المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة المنافقون بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (المنافقون) مدنية في قول - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٩

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة المنافقون بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (المنافقون) مدنية في قول

‌سورة المنافقون

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (المنافقون) مدنية في قول الجميع، وهي إحدى عشرة آية، ومئة وثمانون كلمة، وتسعمئة وستة وسبعون حرفا. انتهى. خازن.

بسم الله الرحمن الرحيم

{إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1)}

الشرح: قال ابن إسحاق وغيره من أصحاب السير: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غزا بني المصطلق، وازدحم الناس على الماء؛ اقتتل رجلان: أحدهما: جهجاه بن أسيد من المهاجرين، وكان أجيرا لعمر-رضي الله عنه. والثاني من الأنصار، اسمه: سنان الجهني، وكان حليفا لعبد الله بن أبيّ رأس المنافقين، فلما اقتتلا؛ صاح جهجاه: يا للمهاجرين، وصاح سنان:

يا للأنصار! فقام رجل من فقراء المهاجرين، ولطم سنانا، فقال عبد الله بن أبي-أخزاه الله-: ما صحبنا محمدا إلا لتلطم وجوهنا! والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل! ثم قال لقومه: ماذا فعلتم بأنفسكم؟! قد أنزلتموهم بلادكم، وقاسمتموهم في أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم فضل الطعام؛ لتحولوا من عندكم، فلا تنفقوا عليهم؛ حتى ينفضوا من حول محمد!.

فسمع ذلك زيد بن أرقم-رضي الله عنه-فبلغه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله:

«أنت صاحب الكلام الذي بلغني عنك؟» . فحلف: أنه ما قال شيئا، وأنكر. فهو قوله تعالى:

{اِتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً} . انتهى. جمل. وهو في الترمذي.

وروى البخاري عن زيد بن أرقم-رضي الله عنه-قال: كنت مع عمي، فسمعت عبد الله بن أبيّ بن سلول يقول:{لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ..} . إلخ. وقال: {لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ..} . إلخ فذكرت ذلك لعمي، فذكره عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبيّ، وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذّبني، فأصابني هم لم يصبني مثله، فجلست في بيتي، فأنزل الله عز وجل:{إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ} إلى قوله: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا}

ص: 712

{تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ..} . إلخ قوله: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} فأرسل إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:«إن الله قد صدقك» . خرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. انتهى. قرطبي.

أقول: ما أشبه هذه الحادثة بما ذكرته في سورة (التوبة) رقم [74] وهي قوله تعالى:

{يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} . هذا؛ وروي: أن عمر-رضي الله عنه-قال للنبي صلى الله عليه وسلم: دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله! فقال: «إذا ترعد أنف كثيرة بيثرب» . قال:

فإن كرهت أن يقتله مهاجر فاؤمر به أنصاريا يقتله. قال: «فكيف إذا تحدث الناس: أن محمدا يقتل أصحابه؟» .

وقال محمد بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عبد الله بن عبد الله بن أبيّ لما بلغه ما كان من أمر أبيه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا؛ فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبيّ يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر، فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا» .

وفي رواية للترمذي، ومثله في سيرة ابن إسحاق: وكان عبد الله بن أبيّ يقرب من المدينة، فلما أراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله؛ حتى أناخ راحلته على مجامع طرق المدينة، فلما جاء عبد الله بن أبيّ. قال له ابنه: وراءك. قال: ويلك! مالك؟ قال: والله لا تدخلها أبدا إلا أن يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتعلمنّ اليوم من الأعز من الأذل. فشكا عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع ابنه عبد الله-رضي الله عنه-وأرضاه، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه: أن «خلّ عنه يدخل» .

فقال الابن-رضي الله عنه: أما إذ جاء أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فنعم. فدخل.

وقال الحميدي في مسنده قال الابن لأبيه: والله لا تدخل المدينة حتى تقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز، وأنا الأذل. انتهى. أقول: وهذا هو الإيمان! وانظر ما ذكرته في آخر سورة (المجادلة)، تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ} أي: حضر مجلسك المنافقون، كعبد الله بن أبيّ وأصحابه. {قالُوا} أي: بألسنتهم على خلاف ما في قلوبهم. {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ:} أرادوا شهادة وافقت فيها قلوبهم ألسنتهم. قال القرطبي قيل: معنى (نشهد): نحلف، فعبر عن الحلف بالشهادة؛ لأن كل واحد من الحلف، والشهادة إثبات لأمر مغيب. ومنه قول قيس بن ذريح:[الطويل] وأشهد عند الله أنّي أحبّها

فهذا لها عندي فما عندها ليا؟

ثم قال: ويحتمل أن يكون ذلك محمولا على ظاهره: أنهم يشهدون: أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، اعترافا بالإيمان، ونفيا للنفاق عن أنفسهم. وهو الأشبه. {وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} أي: هو

ص: 713

الذي أرسلك، فهو عالم بك. {وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ:} يعني في قولهم: نشهد أنك لرسول الله؛ لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا، وذلك؛ لأن حقيقة الإيمان أن يواطئ اللسان القلب، وكذلك الكلام، فمن أخبر عن شيء، واعتقد خلافه، أو أضمر خلاف ما أظهر؛ فهو كاذب، ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم: نشهد أنك لرسول الله، وسماه كذبا؛ لأن قولهم خالف اعتقادهم. هذا؛ ويشبه هذا قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [56]:{وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} . وقال أحمد محشي الكشاف: ومثل هذا من نمطه المليح قوله تعالى: {قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا} الاية رقم [14] من سورة (الحجرات).

هذا؛ وقد سجل القرآن على المنافقين قبيح صنعهم، وخبيث نياتهم؛ حيث وصفهم بأنهم مطبوعون على الكذب، وبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الصحيحة: فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان» . رواه البخاري، ومسلم، وزاد مسلم في رواية له:«وإن صلّى، وصام، وزعم أنه مسلم» . ورواه أبو يعلى من حديث أنس-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«ثلاث من كنّ فيه فهو منافق، وإن صام وصلّى، وحجّ واعتمر، وقال: إني مسلم» . وعن عبد الله ابن عمرو بن العاص-رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النّفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» . رواه البخاري، ومسلم.

وهذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإنذار للمسلمين، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال؛ شفقة أن تفضي بهم إلى النفاق، وليس المعنى: أن من بدرت منه هذه الخصال من غير اختيار، واعتياد: أنه منافق، ولا بد من القول: إن النفاق على نوعين: نفاق العمل، وهو أن يتصف مسلم بتلك الصفات الذميمة، أو ببعضها، وهو يصوم، ويصلي، ويحج

إلخ، ونفاق العقيدة: وهو أن يظهر الإسلام، ويضمر الكفر، ويتصف بتلك الصفات الذميمة، وقلما تفارقه؛ لأنه مطبوع عليها، وهي ديدنه. وليحذر المسلم من نفاق العمل، فإنه يجر إلى نفاق العقيدة، ونفاق العقيدة أخبث من الكفر. قال تعالى في سورة (النساء):{إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} . هذا؛ وسمي المنافق منافقا أخذا من: نافقاء اليربوع، وهو حجره الذي يقيم فيه، فإنه يجعل له بابين يدخل من أحدهما، ويخرج من الاخر، فكذلك المنافق يدخل مع المؤمنين بقوله: أنا مؤمن، ويدخل مع الكفار بقوله: أنا معكم.

