المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الرّحمن بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الرحمن) علا، وعزّ، وجل، - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٩

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة الرّحمن بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الرحمن) علا، وعزّ، وجل،

‌سورة الرّحمن

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (الرحمن) علا، وعزّ، وجل، وهي مكية في قول الحسن، وعروة بن الزبير، وعكرمة، وعطاء، وجابر-رضي الله عنهم أجمعين-. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إلا آية منها هي قوله تعالى: {يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ..} . إلخ رقم [29]. وقال ابن مسعود، ومقاتل: هي مدنية كلها. والقول الأول أصح لما روى عروة بن الزبير-رضي الله عنه-قال: أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود-رضي الله عنه.

وذلك: أن الصحابة قالوا: ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قطّ، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال ابن مسعود: أنا، فقالوا: إنا نخشى عليك، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه، فأبى، ثم قام عند المقام، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم {الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ} ثم تمادى رافعا بها صوته، وقريش في أنديتها، فتأملوا، وقالوا: ما يقول ابن أم عبد؟ قالوا: هو يقول الذي يزعم محمد: أنه أنزل عليه، ثم ضربوه؛ حتى أثروا في وجهه. انتهى. قرطبي. أقول: وهذا ينفي نفيا قاطعا ما نسب إلى ابن مسعود آنفا.

وصح: أنه صلى الله عليه وسلم قام يصلي الصبح بنخلة، فقرأ سورة {الرَّحْمنُ} ومر النفر من الجن فآمنوا به، انظر ما ذكرته في الاية رقم [29] من سورة (الأحقاف). وفي الترمذي عن جابر-رضي الله عنه-قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فقرأ عليهم سورة (الرحمن) من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال:«لقد قرأتها على الجنّ ليلة الجنّ، فكانوا أحسن ردا منكم، كنت كلّما أتيت على قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} قالوا: لا بشيء من نعمك ربّنا نكذب، فلك الحمد» . قال: هذا حديث غريب، وفي هذا دليل على أنها مكية. والله أعلم.

وروي: أن قيس بن عاصم المنقري-رضي الله عنه-قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اتل عليّ مما أنزل عليك، فقرأ عليه سورة (الرحمن) فقال: أعدها، فأعادها ثلاثا، فقال: والله إن له لطلاوة، وإن عليه لحلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. وروي عن علي-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لكلّ شيء عروس، وعروس القرآن سورة الرحمن» . انتهى. قرطبي. هذا؛ وطلاوة بتثليث الطاء.

ص: 394

بسم الله الرحمن الرحيم

{الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)}

الشرح: {الرَّحْمنُ:} قال سعيد بن جبير، وعامر الشعبي:{الرَّحْمنُ} فاتحة ثلاث سور؛ إذا جمعن كنّ اسما من أسماء الله تعالى (الر) و (حم) و (ن) فيكون مجموع هذه (الرحمن). هذا؛ وقد يوصف بالرحيم المخلوقون، وأما الرحمن فلا يوصف به إلا الله تعالى، ومن وصف به مسيلمة الكذاب؛ فقد تعنّت، حيث قال فيه:[البسيط] وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا

{عَلَّمَ الْقُرْآنَ} أي: علمه نبيه صلى الله عليه وسلم حتى أدّاه إلى جميع الناس، وأنزلت حين قالوا:{وَمَا الرَّحْمنُ} وقيل: نزلت جوابا لأهل مكة حين قالوا: {إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} وهو رحمن اليمامة:

يعنون: مسيلمة الكذاب، وهذه هفوة من القرطبي-رحمه الله تعالى-انظر شرح الاية رقم [103] من سورة (النحل) تجد: أنه لا ذكر لمسيلمة الكذاب هناك. وقال الزجاج: معنى {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} سهله؛ لأن يذكر، ويقرأ، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} . {خَلَقَ الْإِنْسانَ:} يعني آدم عليه الصلاة والسلام. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما. وقيل: المراد: جنس الإنسان؛ أي: جميع الناس. {عَلَّمَهُ الْبَيانَ:} أسماء كل شيء. وقيل: علمه اللغات كلها، فكان آدم يتكلم بسبعمئة لغة أفضلها العربية. وقيل: أراد بالإنسان محمدا صلى الله عليه وسلم، و {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} يعني: بيان ما كان، وما يكون؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ينبئ عن خبر الأولين؛ والاخرين، وعن يوم الدين. وقيل: علمه بيان الأحكام من الحلال، والحرام، والحدود، والأحكام، وبيان النافع، والضار.

هذا؛ والبيان في اللغة: المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير. وفي الاصطلاح: أحد فنون البلاغة الثلاثة، وهو يبحث في التشبيه، والاستعارة، والمجاز، والكناية. وقد مر معنا كثير من ذلك في هذا الكتاب.

تنبيه: عدد الله عز وجل في أول هذه السورة آلاءه، ونعمه، فأراد أن يقدم أول شيء ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه، وصنوف نعمائه، وهي نعمة الدين، فقدم من نعمة الدين ما هو سنام في أعلى مراتبها، وأقصى مراقيها، وهو إنعامه بالقرآن، وتنزيله، وتعليمه؛ لأنه أعظم وحي الله رتبة، وأعلاه منزلة، وأحسنه في أبواب الدين أثرا، وهو سنام الكتب السماوية، ومصداقها، والعيار عليها، وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره، ثم أتبعه إياه؛ ليعلم: أنه إنما خلقه للدين، وليحيط علما بوحيه، وكتبه، وقدم ما خلق الإنسان من أجله عليه، ثم ذكر ما يميزه عن سائر الحيوان من البيان، وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير. انتهى. نسفي والكشاف.

الإعراب: {الرَّحْمنُ:} فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه خبر مبتدأ مضمر، التقدير: الله الرحمن. الثاني: أنه مبتدأ، وخبره محذوف؛ أي: الرحمن ربنا، وهذان الوجهان عند من يرى:

ص: 395

أن الرحمن آية مع هذا المضمر، فإنهم عدوا {الرَّحْمنُ} آية، ولا يتصور ذلك إلا بانضمام خبر، أو مخبر عنه إليه؛ إذ الاية لا بد أن تكون مفيدة. الثالث: أنه ليس بآية، وأنه مع ما بعده كلام واحد، وهو مبتدأ خبره:{عَلَّمَ الْقُرْآنَ} . انتهى. جمل نقلا من السمين.

{عَلَّمَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الرحمن) وهو متعد لاثنين، الأول محذوف تقديره: علم جبريل، أو علم محمدا، أو علم الإنسان. وهذا أولى لعمومه، والمفعول الثاني هو القرآن. وقيل:{عَلَّمَ} من العلامة، فلا ينصب مفعولين، والجملة الفعلية مستأنفة على الوجهين في {الرَّحْمنُ،} وفي محل رفع خبره على الوجه الثالث فيه، والجملتان:{خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ} مستأنفتان أيضا، أو هما من تعدد الخبر، وهو جملة. قال النسفي تبعا للزمخشري:

وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة، وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد، فما تنكر من إحسانه؟. انتهى. وهو مفاد كلام ابن هشام في المغني.

{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8)}

الشرح: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يجريان بحسبان ومنازل لا يتعديانها. وقيل: يعني بهما حساب الأوقات، والاجال، ولولا الليل والنهار، والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب ما يريد، قال تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} انظر شرحها هناك، فإنه جيد، والحمد لله، وانظر شرح الاية رقم [38] من سورة (يس) وما بعدها؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. هذا؛ ويجوز في (حسبان) وجهان: أحدهما: أنه مصدر مفرد بمعنى الحساب، فيكون كالغفران والكفران. والثاني: أنه جمع حساب، كشهاب، وشهبان، ورغيف، ورغفان. انتهى. سمين.

{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ:} قال ابن عباس، وغيره: النجم: ما لا ساق له، والشجر: ما له ساق، وأنشد ابن عباس-رضي الله عنهما-قول صفوان بن أسد التميمي:[الطويل] لقد أنجم القاع الكبير عضاهه

وتمّ به حيّا تميم ووائل

وقال زهير بن أبي سلمى المزني: [البسيط] مكلّل بأصول النجم تنسجه

ريح الجنوب لضاحي مائه حبك

واشتقاق النجم من: نجم الشيء، ينجم بالضم نجوما: ظهر وطلع، وسجودهما بسجود ظلالهما. وقال الزجاج: سجودهما دوران الظل معهما، كما قال تعالى:{يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ}

ص: 396

{الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ} . وقيل: النجم: هو الكوكب، وسجوده: طلوعه. والقول الأول أظهر؛ لأنه ذكره مع الشجر في مقابلة الشمس، والقمر، ولأنهما أرضيان في مقابلة سمائيين.

ومعنى {يَسْجُدانِ} ينقادان لله تعالى فيما خلقا له تشبيها بالساجد من المكلفين في انقياده، واتصلت هاتان الجملتان ب:{الرَّحْمنُ} بالوصل المعنوي، لما علم: أن الحسبان حسبانه، والسجود له، لا لغيره، كأنه قيل: الشمس والقمر بحسبانه، والنجم والشجر يسجدان له، ولم يذكر العاطف في الجمل الأول، ثم جيء به بعد؛ لأن الأول وردت على سبيل التعديد تبكيتا لمن أنكر آلاءه، كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه في المثال المذكور، ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب، والتقارب بالعطف، وبيان التناسب: أن الشمس، والقمر سماويان، والنجم، والشجر أرضيان، فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل، وأن السماء، والأرض لا تزالان تذكران قرينتين، وأن جري الشمس، والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله تعالى، فهو مناسب لسجود الشمس، والقمر.

{وَالسَّماءَ رَفَعَها:} خلقها مرفوعة محلا، ومرتبة، فإنها منشأ أقضيته، ومتنزل أحكامه، ومحل ملائكته، الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه، ونبه بذلك على كبرياء شأنه، وملكه، وسلطانه. {وَوَضَعَ الْمِيزانَ} أي: كل ما توزن به الأشياء، وتعرف مقاديرها من ميزان، ومكيال ومقياس؛ أي: خلقه موضوعا على الأرض، حيث علق به أحكام عباده من التسوية، والتعديل في أخذهم، وإعطائهم. {أَلاّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ} أي: لا تجاوزوا العدل، ولئلا تميلوا، وتظلموا، وتجوروا بأكل أموال الناس بالباطل. هذا؛ والطغيان في كل شيء مجاوزة الحد، ومنه قوله تعالى في سورة (الحاقة):{إِنّا لَمّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ} . والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {الشَّمْسُ:} مبتدأ. {وَالْقَمَرُ:} الواو: حرف عطف. (القمر): معطوف على ما قبله. {بِحُسْبانٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، التقدير: يجريان بحسبان، قال ابن هشام في المغني: فإن قدرت الكون قدرت مضافا؛ أي: جريان الشمس والقمر كائن بحسبان، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَالنَّجْمُ:} الواو: حرف عطف. (النجم):

مبتدأ. {وَالشَّجَرُ:} معطوف على ما قبله. {يَسْجُدانِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والألف فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {وَالسَّماءَ:} مفعول به لفعل محذوف يفسره المذكور، وهو ما يسمى بالاشتغال، وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ. {رَفَعَها:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الرَّحْمنُ،} (وها): مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها مفسرة على نصب (السماء)، وفي محل رفع خبره على رفعه، وعلى الاعتبارين فالجملة معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا، وجملة {وَوَضَعَ الْمِيزانَ} معطوفة عليها، لا محل لها. {أَلاّ تَطْغَوْا:} فالفعل منصوب ب: «أن» على اعتبارها مصدرية، و (لا) نافية، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال

ص: 397

الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و (أن) والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: أي: لئلا تطغوا، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (وضع).

هذا؛ وقيل: (أن) مفسرة، و (لا) ناهية جازمة، والفعل مجزوم ب:(لا) منصوب. وردّ بأن شرط المفسرة تقدم جملة عليها فيها معنى القول دون حروفه، {وَوَضَعَ الْمِيزانَ} ليس فيها معنى القول. وقد يجاب عنه بتوهم: أنّ وضع الميزان يستدعي كلاما في الأمر بالعدل فيه، فجاءت (أن) مفسرة بهذا الاعتبار. انتهى. جمل نقلا من كرخي. {فِي الْمِيزانِ:} متعلقان بما قبلهما.

