخ، (فروا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله. {إِلَى اللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم: اسمها. {لَكُمْ مِنْهُ:} جار ومجرور كلاهما متعلقان ب: {نَذِيرٌ} بعدهما.

{نَذِيرٌ:} خبر (إن). {مُبِينٌ:} صفة له، والجملة الاسمية:{إِنِّي،} تعليل للأمر، وهي من جملة مقول القول المقدر.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا تجعلوا): مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بما قبله. وقيل: مفعول به ثان مقدم على الأول، و {مَعَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه.

{إِلهاً:} مفعول به. {آخَرَ:} صفة له، والجملة: (لا تجعلوا

) إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا.

{كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)}

الشرح: {كَذلِكَ:} الإشارة إلى تكذيب قريش النبي صلى الله عليه وسلم، وتسميتهم إياه ساحرا، أو مجنونا، وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم؛ أي: كما كذبك قومك، وقالوا: ساحر، أو مجنون؛ كذب من قبلهم، وقالوا مثل قولهم. {ما أَتَى الَّذِينَ..}. إلخ: فهذا تفسير لفحوى الإشارة المذكورة.

الإعراب: {كَذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: الأمر، والشأن، والقصة مثل ذلك. وإن اعتبرت المحل للكاف فلست مفندا، وتكون مضافة، واسم الإشارة في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. هذا؛ وأجيز

ص: 269

اعتبار الجار والمجرور متعلقين بمحذوف صفة مفعول مطلق محذوف مع عامله، التقدير: أنذركم إنذارا مثل إنذار من تقدمني من الرسل؛ الذين أنذروا قومهم. ولا يجوز أن يكون العامل: {أَتَى} لأنّ ما بعد {ما} النافية، لا يعمل فيما قبلها. {ما:} نافية. {أَتَى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به.

{مِنْ قَبْلِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْ:} حرف جر صلة. {رَسُولٍ:} فاعل: {أَتَى} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وجملة:{ما أَتَى..} . إلخ مفسرة لمفهوم اسم الإشارة، لا محلّ لها مثله. {إِلاّ:} حرف حصر. {قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ:} ماض، وفاعله.

{ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ:} هو مثل الاية رقم [39] بلا فارق، وجملة:{قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} في محل نصب حال مستثنى من عموم الأحوال.

{أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)}

الشرح: {أَتَواصَوْا بِهِ} أي: هل أوصى أولهم آخرهم، وبعضهم بعضا بالتكذيب، وتواطؤوا عليه؟! وفيه توبيخ لهم. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ} أي: لم يتواصوا بهذا القول؛ لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد، بل جمعتهم على ذلك علّة واحدة، هي الطغيان، وهو الحامل لهم على ذلك.

{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي: فأعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة، فلم يجيبوا عنادا، واستكبارا. {فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ} أي: فلا لوم عليك في إعراضك عنهم بعد ما بلغت الرسالة، وبذلت مجهودك في التبليغ، والدعوة، وما قاصرات فيما أمرت به.

{وَذَكِّرْ:} الناس بالقرآن، وعظهم به. {فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ:} خصّ المؤمنين بالمنفعة؛ لأنهم هم المنتفعون بالذكرى، ولكن في هذه الأيام قليلا ما تجدي الذكرى، وتنفع الموعظة، والنصيحة، وذلك بسبب كثرة المعاصي، وأكل الحرام. قال تعالى في سورة (المطففين):{كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ} . روي أنه لما نزلت: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتدّ ذلك على أصحابه، ورأوا أن الوحي قد انقطع، وأن العذاب قد حضر، فأنزل الله:{وَذَكِّرْ..} .

إلخ، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

هذا؛ والتولي، والإعراض، والإدبار عن الشيء يكون بالجسم، ويستعمل في الإعراض عن الأمور المعنوية، والاعتقادات اتساعا، ومجازا، أما الطغيان؛ فهو مجاوزة الحد. يقال: طغى، يطغى، وطغا، يطغو: إذا جاوز الحد، وكل مجاوز حده في العصيان طاغ، وكل مسرف في الظلم، والمعاصي طاغ، وطغى البحر: هاجت أمواجه، وطغى السيل: جاء بماء كثير. قال تعالى في سورة (الحاقة) رقم [11]: {إِنّا لَمّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ} .