وينبغي أن تعلم: أن النفاق لم يكن في مكة، وإنما كان بها الكفر، ولم يظهر النفاق إلا بالمدينة المنورة، حين عز الإسلام، وكثر أنصاره، وسببه: أن أهل المدينة حينما اصطلحوا بعد

ص: 714

حرب بعاث التي دامت بين الأوس، والخزرج أربعين سنة، ثم اتفقوا على أن ينصّبوا عبد الله بن أبيّ ملكا عليهم، وقبل أن يتم ذلك ذهب جماعة من الأنصار إلى مكة ليحجوا، وهناك التقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وعقدوا معه بيعة العقبة المشهورة، فلما عادوا إلى المدينة، وشاع الإسلام في المدينة؛ توقفوا عن تتويج ابن أبيّ ملكا عليهم، فلذا حقد على الرسول صلى الله عليه وسلم، وتبعه كثير من أهل المدينة، فلما عز الإسلام، وكثر أنصاره؛ ذلوا، وهانوا، وأظهروا الإسلام لصون دمائهم، وأموالهم. قال الشاعر:[الوافر] وما انتسبوا إلى الإسلام إلاّ

لصون دمائهم أن لا تسالا

هذا بالإضافة لما ذكرته هنا وفي سورة (النحل) رقم [105] أذكر ما يلي: فعن أبي أمامة رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب، وإن كان مازحا» . رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه. وعن بهز بن حكيم عن أبيه، عن جده-رضي الله عنهم-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ويل للّذي يحدّث بالحديث ليضحك به القوم، فيكذب، ويل له، ويل له» . رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، والبيهقي. وقال بعض الحكماء: من استحلى رضاع الكذب؛ عسر فطامه. وقال الشاعر الحكيم: [الكامل] إيّاك من كذب الكذوب وإفكه

فلربّما مزج اليقين بشكّه

ولربّما كذب امرؤ بكلامه

وبصمته وبكائه وبضحكه

وقال آخر: [الطويل] إذا عرف الإنسان بالكذب لم يزل

لدى الناس كذّابا ولو كان صادقا

فإن قال لم تصغ له جلساؤه

ولم يسمعوا منه ولو كان ناطقا

الإعراب: {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {جاءَكَ:} فعل ماض، والكاف مفعول به.

{الْمُنافِقُونَ:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على المشهور المرجوح. {قالُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مع مقولها جواب {إِذا}. وقيل: جوابها محذوف، وجملة:

{قالُوا..} . إلخ في محل نصب حال من {الْمُنافِقُونَ} التقدير: إذا جاؤوك حال كونهم قائلين:

كيت، وكيت؛ فلا تقبل منهم. وقيل: الجواب: {اِتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً} وهو بعيد، وجملة:

{قالُوا} أيضا حال. انتهى. جمل نقلا من السمين. وقد تصرفت فيه. {نَشْهَدُ:} فعل مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«نحن» . {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {لَرَسُولُ:}

(اللام): لام الابتداء، ويقال: المزحلقة. (رسول): خبر (إنّ) وهو مضاف إليه، والجملة

ص: 715

الاسمية: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ} لا محل لها؛ لأنها جواب {نَشْهَدُ} لأنه جرى مجرى القسم كفعل العلم واليقين، ولذلك تعامل بما يتعامل به القسم في قوله:{إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ} انتهى. جمل نقلا عن السمين.

أقول: وهذا غير متعارف عليه، بل المتعارف عليه: أن الفعل: شهد، يشهد ينصب مفعولا مصدرا مؤولا من: أنّ، واسمها، وخبرها. أو من: أن الناصبة والمضارع المنصوب به.

وأمثلتهما في القرآن كثيرة جدا، وإنما كسرت همزة (إن) في الجمل الثلاث؛ لأن الأفعال الثلاثة علقت عن العمل لفظا بسبب لام الابتداء الداخلة على خبر (إنّ)، والجمل الاسمية:{إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ،} {إِنَّكَ لَرَسُولُهُ،} {إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ} في محل نصب سدت مسد مفعول الأفعال الثلاثة المعلقة عن العمل بسبب لام الابتداء، ولذا كسرت همزة (إنّ) ولولا لام الابتداء؛ لفتحت همزة (إنّ) وتأولت مع اسمها، وخبرها بمصدر في محل نصب سد مسد المفعول، أو المفعولين. قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز] وكسروا من بعد فعل علّقا

باللاّم كاعلم إنه لذو تقى

{وَاللهُ:} (الواو): واو الاعتراض. (الله): مبتدأ. {يَعْلَمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، والجملة الاسمية:{إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} رأيت ما ذكرته فيها، والجملة الفعلية:{يَعْلَمُ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَاللهُ يَعْلَمُ..} . إلخ معترضة لا محل لها من الإعراب، والجملة الاسمية:{وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ} في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو وإعادة لفظ الجلالة، وإعراب الجملة واضح إن شاء الله تعالى، وانظر مجيء الحال من المضاف إليه في الاية رقم [11] من سورة (الممتحنة). وقيل: الجملة الاسمية معطوفة على (إذا) ومدخولها ليصح القول بالاعتراض.

{اِتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2)}

الشرح: {اِتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً} أي: سترة يستترون بها من القتل والسبي، ومعنى (أيمانهم):

ما أخبر الله به عنهم من حلفهم: «إنهم لمنكم» وقولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ} وانظر الاية رقم [16] من سورة (المجادلة). هذا؛ و {جُنَّةً} بضم الجيم: كل ما استترت به، وكل ما وقيت به نفسك من السلاح، والرماح، ومنه: المجن، والمجنة بكسر الميم فيهما، وهو: الترس الذي كان يتخذ للوقاية من ضربات السيوف، والرماح، ونحوه، وكل ما يقيك سوآ. ومن كلام الفصحاء: جبّة البرد جنّة البرد، وفي الكلام استعارة لا تخفى. هذا؛ وجنة بكسر الجيم: جنون؛ أي: خبل، وذهاب العقل، وهو أيضا جمع: جني. قال تعالى في سورة (الناس): {مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ} وهو بفتح

ص: 716

الجيم: الحديقة ذات الأشجار، وجمعها: جنات. {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ:} انظر شرح: «صد يصد» في الاية رقم [16] من سورة (المجادلة).

والمراد ب: {سَبِيلِ اللهِ} دينه الذي ارتضاه الله لنفسه، وللمسلمين، كما صرح به في قوله جلت قدرته في سورة (المائدة) رقم [3]:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} . هذا؛ والسبيل: الطريق، يذكر، ويؤنث بلفظ واحد، فمن التذكير قوله تعالى:{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} رقم [146] من سورة (الأعراف). ومن التأنيث قوله تعالت حكمته: {قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ} رقم [108] من سورة (يوسف) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. والجمع على التأنيث: سبول، وعلى التذكير: سبل بضمتين، وقد تسكن الباء، كما في: رسل، وعسر، ويسر. قال عيسى بن عمر-رحمه الله تعالى-: كل اسم على ثلاثة أحرف، أوله مضموم، وأوسطه ساكن، فمن العرب من يخففه، ومنهم من يثقله، وذلك مثل: رحم، وحلم، وعسر، وأسد

إلخ، وانظر شرح (الإيمان) في الاية رقم [16] من سورة (المجادلة). {إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} أي: بئست أعمالهم الخبيثة-من نفاقهم وأيمانهم الكاذبة، وصدهم الناس عن الإيمان بالله ورسوله-أعمالا. ويجوز في هذا الفعل أن يكون على بابه من التصرف، والتعدي، ومفعوله محذوف؛ أي: ساءهم الذي كانوا يعملونه، أو عملهم، وأن يكون جاريا مجرى: بئس، فيحول إلى فعل بضم العين، ويمتنع تصرفه، ويصير للذم، ويكون المخصوص بالذم محذوفا.