{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12)}

الشرح: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ،} قال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [35]: {وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ} . {وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ} أي: لا تنقصوا الميزان، ولا تبخسوا الكيل، والوزن. وهذا كقوله تعالى في سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ} رقم [84]. أمر الله بالتسوية، وإقامة الحق والعدل، ونهى عن الطغيان؛ الذي هو اعتداء وزيادة، وعن الخسران، الذي هو تطفيف، ونقصان، وكرر لفظ الميزان تشديدا للوصية به، وتقوية للأمر باستعماله، والحث عليه. هذا؛ وأصل ميزان: موزان، فقلبت الواو ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها، ومثله: ميعاد، وميراث، ونحوهما. {وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ} أي: بسط الأرض، وأرساها بالجبال الشامخات؛ لتستقر بما على وجهها من الأنام، وهم الخلائق المختلفة أنواعهم، وأشكالهم وألوانهم في سائر أقطارها، وأرجائها، وتشمل الخلائق الإنس، والجن. وقيل: تشمل كل ما ظهر على ظهرها من دابة. {فِيها:} في الأرض. {فاكِهَةٌ} أي: كل ما يتفكه به الإنسان من ألوان الثمار. {وَالنَّخْلُ:} انظر الاية رقم [20] من سورة (القمر). {ذاتُ الْأَكْمامِ} أي: صاحبة الأكمام. و {الْأَكْمامِ} جمع: كم بكسر الكاف. قال الجوهري: والكمّة، والكمامة بكسر الكاف فيهما: وعاء الطلع، وغطاء النّور، والجمع: كمام، وأكمّة، وأكمام، والأكاميم أيضا. هذا؛ وكل شيء ستر شيئا فهو كم. واقتصر على ذكر النخل من بين سائر الشجر؛ لأنه أعظمها وأكثرها بركة. {وَالْحَبُّ} أي: جميع الحبوب؛ التي يقتات بها، كالحنطة، والشعير، ونحوهما، وإنما أخر ذكر الحب على سبيل الارتقاء إلى الأعلى؛ لأن الحب أنفع من النخل، وأعم وجودا في الأماكن. {ذُو الْعَصْفِ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يعني: التبن، وعنه: أنه ورق الزرع الأخضر؛ إذا قطع رؤوسه، ويبس. وقيل: هو ورق كل شيء يخرج منه الحب. {وَالرَّيْحانُ} يعني: الورق. وقيل:

العصف: الورق أول ما ينبت الزرع بقلا، والريحان: الورق؛ يعني: إذا أدجن، وانعقد فيه الحب، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته المشهورة:[الطويل]

ص: 398

وقولا له: من ينبت الحبّ في الثّرى؟

فيصبح منه البقل يهتزّ رابيا

ويخرج منه حبّه في رؤوسه

ففي ذاك آيات لمن كان واعيا

الإعراب: {وَأَقِيمُوا:} (الواو): حرف عطف. (أقيموا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل، والألف للتفريق. هذا هو المشهور، والأصل أن يقال في مثل هذا الفعل: فعل أمر مبني على سكون مقدر على آخره، منع من ظهوره إرادة التخلص من التقاء الساكنين، وحرك بالضمة لمناسبة واو الجماعة. وما أجدرك أن تلاحظ هذا في كل فعل أمر مسند إلى واو الجماعة، أو إلى ألف الاثنين، مثل أقيما، وقد حرك بالفتحة لمناسبة ألف الاثنين، أو إلى ياء المؤنثة المخاطبة، مثل اعبدي، وقد حرك بالكسرة لمناسبة ياء المخاطبة. {الْوَزْنَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، على اعتبار (لا) ناهية، وهي مستأنفة على اعتبار (لا) نافية، و (أن) ناصبة الفعل المضارع، {بِالْقِسْطِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل:

متعلقان بمحذوف حال. {وَلا:} (الواو): حرف عطف. (لا): ناهية. {تُخْسِرُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الْمِيزانَ:}

مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{وَالْأَرْضَ:} مفعول به لفعل محذوف يفسره المذكور بعده، ولم يقرأ بالرفع مثل السماء في الاية رقم [7]. {وَضَعَها:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الرَّحْمنُ،} (وها): مفعول به، والجملة الفعلية مفسرة للمحذوفة، لا محل لها. {لِلْأَنامِ:} متعلقان بما قبلهما، وهو المعتمد.

{فِيها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فاكِهَةٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وجوز اعتبارها حالا من (الأرض) والرابط: الضمير، كما جوز اعتبار الجار والمجرور متعلقين بمحذوف حال من (الأرض)، واعتبار (فاكهة) فاعلا بالجار والمجرور؛ أي: بمتعلقهما. {وَالنَّخْلُ:} (الواو): حرف عطف. (النخل): معطوف على فاكهة. {ذاتُ:} صفة (النخل) وهو مضاف، و {الْأَكْمامِ} مضاف إليه. {وَالْحَبُّ:} معطوف على {فاكِهَةٌ} أيضا. {ذُو:} صفة (الحب) مرفوع مثله، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذُو} مضاف، و {الْعَصْفِ} مضاف إليه، {وَالرَّيْحانُ:} معطوف على ما قبله. هذا؛ وقرئ بنصب الثلاثة على تقدير: خلق الحب

إلخ.

{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15)}

الشرح: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} خطاب للإنس والجن؛ لأن الأنام واقع عليهما، وهذا قول الجمهور. وقيل: لما قال: {خَلَقَ الْإِنْسانَ،} {وَخَلَقَ الْجَانَّ} دل ذلك على أن ما تقدم،

ص: 399

وما تأخر لهما. وأيضا قال: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ} وهو خطاب للإنس، والجن، وقد قال في هذه السورة:{\يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} . هذا؛ والالاء: النعم، واحدها: إلى، وألى، وإلي، وألي.

أربع لغات حكاها النحاس. قال: وفي واحد {آناءَ اللَّيْلِ} ثلاث تسقط منها المفتوحة الألف، المسكّنة اللام. وقال ابن زيد: إنها القدرة، وتقدير الكلام: فبأي قدرة

إلخ؟

{خَلَقَ الْإِنْسانَ:} لما ذكر الله سبحانه خلق العالم الكبير من السماء، والأرض، وما فيهما من الدلالات على واحدانيته، وقدرته؛ ذكر خلق العالم الصغير، فقال:{خَلَقَ الْإِنْسانَ} والمراد به آدم باتفاق أهل العلم. {مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ} يعني: من طين يابس له صلصلة، وهو الصوت منه إذا نقر. {كَالْفَخّارِ:} يعني الطين المطبوخ بالنار، وهو الخزف. هذا؛ واختلفت العبارات في صفة خلق الإنسان، الذي هو آدم، فقال في كثير من الايات:{مِنْ تُرابٍ،} وقال في سورة (الحجر): {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ،} وقال في سورة (الصافات): {مِنْ طِينٍ لازِبٍ} وقال هنا: {مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ} وعند التأمل يظهر لك: أنه لا يوجد بين هذه العبارات اختلاف، ولكن مرّ خلق آدم بأدوار، وذلك أن الله خلقه أولا من تراب، ثم جعله طينا لازبا لما اختلط بالماء، ثم حمأ مسنونا، وهو الطين الأسود المنتن، فلما يبس صار صلصالا كالفخار. وكل دور من هذه الأدوار، بل وكل طور من هذه الأطوار يقدر بأربعين عاما.

تنبيه: وأما صفة خلق آدم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-فإني أنقلها لك من الخازن بحروفه، وذلك من سورة (البقرة) فقد قال وهب بن منبه-رحمه الله تعالى-: لما أراد الله تعالى أن يخلق آدم؛ أوحى إلى الأرض: أني خالق منك خليقة، منهم من يطيعني، ومنهم من يعصيني، فبكت الأرض، فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة، فبعث الله إليها جبريل عليه السلام ليأتيه بقبضة منها، من أحمرها، وأسودها، وطيبها، وخبيثها، فلما أتاها ليقبض منها، قالت: أعوذ بعزة الله الذي أرسلك إليّ ألاّ تأخذ مني شيئا يكون للنار فيه نصيب، فرجع إلى مكانه، وقال: يا رب استعاذت بك مني، فكرهت أن أقدم عليها، فقال الله لميكائيل-عليه السلام: انطلق فائتني بقبضة منها، فلما أتاها ليأخذ منها، قالت له: مثل ما قالت لجبريل، فرجع إلى ربه، فقال: ما قالت له. فقال لعزرائيل-عليه السلام: انطلق فائتني بقبضة من الأرض، فلما أتاها؛ ليقبض منها، قالت له مثل ما قالت لجبريل، وميكائيل، فقال: وأنا أعوذ بعزته أن أعصي له أمرا، فقبض منها قبضة من جميع بقاعها، من عذبها، ومالحها، وحلوها، ومرها، وأبيضها، وأسودها، وطيبها، وخبيثها، وصعد بها إلى السماء.

فسأله ربه عز وجل-وهو أعلم بما صنع-فأخبره بما قالت الأرض، وبما رد عليها. فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لأخلقن مما جئت به خلقا، ولأسلطنك على قبض أرواحهم لقلة رحمتك، ثم جعل الله تلك القبضة، نصفها في الجنة، ونصفها في النار، ثم تركها ما شاء الله، ثم

ص: 400

أخرجها، فعجنها طينا لازبا مدة، ثم حمأ مسنونا مدة، ثم صلصالا مدة، ثم جسدا هامدا، وألقاه على باب الجنة، فكانت الملائكة يعجبون من صفة صورته؛ لأنهم لم يكونوا رأوا مثله، وكان إبليس يمر عليه، ويقول: لأمر ما خلق هذا، ونظر إليه فإذا هو أجوف، فقال: هذا خلق لا يتمالك، وقال يوما للملائكة: إن فضل هذا عليكم فما تصنعون؟ فقالوا: نطيع ربنا، ولا نعصيه.

فقال إبليس في نفسه: لئن فضل علي؛ لأعصينه، ولئن فضلت عليه؛ لأهلكنه، فلما أراد الله أن ينفخ فيه الروح أمرها أن تدخل في جسد آدم، فنظرت، فرأت مدخلا ضيقا، فقالت: يا رب كيف أدخل هذا الجسد؟ قال الله عز وجل: ادخليه كرها، وستخرجين منه كرها، فدخلت في يافوخه، فوصلت إلى عينيه، فجعل ينظر إلى سائر جسده طينا، فسارت إلى أن وصلت إلى منخريه، فعطس، فلما بلغت لسانه؛ قال: الحمد لله رب العالمين، وهي أول كلمة قالها، فناداه الله تعالى: رحمك الله يا أبا محمد! ولهذا خلقتك، ولما بلغت الروح الركبتين؛ هم ليقوم، قال الله تعالى:{خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} .

فلما بلغت إلى الساقين، والقدمين؛ استوى قائما بشرا سويا، لحما، ودما، وعظاما، وعروقا، وعصبا، وأحشاء، وكسي لباسا من ظفر، يزداد جسده جمالا، وحسنا كل يوم، وجعل في جسده تسعة أبواب، سبعة في رأسه، وهما الأذنان يسمع بهما، والعينان يبصر بهما، والمنخران يشم بهما، والفم فيه اللسان يتكلم به، والأسنان يطحن بها ما يأكله، ويجد لذة المطعومات بها، وبابين في أسفله، وهما: القبل والدبر، يخرج منهما ثفل طعامه، وشرابه، وجعل عقله في دماغه، وفكره، وصرامته في قلبه، وشرهه في كليته، وغضبه في كبده، ورغبته في رئته، وضحكه في طحاله، وفرحه، وحزنه في وجهه، فسبحان من جعله يسمع بعظم، ويبصر بشحم، وينطق بلحم ويعرف بدم! وركب فيه الشهوة، وحجزه بالحياء.

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق الله آدم عليه السلام، وطوله ستون ذراعا، ثم قال: اذهب فسلّم على أولئك النفر من الملائكة، فاستمع ما يحيونك به، فإنها تحيتك، وتحية ذريتك، فقال: السّلام عليكم، فقالوا: السّلام عليك ورحمة الله، فزادوه رحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص حتى الان» . متفق عليه.

وعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمّا صوّر الله آدم تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطوف به ينظر ما هو؟ فلما رآه أجوف عرف: أنه لا يتمالك» .

رواه مسلم. وعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة قبضها من الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض. منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبين ذلك، والسهل، والحزن، والخبيث، والطيّب» أخرجه الترمذي وأبو داود. انتهى. خازن.

ص: 401

تنبيه: من المقطوع به أن آدم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-من الأنبياء، وهو رأي جمهور العلماء، لم يخالف فيه أحد، وإنما الخلاف فيه، هل هو رسول، أم لا؟ ولمن أرسل؟ فيرى بعض العلماء: أنه رسول، وأنه أرسل إلى ذريته. ويرى الاخرون: أنه لم يكن رسولا، وإنما كان نبيا، ويستدل هؤلاء بحديث الشفاعة، الوارد في صحيح مسلم: أن الناس يذهبون إلى نوح على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، ويقولون له: أنت أول رسل الله إلى أهل الأرض، فلو كان آدم رسولا؛ لما ساغ هذا القول، والقائلون برسالة آدم يؤولون ذلك بأنه أول رسول بعد الطوفان. والله أعلم بحقيقة الأمر، والرأي الأرجح: أنه من الرسل.

هذا؛ وقد عاش آدم عليه السلام على ما ورد في بعض الاثار ألف عام، ثم مات بعد ذلك، ودفن على المشهور في الهند عند الجبل الذي أهبط فيه. وقيل: دفن بجبل أبي قبيس في مكة المكرمة، ولما حضرته الوفاة جاءته الملائكة بكفن، وحنوط من الجنة، وبعد أن غسلوه، وكفنوه، وحنطوه؛ حفروا له، وألحدوه، وصلوا عليه، ثم أدخلوه قبره، فوضعوه فيه، ثم حثوا عليه التراب، وقالوا: يا بني آدم هذه سنتكم. رحم الله آدم، وأسكنه فسيح جنته، وجمعنا معه في دار الخلد. آمين. والحمد لله رب العالمين. انتهى. النبوة والأنبياء للصابوني.