ص: 270

الإعراب: {أَتَواصَوْا:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ، وتقريع. (تواصوا): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة، لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {بَلْ:} حرف عطف، وإضراب. {هُمْ قَوْمٌ:} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {طاغُونَ:} صفة: {قَوْمٌ} مرفوع مثله، وعلامة رفعه الواو

إلخ. {فَتَوَلَّ:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر. (تول): فعل أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جواب لشرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا منهم وواقعا؛ فتول. {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {فَما:} الفاء: حرف تعليل. (ما): نافية حجازية تعمل عمل: «ليس» ، {أَنْتَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع اسم (ما). {بِمَلُومٍ:} الباء: حرف جر صلة. (ملوم): خبر (ما) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية لا محلّ لها؛ لأنها تعليل للأمر. {وَذَكِّرْ:} الواو: حرف عطف، (ذكر): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: (تول

) إلخ لا محلّ لها مثلها. {فَإِنَّ:} الفاء: حرف تعليل. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {الذِّكْرى:} اسم (إنّ) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {تَنْفَعُ:} فعل مضارع، والفاعل تقديره هي، يعود إلى الذكرى، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية: (إن

) إلخ تعليل للأمر، لا محلّ لها. {الْمُؤْمِنِينَ:} مفعول به منصوب

إلخ.

{وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)}

الشرح: {وَما خَلَقْتُ..} . إلخ: قيل: هذا خاص بأهل طاعته من الفريقين، يدلّ عليه قراءة ابن عباس-رضي الله عنهما:«(وما خلقت الجنّ والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون)» . وقيل:

معناه: وما خلقت السعداء من الجن، والإنس إلا لعبادتي، والأشقياء منهم إلا لمعصيتي، وهو ما جبلوا عليه من الشقاوة، والسعادة. وقال علي بن أبي طالب-رضي الله عنه:{إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} أي: إلا لامرهم أن يعبدوني، وأدعوهم إلى عبادتي. وقيل: معناه: إلا ليعرفوني. وهذا حسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده، وتوحيده. وقيل: معناه: إلا ليخضعوا لي، ويتذللوا؛ لأنّ معنى العبادة في اللغة: التذلل، والانقياد، وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله،

ص: 271

متذلل للمشيئة، لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق له. وقيل: معناه: إلا ليوحّدوني، فأما المؤمن؛ فيوحده اختيارا في الشدّة والرخاء، وأما الكافر؛ فيوحده اضطرارا في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء. انتهى. خازن بحروفه.

وقال سليمان الجمل: إن معنى {إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} أي: إلا مهيئين، ومستعدين ليعبدون، بأن خلقت فيهم العقل، والحواس، والقدرة، التي تتحصل بها العبادة، وهذا لا ينافي تخلف العبادة بالفعل من بعضهم؛ لأن هذا البعض، وإن لم يعبد الله، لكن فيه التهيؤ، والاستعداد الذي هو الغاية بالحقيقة. انتهى. نقلا عن شيخه.

{ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} أي: ما أريد منهم أن يرزقوا أحدا من خلقي، ولا أن يرزقوا أنفسهم؛ لأني أنا الرزاق، المتكفل لعبادي بالرزق القائم لكل نفس بما يقيمها من قوتها. {وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} أي: أن يطعموا أحدا من خلقي، وإنما أسند الإطعام إلى نفسه؛ لأنّ الخلق كلّهم عيال الله. أو من أطعم عيال أحد؛ فقد أطعمه. لما صحّ من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل يوم القيامة: «يا بن آدم مرضت، فلم تعدني! قال: يا رب كيف أعودك؛ وأنت ربّ العالمين؟! قال: أما علمت: أن عبدي فلانا مرض، فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته؛ لوجدتني عنده؟! يا بن آدم استطعمتك، فلم تطعمني! قال: يا رب كيف أطعمك؛ وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت: أنه استطعمك عبدي فلان، فلم تطعمه؟! أما علمت أنك لو أطعمته؛ لوجدت ذلك عندي؟! يا بن آدم استسقيتك فلم تسقني! قال: يا رب كيف أسقيك؛ وأنت ربّ العالمين؟! قال: أما علمت: أنه استسقاك عبدي فلان، فلم تسقه؟! أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي» . أخرجه مسلم.

{إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزّاقُ:} الذي يرزق كل ما يفتقر إلى الرزق: من إنسان، أو حيوان، أو هوام

إلخ، قال تعالى في سورة (هود) رقم [6]:{*وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} . وقال تعالى في سورة (العنكبوت) رقم [60]:

{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وفي الكشاف: يريد إن شأني مع عبادي: ليس كشأن السادة مع عبيدهم، فإن ملاك العبيد إنما يملكونهم؛ ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم، وأرزاقهم، فإما مجهز في تجارة؛ ليفيء ربحا، أو مرتب في فلاحة؛ ليغتل أرضا، أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته، أو محتطب، أو محتش، أو مستق، أو طابخ، أو خابز، وما أشبه ذلك من الأعمال، والمهن؛ التي هي تصرف في أسباب المعيشة، وأبواب الرزق، فأما مالك ملك العبيد، فقد قال لهم: اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم، ولا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي، ولا رزقكم، وأنا غني عنكم، وعن مرافقكم، ومتفضل عليكم برزقكم، وبما يصلحكم، ويعيشكم من عندي، فما هو إلا أنا وحدي. انتهى. بحروفه.

ص: 272

هذا؛ وجاء في حديث قدسي، يقول الله عز وجل:«يا عبادي! ما خلقتكم لأستأنس بكم من وحشة، ولا لأستكثر بكم من قلة، ولا لأعتزّ بكم من ذلة، ولكني خلقتكم لتعبدوني طويلا، وتسبّحوني كثيرا، وتذكروني بكرة وأصيلا» . بعد هذا لعلّك تدرك معي: أنه حصل التفات من الخطاب في الايات السابقة إلى التكلم في هذه الايات، ثم منه إلى الغيبة في الاية الأخيرة.

وللالتفات فوائد كثيرة: منها تطرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجر، والملال، لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد، هذه فوائده العامة، ويختص كل موضع بنكت، ولطائف باختلاف محلّه، كما هو مقرر في علم البديع، ووجهه: حثّ السامع، وبعثه على الاستماع، حيث أقبل المتكلم عليه، وأعطاه فضل عنايته، وخصّصه بالمواجهة.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {خَلَقْتُ:} فعل، وفاعل. {الْجِنَّ:}

مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {وَالْإِنْسَ:} معطوف على ما قبله. {إِلاّ:}

حرف حصر. {لِيَعْبُدُونِ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام العاقبة، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{خَلَقْتُ} . {ما:} نافية. {أُرِيدُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والجملة الفعلية في محل نصب حال من تاء الفاعل، والرابط: الضمير فقط. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ:} حرف جر صلة. {رِزْقٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {وَما:}

الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {أُرِيدُ:} مضارع، وفاعله تقديره:«أنا» . {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يُطْعِمُونِ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» ، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به، و {أَنْ} والمضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية: (ما أريد

) إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الرَّزّاقُ:} خبره. {ذُو:} خبر ثان مرفوع، وعلامة رفعه الواو؛ لأنه من الأسماء الخمسة. و {ذُو:} مضاف، و {الْقُوَّةِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل رفع خبر:{إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ..} . إلخ، مستأنفة، لا محلّ لها. {الْمَتِينُ:} برفعه وفيه أوجه: إما النعت ل: {الرَّزّاقُ،} وإما النعت ل: {ذُو} وإما النعت لاسم {إِنَّ} على الموضع، وهو مذهب الجرمي، والفراء، وغيرهما، وإما خبر بعد خبر، وإما خبر مبتدأ مضمر وعلى كل تقدير فهو تأكيد؛ لأن {ذُو الْقُوَّةِ} يفيد فائدته. وقرئ بالجر على أنه صفة ل:{الْقُوَّةِ،} وإنما ذكر وصفها لكون تأنيثها غير حقيقي. انتهى. جمل. نقلا.