الإعراب: {اِتَّخَذُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{أَيْمانَهُمْ:} مفعول به أول، والهاء في محل جر بالإضافة. {جُنَّةً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية رأيت اعتبارها على وجه ضعيف جوابا ل:{إِذا،} والأقوى: أنها مستأنفة، وجملة:

{فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} معطوفة عليها، على الوجهين المعتبرين فيها، وما تقدم ذكر بسورة (المجادلة) في الاية رقم [16].

{أَيْمانَهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {ساءَ:} فعل ماض جامد لإنشاء الذم، وفاعله مستتر فيه وجوبا فسره التمييز، وهو {ما} فإنها نكرة موصوفة بمعنى: شيئا مبنية على السكون في محل نصب، والجملة الفعلية بعدها صفتها، والرابط محذوف، التقدير: ساء الشيء شيئا كانوا يعملونه. والمخصوص بالذم محذوف، التقدير: المذموم عملهم. وهذا الإعراب على اعتبار الفعل جامدا، وأما على اعتباره متصرفا؛ فمفعوله محذوف، التقدير: ساءهم، و {ما} تحتمل حينئذ الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع فاعله، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:

ساءهم الذي، أو شيء كانوا يعملونه، وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في

ص: 717

محل رفع فاعل، التقدير: ساءهم عملهم. {كانُوا:} ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَعْمَلُونَ} مع مفعوله المحذوف في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{ساءَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُمْ ساءَ} مستأنفة، لا محل لها، وهذه الجملة مذكورة بحروفها في سورة (المجادلة) رقم [15].

{ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3)}

الشرح: {ذلِكَ} إشارة إلى الكلام السابق؛ أي: ذلك القول الشاهد على سوء أعمالهم، أو إلى الحال المذكورة من النفاق، والكذب، والاستجنان بالأيمان، وإضمار الشر، والسوء للإسلام، ولنبي الإسلام. {بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} أي: بسبب أنهم آمنوا ظاهرا باللسان، ثم كفروا باطنا؛ حيث نطقوا بالشهادة، وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام، ثم ظهر كفرهم بعد ذلك بقولهم: إن كان ما يقول محمد حقّا؛ فنحن شر من الحمير، وقولهم: في غزوة تبوك:

أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى، وقيصر؟ هيهات!، أو المعنى: نطقوا بالإيمان عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام، وبالمسلمين، كما حكى الله عنهم بقوله في سورة (البقرة) الاية رقم [14]:{وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ} ولا تنس المطابقة بين {آمَنُوا} و {كَفَرُوا} .

{فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ:} فختم عليها؛ حتى لا يدخلها الإيمان جزاء على نفاقهم. هذا؛ والطبع:

الختم، وهو التأثير في الطين، ونحوه، فاستعير هنا لعدم فهم القلوب ما يلقى عليها. وإذا طبع على قلب إنسان؛ فلا تؤثر فيه حينئذ الموعظة، ولا تجدي معه النصيحة، كما قال تعالى في هذه الاية وكثير غيرها:{فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} . والطبع: السجية، والخلق الذي طبع عليه الإنسان. والطبيعة مثله. وجمع الأول: طباع، وجمع الثاني: طبائع. والطبع تدنس العرض، وتلطخه، يقال: طبع السيف: إذا دخله الجرب من شدة الصدأ، وطبع الرجل، فهو طبع إذا أتى عيبا، يقال: نعوذ بالله من طمع يدني إلى طبع! أي: إلى دنس. قال ثابت بن قطنة: [البسيط] لا خير في طمع يدني إلى طبع

وغفّة من قوام العيش تكفيني

هذا؛ وقال قتادة في هؤلاء المنافقين: الناس رجلان: رجل عقل عن الله، فانتفع بما سمع، ورجل لم يعقل، ولم ينتفع بما سمع. وكان يقال: الناس ثلاثة: سامع عامل، وسامع عاقل، وسامع غافل تارك. {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ:} انظر الاية رقم [13] من سورة (الحشر).

الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {بِأَنَّهُمْ:} (الباء): حرف جر. (أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها،

ص: 718

وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {فَطُبِعَ:} (الفاء): حرف عطف. (طبع): فعل ماض مبني للمجهول. {عَلى قُلُوبِهِمْ:} جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل (طبع)، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا. {فَهُمْ:} (الفاء): حرف عطف. (هم):

ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لا:} نافية. {يَفْقَهُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا.

{وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ (4)}

الشرح: {وَإِذا رَأَيْتَهُمْ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين من أصحابه. {تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ:} لجمالها، وحسن هندامها. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كان ابن أبيّ وسيما جسيما صحيحا، فصيحا ذلق اللسان، وكان قوم من المنافقين مثله، وهم رؤساء المدينة قبل الإسلام. وقال الكلبي: المراد ابن أبيّ، وجدّ بن قيس، ومعتب بن قشير، كانت لهم أجسام، ومنظر، وفصاحة، وكانوا يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، ويستندون فيه إلى الجدر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم. انتهى. جمل بتصرف.

{وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ:} أي: وإن يتكلموا في مجلسك تستمع لكلامهم، وضمن {تَسْمَعْ} معنى: تصغي، وتميل فلذلك عدّي باللام. هذا؛ والفعل:«تسمع» من الأفعال الصوتية، إن تعلق بالأصوات؛ تعدى إلى مفعول واحد، وإن تعلق بالذوات؛ تعدى إلى اثنين؛ الثاني منهما جملة فعلية مصدرة بمضارع من الأفعال الصوتية، مثل قولك: سمعت فلانا يقول كذا. وهذا اختيار الفارسي. واختار ابن مالك، ومن تبعه: أن كون الجملة الفعلية في محل نصب حال؛ إن كان المتقدم معرفة، وصفة؛ إن كان نكرة، مثل قولك: سمعت رجلا يقول كذا.

{كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ:} أي أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا عقول، ورحم الله حسان؛ إذ يقول:[البسيط] لا بأس بالقوم من طول ومن عظم

جسم البغال وأحلام العصافير

شبههم بالخشب المسندة إلى جدر، وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان، والخير؛ لأن الخشب إذا انتفع بها؛ كانت في سقف، أو في جدار، أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكا غير منتفع به؛ أسند إلى الحائط، فشبهوا به في عدم الانتفاع. أو لأنهم أشباح بلا أرواح،

ص: 719

وأجسام بلا أحلام، كما قدمت آنفا. هذا؛ وقرئ {خُشُبٌ} بضم الشين وسكونها، وانظر ما ذكرته في:«سبل» عن عيسى بن عمر في الاية السابقة. وفي الجملة تشبيه تمثيلي مرسل.

{يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} يعني: أنهم لا يسمعون صوتا في العسكر بأن ينادي مناد لأمر ما، بأن تنفلت دابة، أو تنشد ضالة؛ إلا ظنوا: أنهم المرادون، وظنوا قد أتوا؛ لما في قلوبهم من الرعب، والجبن، والهلع، كما قال تعالى عنهم:{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} الاية رقم [19] من سورة (الأحزاب). ففي الجملة تشبيه تمثيلي أيضا. قال الأخطل التغلبي في هجاء جرير: [الكامل] ما زلت تحسب كلّ شيء بعدهم

خيلا تكرّ عليهم ورجالا

وقيل: يحسبون كل صيحة يسمعونها في المسجد: أنها عليهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر فيها بقتلهم، فهم أبدا وجلون من أن ينزل الله فيهم أمرا يبيح به دماءهم، ويهتك أستارهم. وفي هذا المعنى قول العوّام بن شوذب الشيباني، وهو الشاهد رقم [486] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» . [الطويل] فلو أنّها عصفورة لحسبتها

مسوّمة تدعو عبيدا وأزنما

وقال أحمد محشي الكشاف، وغلا المتنبي في المعنى، فقال:[البسيط] وضاقت الأرض حتّى صار هاربهم

إذا رأى غير شيء ظنّه رجلا

{هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} أي: لا تأمنهم، فإنهم-وإن كانوا معك، ويظهرون تصديقك- أعداؤك، فاحذرهم ولا تأمنهم على سرك؛ لأنهم عيون لأعدائك من الكفار، ينقلون إليهم أسرارك. وفي الكشاف: هم الكاملون في العداوة؛ لأن أعدى الأعداء العدو المداجي؛ الذي يكاشرك، وتحت ضلوعه الداء الدّويّ.