هذا؛ وقد قال عبد الوهاب النجار-رحمه الله تعالى-في كتابه (قصص الأنبياء). هل آدم هذا أول البشر ولم يكن أحد قبله من جنسه؟

والجواب: أن العقل لا يجعل من المحال أن يكون الله خلق آدم غير آدم هذا، ولكن الله لم يذكر سوى آدم الذي نعرفه أبا البشر، فالقول بوجود غيره مجازفة بلا برهان، وقد وجد من البشر في الأزمان الغابرة، والحاضرة من يدعون: أن عمران بلادهم أقدم من خلق آدم، كأهل الهند، وقد كانوا في الزمان السابق يدّعون: أن آدم كان عبدا من عبيدهم هرب إلى الغرب، وجاء بأولاده، وإلى هذا يشير المعري بقوله:[الوافر] تقول الهند آدم كان قنّا

لنا فسعى إليه مخبّبوه

وإلى القول بوجود أوادم سوى آدم يشير بقوله: [الخفيف] جائز أن يكون آدم هذا

قبله آدم على إثر آدم

وقوله: [الطويل] وما آدم في مذهب العقل واحدا

ولكنّه عند القياس أوادم

وهناك فريق من الناس يرجح: أنه ليس أول نوعه، ويستأنسون لذلك بقول الملائكة:

{أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ} الاية رقم [30] من سورة (البقرة) ويقول: إن الملائكة لم يقولوا ذلك إلا لرؤيتهم من تقدموا قبل آدم من الخلق الذين على صورته قد فعلوا ذلك، وأن

ص: 402

آدم عليه السلام كان خليفة عن بشر كانوا من جنسه، وبادوا. وكل هذه الأقوال لا تستند إلى نص قطعي الثبوت، والدلالة. انتهى. بحروفه. وانظر ما ذكرته في آخر سورة (ص) فإنه جيد، والحمد لله.

{وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ:} المارج: اللهب. وقال الليث: المارج: الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-أنه اللهب الذي يعلو النار، فيختلط بعضه ببعض، أحمر، وأصفر، وأخضر، ونحوه عن مجاهد. هذا؛ وفي سورة (الحجر) رقم [27] قوله تعالى:{وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ} وأصل المرج: الإهمال، كما تمرج الدابة في المرعى، والمرج: أرض ذات نبات، ومرعى، والجمع مروج. هذا؛ والجان: أبو الجن، كما أن آدم أبو البشر. وقال قتادة: هو إبليس. وقيل: الجان أبو الجن، وإبليس أبو الشياطين، وفي الجن مسلمون، وكافرون يأكلون، ويشربون، ويحيون، ويموتون، ويتوالدون كبني آدم، وأما الشياطين فليس فيهم مسلمون، ولا يموتون إلا إذا مات إبليس أبوهم، والأصح: أن الشياطين نوع من الجن لاشتراكهم في الاستتار، سمّوا جنا لتواريهم، واستتارهم عن الأعين، من قولهم: جن الليل: إذا ستر بظلمته كل شيء. قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [27]:

{إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} . وانظر ما ذكرته في سورة (الجن) وفي سورة (الأحقاف). والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {فَبِأَيِّ:} (الفاء): هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا وواقعا؛ فبأي

إلخ. (بأي): جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما، و (أي) مضاف، و {آلاءِ} مضاف إليه، و {آلاءِ} مضاف، و {رَبِّكُما} مضاف إليه، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {تُكَذِّبانِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وألف الاثنين ضمير متصل في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب للشرط المقدر ب:«إذا» ، والجملة الشرطية مستأنفة، لا محل لها.

{خَلَقَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {رَبِّكُما}. {الْإِنْسانَ:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {مِنْ صَلْصالٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {الْإِنْسانَ}. {كَالْفَخّارِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {صَلْصالٍ،} وإن اعتبرت الكاف اسما فهي الصفة، وتكون الكاف مضافة، و (الفخار) مضاف إليه. {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ:} مثل سابقتها في إعرابها، وهي معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {مِنْ نارٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {مارِجٍ} .

ص: 403

{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)}

الشرح: {فَبِأَيِّ آلاءِ..} . إلخ: ذكرت هذه الاية في هذه السورة إحدى وثلاثين مرة: ثمانية منها ذكرت عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله، وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق، ومعادهم، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها بعدد أبواب جهنم، وحسن ذكر الالاء عقبها؛ لأن من جملة الالاء رفع البلاء، وتأخير العذاب، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما بعدد أبواب الجنة، وثمانية أخرى بعدها في الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأوليين، أخذا من قوله تعالى:{وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ} فمن اعتقد الثمانية الأولى، وعمل بموجبها استحق هاتين الثمانيتين من الله ووقاه السبعة السابقة. انتهى. جمل عن شيخ الإسلام في متشابه القرآن.

هذا؛ وفي الخازن قوله: وكرر هذه الاية في هذه السورة في أحد وثلاثين موضعا، تقريرا للنعمة، وتأكيدا في التذكير بها، ثم عدد على الخلق آلاءه، وفصل بين كل نعمتين بما ينبههم عليها، ليفهمهم النعم، وليقررهم بها، كقول الرجل لمن أحسن إليه، وتابع إليه بالأيادي، وهو ينكرها، ويكفرها: ألم تكن فقيرا، فأغنيتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن عريانا فكسوتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملا فعززتك؟ أفتنكر هذا؟ ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب، حسن تقريرا؛ وذلك؛ لأن الله تعالى ذكر في هذه السورة ما يدل على واحدانيته، من خلق الإنسان، وتعليمه، والبيان، وخلق الشمس والقمر، والسماء والأرض إلى غير ذلك مما أنعم الله به على خلقه، وخاطب الجن والإنس، فقال: فبأي آلاء

إلخ من الأشياء المذكورة؛ لأنها كلها منعم بها عليكم. انتهى. وانظر ما ذكرته في الاية رقم [21] و [22] من سورة (القمر). هذا؛ ومعنى {تُكَذِّبانِ} تكفران، والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب؛ لما أن دلالة الالاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر شهادة منها بذلك، فكفرهم بها تكذيب بها لا محالة؛ أي: فإذا كان الأمر كما فصل، فبأي فرد من أفراد آلاء مالككما ومربيكما بتلك الالاء تكذبان؟ مع أن كلا منها ناطق بالحق شاهد بالصدق. هذا؛ والاستفهام للتقرير بالنسبة للمؤمنين، وللتوبيخ، والتقريع بالنسبة للكافرين، والفاسقين من الإنس، والجن.

{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ:} فينبغي أن تعلم: أن الله تعالى قال في سورة (البقرة) رقم [115]{وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} فالمراد بهما ناحيتا الأرض، له سبحانه الأرض كلها، لا يختص به مكان دون مكان، وقال هنا:{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} أي مشرقي الشتاء والصيف، ومغربيهما، وقال تعالى في سورة (المعارج):{فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنّا لَقادِرُونَ} فقد جمع المشرق والمغرب كما ترى باعتبار مشارق الشمس ومغاربها في السنة، وهي ثلاثمئة وخمس وستون كوة في مطلعها، ومثلها في مغربها على عدد أيام السنة الشمسية، تطلع كل يوم من كوة منها، وتغيب في

ص: 404

كوة، لا تطلع، ولا تغرب في تلك الكوة إلا في ذلك اليوم من العام المقبل. قال أمية بن أبي الصلت، الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:«آمن شعره وكفر قلبه» . [الطويل] زحل وثور تحت رجل يمينه

والنّسر للأخرى وليث مرصد

والشمس تطلع كلّ آخر ليلة

حمراء يصبح لونها يتورّد

ليست بطالعة لهم في رسلها

إلاّ معذّبة وإلاّ تجلد

قال عكرمة-رحمه الله تعالى-قلت لابن عباس-رضي الله عنهما: يا مولاي! أتجلد الشمس؟ فقال: إنما اضطره الروي إلى الجلد، لكنها تخاف العقاب.

هذا؛ وكان من حق المشرق، والمغرب فتح العين، وهي الراء؛ لأن المصدر الميمي، واسمي الزمان، والمكان؛ إذا أخذ أحدهما من فعل ثلاثي مفتوح العين، أو مضمومها في المضارع أن يكون بفتح العين قياسا، ولكن التلاوة جاءت بكسرها. وأيضا جاء كثير بكسر العين، وهو مذكور في كتب النحو، واللغة، من ذلك: المسجد، والمنبت، والمسقط، والمرفق، والمنخر، والمجزر، والتحقيق: أنها أسماء نوعية غير جارية على فعلها، وإلا فلا مانع من الفتح. ولا تنس: أنه يقرأ: {مَطْلِعَ} بفتح اللام وكسرها.

الإعراب: {رَبُّ:} خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو رب، و {رَبُّ} مضاف، و {الْمَشْرِقَيْنِ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، والإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ:} معطوف على ما قبله. هذا؛ ويقرأ: {رَبُّ} بالجر على أنه بدل من {رَبِّكُما} .

{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20)}

الشرح: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ} أي: أرسل البحرين: العذب، والملح متجاورين متلاقيين، لا فصل بين الماءين؛ لأن من شأنهما الاختلاط، وهو قوله:{يَلْتَقِيانِ} لكن الله تعالى منعهما عما في طبعهما بالبرزخ، وهو قوله تعالى:{بَيْنَهُما بَرْزَخٌ} أي: حاجز من قدرة الله تعالى. {لا يَبْغِيانِ} أي: لا يبغي أحدهما على صاحبه. وقيل: لا يختلطان، ولا يتغيران. وقيل: لا يطغيان على الناس بالغرق. وقيل: (مرج البحرين) يعني بحر الروم وبحر الهند، وأنتم الحاجز بينهما أي بلاد العرب. وقيل: بحر فارس، وبحر الروم بينهما برزخ، يعني: الجزائر. وقيل: بحر السماء، وبحر الأرض يلتقيان في كل عام. قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير-رضي الله عنهم أجمعين-وخذ قوله تعالى في سورة (الفرقان) رقم [53]{*وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً} .

ص: 405

الإعراب: {مَرَجَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {رَبِّكُما}. {الْبَحْرَيْنِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {يَلْتَقِيانِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وألف الاثنين فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {الْبَحْرَيْنِ،} والرابط: الضمير فقط. {بَيْنَهُما:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {بَرْزَخٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من ألف الاثنين. والرابط:

الضمير فقط. ويجوز أن يكون الظرف متعلقا بمحذوف حال. و {بَرْزَخٌ} فاعلا به، وهو أحسن لقربه من المفرد. وجملة:{لا يَبْغِيانِ} في محل نصب حال أخرى كالتي قبلها؛ أي: مرجهما غير باغيين، أو يلتقيان غير باغيين، أو بينهما برزخ في عدم بغيهما، وهذه الحال في قوة التعليل؛ إذ المعنى لئلا يبغيا. وقد تمحل بعضهم، وقال: أصل ذلك لئلا يبغيا، ثم حذف حرف العلة، وهو مطرد مع:«أن» و «أنّ» ثم حذفت «أن» أيضا وهو حذف مطرد، كقوله تعالى:{وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ..} . إلخ الاية رقم [24] من سورة (الروم)، فلما حذفت «أن» ارتفع الفعل، وهذا غير ممنوع إلا أنه يتكرر فيه الحذف، ولك أن تقول: قد جاء الحذف أكثر من ذلك فيما هو أخفى من هذا كما تقدم في: {قابَ قَوْسَيْنِ،} وكما سيأتي في قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ..} . إلخ الاية رقم [82] من سورة (الواقعة) انتهى. جمل نقلا من السمين.

{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24)}

الشرح: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} أي: من البحرين؛ أي: يخرج لكم من الماء اللؤلؤ والمرجان، كما يخرج من التراب الحب، والعصف، والريحان. قيل: إنما تخرج المعادن الثمينة من البحر الملح دون العذب، فهو كقوله تعالى في سورة (نوح):{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} وقيل: أراد يخرج من أحدهما، فحذف المضاف. وقيل: لما التقى البحران، فصارا كالشيء الواحد؛ جاز أن يقال: يخرج منهما، كما يقال: يخرج من البحر، ولا يخرج من جميع البحر، ولكن من بعضه. وقيل: يخرج من ماء السماء وماء البحر، قيل: إذا أمطرت السماء، تفتح الأصداف أفواهها، فحيثما وقعت قطرة صارت لؤلؤة على قدر القطرة، و {اللُّؤْلُؤُ} هو ما عظم من الدر، والمرجان صغاره. وقيل: بعكس ذلك. وقيل: (المرجان) هو الخرز الأحمر. وانظر ما ذكرته في سورة (فصلت) رقم [39] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. هذا؛ ومن التفسير الشاذ الذي لا يقبله عقل، ولا يقره ذوق، فضلا عن عدم وجوده في كتب اللغة، حيث يقول ناس: البحران

ص: 406

هما: فاطمة، وعلي-رضي الله عنهما-والبرزخ (أي: الحاجز): محمد صلى الله عليه وسلم، و (اللؤلؤ):

الحسن، و (المرجان): الحسين-رضي الله عنهما. هذا؛ وخروج اللؤلؤ والمرجان مجاز عقلي؛ لأنه لا يخرج بنفسه، بل لا بد له من مخرج، كما هو معروف. وقال:{مِنْهُمَا} ولم يقل من أحدهما؛ لأنهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد ساغ أن يقول: منهما. {وَلَهُ الْجَوارِ:}

السفن، الكبار. {الْمُنْشَآتُ} أي: المرفوعات؛ التي يرفع خشبها بعضه على بعض. وقيل: هي ما رفع قلعها من السفن، أما ما لم يرفع قلعها، فليست من المنشآت المحدثات المخلوقات المسخرات. {كَالْأَعْلامِ} أي: كالجبال في كبرها وما فيها من المتاجر، والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر، ومن إقليم إلى إقليم. مما فيه صلاح الناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع، ولهذا قال:{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} وانظر (الشورى) رقم [32].

عن عمر بن سويد؛ قال: كنت مع علي-رضي الله عنه-على شاطئ الفرات؛ إذ أقبلت سفينة مرفوع شراعها، فبسط علي-رضي الله عنه-يديه، ثم قال: يقول الله عز وجل: {وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} والذي أنشأها تجري في بحوره ما قتلت عثمان، ولا مالأت على قتله.