ص: 273

{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59)}

الشرح: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا:} رسول الله صلى الله عليه وسلم-وهم أهل مكة-بالإيذاء، والتكذيب. {ذَنُوباً} أي: نصيبا من العذاب. {مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ} أي: مثل نصيب أصحابهم، ونظائرهم؛ الذين هلكوا قبلهم، مثل قوم نوح، وثمود، وعاد، وغيرهم. قال ابن الأعرابي: يقال: يوم ذنوب؛ أي: طويل الشر لا ينقضي، وأصل الذنوب في اللغة: الدلو العظيمة، فاستعير للنصيب من (العذاب)، وكانوا يستقون الماء، فيقسمون ذلك على الأنصباء، فقيل للذنوب: نصيبا من هذا، قال الراجز:[الرجز] إنّا إذا شاربنا شريب

له ذنوب ولنا ذنوب

فإن أبى كان له القليب

وقال علقمة بن عبدة من قصيدة مدح بها الحارث بن أبي شمر الغساني، وكان أخوه شاس أسيرا عنده:[الطويل] وأنت الّذي آثاره في عدوّه

من البؤس والنعمى لهنّ ندوب

وفي كلّ حيّ قد خبطت بنعمة

فحقّ لشأس من نداك ذنوب

والذنوب: الدلو الملأى ماء، تؤنث، وتذكر، ولا يقال لها وهي فارغة: ذنوب، والجمع في القليل: أذنبة، والكثير: ذنائب: مثل: قلوص، وقلائص. انظر ما ذكرته تبعا لشرح (كأس) في الاية رقم [23] من سورة (الطور). {فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} أي: فلا يستعجلون نزول العذاب بهم؛ لأنهم قالوا: {اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} رقم [32] من سورة (الأنفال)، فنزل بهم يوم بدر ما حقق به وعده، وعجل بهم انتقامه، ثم لهم في الاخرة العذاب الدائم، والخزي القائم؛ الذي لا انقطاع له، ولا نفاد، ولا غاية، ولا آباد، وانظر شرح العجلة في الاية رقم [16] من سورة (القيامة).

الإعراب: {فَإِنَّ:} الفاء: حرف استئناف. (إنّ): حرف مشبّه بالفعل، {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إنّ) مقدم. {ظَلَمُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {ذَنُوباً:} اسم: (إنّ) مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {مِثْلَ:} صفة: {ذَنُوباً،} وهو مضاف، و {ذَنُوبِ} مضاف إليه. و {ذَنُوبِ:} مضاف، و {أَصْحابِهِمْ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة.

{فَلا:} الفاء: حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ما ذكر

ص: 274

حاصلا، وواقعا؛ فلا

إلخ. (لا): ناهية. {يَسْتَعْجِلُونِ:} مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة، المدلول عليها بكسرة النون مفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها على جميع الوجوه المعتبرة بالفاء.

{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)}

الشرح: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} المراد به: يوم القيامة. وقيل: يوم بدر. والأول أولى، وأقوى وقد وضع الموصول موضع الضمير تسجيلا عليهم بالكفر، وإشعارا بعلة الحكم، والفاء لترتيب ثبوت الويل لهم، على أن لهم عذابا عظيما، كما أن الفاء الأولى لترتيب النهي عن الاستعجال على ذلك. هذا؛ وانظر شرح:(ويل) في الاية رقم [65] من سورة (الزخرف).

الإعراب: {فَوَيْلٌ:} الفاء: حرف استئناف. (ويل): مبتدأ، وساغ الابتداء به؛ لأنه متضمن معنى الدعاء. {لِلَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {مِنْ يَوْمِهِمُ:} متعلقان بمحذوف خبر ثان. هذا؛ وإن علّقت: {لِلَّذِينَ} ب: (ويل)؛ فهما متعلقان بمحذوف خبر واحد لا تعدد فيه. والهاء في محل جر بالإضافة. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة: {يَوْمِهِمُ} .

{يُوعَدُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، التقدير: الذي يوعدونه. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجلّ، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم، والحمد لله رب العالمين.

انتهت سورة (الذاريات)، بحمد الله وتوفيقه.

شرحا وإعرابا.

ص: 275