{قاتَلَهُمُ اللهُ:} دعاء عليهم، وهو طلب من ذاته أن يلعنهم، أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك. انتهى. بيضاوي. قال القرطبي: وهي كلمة ذم وتوبيخ، وقد تقول العرب: قاتله الله ما أشعره! فيضعونه موضع التعجب. {أَنّى يُؤْفَكُونَ} أي: كيف يصرفون عن الحق، والرشد، وانظر ما ذكرته في الاية رقم [9] من سورة (الذاريات) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

هذا؛ وفي مختصر ابن كثير ما يلي: وفي الحديث: «إن للمنافقين علامات يعرفون بها:

تحيتهم لعنة، وطعامهم نهبة، وغنيمتهم غلول، ولا يقربون المساجد إلا هجرا، ولا يأتون الصلاة إلا دبرا، مستكبرين، لا يألفون، ولا يؤلفون، خشب بالليل، صخب بالنهار». أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة-رضي الله عنه-مرفوعا. انتهى.

الإعراب: (إذا): انظر الاية رقم [1]. {رَأَيْتَهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح، واكتفى الفعل بمفعول واحد؛

ص: 720

لأنه بصري. {تُعْجِبُكَ:} فعل مضارع، والكاف مفعول به. {أَجْسامُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {وَإِنْ:} (الواو): حرف عطف. (إن): حرف شرط جازم. {يَقُولُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، ولا مقول له؛ لأنه بمعنى: يتكلموا. والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {تَسْمَعْ:} فعل مضارع جواب الشرط مجزوم، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ولا مفعول له؛ لأنه بمعنى: تصغي. {لِقَوْلِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، و (إن) ومدخولها كلام معطوف على (إذا). ومدخولها، لا محل لها مثله. {كَأَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {خُشُبٌ:} خبر (كأن). {مُسَنَّدَةٌ:} صفة: {خُشُبٌ،} والجملة الاسمية فيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها مستأنفة. والثاني: أنها خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هم كأنهم. قاله الزمخشري. والثالث: أنها في محل نصب على الحال، وصاحب الحال الضمير في:(قولهم).

قاله أبو البقاء. انتهى. جمل نقلا عن السمين.

{يَحْسَبُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {كُلَّ:} مفعول به، وهو مضاف، و {صَيْحَةٍ} مضاف إليه. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل المفعول الثاني، التقدير: كائنة عليهم، وفي السمين قوله:{يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} فيه وجهان:

أظهرهما: أن {عَلَيْهِمْ} هو المفعول الثاني للحسبان؛ أي: واقعة، وكائنة عليهم، ويكون قوله:

{هُمُ الْعَدُوُّ} جملة مستأنفة، أخبر تعالى بذلك. والثاني: أن يكون: {عَلَيْهِمْ} متعلقا ب: {صَيْحَةٍ} و {هُمُ الْعَدُوُّ} جملة اسمية في موضع المفعول الثاني للحسبان. انتهى. جمل. وجملة:

{يَحْسَبُونَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من معنى الكلام. قاله أبو البقاء.

{فَاحْذَرْهُمْ:} (الفاء): حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا من المنافقين؛ فاحذرهم. (احذرهم): فعل أمر، والفاعل تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء. {قاتَلَهُمُ:} فعل ماض، والهاء مفعول به. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {أَنّى:} اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب حال، عامله ما بعده. {يُؤْفَكُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.

ص: 721

{وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)}

الشرح: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ} أي: للمنافقين، وذلك لما نزل القرآن بذمهم، وكشف خبثهم، مشى إليهم أقرباؤهم، وقالوا لهم: افتضحتم بالنفاق، فتوبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النفاق، واطلبوا منه أن يستغفر لكم. {لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ} أي: حركوها استهزاء وإباء، وعطفوها إعراضا، واستكبارا عن ذلك. والمخاطب بذلك جميع المنافقين، وعلى رأسهم ابن أبيّ لعنه الله تعالى، وروي: أنه لما لوى رأسه قال: أمرتموني أن أؤمن، فآمنت، وأن أعطي زكاة مالي، فأعطيت، ولم يبق إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد. {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} أي: يعرضوان عنك وعن الإيمان بالله، وبك. {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ:} عن الإيمان، والاعتذار، والاستغفار.

هذا؛ وقال ابن هشام في قطر الندى: وأما هات، وتعال؛ فعدهما جماعة من النحويين في أسماء الأفعال، والصواب: أنهما فعلا أمر، بدليل: أنهما دالان على الطلب، وتلحقهما ياء المخاطبة، فتقول: هاتي وتعالي. واعلم: أن آخر (هات) مكسور أبدا، إلا إذا كان لجماعة المذكرين، فإنه يضم، وأن آخر (تعال) مفتوح في جميع أحواله من غير استثناء، تقول: تعال يا زيد، وتعالي يا هند، وتعاليا يا زيدان، أو يا هندان، تعالوا يا زيدون، وتعالين يا هندات، كل ذلك بالفتح. قال الله تعالى:{قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ..} . إلخ، وقال تعالى:{فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ..} . إلخ ومن ثم لحنوا أبا فراس الحمداني بقوله: [الطويل] أيا جارتا ما أنصف الدّهر بيننا

تعالي أقاسمك الهموم تعالي

وأقول: إن الفعلين (هات، وتعال) ملازمان للأمرية، فلا يأتي منهما مضارع، ولا ماض، وهما بمعنى:(أحضروا، أو احضروا) فالأول متعد، وهو من الرباعي، والثاني لازم، وهو من الثلاثي وأما: تعالى، يتعالى، فهما بمعنى: تعاظم، يتعاظم، أو بمعنى: تنزه، يتنزه. وقيل في إعلال (تعالوا): أصله: تعالووا، ثم تعاليوا، فحذفت الضمة التي على الياء للثقل، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء وبقيت الواو؛ لأنها ضمير، وبقيت الفتحة على اللام لتدل على الألف المحذوفة.

الإعراب: {إِذا:} انظر الاية رقم [1]. {قِيلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {تَعالَوْا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل رفع نائب فاعل {قِيلَ،} أفاده ابن هشام في مغنيه، وهذا يكون جاريا على القاعدة العامة:«يحذف الفاعل ويقام المفعول به مقامه» . وهذا لا غبار عليه،

ص: 722

وقد ذكرت لك مرارا: أن بعضهم يعتبر نائب الفاعل ضميرا مستترا تقديره: «هو» ، يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل، أو هو محذوف، يدل عليه المقام؛ أي: وقيل قول، وبعضهم يعتبر الجار والمجرور:{لَهُمْ} في محل رفع نائب فاعل، والمعتمد الأول، وأيده ابن هشام في المغني، حيث قال: إن الجملة التي يراد بها لفظها يحكم لها بحكم المفردات، ولهذا تقع الجملة مبتدأ، نحو:«لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة» . ونحو «زعموا: مطية الكذب» . وجملة: {قِيلَ..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذا) إليها.