أخرجه ابن أبي حاتم. هذا؛ و (الأعلام) جمع علم وهو الجبل الطويل. قال جرير: [الرجز] إذا قطعن علما بدا علم

حتّى تناهين بنا إلى الحكم

هذا؛ ولا تنس تشبيه السفن؛ وهي تمخر عباب البحر رائحة جائية بالجبال.

الإعراب: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ:} انظر الاية رقم [13]. {يَخْرُجُ:} فعل مضارع. {مِنْهُمَا:}

جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {اللُّؤْلُؤُ:} فاعل {يَخْرُجُ،} والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من ألف الاثنين، والرابط: الضمير فقط. {وَالْمَرْجانُ:} الواو: حرف عطف. (المرجان): معطوف على ما قبله.

{وَلَهُ:} (الواو): حرف استئناف. (له): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْجَوارِ:}

مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {الْمُنْشَآتُ:} صفة {الْجَوارِ} . {فِي الْبَحْرِ:} متعلقان ب: {الْمُنْشَآتُ} . ونائب فاعله يعود إلى:

{الْجَوارِ} . {كَالْأَعْلامِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في {الْمُنْشَآتُ} . هذا؛ وإن اعتبرت الكاف اسما، فالمحل لها، وهي مضافة و (الأعلام) مضاف إليه.

{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28)}

الشرح: {كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ} أي: على الأرض، والضمير عائد على ذكرها في الاية رقم [10] والمراد ب:{مَنْ} كل من على وجه الأرض من إنسان، وحيوان، وهوام، وغير ذلك. وإنما

ص: 407

ذكره بلفظة {مَنْ} تغليبا للعقلاء على غيرهم. {فانٍ:} هالك. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لما نزلت هذه الاية قالت الملائكة: هلك أهل الأرض، فنزلت:{كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} رقم [88] من سورة (القصص) فأيقنت الملائكة بالهلاك. ووجه النعمة في فناء الخلق:

التسوية بينهم في الموت، ومع الموت تستوي الأقدام. وقيل: وجه النعمة: أن الموت سبب النقل من دار الفناء إلى دار الجزاء، والثواب. {وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ} أي: ويبقى الله؛ فالوجه عبارة عن وجوده وذاته، قال الشاعر:[مخلع البسيط] قضى على خلقه المنايا

فكلّ شيء سواه فاني

وفي المخاطب وجهان: أحدهما: أنه كل واحد، والمعنى: ويبقى وجه ربك أيها الإنسان السامع. والوجه الثاني: أنه يحتمل: أن الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم. {ذُو الْجَلالِ} أي: صاحب العظمة، والكبرياء، الحقيق بصفات المدح، يقال: جلّ الشيء؛ أي: عظم، وأجللته؛ أي:

عظمته، و {الْجَلالِ} اسم من: جلّ، ومعناه: الذي يجله الموحدون عن التشبيه. {وَالْإِكْرامِ} أي:

هو أهل لأن يكرم عما لا يليق به من الشرك، كما تقول: أنا أكرمك عن هذا، وهو المكرم لأنبيائه، وأوليائه، وجميع خلقه بلطفه، وإحسانه إليهم مع جلاله، وعظمته، وروى أنس-رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ألظّوا بياذا الجلال والإكرام» . أخرجه الترمذي، ومعناه الزموا ذلك في الدعاء. وعن سعيد المقبري: أن رجلا ألحّ، فجعل يقول: اللهم يا ذا الجلال، والإكرام! اللهم يا ذا الجلال والإكرام! فنودي: إني قد سمعت؛ فما حاجتك؟

هذا؛ و {فانٍ} أصله: فاني بضمة على الياء علامة للرفع وبتنوين الصرف، لكن استثقلت الضمة على الياء بعد كسرة، فسكنت الياء، فالتقى ساكنان: الياء والتنوين، فحذفت الياء لعلة الالتقاء، وبقيت النون مكسورة على ما كانت عليه قبل الإعلال، فقيل:(فان) بالكسر، وإنما لم يقل بالرفع؛ لأن الياء محذوفة لعلة الالتقاء، فهي كالثابتة، فتمنع الرفع للدال، وهكذا قل في إعلال كل اسم منقوص، مثل: مهتد، وهاد، ونحوهما.

الإعراب: {كُلُّ:} مبتدأ، وهو مضاف. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {عَلَيْها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {فانٍ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَيَبْقى:} الواو: حرف عطف. (يبقى): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {وَجْهُ:} فاعله، وهو مضاف، وربك مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {ذُو:}

صفة وجه مرفوع مثله، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذُو:}

مضاف، و {الْجَلالِ:} مضاف إليه. {وَالْإِكْرامِ:} الواو: حرف عطف. (الإكرام): معطوف على ما قبله، وجملة: (يبقى

) إلخ معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، لا محل لها مثلها.

ص: 408

{يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)}

الشرح: {يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} يعني: من ملك، وإنس، وجن، فلا يستغني عن فضله أهل السموات، والأرض. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: فأهل السموات يسألونه المغفرة، وأهل الأرض يسألونه المغفرة والرزق. وقيل: كل أحد يسأله الرحمة، وما يحتاجه في دينه أو دنياه. وفيه إشارة إلى كمال قدرة الله تعالى، وأن كل مخلوق وإن جل وعظم؛ فهو عاجز عن تحصيل ما يحتاج إليه، مفتقر إلى الله تعالى. انتهى. خازن. هذا؛ ومن أهم ما ينبغي أن يسأل المؤمن ربه التوفيق للطاعة، والمعونة على العبادة، وتسديد الخطى على الصراط المستقيم.

{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ:} في أمر يظهره على وفق ما قدره في الأزل، من إحياء، وإماتة وإعزاز، وإذلال، وإغناء، وإفقار، وإجابة داع، وإعطاء سائل، وغير ذلك. وروى أبو الدرداء رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال: «من شأنه أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين» . وعن ابن عمر-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال: «يغفر ذنبا، ويكشف كربا، ويجيب داعيا» .

وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أنه قال: إن مما خلق الله عز وجل لوحا من درة بيضاء، دفتاه من ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، ينظر الله فيه كل يوم ثلاثمئة وستين نظرة، يخلق، ويرزق، يحيي، ويميت، يعز، ويذل، ويفعل ما يشاء، فذلك قوله تعالى:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} . وقال الحسين بن الفضل: هو سوق المقادير إلى المواقيت، ومعناه: أن الله-عز وجل-كتب ما يكون في كل يوم، وقدر ما هو كائن، فإذا جاء ذلك الوقت، فعلقت إرادته بالفعل، فيوجده في ذلك الوقت. هذا؛ وقيل: نزلت الاية ردا على اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شأنا أو شيئا.

فائدة: يروى أن ابن الشجري كان في مجلس وعظه، وإرشاده، والناس حوله يستمعون إليه، فرفع أحد الحاضرين يده، وقال: سؤال يا فضيلة الشيخ، فقال له: ما السؤال؟ فقال: الله يقول: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ما شأن ربك الان؟ فقال: غدا آتيك بالجواب إن شاء الله، فذهب إلى بيته فلم يهتد إلى الجواب، فنام مهموما مكروبا، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال:

يا رسول الله! عرض عليّ سؤال، فلم أهتد إلى جوابه، وذكر السؤال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: السائل لك الخضر، والجواب: شأن ربك الان أمور يبديها، ولا يبتديها، يرفع أقواما، ويضع آخرين.

وفي اليوم الثاني جلس الشيخ في مجلس وعظه، فرفع السائل يده، وقال: الجواب يا أستاذ! فقال له: شأن ربك الان أمور يبديها

إلخ. فقال له: صل وسلم على من علمك. انتهى.

باجوري على جوهرة التوحيد. والله أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 409

هذا؛ وسأل بعض الملوك وزيره عن معنى الاية، فاستمهله إلى الغد، وذهب كئيبا يفكر فيها، فقال له غلام أسود: يا مولاي! أخبرني ما أصابك؛ لعل الله يسهل لك على يدي؟! فأخبره، فقال:

أنا أفسرها للملك، فأعلمه. فقال: أيها الملك شأن الله أن يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيما، ويسقم سليما، ويبتلي معافى، ويعافي مبتلى، ويعز ذليلا، ويذل عزيزا، ويفقر غنيا، ويغني فقيرا، فقال الملك:

أحسنت، وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة. فقال: يا مولاي هذا من شأن الله!.

وقيل: إن عبد الله بن طاهر دعا الحسين بن الفضل، وقال له: أشكلت عليّ ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي. قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ} رقم [31] من سورة (المائدة) وقد صح أن الندم توبة. وقوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وقد صح: أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة. وقوله تعالى في سورة (النجم) الاية رقم [39]: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى،} فما بال الأضعاف؟ فقال الحسين: يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة، ويكون توبة في هذه الأمة. وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل، ولكن على حمله. وأما قوله تعالى:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فإنها شؤون يبديها، لا شؤون يبتديها. وأما قوله:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى} فمعناه: ليس له إلا ما سعى عدلا، ولي أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا. فقام عبد الله وقبل رأسه وسوغ خراجه. انتهى. قرطبي، وكشاف، ونسفي.

الإعراب: {يَسْئَلُهُ:} فعل مضارع، والهاء مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف للتعميم. {مَنْ:} اسم موصول، مبني على السكون في محل رفع فاعل. {فِي السَّماواتِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {وَالْأَرْضِ:} الواو: حرف عطف. (الأرض):

معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وأجيز اعتبارها في محل نصب حال من {وَجْهُ رَبِّكَ}. {كُلَّ:} قال ابن الأنباري: منصوب على الظرفية، وهو معمول الظرف الذي هو {فِي شَأْنٍ}. وقال الجمل:{كُلَّ} منصوب بالاستقرار، الذي تضمنه الخبر. وقال أبو البقاء: هو ظرف لما دل عليه: {هُوَ فِي شَأْنٍ} . هذا؛ ويجوز تعليقه بالفعل {يَسْئَلُهُ} فيكون الوقف على {كُلَّ يَوْمٍ} وما بعده جملة مستأنفة، و {كُلَّ} مضاف، و {يَوْمٍ} مضاف إليه. {هُوَ:} مبتدأ.

{فِي شَأْنٍ:} متعلقان بمحذوف خبره.

{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32)}

الشرح: {فَبِأَيِّ..} . إلخ: انظر الاية رقم [13]. {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ:} قيل: هذا وعيد من الله تعالى للخلق بالمحاسبة، وليس هو فراغا عن شغل؛ لأن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن. فهو كقول القائل: لمن يريد تهديده: لأتفرغن لك؛ وما به شغل. وهذا قول ابن عباس

ص: 410

-رضي الله عنهما، وإنما حسن ذكر هذا الفراغ لسبق ذكر الشأن. وقيل: معناه سنقصدكم بعد الترك، والإمهال، ونأخذ في أمركم، فهو كقول القائل الذي لا شغل له: قد فرغت لك. وقيل:

معناه: إن الله وعد أهل التقوى، وأوعد أهل الفجور، فقال: سنفرغ لكم مما وعدناكم، وأخبرناكم، فنحاسبكم، ونجازيكم، فننجز لكم ما وعدناكم، فنتم ذلك، ونفرغ منه، فهو على طريق المثل، والاستعارة، مثل قول الرجل لمن يتهدده: سأفرغ لك، يريد سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني. وأراد بالثقلين: الإنس، والجن، سمّيا ثقلين؛ لأنهما ثقلا على الأرض أحياء، وأمواتا. وقيل: كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه، فهو ثقل، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي» فجعلهما ثقلين إعظاما لقدرهما. وقال جعفر بن محمد الصادق: سمّي الإنس، والجن ثقلين؛ لأنهما مثقلان بالذنوب. هذا؛ وقال:{سَنَفْرُغُ لَكُمْ} فجمع، ثم قال:{أَيُّهَ الثَّقَلانِ} لأنهما فريقان، وكل فريق جمع، وكذا قوله تعالى:{يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} ولم يقل: إن استطعتما؛ لأنهما فريقان في حال الجمع، كقوله تعالى:{فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ} الاية رقم [45] من سورة (النمل)، وقوله تعالى:{هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} الاية رقم [19] من سورة (الحج).

تنبيه: قرأ الجمهور {أَيُّهَ} بفتح الهاء، وبدون ألف، وقرأ ابن عامر بضمها، ووجهه: أن تجعل الهاء من نفس الكلمة، فيكون إعراب المنادى فيها. وضعف أبو علي الفارسي ذلك جدا، وقال: آخر الاسم هو الياء الثانية من (أيّ) فالمضموم ينبغي أن يكون آخر الاسم، ولو جاز ضم الهاء هاهنا لاقترانها بالكلمة لجاز ضم الميم في:(اللهم) لاقترانها بالكلمة في كلام طويل.

والصحيح: أنه إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءة، فليس إلا اعتقاد الصحة في اللغة، فإن القرآن هو الحجة، وأنشد الفراء:[الرجز] يا أيّه القلب اللجوج النّفس

أفق من البيض الحسان اللّعس

وبعضهم يقف: {أَيُّهَ} وبعضهم يقف: (أيها) بالألف؛ لأن علة حذفها في الوصل، إنما هو سكونها وسكون اللام، فإذا كان الوقف ذهبت العلة، فرجعت الألف، وهذا الاختلاف الذي ذكرته، كذلك هو في الاية رقم [31] من سورة (النور):{وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وأيضا الاية رقم [49] من سورة (الزخرف) وهي: {وَقالُوا يا أَيُّهَا السّاحِرُ ادْعُ..} .

إلخ، وقد رسمت الهاء في هذه المواضع الثلاثة بدون ألف، وثبتت في غير هذه المواضع حملا على الأصل، كما تراه في جميع آيات القرآن.

الإعراب: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ:} انظر الاية رقم [13]. {سَنَفْرُغُ:} (السين): حرف استقبال. (نفرغ): فعل مضارع، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {أَيُّهَ:} نكرة مقصودة مبنية

ص: 411

على الضم في محل نصب بأداة النداء المحذوفة والهاء حرف تنبيه لا محل له، أقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه. {الثَّقَلانِ:} نعت ل: (أيّ) أو بدل منه مرفوع تبعا للفظ (أيّ) وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الندائية مستأنفة مثل التي قبلها.

{يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اِسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34)}

الشرح: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ..} . إلخ: أي: إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات، والأرض هاربين من الله، فارين من قضائه، وتخرجوا من ملكه؛ فافعلوا، وقدم الجن على الإنس في هذه الاية؛ لأنهم أقدر على النفوذ، والهرب من الإنس، وأقوى على ذلك، فعلى هذا يكون في الدنيا. وذكر ابن المبارك؛ قال: وأخبرنا جويبر عن الضحاك؛ قال: إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا، فتشققت بأهلها، فتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمرهم الرب، فينزلون إلى الأرض، فيحيطون بالأرض ومن فيها، ثم يأمر الله السماء التي تليها كذلك، فينزلون صفا من خلف ذلك الصف، ثم السماء الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة، فينزل الملك الأعلى في بهائه، وملكه، ومجنبته اليسرى جهنم، فيسمعون زفيرها، وشهيقها، فلا يأتون قطرا من أقطارها إلا وجدوا صفوفا من الملائكة، فذلك قوله تعالى:{يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ..} . إلخ فعلى هذا يكون في الاخرة. انتهى. قرطبي.

أقول: ويؤيده قوله تعالى في سورة (الفجر) الاية رقم [22]: {وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وعلى القول الأول فهو مثل قوله تعالى في سورة (العنكبوت) الاية رقم [22]: {وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ} الاية رقم [22] ويؤيد الأول الايات التالية. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: المعنى إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات وما في الأرض؛ فاعلموه، ولن تعلموه إلا بسلطان؛ أي: ببينة من الله تعالى نصبها لكم، فتعرجون عليها بأفكاركم، وعقولكم.

{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} أي: من التنبيه، والتحذير، والمساهلة، والعفو مع كمال القدرة، أو مما نصب من المصاعد العقلية، والمعارج النقلية، فتنفذون بها إلى ما فوق السموات العلى.

انتهى. بيضاوي. أقول: والذي رفع السموات، وبسط الأرضين بقدرته ما جاب الناس الفضاء في هذه الأيام إلا بهداية الله لهم، وتعليمه إياهم.

بعد هذا ف: (معشر) اسم جمع لا واحد له من لفظه مثل: رهط، ونفر، وأهل

إلخ.

وقال الزمخشري: إن كل ما فاؤه نون وعينه فاء يدل على معنى الخروج، والذهاب، مثل: نفق، ونفذ، ونفخ

إلخ، وانظر شرح (سلطان) في الاية رقم [38] من الذاريات.

ص: 412

فإن قيل: ما الحكمة في تقديم الجن على الإنس هاهنا، وتقديم الإنس على الجن في قوله تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ} الاية رقم [88] من سورة (الإسراء)؟! أجيب: بأن النفوذ من أقطار السموات، والأرض بالجن أليق إن أمكن، والإتيان بمثل القرآن بالإنس أليق إن أمكن، فقدم في كل موضع ما يناسبه. فإن قيل: لم جمع الضمير هنا. وثني في الاية التالية؟ قلت: جمع هنا نظرا إلى معنى الثقلين؛ لأن كلاّ منهما تحته أفراد كثيرة، وثني في ذاك نظرا إلى اللفظ. انتهى. جمل نقلا من كرخي.

تنبيه: ما ذكر في هذه السورة، وفي سورة (الأحقاف)، وسورة:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ..} . إلخ يدل على أن الجن مخاطبون، مكلفون، مأمورون، منهيون، مثابون، معاقبون كالإنس سواء، مؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم، لا فرق بيننا، وبينهم في شيء من ذلك. انتهى. قرطبي.

الإعراب: (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. (معشر): منادى، وهو مضاف، و (الجن) مضاف إليه. {وَالْإِنْسِ:} الواو: حرف عطف. (الإنس): معطوف على ما قبله، والجملة الندائية مستأنفة، لا محل لها. {إِنِ:} حرف شرط جازم. {اِسْتَطَعْتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال لأنها جملة شرط غير ظرفي. {إِنِ:} حرف مصدري، ونصب، واستقبال. {تَنْفُذُوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و (أن) والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به. {مِنْ أَقْطارِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و {أَقْطارِ:} مضاف، و {السَّماواتِ:} مضاف إليه.

{وَالْأَرْضِ:} الواو: حرف عطف. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله. {فَانْفُذُوا:} (الفاء): واقعة في جواب الشرط. (انفذوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، و {إِنِ} الشرطية ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {لا:} نافية.

{تَنْفُذُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية تعليل للأمر، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. {إِلاّ:} حرف حصر.

{بِسُلْطانٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال.

{يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36)}

الشرح: {يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ..} . إلخ: أي: لو خرجتم أرسل عليكم شواظ من نار، وأخذكم العذاب المانع من النفوذ. وقيل: ليس هذا متعلقا بالنفوذ بل أخبر: أنه يعاقب العصاة عذابا

ص: 413

بالنار. وقيل: يحاط على الخلائق بالملائكة، وبلسان من نار، ثم ينادون:{يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} فتلك النار قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ} و (الشواظ) في قول ابن عباس، وغيره:

اللهب الذي لا دخان له. و (النحاس): الدخان الذي لا لهب فيه، والعرب تسمي الدخان نحاسا. روى الطبراني عن الضحاك: أن نافع بن الأزرق، سأل ابن عباس-رضي الله عنهما عن الشواظ، فقال: هو اللهب الذي لا دخان معه، فسأله شاهدا على ذلك من اللغة، فأنشده قول أمية بن أبي الصلت في حسان-رضي الله عنه-قال القرطبي: كذا وقع في تفسير الثعلبي والماوردي: بن أبي الصلت، وفي الصحاح والوقف والابتداء لابن الأنباري: أمية بن خلف.

قال: [الوافر] ألا من مبلع حسّان عني

مغلغلة تدبّ إلى عكاظ؟

أليس أبوك فينا كان قينا

لدى القينات فسلا في الحفاظ؟

يمانيّا يظلّ يشدّ كيرا

وينفخ دائبا لهب الشّواظ

فأجابه حسان-رضي الله عنه-فقال: [الوافر] هجوتك فاختضعت لها بذلّ

بقافية تأجّج كالشّواظ

قال نافع: صدقت؛ فما النحاس؟ قال: هو الدخان الذي لا لهب له، قال: فهل تعرفه العرب؟ قال: نعم أما سمعت قول النابغة الجعدي-رضي الله عنه-يقول: [المتقارب] يضيء كضوء سراج السّلي

ط لم يجعل الله فيه نحاسا

هذا؛ والمغلغلة: الرسالة. وقين: عبد، وفسل: ضعيف عابر. والسليط: الزيت، الذي يوضع في السراج. هذا؛ والنحاس يقرأ بضم النون، وكسرها، وهو أيضا: الطبيعة، والأصل، يقال: فلان كريم النّحاس والنّحاس؛ أي: كريم النّجار والأصل، كما يقرأ شواظ بضم الشين، وكسرها، وهما لغتان. {فَلا تَنْتَصِرانِ:} فلا تمتنعان؛ أي: لا ينصر بعضكم بعضا. والمخاطب:

الجن، والإنس. {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ:} انظر الشرح والإعراب في الاية رقم [13] والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {يُرْسَلُ:} فعل مضارع مبني للمجهول. {عَلَيْكُما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والميم والألف حرفان دالان على التثنية.

{شُواظٌ:} نائب فاعل {يُرْسَلُ،} والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {مِنْ نارٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {شُواظٌ} . {وَنُحاسٌ:} الواو: حرف عطف. (نحاس): معطوف على {شُواظٌ} ويقرأ بالجر عطفا على {نارٍ} . {فَلا:} (الفاء): حرف عطف. (لا): نافية.

ص: 414

{تَنْتَصِرانِ} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وألف الاثنين فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{فَإِذَا اِنْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38)}

الشرح: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ} أي: تصدعت يوم القيامة، فصارت أبوابا لنزول الملائكة، ومثل هذه الاية قوله تعالى في سورة (الحاقة):{وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ،} وقال جل ذكره في سورة (الفرقان): {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} وقال جل وعلا: {إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ،} وقال تبارك وتعالى في سورة (الانفطار): {إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ} .

{فَكانَتْ وَرْدَةً:} فصارت كلون الورد الأحمر. وقيل: أصل لون السماء الحمرة، ولكن ترى الان زرقاء لبعدها، وكثرة الحواجز بيننا، وبينها. {كَالدِّهانِ} أي: تذوب كما يذوب الدّردي، والفضة في السبك، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء، وتارة صفراء، وتارة زرقاء، وتارة خضراء، وذلك من شدة الأمر، وعظيم هول يوم القيامة، وشبهوا ذلك بعروق البدن، وهي حمراء كحمرة الدم، وترى بالحائل زرقاء، فإن كان هذا صحيحا، فإن السماء لقربها من النواظر يوم القيامة، وارتفاع الحواجز ترى حمراء؛ لأنه أصل لونها، وعلى كل حال فالاية فيها تشبيه تمثيلي لا يخفى.

الإعراب: {فَإِذَا:} (الفاء): حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {اِنْشَقَّتِ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {السَّماءُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها.

{فَكانَتْ:} (الفاء): حرف عطف، (كانت): فعل ماض ناقص، والتاء للتأنيث. {وَرْدَةً:} خبر (كانت) واسمها ضمير مستتر تقديره هي يعود إلى (السماء)، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها، وجوابها محذوف التقدير: فما أعظم الهول! وقيل: الجواب قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ..} . إلخ. {كَالدِّهانِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف صفة {وَرْدَةً،} أو بمحذوف حال من اسم (كانت) المستتر، وإن اعتبرت الكاف اسما؛ فالمحل لها على جميع الوجوه، وتكون مضافة، و (الدهان) مضاف إليه.

{فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40)}

الشرح: {فَيَوْمَئِذٍ} أي: فيوم تنشق السماء. {لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ:} قيل: لا يسألون عن ذنوبهم؛ لتعلم من جهتهم؛ لأن الله تعالى قد علمها منهم، وكتبتها الحفظة عليهم.

وهذه رواية عن ابن عباس-رضي الله عنهما. وعنه أيضا: لا تسأل الملائكة المجرمين؛ لأنهم

ص: 415

يعرفون بسيماهم. دليله ما بعده. وعنه أيضا في الجمع بين هذه الاية، وبين قوله تعالى في سورة (الحجر) رقم [92]:{فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ،} وقوله تعالى في سورة (الصافات) رقم [24]: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ} قال: لا يسألهم: هل عملتم كذا، وكذا؛ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكنه يسألهم: لم عملتم كذا، وكذا؟ وعنه أيضا قال: لا يسألون سؤال رحمة، وشفقة، وإنما يسألون سؤال تقريع، وتوبيخ. وقيل: لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم.

وقيل: إنها مواطن، فيسأل في بعضها، ولا يسأل في بعضها. وانظر شرح الايتين في محلهما.

هذا؛ ومفرد إنس: إنسي، ومفرد جان: جني، مثل: زنج زنجي، وقال الزمخشري: فوضع الجانّ الذي هو أبو الجن موضع الجن، كما يقال: هاشم ويراد ولده. انتهى.

هذا؛ وقال قتادة: قد كانت مسألة، ثم ختم على أفواه القوم، وتكلمت أيديهم، وأرجلهم بما كانوا يعملون. انتهى. وانظر الاية رقم [22] من سورة (فصلت). وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه قال: «فيلقى العبد، فيقول: أي فل! ألم أكرمك، وأسوّدك، وأزوّجك، وأسخّر لك الخيل، والإبل، وأذرك ترأس، وتربع؟ فيقول: بلى! فيقول:

أفظننت أنك ملاقيّ؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني، فيقول له: مثل ذلك بعينه، ثم يلقى الثالث، فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا ربّ آمنت بك، وبكتابك، وبرسولك، وصليت، وصمت، وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: هاهنا إذا، ثم يقال له: الان نبعث شاهدنا عليك، فيتفكر في نفسه من هذا الذي يشهد عليّ؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه، ولحمه، وعظامه: انطقي، فتنطق فخذه، ولحمه، وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه». انتهى. قرطبي.

الإعراب: {فَيَوْمَئِذٍ:} (الفاء): حرف استئناف، أو هي واقعة في جواب الشرط، كما رأيت والأول أقوى. (يومئذ): ظرف زمان متعلق بالفعل بعده، (وإذ): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة والتنوين عوض عن جملة محذوفة، انظر تقديرها في الشرح. {لا:} نافية. {يُسْئَلُ:} فعل مضارع مبني للمجهول. {عَنْ ذَنْبِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما مفعوله الثاني، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِنْسٌ:} نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {وَلا:} (الواو): حرف عطف. (لا): صلة لتأكيد النفي، والجملة الفعلية حسب ما ذكرته في الفاء. {فَبِأَيِّ آلاءِ..} . إلخ انظر الاية رقم [13].