{يَسْتَغْفِرْ:} فعل مضارع مجزوم بجواب الأمر، وجزمه عند الجمهور بشرط محذوف، {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {رَسُولُ:} فاعل {يَسْتَغْفِرْ،} و {رَسُولُ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب الطلب. هذا؛ وقد قال الجمل:{وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ} قد تنازعا في {رَسُولُ اللهِ} فالأول يطلبه مفعولا، والثاني يطلبه فاعلا، فأعمل الثاني لقربه، وأضمر في الأول؛ أي: تعالوا إليه. وفي السمين: وهذه المسألة عدها النحاة من التنازع، ذلك: أن {تَعالَوْا} يطلب {رَسُولُ اللهِ} مجرورا ب: «إلى» ؛ أي: تعالوا إلى رسول الله، و {يَسْتَغْفِرْ} يطلبه فاعلا، فأعمل الثاني، ولذلك رفعه، وحذف الأول؛ إذ التقدير: تعالوا إليه، ولو أعمل الأول لقيل: تعالوا إلى رسول الله، فيضمر في يستغفر فاعل، ويمكن أن يقال: ليست هذه من التنازع في شيء؛ لأن قوله: {تَعالَوْا} أمر بالإقبال من حيث هو، لا بالنظر إلى مقبل عليه.

{لَوَّوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محل لها.

{رُؤُسَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَرَأَيْتَهُمْ:} الواو: حرف عطف.

(رأيتهم): فعل ماض، وفاعله، ومفعوله الأول، {يَصُدُّونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، ومتعلقه محذوف، والجملة الفعلية في محل نصب مفعول به ثان، أو هي في محل نصب حال من الضمير المنصوب، وجملة:(رأيتهم يصدون) معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:(هم مستكبرون) في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6)}

الشرح: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ} أي: يتساوى الأمر بالنسبة لهم، فإنه لا ينفع استغفارك لهم شيئا، لفسقهم، وخروجهم عن طاعة الله، ورسوله، فهو تيئيس له من إيمانهم؛ لأنه ربما كان يحب صلاحهم، وأنه يستغفر لهم رجاء في هدايتهم، وربما ندبه إلى ذلك بعض أقاربهم، فقال جل ذكره

ص: 723

منبها له على أنهم ليسوا بأهل للاستغفار-لأنهم لا يؤمنون-بقوله تعالى: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ..} . إلخ، نظيره قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [6]، وفي سورة (يس) رقم [10]:{وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ،} وقوله تعالى في سورة (الشعراء) رقم [136]: {قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ} . {لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} ذنوبهم لخبث نياتهم وسوء أعمالهم. {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ:} انظر مثل هذه الجملة في سورة (الصف) رقم [5]. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (التوبة) رقم [80]: {اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ..} . إلخ انظر سبب نزولها، وشرحها هناك؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{سَواءٌ:} مصدر بمعنى: الاستواء؛ فلذا صح الإخبار به عن متعدد. وقيل: هو اسم بمعنى: مستو، وهو لا يثنى، ولا يجمع. قالوا: هما، وهم سواء، فإذا أرادوا لفظ المثنى؛ قالوا: سيان، وإن شئت قلت: سواآن، وفي الجمع: هم أسواء، وهذا كله ضعيف، ونادر، وأيضا على غير القياس: هم سواس، وسواسية؛ أي: متساويان، ومتساوون. هذا؛ ويأتي بمعنى: الوسط، كما في قوله تعالى في سورة (الصافات) رقم [55]:{فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ} ويأتي بمعنى: العدل، كما في قوله تعالى:{فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ} رقم [58] من سورة (الأنفال). وسواء الشيء: غيره. قال الأعشى: [الطويل] تجانف عن جوّ اليمامة ناقتي

وما عدلت عن أهلها لسوائكا

و {سَواءَ السَّبِيلِ} ما استقام منه، و «سواء الجبل» ذروته.

هذا؛ ومعنى الاية التساوي بين الاستغفار وعدمه في الإفادة، فالسين، والتاء للطلب، والفعل يتعدى لاثنين، أولهما بنفسه، والثاني بحرف جر، نحو: استغفرت الله من ذنبي، وما في الاية من ذلك، وقد يحذف حرف الجر، فيصل إلى الثاني بنفسه، كقول الشاعر:[البسيط] أستغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والقبل

هذا؛ ومثل: استغفر: أمر، واختار، وكنى، وسمّى، ودعا، وصدق، وزوج، وكال، ووزن. هذا؛ وبين {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} و {أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ} طباق السلب.

الإعراب: {سَواءٌ:} خبر مقدم، وفاعله مستتر فيه. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {سَواءٌ} . {أَسْتَغْفَرْتَ:} (الهمزة): حرف استفهام، وتسوية. (استغفرت): فعل، وفاعل، ومفعوله محذوف، التقدير: استغفرت الله. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والجملة الفعلية، وهمزة التسوية في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ مؤخر. {أَمْ:} حرف عطف معادل لهمزة التسوية. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَسْتَغْفِرْ:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ} وفاعله مستتر تقديره: «أنت» ، ومفعوله الأول

ص: 724

محذوف. {لَهُمْ:} متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والجملة الفعلية هذه مؤولة أيضا بمصدر، ومعطوف على سابقه، وتقدير الكلام: استغفارك، وعدمه سواء. هذا؛ وجوز اعتبار {سَواءٌ} مبتدأ، والمصدر المؤول خبرا عنه. والأول أقوى؛ لأن {سَواءٌ} نكرة كما ترى، ولا مسوغ لوقوعه مبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {يَغْفِرَ:} فعل مضارع منصوب ب: {لَنْ} .

{اللهُ:} فاعله، ومفعوله الأول محذوف، التقدير: لن يغفر الله ذنوبهم. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {لا:} نافية. {يَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {الْقَوْمَ:} مفعول به. {الْفاسِقِينَ:}

صفة {الْقَوْمَ،} وهي صفة موطئة؛ إذ من المعلوم: أنهم قوم بلا شك.

{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتّى يَنْفَضُّوا وَلِلّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7)}

الشرح: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ:} المراد: عبد الله بن أبيّ هو الذي قال ذلك، كما رأيت في ما سبق، وعبر عنه بلفظ الجمع، وهو جار على سنن العربية، فإن العرب تخاطب الفرد بلفظ الجماعة؛ إذا كنّت به عن الإنسان، أنشد سيبويه-رحمه الله تعالى-لحسان بن ثابت رضي الله عنه:[الطويل] ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتم

وفينا رسول عنده الوحي واضعه

وإنما خاطب حسان طعمة بن الأبيرق في شيء سرقه بمكة، وقد ذكرت قصته في سورة (النساء) من الاية رقم [105 إلى 115] ولا يبعد أن يريده حسان وقومه الذين تآمروا على تبرئته، وإيقاع اليهودي. انظر شرح الايات هناك تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتّى يَنْفَضُّوا} أي: يتفرقوا عن محمد صلى الله عليه وسلم، ويتركوه، ويذهب كل واحد منهم إلى أهله وشغله؛ الذي كان له قبل ذلك. وقولهم:{رَسُولِ اللهِ} على سبيل الهزء؛ إذ لو كانوا مقرين برسالته ما صدر عنهم ما صدر. والظاهر: أنهم لم ينطقوا بنفس ذلك اللفظ، ولكنه عبر به عن رسوله إكراما له وإجلالا. {وَلِلّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي: بيده جلت قدرته مفاتيح الرزق يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ولا يملك أحد أن يمنع فضل الله عن عباده. على أنهم لو استجابوا لهذا الخبيث فيما نهاهم عنه؛ لهيأ الله تعالى غيرهم للإنفاق،

ص: 725

أو أمر رسوله، فدعا بالشيء اليسير، فيصير كثيرا، أو كان لا ينفد. {وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} أي: لا يفهمون حكمة الله، وتدبيره، فلذلك يقولون ما يقولون من مقالات الكفر، والضلال، وإن الله عز وجل إذا أراد شيئا؛ فإنما يقول له: كن فيكون.