{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42)}

الشرح: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ:} قال الحسن: هي سواد الوجوه، وزرقة الأعين. قال تعالى في سورة (طه) رقم [102]:{وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً،} وقال جل وعلا في سورة

ص: 416

(آل عمران) رقم [106]: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} . هذا؛ ويعرف المؤمنون يوم القيامة بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء. {فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ} أي: تأخذ الملائكة بنواصيهم؛ أي:

بشعور مقدم رؤوسهم، وأقدامهم، فيقذفونهم في النار. والنواصي: جمع ناصية. وقال الضحاك: يجمع بين ناصيته، وقدميه في سلسلة من وراء ظهره. وعنه: يؤخذ برجلي الرجل، فيجمع بينهما وبين ناصيته حتى يندق ظهره، ثم يلقى في النار. وقيل: يفعل ذلك به ليكون أشد لعذابه، وأكثر لتشويهه. وقيل: تسحبهم الملائكة إلى النار، تارة تأخذ بناصيته، وتجره على وجهه، وتارة تأخذ بقدميه، وتسحبه على وجهه.

هذا؛ والمراد بالمجرمين في هذه الاية: الكافرون، وكثيرا ما يعبر القرآن الكريم عن الكافرين بالظالمين، والمجرمين، والمعتدين، والفاسقين، والمسرفين ونحو ذلك، ويتهددهم بالعذاب الأليم، ويتوعدهم بالعقاب الشديد، وإننا نجد الكثير من المسلمين يتصفون بهذه الصفات، فهل يوجه إليهم هذا التهديد، وهذا الوعيد؟ الحق أقول: نعم يوجه إليهم ما ذكر، وهم أحق بذلك، ولا سيما من قرأ القرآن منهم، واطلع على أحوال الأمم السابقة، وما جرى لهم مع رسلهم، وكيف نكل الله بهم، وجعلهم عبرة للمعتبرين، وما يتذكر إلا أولو الألباب.

والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {يُعْرَفُ:} فعل مضارع مبني للمجهول. {الْمُجْرِمُونَ:} نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم. {بِسِيماهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:

{يُعْرَفُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَيُؤْخَذُ:} الفاء: حرف عطف. (يؤخذ): فعل مضارع مبني للمجهول. {بِالنَّواصِي:} جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الياء. {وَالْأَقْدامِ:} الواو: حرف عطف. (الأقدام): معطوف على ما قبله. والجملة الفعلية: (يؤخذ

) إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)}

الشرح: {هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي..} . إلخ أي: يقال لهم: هذه النار التي أخبرتم بها، فكذبتم بوجودها، فها هي حاضرة تشاهدونها عيانا. يقال لهم ذلك تقريعا، وتوبيخا، وتحقيرا. ومثل هذه الاية قوله تعالى في سورة (الطور):{هذِهِ النّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ،} وقوله تعالى في سورة (يس) رقم [62]: {هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اِصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} .

{يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} أي: تارة يعذبون في الجحيم، وتارة يسقون من الحميم، وهو

ص: 417

الشراب الذي هو كالنحاس المذاب يقطع الأمعاء، والأحشاء، قال تعالى في سورة (محمد صلى الله عليه وسلم:

{وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ} ومعنى {آنٍ} شديد الحرارة، والمعنى: أنهم يسعون بين الحميم، وبين الجحيم فإذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الاني، الذي صار كالمهل، قال تعالى في سورة (الكهف) رقم [29]:{وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} . هذا؛ وإعلال {آنٍ} مثل إعلال {فانٍ} في الاية رقم [26].

فإن قلت: هذه الأمور المذكورة في هذه الايات من قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ} إلى هنا ليست نعما، فكيف عقبها بقوله:{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟} قلت: المذكور في هذه الايات مواعظ، وزواجر، وتخويف، وكل ذلك نعمة من الله تعالى، لأنها تزجر العبد عن المعاصي، فصارت نعما، فحسن ختم كل آية منها بقوله تعالى:{فَبِأَيِّ آلاءِ..} . إلخ. انتهى. خازن.

هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (الأنبياء): {وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} ومعلوم: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بشيرا لمن آمن، ونذيرا لمن كفر، فجعل الإنذار رحمة، كما جعل التبشير رحمة.

والايات التي نحن بصدد شرحها من هذا القبيل، كما جعل سبحانه، وتعالى التحذير رأفة، فقال:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ} الاية رقم [30] من سورة (آل عمران).

هذا؛ و (بين) ظرف مكان بمعنى: وسط بسكون السين، لا يقع إلا بين متعدد لفظا، وحكما تقول: جلست بين القوم، كما تقول: جلست وسط القوم. هذا؛ والبين: الفراق، والبعاد، وهو أيضا: الوصل، فهو من الأضداد، كالجون يطلق على الأسود، والأبيض. ومن استعماله بمعنى الوصل، ما قرئ به في سورة (الأنعام) رقم [94]:{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} حيث قرئ برفعه، ومن استعماله بمعنى الفراق، والبعاد قول كعب بن زهير-رضي الله عنه-من قصيدته؛ التي مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو الشاهد رقم [809] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط] وما سعاد غداة البين إذ رحلوا

إلاّ أغنّ غضيض الطّرف مكحول

الإعراب: {هذِهِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {جَهَنَّمُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: فيقال لهم: هذه جهنم، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{يُعْرَفُ..} . إلخ لا محل لها مثلها. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة {جَهَنَّمُ} . {يُكَذِّبُ:}

فعل مضارع. {بِهَا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْمُجْرِمُونَ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {يَطُوفُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {الْمُجْرِمُونَ،} والرابط: الضمير فقط، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها. {بَيْنَها:} ظرف مكان

ص: 418

متعلق بالفعل قبله، (وها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {وَبَيْنَ:} الواو: حرف عطف.

(بين): معطوف على ما قبله، وهو مضاف، و {حَمِيمٍ} مضاف إليه. {آنٍ:} صفة {حَمِيمٍ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين. {فَبِأَيِّ آلاءِ..} .

إلخ: انظر إعرابها في الاية رقم [13].

{وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49)}

الشرح: {وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ} يعني: جنة عدن، وجنة النعيم. وقيل: جنة بخوفه ربه، وجنة بتركه شهوته. وقيل: إن الجنتين جنته التي خلقت له وجنة يرثها من الكافر. وقيل: إحدى الجنتين منزله، والأخرى منزل أزواجه، كما يفعله رؤساء الدنيا. وقيل: إحدى الجنتين مسكنه، والأخرى بستانه. وقال الزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنسفي: جنة للخائف الإنسي، وجنة للخائف الجني، فإن الخطاب للفريقين، والمعنى لكل خائفين منكما، أو لكل واحد جنة لعقيدته، وأخرى لعمله. أو جنة لفعل الطاعات، وأخرى لترك المعاصي. أو جنة يثاب بها، والأخرى يتفضل بها عليه. أو روحانية، وجسمانية، وكذا ما جاء مثنى بعد.

هذا؛ وجاء في أسباب النزول للسيوطي عن عطاء: أن أبا بكر-رضي الله عنه-ذكر ذات يوم القيامة، والموازين، والجنة، والنار، فقال: وددت أني كنت خضراء من هذه الخضر، تأتي عليّ بهيمة، وتأكلني، وأني لم أخلق، فنزلت:{وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ} .

{ذَواتا أَفْنانٍ} أي: أغصان، واحدها: فنن، وهو الغصن المستقيم طولا. قال النابغة:[الوافر] بكاء حمامة تدعو هديلا

مفجّعة على فنن تغنّي

وقال شاعر آخر: [البسيط] ما هاج شوقك من هديل حمامة

تدعو على فنن الغصون حماما

تدعو أبا فرخين صادف طائرا

ذا مخلبين من الصّقور قطاما

وقال آخر يصف طائرين: [البسيط] باتا على غصن بان في ذرى فنن

يردّدان لحونا ذات ألوان

وخص الأفنان بالذكر؛ لأنها هي التي تورق وتثمر، ومنها تمتد الظلال، ومنها تجتنى الثمار.

والفنن: جمعه أفنان، ثم أفانين. وقيل: المعنى: ذواتا ظلال، وهو ظل الأغصان على الحيطان. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: ذواتا ألوان، يعني: ألوان الفاكهة؛ أي: له فيهما ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين. قال الشاعر:[الطويل]

ص: 419

ومن كلّ أفنان اللذاذة والصّبا

لهوت به والعيش أخضر ناضر

وجمع عطاء بين القولين: فقال: في كل غصن فنون من الفاكهة. ومعنى {مَقامَ رَبِّهِ:} موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب. أو المعنى: وقوف العبد بين يدي الله تعالى في يوم القيامة لعلمه بأنه راجع إليه تعالى في ذلك اليوم الذي يفر المرء فيه من أخيه، وأمه، وأبيه، وصاحبته، وبنيه؛ لأن المقام للعبد، لا لله؛ لتنزهه عن المكان، وأضيف إليه تعالى؛ لملابسته له تعالى من حيث كونه بين يديه، ومقاما لحسابه.

هذا؛ و {مَقامَ} قرئ به في سورة (الدخان) بفتح الميم، وضمها. وقال الكسائي: المقام:

المكان. والمقام: الإقامة. وقال الجوهري: وأما المقام، والمقام؛ فقد يكون كل واحد منهما بمعنى: الإقامة، وقد يكون بمعنى: موضع القيام؛ لأنك إن جعلته من الثلاثي؛ فمفتوح، وإن جعلته من الرباعي؛ فمضموم، ويمكن أن يكون مصدرا ميميا، ويقدر فيه المضاف؛ أي: في موضع إقامة. هذا؛ وأصله (مقوم) فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى القاف قبلها.

ثم قل: تحركت الواو بحسب الأصل، وانفتح ما قبلها الان، فقلبت ألفا.

هذا؛ والخوف من الله شعار المقربين، وقرين المهتدين الصالحين، وهو بشير النجاة، والأمان الأكبر عند الله، وهو طريق لهداية القلوب النافرة، وسبيل لسلوك النفوس الحائرة، من استضاء بنوره؛ وصل، ومن تمسك بحبله؛ رشد، ومن أخذ نفسه به؛ هدي إلى صراط مستقيم، من خاف؛ سلم، ومن أطاع مولاه؛ غنم، ومن خاف ربه، وخشي ذنبه؛ استقام، واهتدى؛ لأنه علم: أن العمل اليوم، وأن الحساب غدا، لذلك كان الخوف من الله طريق الأنبياء، وحلية الأصفياء من الأتقياء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ الناس خوفا من ربه مع شدة قربه من خالقه، فكان يختلي وحده، ويقول:«لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذّذتم بطعام، ولا بشراب، ولا جلستم إلى نساء في فراش، ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون، وتدعون إلى الله حتى تلقوه» . وكان يجمع أصحابه، ويخوفهم في الله، ويقول لهم:«لا أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي، ولا بكم غدا» . وانظر ما ذكرته في سورة: (النجم) رقم [60] وخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه-جل وعلا-: أنه قال:

«وعزّتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين، وأمنين! إذا خافني في الدّنيا؛ أمّنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدّنيا؛ أخفته في الاخرة» . رواه ابن حبان في صحيحه. وعن واثلة بن الأسقع-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خاف الله عز وجل خوّف الله منه كلّ شيء، ومن لم يخف الله؛ خوّفه الله من كلّ شيء» . رواه أبو الشيخ في كتاب الثواب. ولا تنس قوله تعالى في سورة (النازعات): {فَأَمّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى}

ص: 420

{النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى} هذا؛ ولما ذكر الله أحوال أهل النار؛ ذكر ما أعده للأبرار، وهذا من باب المقابلة. انظر ما ذكرته في الاية رقم [15] من سورة (الذاريات).

الإعراب: {وَلِمَنْ:} (الواو): حرف استئناف. (لمن): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {خافَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من) وهو العائد. {مَقامَ:} مفعول به، وهو مضاف، و (ربه) مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {جَنَّتانِ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {ذَواتا:} صفة {جَنَّتانِ،} أو خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هما ذواتا، فهو مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، و {ذَواتا} مضاف، و {أَفْنانٍ} مضاف إليه، والجملة الاسمية المقدرة:«هما ذواتا أفنان» في محل رفع صفة {جَنَّتانِ} . {فَبِأَيِّ آلاءِ..} . إلخ: انظر الإعراب في الاية رقم [13].

{فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53)}

الشرح: {فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ} أي: في الجنتين المذكورتين عينان تجريان بالماء الزلال إحداهما: التسنيم، والأخرى: السلسبيل. قاله ابن عباس، والحسن. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: عينان مثل الدنيا أضعافا مضاعفة، حصباؤهما الياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر، وترابهما الكافور، وحمأتهما المسك الأذفر، وحافتاهما الزعفران. وانظر أنواع الأنهار وماءها في الاية رقم [15] من سورة (محمد صلى الله عليه وسلم. وقال أبو بكر الوراق:{فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ،} لمن كانت عيناه تجريان في الدنيا من مخافة الله عز وجل، وخذ ما يلي:

عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلّ عين باكية يوم القيامة إلاّ عين غضّت عن محارم الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين خرج منها مثل الذباب من خشية الله عز وجل» . رواه الأصبهاني.

{فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ} أي: صنفان، وكلاهما حلو يستلذ به. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: ما في الدنيا شجرة حلوة، ولا مرة، إلا وهي في الجنة؛ حتى الحنظل إلا أنه حلو.

وقيل: ضربان: رطب، ويابس، لا يقصر هذا عن ذلك في الفضل، والطيب. وقيل: أراد تفضيل هاتين الجنتين على الجنتين اللتين دونهما، فإنه ذكرها هنا عينين جاريتين، وذكر هناك عينين تنضخان بالماء، والنضخ دون الجري، فكأنه قال: في تينك الجنتين من كل فاكهة نوع، وفي هذه الجنة من كل فاكهة نوعان.

ص: 421

هذا؛ و {عَيْنانِ} تثنية: عين، وتطلق على الماء الجاري، أو النابع من الأرض، كما رأيت، وجمعها في القلة: أعين، وفي الكثرة: عيون. قال تعالى في سورة (الذاريات) وغيرها: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ} وتجمع أيضا في الكثرة: أعيان، وهذا غير مشهور، وقليل الاستعمال، كما تطلق العين على العين الباصرة، وهو أشهر، وأكثر ما تستعمل في ذلك، كما تطلق على الجاسوس، كما في قولك: بث الأمير عيونه في المدينة؛ أي: جواسيسه، كما تطلق على ذات الشخص، كما في قولك: جاء محمود عينه. وتطلق على الشمس، وعين الشيء: خياره، وتطلق على النقد من ذهب، وغيره، وإليك قول الشاعر:[البسيط] واستخدموا العين مني وهي جارية

وقد سمحت بها أيّام وصلهم

فالمراد بالعين نفسه وذاته، والمراد ب:«جارية» عينه الباصرة التي تجري بالدمع، والمراد بقوله (بها) نقد الذهب، وهذا يسمى في فن البديع: استخداما. وتطلق العين على أشياء كثيرة، وعلى المطر الهاطل من السحاب، قال عنترة في معلقته رقم [29] وهو الشاهد رقم [359] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الكامل] جادت عليه كلّ عين ثرّة

فتركن كلّ حديقة كالدّرهم

هذا؛ وأعيان القوم: أشرافهم، وبنو الأعيان: الإخوة من الأبوين.

الإعراب: {فِيهِما:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والميم، والألف حرفان دالان على التثنية. {عَيْنانِ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{تَجْرِيانِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والألف ضمير متصل في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية في محل رفع صفة {عَيْنانِ}. {فِيهِما:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {مِنْ كُلِّ:}

متعلقان بمحذوف حال من {زَوْجانِ} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» و {كُلِّ} مضاف، و {فاكِهَةٍ} مضاف إليه. {زَوْجانِ:} مبتدأ مؤخر مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية مستأنفة.

{مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55)}

الشرح: {مُتَّكِئِينَ} أي: مضطجعين، أو متربعين، وفي القاموس: توكأ عليه: تحامل، واعتمد. واتكأ: جعل له متّكأ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«أمّا أنا فلا آكل متّكئا» أي: جالسا جلوس المتمكن

ص: 422

المتربع، ونحوه من الهيئات المستدعية لكثرة الأكل، بل كان جلوسه صلى الله عليه وسلم للأكل مستوفزا، مقعيا غير متربع، ولا متمكن، وليس المراد الميل على شق، كما يظنه عوام الطلبة.

{عَلى فُرُشٍ:} جمع فراش. {بَطائِنُها:} جمع بطانة، وهي التي تحت الظهارة. هذا؛ وبطانة الرجل: هو الذي يطلعه الرجل على أسراره ثقة به، قال تعالى في سورة (آل عمران) رقم [118]:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ..} . إلخ. {مِنْ إِسْتَبْرَقٍ:} هو ما غلظ من الديباج، والسندس هو الرقيق من الديباج، واحده: سندسة، والإستبرق موشى بالذهب، واحده:

إستبرقة. وهل هو عربي الأصل مشتق من البريق، أو هو معرب، أصله: إستبره؟ خلاف بين اللغويين، وفي سورة (الكهف) رقم [31]:{وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} .

هذا؛ وقال ابن مسعود، وأبو هريرة-رضي الله عنهما: إذا كانت البطانة التي تلي الأرض هكذا، فما ظنك بالظهارة؟ وقيل لسعيد بن جبير-رضي الله عنه: البطائن من إستبرق؛ فما الظواهر؟ قال: هذا مما قال الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} . وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إنما وصف لكم بطائنها؛ لتهتدي إليه قلوبكم، فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال «ظواهرها نور يتلألأ» . وهذا يدل على نهاية شرف هذه الفرش؛ لأنه ذكر: أن بطائنها من إستبرق، ولا بد أن تكون الظهائر خيرا من البطائن، فهو مما لا يعلمه البشر.

{وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ:} الجنى: ما يجتنى من الشجر. يقال: «أتانا بجناة طيبة» لكل ما يجتنى، وثمر جنيّ (على فعيل) حين جني. قال عمرو بن عدي اللخمي ابن أخت جذيمة الأبرش:[الرجز] هذا جناي وخياره فيه

إذ كلّ جان يده إلى فيه

و {دانٍ} قريب. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: تدنو الشجرة؛ حتى يجتنيها ولي الله إن شاء قائما، وإن شاء قاعدا، وإن شاء مضطجعا، لا يرد يده بعد، ولا شوك. وخذ قوله تعالى في سورة (الحاقة):{قُطُوفُها دانِيَةٌ،} وفي سورة (الدهر): {وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً} .

هذا؛ وإعلال {دانٍ} مثل إعلال {فانٍ} في الاية رقم [26] مع العلم: أن أصله: (دانو)؛ لأنه من: دنا، يدنو، فهو واوي بخلاف {فانٍ} فإنه يائي من: فنى، يفنى.

الإعراب: {مُتَّكِئِينَ:} حال عامله محذوف، التقدير: يتنعمون، فهو حال من واو الجماعة، أو هو حال من: الخائفين؛ لأنّ: (من خاف) في معنى الجمع. وقيل: هو منصوب على المدح للخائفين بفعل محذوف. وفاعله مستتر فيه؛ لأنه جمع: متكئ. {عَلى فُرُشٍ:} جار ومجرور متعلقان ب: {مُتَّكِئِينَ} . {بَطائِنُها:} مبتدأ، و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مِنْ إِسْتَبْرَقٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل جر صفة {فُرُشٍ} .

{وَجَنَى:} (الواو): حرف استئناف. (جنى): مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف

ص: 423

للتعذر، و (جنى) مضاف، و {الْجَنَّتَيْنِ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {دانٍ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال؛ ففيه ضعف ظاهر. وقيل: معطوفة على ما قبلها.

{فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57)}

الشرح: {فِيهِنَّ:} في الجنتين المذكورتين. قال الزجاج: وإنما قال: {فِيهِنَّ} ولم يقل:

فيهما؛ لأنه عنى الجنتين، وما أعد لصاحبهما من النعيم. وقيل:{فِيهِنَّ} يعود على الفرش التي بطائنها من إستبرق؛ أي: في هذه الفرش.

{قاصِراتُ الطَّرْفِ:} قصرن أعينهن على أزواجهن لا يرين ولا ينظرن غيرهم. قال ابن زيد -رحمه الله تعالى-: تقول الواحدة منهن لزوجها: وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك، فالحمد لله الذي جعلك زوجي، وجعلني زوجتك. فقاصرات اسم فاعل من قولهم: اقتصر على كذا إذا اقتنع به، وعدل عن غيره. قال امرؤ القيس:[الطويل] من القاصرات الطّرف لو دبّ محول

من الذّرّ فوق الإتب منها لأثّرا

ويروى (فوق الخدّ) والأول أبلغ، والإتب القميص، والمحول الصغير من الذر، وأما الطرف فهو تحريك جفن العين؛ إذا نظرت، فوضع موضع النظر، ولما كان الناظر موصوفا بإرسال الطرف في نحو قول الشاعر:[الطويل] وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا

لقلبك يوما أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كلّه أنت قادر

عليه ولا عن بعضه أنت صابر

وقد وصف آصف سليمان برد الطرف، ووصف الطرف بالارتداد بقوله تعالى حكاية عن قول آصف:{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} في الاية رقم [40] من سورة (النمل) وقد يراد بالطرف الجفن خاصة كما في قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي: [الطويل] أشارت بطرف العين خيفة أهلها

إشارة محزون ولم تتكلّم

فأيقنت أنّ الطرف قد قال: مرحبا

وأهلا وسهلا بالحبيب المتيّم

هذا؛ وفي المختار: الطرف: العين، ولا يثنى، ولا يجمع؛ لأنه في الأصل مصدر، فيكون واحدا جمعا، قال تعالى:{لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ} الاية رقم [43] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. ومثله قولهم: قوم عدل وصوم.

ص: 424

{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} أي: لم يجامعهن قبل أزواجهن هؤلاء أحد. والطمث:

الافتضاض، وهو النكاح بالتّدمية، وطمث، يطمث من الباب الأول، والثاني طمثا إذا افتضها، ومنه قيل: امرأة طامث؛ أي: حائض، والطمث: الحيض، ومن الأول قول الفرزدق:[الوافر] خرجن إليّ لم يطمثن قبلي

وهنّ أصحّ من بيض النعام

فبتن بجانبيّ مصرّعات

وبتّ أفضّ أغلاق الختام

وعن الفرزدق: أن سليمان بن عبد الملك لما سمع البيتين، قال له: قد وجب عليك الحد يا فرزدق! قال: يا أمير المؤمنين قد درأ الله عنّي الحد بقوله: {وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ} الايات من آخر سورة (الشعراء). وفي هذه الاية دليل على أن الجني يجامع الإنسي، وتدخل الجنّ الجنة. وسئل ضمرة بن حبيب: هل للجن ثواب؟ فقال: نعم، وقرأ هذه الاية، ثم قال الإنسيات للإنس، والجنيات للجن. وقال مجاهد في هذه الاية: إذا جامع الرجل المسلم، ولم يسم انطوى الجني على إحليله، فجامع معه، أقول: وقد بينات هذا في سورة (الإسراء) رقم [64].

واختلف في هؤلاء اللواتي لم يطمثن، فقيل: هن الحور العين؛ لأنهن خلقن في الجنة لم يمسهن أحد قبل أزواجهن. وقيل: إنهن من نساء الدنيا، أنشئن خلقا آخر أبكارا، كما وصفهن لم يمسهن منذ أنشئن خلقا آخر أحد. وقيل: هن الادميات اللاتي متن أبكارا. ومعنى الاية المبالغة في نفي الطمث عنهن؛ لأن ذلك أقر لأعين أزواجهن إذا لم يغشهن أحد غيرهم. وانظر ما أذكره في سورة (الواقعة). هذا؛ وقد ذكرت فيما مضى: أن أبا حنيفة-رحمه الله تعالى-يقول: إن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة، وإن جزاءهم على طاعاتهم عدم دخول النار فبعد حضورهم الموقف يوم القيامة، ومحاسبتهم يصيرون ترابا كالبهائم. والمعتمد الأول. وبالله التوفيق وبه أستعين.

هذا؛ والإنس: البشر، الواحد: إنسي بكسر الهمزة فيهما، وجمع الإنسي: أناس، كما في قوله تعالى في سورة (الإسراء) رقم [71]:{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ..} . إلخ، وأناسيّ، كما في قوله تعالى في سورة (الفرقان):{وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً} ويقال: أناسية، مثل: صيارفة وصياقلة. هذا؛ وسمي بنو آدم إنسا لظهورهم، وأنهم يؤنسون؛ أي: يبصرون، كما سمي الجن جنا لاجتنانهم؛ أي: لاختفائهم عن أعين البشر، وسمّي بنو آدم بشرا لبدوّ بشرتهم، كما رأيت في الاية رقم [24] من سورة (القمر)، وانظر شرح {النّاسَ} في الاية رقم [24] من سورة (الحديد). والله أعلم بمراده.

الإعراب: {فِيهِنَّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {قاصِراتُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {الطَّرْفِ} مضاف إليه، من إضافة اسم

ص: 425

الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَطْمِثْهُنَّ:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ} والهاء مفعول به، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {إِنْسٌ} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من المحذوف الموصوف ب:{قاصِراتُ،} أو في محل رفع صفة ثانية للموصوف المحذوف؛ إذ أصل الكلام: فيهن نساء قاصرات

إلخ.

{قَبْلَهُمْ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَلا:} (الواو):

حرف عطف. (لا): نافية، ويقال: صلة لتأكيد النفي. {جَانٌّ:} معطوف على ما قبله. {فَبِأَيِّ آلاءِ..} . إلخ: انظر إعرابها في الاية رقم [13].

{كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)}

الشرح: {كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ:} أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان، وهو صغار اللؤلؤ وأشده بياضا. وقيل: شبه لونهن ببياض اللؤلؤ مع حمرة الياقوت؛ لأن أحسن الألوان البياض المشوب بحمرة، والأصح: أنه شبههن بالياقوت لصفائه؛ لأنه حجر لو أدخلت فيه سلكا، ثم استصفيته؛ لرأيت السلك من ظاهره لصفائه. وقال عمرو بن ميمون: إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة، فيرى مخ ساقها من وراء الحلل، كما يرى الشراب الأحمر من الزجاجة البيضاء. يدل على صحة ذلك ما روي عن ابن مسعود-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنّ المرأة من نساء أهل الجنّة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلّة حتّى يرى مخّها، وذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ} فأما الياقوت؛ فإنّه حجر لو أدخلت فيه سلكا، ثمّ استصفيته لأريته من ورائه» . أخرجه الترمذي. وقد روي عن ابن مسعود بمعناه، ولم يرفعه، وهو أصح. انتهى. خازن. والياقوت جوهر نفيس أحمر اللون، يقال: إن النار لا تؤثر فيه، قال بعضهم:[الخفيف] ألقني في لظى فإن غيّرتني

فتيقّن أن لست بالياقوت

ومن خواصه: أنه يقطع جميع الحجارة إلا الماس، فإنه يقطعه لصلابته، وقلة مائه، وشدة الشعاع، والثقل والصبر على النار. ففي الاية الكريمة تشبيه مرسل لوجود الأداة، أما وجه الشبه؛ فهو الصفاء، والبريق، واللمعان.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر» . زاد في رواية: «ثمّ الذين يلونهم على أشدّ كوكب درّي في السماء إضاءة، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون، آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ومجامرهم الألوّة، ورشحهم المسك، ولكلّ واحد منهم زوجتان، يرى مخ سوقهما من

ص: 426

وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا». متفق عليه. وللبخاري: قلوبهم على قلب رجل واحد. وزاد فيه: «ولا يسقمون» .