الإعراب: {هُمُ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية فيها معنى التعليل للكلام السابق. قال أبو السعود: استئناف جار مجرى التعليل لفسقهم. انتهى. أو لعدم هداية الله لهم.

{يَقُولُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية مع مقولها صلة الموصول، لا محل لها. {لا:} ناهية. (تنفقوا): فعل مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، {عَلى مَنْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و {عِنْدَ} مضاف، و {رَسُولِ} مضاف إليه، و {رَسُولِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة. {يَنْفَضُّوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة بعد {حَتّى} وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، و «أن» المضمرة والفعل {يَنْفَضُّوا} في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل {يَنْفَضُّوا} .

{وَلِلّهِ:} (الواو): واو الحال. (لله): متعلقان بمحذوف خبر مقدم: {خَزائِنُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، وإعادة لفظ الجلالة، و {خَزائِنُ:} مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على {السَّماواتِ} .

{وَلكِنَّ:} (الواو): حرف عطف. (لكنّ): حرف مشبه بالفعل. {الْمُنْفِقِينَ:} اسم (لكن) منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {لا:} نافية. {يَفْقَهُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لكنّ)، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها، والرابط في الأولى رابط في الثانية، وانظر مجيء الحال من المضاف إليه في الاية رقم [10] من سورة (الممتحنة).

{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)}

الشرح: {يَقُولُونَ:} القائل هو: عبد الله بن أبيّ ابن سلول. وقد ذكرت لك ذلك مفصلا فيما سبق. {لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ} أي: رجعنا من هذه الغزوة غزوة بني المصطلق، وعدنا إلى

ص: 726

بلدنا المدينة المنورة. {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ:} عنى بالأعز نفسه الخبيثة، وبالأذل النبي صلى الله عليه وسلم. وانظر ما فعل به ابنه-رضي الله عنه-فيما سبق، وقرئ الفعل بقراآت كثيرة. {وَلِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ:} فعزة الله تعالى: قهره، وغلبته على من دونه. وعزة رسوله: إظهار دينه على الأديان كلها. وعزة المؤمنين: نصر الله إياهم على أعدائهم. هذا؛ وسئل محمد بن سحنون عن معنى قوله تعالى في آخر سورة (الصافات): {رَبِّ الْعِزَّةِ} لم جاز ذلك، والعزة من صفات الذات، ولا يقال: رب القدرة، ونحوها من صفات ذاته جل وعز؟ فقال: العزة تكون صفة ذات، وصفة فعل، فصفة الذات، نحو قوله تعالى:{فَلِلّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} الاية رقم [10] من سورة (فاطر)، وصفة الفعل، نحو قوله تعالى:{رَبِّ الْعِزَّةِ} والمعنى: رب العزة؛ التي يتعازّ بها الخلق فيما بينهم، فهي من خلق الله عز وجل. وقال الماورديّ:{رَبِّ الْعِزَّةِ} يحتمل وجهين: أحدهما:

مالك العزة. والثاني: رب كل شيء متعزّز من ملك، أو متجبر. انتهى. قرطبي من سورة (الصافات). {وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ:} أن العزة لله، ولرسوله، وللمؤمنين، ولو علموا ذلك ما قالوا هذه المقالة الخبيثة. قال أصحاب السير: لم يلبث ابن أبيّ بعد أن قال هذه المقالة إلا أياما قلائل؛ حتى مرض، ومات على نفاقه، انظر الاية رقم [85] من سورة (التوبة):{وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً..} . إلخ.

ففيها بحث جيد يتعلق فيه، ولا تنس الطباق بين {الْأَعَزُّ} و {الْأَذَلَّ} وهو من المحسنات البديعية.

تنبيه: ختم الله هذه الاية ب: {لا يَعْلَمُونَ} وختم ما قبله ب: {لا يَفْقَهُونَ؛} لأن الأول متصل بقوله جل ذكره: {وَلِلّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} لأن في معرفتها غموضا يحتاج إلى فطنة، وفقه، فناسب نفي الفقه عنهم، والثاني متصل بقوله جلت قدرته:{وَلِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وفي معرفتها غموض زائد يحتاج إلى علم، فناسب نفي العلم عنهم، فالمعنى: لا يعلمون: أن الله معز أولياءه، ومذل أعداءه. والحاصل: أنه لما أثبت المنافقون لفريقهم إخراج المؤمنين من المدينة؛ أثبت الله تعالى في الرد عليهم صفة العزة لغير فريقهم، وهو الله ورسوله، والمؤمنون. انتهى. جمل نقلا عن كرخي.

تنبيه: العزة غير الكبر، ولا يحل للمسلم أن يذل نفسه، فالعزة: معرفة الإنسان بحقيقة نفسه، والكبر: جهل الإنسان بنفسه. قيل للحسن بن علي-رضي الله عنهما: إن الناس يزعمون: أن فيك كبرا، وتيها! فقال: ليس بتيه، ولكنه عزة المسلم، ثم تلا الاية:{وَلِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} . والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {يَقُولُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {لَئِنْ:} (اللام): موطئة لقسم محذوف. (إن): حرف شرط جازم. {رَجَعْنا:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم

ص: 727

فعل الشرط، و (نا) فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {إِلَى الْمَدِينَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {لَيُخْرِجَنَّ:} (اللام): واقعة في جواب القسم، المدلول عليه باللام الموطئة. (يخرجن): فعل مضارع مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة؛ التي هي حرف لا محل له. {الْأَعَزُّ:} فاعله. {مِنْهَا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْأَذَلَّ:} مفعول به، والجملة الفعلية:{لَيُخْرِجَنَّ..} . إلخ جواب القسم المدلول عليه باللام الموطئة لا محل لها، وجواب الشرط محذوف، لدلالة جواب القسم عليه، على القاعدة:«إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للسابق منهما» . قال ابن مالك-رحمه الله تعالى- في ألفيته: [الرجز] واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخّرت فهو ملتزم

والكلام {لَئِنْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُونَ..} . إلخ في المعنى معطوفة على جملة: {يَقُولُونَ..} . إلخ قبلها؛ لأن المقالتين سببهما واحد، وهو ما تقدم ذكره؛ الذي حاصله: أنه اقتتل بعض المهاجرين، وبعض الأنصار، فبلغ ذلك عبد الله بن أبيّ، فقال المقالتين المذكورتين. {وَلِلّهِ:} (الواو): واو الحال. (لله): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْعِزَّةُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من معنى الكلام السابق؛ أي: قالوا ما ذكر؛ والحال: أن كل من له نوع بصيرة يعلم: أن العزة لله

إلخ، وهذا يجعل الجملتين المتعاطفتين في محل نصب حال كما في الاية السابقة. (لرسوله): جار ومجرور معطوفان على (لله) عطف مفرد على مفرد، أو هما متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: ولرسوله العزة؛ أيضا، فيكون العطف عطف جملة على جملة اسمية، {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} مثلهما على الاعتبارين، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} مثل {وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} في جميع الاعتبارات، والإعراب.

تنبيه: قرئ الفعل: {لَيُخْرِجَنَّ} بفتح الياء. ورفع {الْأَعَزُّ} على أنه فاعل. ونصب {الْأَذَلَّ} على أنه حال، وقرئ بضم الياء وفتح الجيم على أنه مبني للمجهول، و {الْأَعَزُّ} نائب فاعله، و {الْأَذَلَّ} حال، كما قرئ:«(لنخرجنّ)» على أن الفاعل مستتر تقديره: «نحن» ، ونصب (الأعزّ) على أنه مفعول به، و (الأذلّ) حال، والقراآت الثلاث غير سبعية، وخرج {الْأَذَلَّ} على تقدير مضاف كخروج، أو إخراج، أو مثل. قاله البيضاوي، وهو تأويل الزمخشري فعلى الأولين هو نائب مفعول مطلق، وعلى الثالث هو حال على حذف المضاف. وقال أبو البقاء: و {الْأَذَلَّ} على هذا حال، والألف، واللام زائدة، أو يكون مفعول حال محذوفة؛ أي: مشبها الأذل.

وهذا كله؛ لأن الحال لا تكون إلا نكرة، وهو مذهب جمهور النحويين، وأن ما ورد منها معرفا لفظا، فهو منكر معنى، كقولهم: جاؤوا الجمّاء الغفير، وأرسلها العراك في قول الشاعر:[الوافر]

ص: 728

فأرسلها العراك ولم يذدها

ولم يشفق على نغص الدّخال

واجتهد وحدك، وكلّمته فاه إلى فيّ، فالجماء، والعراك، ووحدك، وفاه أحوال، وهي معرفة لفظا، لكنها مؤولة بنكرة، والتقدير: جاؤوا جميعا، وأرسلها معتركة، واجتهد منفردا، وكلمته مشافهة، انتهى. شرح ابن عقيل. وخذ قول ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز] والحال إن عرّف لفظا فاعتقد

تنكيره معنى كوحدك اجتهد

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} هذا نداء من الله تعالى للمؤمنين بأكرم وصف، وألطف عبارة. أي: يا من صدقتم بالله ورسوله، وتحليتم بالإيمان الذي هو زينة الإنسان. {لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ..}. إلخ: قال المفسرون: لما ذكر الله قبائح المنافقين؛ نهى المؤمنين عن التشبه بهم في الاغترار بالأموال والأولاد، والمعنى: لا تشغلكم أيها المؤمنون الأموال، والأولاد عن طاعة الله، وعبادته، وعن أداء ما افترضته عليكم من الصلاة، والزكاة، والحج، كما شغلت المنافقين. قال أبو حيان: أي: لا تشغلكم أموالكم بالسعي في نمائها، والتلذذ بجمعها، ولا أولادكم بسروركم بهم، وبالنظر في مصالحهم عن ذكر الله. وهو عام في الصلاة، والتسبيح، والتحميد، وسائر الطاعات من تلاوة القرآن، وغيره، وقد عرفتم قدر منفعة الأموال، والأولاد، وأنه أهون شيء، وأدونه في جنب ما عند الله. هذا؛ وانظر شرح (المال) في الاية رقم [8] من سورة (الحشر). هذا؛ وقدم الله ذكر الأموال على الأولاد؛ لأنها أول عدة يفزع إليها عند نزول الخطوب. وانظر الاية رقم [17] من سورة (المجادلة).

{وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ} أي: ومن شغله ماله، وولده عن ذكر الله، وطاعته، وعبادته. {فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} أي: لأنهم باعوا العظيم الباقي، بالحقير الفاني. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلاّ ذكر الله، وما والاه، وعالم، ومتعلّم» . أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه. هذا؛ وقد قيل في تفسير الخسران: إنه جعل لكل واحد من بني آدم منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل الكفار التي في الجنة، وجعل للكفار منازل المؤمنين التي في النار، فذلك هو الخسران، وأي خسران أعظم من هذا الخسران؟! وانظر الاية التالية.

الإعراب: {يا أَيُّهَا:} (يا): أداة نداء تنوب مناب أدعو. (أيها): منادى نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب بأداة النداء، و (ها): حرف تنبيه لا محل له، أقحم للتوكيد، وهو عوض من

ص: 729

المضاف إليه، ولا يجوز اعتبار الهاء ضميرا في محل جر بالإضافة؛ لأنه حينئذ يجب نصب المنادى. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدلا من لفظ (أيها). {آمَنُوا:}

فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {لا تُلْهِكُمْ:} فعل مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها. {أَمْوالُكُمْ:} فاعله. {وَلا:}

(الواو): حرف عطف. (لا): نافية، ويقال: زائدة لتأكيد النفي. {أَوْلادُكُمْ:} معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{لا تُلْهِكُمْ..} . إلخ لا محل لها كالجملة الندائية قبلها؛ لأنها ابتدائية مثلها. {عَنْ ذِكْرِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ذكر) مضاف، و (الله): مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف.

{وَمَنْ:} (الواو): حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَفْعَلْ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، والفاعل يعود إلى (من) تقديره:«هو» .

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {فَأُولئِكَ:} (الفاء): واقعة في جواب الشرط. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {هُمُ:} ضمير فصل لا محل له. {الْخاسِرُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ. هذا؛ وإن اعتبرت الضمير مبتدأ ثانيا، و {الْخاسِرُونَ} خبره؛ فالجملة الاسمية تكون في محل رفع خبر (أولئك)، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط.

وقيل: هو جملة الجواب. وقيل: هو الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين. والجملة الاسمية (من يفعل

) إلخ مستأنفة، لا محل لها، وهي في المعنى معترضة بين الجمل المتعاطفة.

{وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ (10)}

الشرح: {وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ} أي: وأنفقوا في مرضاة الله بعض ما أعطيناكم، وتفضلنا عليكم به من الأموال، و (من) تفيد التبعيض، كما هو ظاهر. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي: دلائل الموت، ومقدماته، وعلاماته، فيسأل الرجعة. وذلك عند التعذر من الإنفاق، وهو فحوى قوله تعالى:{فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} . روي: أن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: من كان له مال يبلّغه حج بيت ربه، أو تجب عليه فيه زكاة، فلم يفعل؛ سأل

ص: 730

الرجعة عند الموت، فقال رجل: يا بن عباس! اتق الله؛ فإنما يسأل الرجعة الكفار، فقال:

سأتلو عليك بذلك قرآنا: {وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ..} . إلخ. {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ} أي:

فأتصدق، وأحسن عملي، وأصبح تقيا صالحا. قال ابن كثير: كل مفرط يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة؛ ليستدرك ما فات، ولكن هيهات!.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يموت إلاّ ندم» .

قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟! قال: «إن كان محسنا؛ ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون نزع» . رواه الترمذي، والبيهقي.

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هذه الاية أشد على أهل التوحيد؛ لأنه لا يتمنى الرجوع في الدنيا، أو التأخير فيها أحد له عند الله خير في الاخرة. هذا؛ ويكون الإنفاق فرضا كالزكاة الواجبة، والكفارات على أنواعها، ويكون تطوعا، وتقربا إلى الله تعالى، والفعل الماضي: أنفق، وهو رباعي الحروف، ويكون ثلاثيا: نفق. قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-:

إن كل ما فاؤه نون، وعينه فاء يدل على معنى الخروج، والذهاب، مثل: نفق، ونفش، ونفخ، ونفذ

إلخ.

هذا؛ والصلاح درجة عالية، ومكانة رفيعة، ولذلك سأل الله هذه المنزلة يوسف عليه السلام قبل وفاته، وقد حكى القرآن ذلك:{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ} وسألها إبراهيم عليه السلام، وحكاها القرآن عنه:{رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ} سورة (الشعراء) رقم [83]، وطلبها سليمان عليه السلام، وحكاها القرآن عنه:{وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ،} سورة (النمل) رقم [19]. وقال تعالى في حق إسماعيل، وإدريس، وذي الكفل-على نبينا، وعليهم جميعا ألف تحية وسلام-في سورة (الأنبياء) رقم [86]:{وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصّالِحِينَ} وقال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [85]: {وَزَكَرِيّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ} ومثل ذلك كثير في كتاب الله. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَأَنْفِقُوا:} (الواو): حرف عطف. (أنفقوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{لا تُلْهِكُمْ..} . إلخ لا محل لها مثلها. {مِنْ ما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، و {ما} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:{مِنْ،} والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:

من الذي، أو من شيء رزقناكموه. وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في

ص: 731

محل جر ب: {مِنْ} التقدير: وأنفقوا من رزقنا لكم. وهو ضعيف كما ترى. {رَزَقْناكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، كما رأيت تقديره. {مِنْ قَبْلِ:} متعلقان بالفعل (أنفقوا). {أَنْ يَأْتِيَ:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ} . {أَحَدَكُمُ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {الْمَوْتُ:} فاعل {يَأْتِيَ،} و {أَنْ يَأْتِيَ} في تأويل مصدر في محل جر بإضافة {قَبْلِ} إليه. {فَيَقُولَ:} (الفاء): حرف عطف. (يقول): مضارع معطوف على {يَأْتِيَ} منصوب مثله، والفاعل يعود إلى {أَحَدَكُمُ}. {رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء، التقدير: يا ربّ، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، والياء المحذوفة في محل جر بالإضافة، وحذف الياء هذه إنما هو بالنداء خاصة؛ لأنه لا لبس فيه، ومنهم من يثبت الياء ساكنة فيقول:(يا ربي) ومنهم من يثبتها، ويحركها بالفتحة، فيقول (يا ربي)، ومنهم من يقلبها ألفا بعد فتح ما قبلها فيقول:(يا ربّا)، ومنهم من يحذف الياء بعد قلبها ألفا، وإبقاء الفتحة على الباء دليلا عليها، فيقول:(يا ربّ) قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز] واجعل منادى صحّ إن يضف ليا

كعبد عبدي عبد عبدا عبديا

ويزاد لغة سادسة، وهي لغة القطع:(يا ربّ) بضم الباء، ففي الحديث الشريف يقول العبد:

«يا ربّ يا ربّ» . وقرئ في سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام: {(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ

)} إلخ.

والجملة الندائية في محل نصب مقول القول. {لَوْلا:} حرف تحضيض بمعنى: هلا.

{أَخَّرْتَنِي:} فعل ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {إِلى أَجَلٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {قَرِيبٍ:} صفة {أَجَلٍ،} والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {فَأَصَّدَّقَ:} (الفاء): هي الفاء السببية. (أصدق): فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد الفاء، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، و «أن» المضمرة والفعل (أصدق) في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: هلا تأخير إلى أجل قريب، فتصدّق مني في سبيل الله.

{وَأَكُنْ:} (الواو): حرف عطف. (أكن): معطوف على محل {فَأَصَّدَّقَ} فكأنه قيل: إن أخرتني؛ أصدق، وأكن؛ لأنه لولا الفاء؛ لجزم:(أصدق) على القاعدة: يجزم المضارع إذا وقع جوابا للطلب، والطلب يشمل: الأمر، والنهي، والحض، والعرض، والاستفهام، والتمني، والترجي، كما هو منصوص عليه. وابن هشام في مغني اللبيب سمى هذه المسألة: العطف على المعنى، أو على التوهم، وأورد البيت، وهو الشاهد رقم [788] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الوافر]

ص: 732

فأبلوني بليّتكم لعلّي

أصالحكم وأستدرج نويّا

حيث عطف الشاعر (أستدرج) على محل (لعلي)؛ لأن محلها الجزم في جواب الطلب، لكن نسمي العطف في البيت على التوهم، ونجتنب لفظ التوهم في الاية لبشاعته، ونسمي العطف فيها على المعنى. هذا؛ وقرأ أبو عمرو، وابن محيصن، ومجاهد:«(وأكون)» بالنصب عطفا على {فَأَصَّدَّقَ} وهي قراءة سبعية كقراءة الجزم. وقرئ: «(وأكون)» بالرفع، وهي فوق السبعة، وذلك على تقدير:(وأنا أكون) بعد هذا فاسم أكن، أو أكون، أو أكون ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنا» . {مِنَ الصّالِحِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبره. هذا؛ وخذ قول عنترة في معلقته رقم [57] وما بعده: [الكامل] هلاّ سألت الخيل يا بنة مالك

إن كنت جاهلة بما لم تعلمي

إذ لا أزال على رحالة سابح

نهد تعاوره الكماة مكلّم

يخبرك من شهد الوقيعة أنّني

أغشى الوغى، وأعفّ عند المغنم

حيث جزم (يخبرك) في جواب التحضيض: (هلاّ).

فائدة: سئلت عدة مرات عن حذف النون من قول الرسول صلى الله عليه وسلم (ولا تؤمنوا) في الحديث الذي يرويه أبو هريرة-رضي الله عنه، ونصه:«لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتّى تحابّوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السّلام بينكم» . رواه مسلم، وأبو داود والترمذي وابن ماجه، والجواب: أنّ «لا تؤمنوا» معطوف على معنى: «لن تدخلوا الجنة

» إلخ، ولا نقول بالعطف على توهم (لن) لبشاعته كما تجنبت ذلك في الاية الكريمة. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)}

الشرح: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها} أي: ولن يمهل الله أحدا أيا كان إذا انتهى أجله، ولن يزيد في عمره. وفيه تحريض على المبادرة بأعمال الطاعات؛ حذرا أن يجيء الأجل؛ وقد فرط، ولم يستعد للقاء ربه. وفي كثير من الايات قوله تعالى:{إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} . هذا؛ وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أحبّ أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه» . رواه البخاري، ومسلم عن أنس-رضي الله عنه، حيث فسر «ينسأ له في أثره» . فيؤخر له في أجله، فإن الزيادة في الرزق، والأجل مؤولة بالبركة. وعن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الزيادة في العمر، فقال:«إنّ الله لا يؤخّر نفسا إذا جاء أجلها، وإنما الزيادة في العمر أن يرزق الله العبد ذرّيّة صالحة يدعون له، فيلحقه دعاؤهم في قبره» . أخرجه ابن أبي حاتم.

ص: 733

{وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ:} محيط بأعمالكم: صغيرها، وكبيرها، خيرها، وشرها، فيجازيكم بها بالخير خيرا، وبالسوء سوآ، كما جاء في الحديث القدسي الطويل؛ الذي رواه مسلم عن أبي ذرّ الغفاري-رضي الله عنه:«يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثمّ أوفّيكم إيّاها، فمن وجد خيرا؛ فليحمد الله عز وجل، ومن وجد غير ذلك؛ فلا يلومنّ إلا نفسه» .

الإعراب: {وَلَنْ:} (الواو): حرف استئناف. (لن): حرف نفي، ونصب، واستقبال.

{يُؤَخِّرَ:} فعل مضارع منصوب ب: (لن). {اللهُ:} فاعله. {نَفْساً:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. وقال الجمل: معطوفة على مقدر؛ أي: فلا يؤخر الله هذا الأحد المتمني؛ لأنه لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها أية كانت، فلا يؤخر نفس هذا القائل؛ لأنها من جملة النفوس؛ التي شملها النفي. انتهى. نقلا من الخطيب. {إِذا:} ظرف مجرد من الشرطية مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله. وقيل: (إذا) شرطية، وجوابها محذوف دل عليه ما قبله. {جاءَ:} فعل ماض. {أَجَلُها:} فاعله، و (ها) في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها. {وَاللهُ:} (الواو): واو الحال. (الله): مبتدأ.

{خَبِيرٌ:} خبره. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {خَبِيرٌ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: خبير بالذي، أو بشيء تعملونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بمصدر في محل جر بالباء، التقدير:

بعملكم، والجملة الاسمية (الله

) إلخ في محل نصب حال من لفظ الجلالة. والرابط:

الواو، وإعادة الاسم الكريم بلفظه، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.

انتهت سورة (المنافقون) شرحا وإعرابا بحمد الله وتوفيقه.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 734