مجامرهم الألوة يعني: بخورهم العود. هذا؛ والياقوت جوهر نفيس، يقال: إن النار لا تؤثر فيه، ومن المعلوم: أن الياقوت أحمر اللون. فهذا التشبيه يقتضي: أن لون أهل الجنة البياض المشرب بحمرة، فبينا في المقرر المعلوم من أنه البياض المشرب بصفرة. وعن أم سلمة-رضي الله عنها-قالت: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن قوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ} قال:

«صفاؤهن كصفاء الدرّ، الذي في الأصداف، الذي لا تمسّه الأيدي» .

{هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ} أي: ما جزاء من أحسن العمل في الدنيا إلا أن يحسن الله إليه في الاخرة بدخول الجنة، والرضا عنه، كما قال تعالى في سورة (يونس) رقم [26]:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ،} وقال في سورة (النجم) رقم [31]: {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} . وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الاية فقال: «يقول الله: هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي، وحظيرة قدسي برحمتي» .

وقال محمد بن الحنفية، والحسن البصري-رضي الله عنهما: هي مسجلة للبر، والفاجر؛ أي: مرسلة، يعني أن كل من أحسن أحسن الله إليه، وكل من أساء أسيء إليه، وخذ قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو من شواهد النحو على حذف كان مع اسمها، أو على حذفها مع خبرها فمن الأول:

«الناس مجزيّون بأعمالهم، إن خيرا؛ فخير وإن شرا فشرّ» . أي: إن كان عملهم خيرا؛ فجزاؤهم خير، وإن كان عملهم شرا؛ فجزاؤهم شرّ. ومن الثاني وهي رواية أخرى:«إن خير فخيرا، وإن شرّ فشرا» . أي: إن كان في عملهم خير فسيجزون خيرا. وإن كان في عملهم شر فسيجزون شرا. ولا تنس جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام لما سأله عن الإحسان، فقال له:

«الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» .

بعد هذا ف: «هل» تأتي على أوجه: تكون بمعنى قد، كما في قوله تعالى في سورة (الإنسان) رقم [1]:{هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ..} . إلخ، وتكون بمعنى الاستفهام، كقوله تعالى:{فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا..} . إلخ رقم [44] من سورة (الأعراف)، وتكون بمعنى الأمر، كقوله تعالى:

{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} رقم [91] من سورة (المائدة)، وتكون بمعنى التمني، كما في قوله تعالى:

{فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا} رقم [53] من سورة (الأعراف)، وتكون بمعنى النفي كما في قوله تعالى:{فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} رقم [35] من سورة (النحل)، والنفي في الاية التي نحن بصدد شرحها لا يخفى، وانظر مبحث {هَلْ} وشواهدها في كتابنا:«فتح القريب المجيب» .

الإعراب: {كَأَنَّهُنَّ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {الْياقُوتُ:} خبر (كأنّ)، والجملة الاسمية في محل رفع صفة للموصوف ب:{قاصِراتُ}

ص: 427

وهو محذوف، أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، التقدير: مشبهات الياقوت

إلخ. {وَالْمَرْجانُ:} الواو: حرف عطف. (المرجان): معطوف على ما قبله. {هَلْ:} حرف استفهام بمعنى (ما) النافية. {جَزاءُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {الْإِحْسانِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله. {إِلاَّ:} حرف حصر. {الْإِحْسانِ:} خبر المبتدأ، وهو في المعنى فاعل بالمصدر {جَزاءُ}. تأمل. وانظر إعراب:{فَبِأَيِّ آلاءِ..} . إلخ في الاية رقم [13]. والجملة:

{هَلْ جَزاءُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65)}

الشرح: {وَمِنْ دُونِهِما} أي: ومن دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ومن دونهما في الدّرج. وقال ابن زيد: ومن دونهما في الفضل. وقال أبو موسى الأشعري-رضي الله عنه: جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من فضة للتابعين. وقال ابن جريج: هن أربع جنان: جنتان للمقربين السابقين، فيهما من كل فاكهة زوجان. وجنتان لأصحاب اليمين، والتابعين فيهما فاكهة، ونخل، ورمان. وعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«جنتان من فضة آنيتهما، وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما، وما فيهما، وما بين القوم، وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» .

وقال الكناني: {وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ} يعني: أمامهما وقبلهما، يدل عليه قول الضحاك:

الجنتان الأوليان من ذهب، وفضة، والجنتان الأخريان من ياقوت، وزبرجد، وهما أفضل من الأوليين، انتهى. خازن وغيره، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

{مُدْهامَّتانِ} أي: خضراوان، أو سوداوان من ريهما، وشدة خضرتهما؛ لأن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد، والدهمة في اللغة السواد، يقال: فرس أدهم، وبعير أدهم، وناقة دهماء؛ أي: اشتدت زرقته حتى ذهب البياض الذي فيه، والعرب تقول لكل أخضر: أسود، قال لبيد-رضي الله عنه-يرثي قتلى هوازن:[الطويل] وجاؤوا به في هودج ووراءه

كتائب خضر في نسيج السّنوّر

ويعني (به) قتادة بن مسلمة الحنفي، والسنور: لبوس من قدّ كالدرع. وسميت قرى العراق سوادا لكثرة خضرتها، ويقال للّيل المظلم: أخضر، ويقال: أباد الله خضراءهم؛ أي: سوادهم.

هذا؛ والجنة في الأصل: البستان الكثير الأشجار، وسميت بذلك؛ لأنها تجن؛ أي: تستر من يدخل فيها لكثرة أشجارها، وكثافتها، قال أبو عمر الداني: ولا أعلم كلمة هي وحدها آية إلا قوله تعالى في سورة (الرحمن): {مُدْهامَّتانِ} .

ص: 428

الإعراب: {وَمِنْ:} (الواو): حرف عطف، أو حرف استئناف. (من دونهما): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {جَنَّتانِ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية لا محل لها على الوجهين المعتبرين في الفاء. {مُدْهامَّتانِ:} صفة {جَنَّتانِ} مرفوع مثله

إلخ، وانظر إعراب قوله تعالى:{فَبِأَيِّ آلاءِ..} . إلخ في الاية [13].

{فِيهِما عَيْنانِ نَضّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69)}

الشرح: {فِيهِما عَيْنانِ نَضّاخَتانِ} أي: فوارتان بالماء، قاله ابن عباس-رضي الله عنهما.

والنضخ بالخاء أكثر من النضح بالحاء، والجري أقوى من النضخ، وقال ابن عباس، والضحاك:

تنضخان بالخير والبركة على أهل الجنة. وقال ابن مسعود، وابن عباس وأنس-رضي الله عنهم:

تنضخان بالمسك، والكافور، والعنبر على أولياء الله في دور الجنة كطش المطر. وقيل: المعنى:

ممتلئتان، ولا تنقطعان. {فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ:} أفردهما بالذكر لشرفهما على غيرهما، كقوله تعالى في التنويه بشأن الصلاة الوسطى:{حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى} رقم [238] من سورة (البقرة)، وكقوله في التنويه بشأن جبريل وميكائيل:{مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ} الاية رقم [97] من سورة (البقرة). وقال بعض العلماء: ليس الرمان، والنخل من الفاكهة؛ لأن الشيء لا يعطف على نفسه، وإنما يعطف على غيره، وهذا ظاهر الكلام. وقيل: إنما أفردهما بالذكر؛ لأن النخل، والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البر عندنا؛ لأن النخل عامة قوتهم، والرمان كالثمرات، فكان يكثر غرسهما عندهم لحاجتهم إليهما، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثمار التي يعجبون بها، فإنما ذكر الفاكهة، ثم ذكر النخل والرمان لعمومهما وكثرتهما عندهم من المدينة إلى مكة، إلى ما والاها من أرض اليمن، فأخرجهما في الذكر من الفواكه، وأفرد الفواكه على حدتها. وقيل: أفردا بالذكر؛ لأن النخل ثمرة فاكهة، وطعام، والرمان فاكهة، ودواء، فلم يخلصا للتفكه، ولذا قال أبو حنيفة-رحمه الله تعالى-: إذا حلف أن لا يأكل فاكهة، فأكل رمانا، أو رطبا؛ لم يحنث. وخالفه صاحباه، والناس في ذلك.

هذا؛ وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«نظرت إلى الجنّة فإذا الرّمّانة من رمّانها كالبعير المقتّب» وفي بعض الأخبار: نخل الجنة نضيد، من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وإن ماءها ليجري في غير أخدود، والعنقود اثنا عشر ذراعا.

ص: 429

وعن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-قال: جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد! أفي الجنة فاكهة؟ قال: «نعم فيها فاكهة ونخل ورمّان» قالوا: أفيأكلون كما يأكلون في الدنيا؟ قال: «نعم وأضعاف» . قالوا: فيقضون الحوائج؟ قال: «لا؛ ولكنّهم يعرقون، ويرشحون فيذهب ما في بطونهم من أذى» أخرجه عبد بن حميد في مسنده. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {فِيهِما:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {عَيْنانِ:} مبتدأ مؤخر. {نَضّاخَتانِ:} صفة {عَيْنانِ} مرفوع مثله، وعلامة الرفع فيهما الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {فِيهِما:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {فاكِهَةٌ:} مبتدأ مؤخر، وما بعده معطوف عليه، والجملة الاسمية مستأنفة مثل التي قبلها، لا محل لها، وانظر إعراب:{فَبِأَيِّ آلاءِ..} . إلخ في الاية رقم [13].

{فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74)}

الشرح: {فِيهِنَّ} أي: في الجنان الأربع. {خَيْراتٌ حِسانٌ:} عن أم سلمة-رضي الله عنها قالت قلت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن قوله تعالى: {خَيْراتٌ حِسانٌ} قال: «خيرات الأخلاق حسان الوجوه» . رواه الطبراني في الكبير، والأوسط، وإذا كان الله قد وصفهن بكرم الأخلاق وحسن الوجوه؛ فمن هذا الذي يعرف مقدار ذلك.

وفي الحديث: «إن الحور يأخذ بعضهن بأيدي بعض، ويتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بأحسن منها، ولا بمثلها: نحن الراضيات، فلا نسخط أبدا، ونحن المقيمات، فلا نظعن أبدا، ونحن الخالدات، فلا نموت أبدا، ونحن الناعمات، فلا نبؤس أبدا، ونحن خيرات حسان حبيبات لأزواج كرام» . خرجه الترمذي بمعناه من حديث علي-رضي الله عنه. وقالت عائشة رضي الله عنها: إن الحور العين إذا قلن هذه المقالة أجابهن المؤمنات من نساء أهل الدنيا:

نحن المصليات، وما صليتنّ، ونحن الصائمات، وما صمتنّ، ونحن المتوضئات، وما توضأتنّ، ونحن المتصدقات، وما تصدقتنّ. فقالت عائشة-رضي الله عنها: فغلبنهنّ والله!.

{حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ:} {مَقْصُوراتٌ:} محبوسات، مستورات، {فِي الْخِيامِ:} في الحجال لسن بالطوافات في الطرق. هذا؛ وقد قال تعالى في الأوليين: {فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ} أي قصرن طرفهن على الأزواج، ولم يذكر: أنهن مقصورات، فدل على أن المقصورات أعلى،

ص: 430

وأفضل. وفي الصحاح: وقاصرات الشيء، أقصره قصرا: حبسته، وامرأة قصيرة، وقصورة؛ أي:

مقصورة في البيت بمعنى: مخدرة لا تترك أن تخرج، قال كثير عزة يخاطبها:[الطويل] وأنت التي حبّبت كلّ قصيرة

إليّ وما تدري بذاك القصائر

عنيت قصيرات الحجال ولم أرد

قصار الخطى شرّ النّساء البحاتر

{فِي الْخِيامِ:} جمع: خيمة، قيل: خيام الجنة من درّ ولؤلؤ، وزبرجد، مجوف، تضاف إلى القصور في الجنة. وعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إنّ للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوّفة، طولها في السماء ستّون ميلا، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضا» . رواه البخاري، ومسلم، والترمذي.

{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ..} . إلخ: انظر الاية رقم [56].

الإعراب: {فِيهِنَّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {خَيْراتٌ:} مبتدأ مؤخر. {حِسانٌ:} صفة {خَيْراتٌ،} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {حُورٌ:} بدل من {خَيْراتٌ،} أو هو مبتدأ خبره محذوف، التقدير: فيهن حور، وعليه فالجملة الاسمية مستأنفة مثل سابقتها، لا محل لها. {مَقْصُوراتٌ:} صفة {حُورٌ} . {فِي الْخِيامِ:} متعلقان ب: {مَقْصُوراتٌ} . {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ..} . إلخ انظر إعرابها في الاية رقم [56].

والجملة الفعلية في محل رفع صفة ثانية ل: {حُورٌ،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه، بما تقدم، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلست مفندا.

{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اِسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)}

الشرح: {مُتَّكِئِينَ:} انظر الاية رقم [54]. {عَلى رَفْرَفٍ:} الرفرف: رياض الجنة. {خُضْرٍ:}

مخصبة، ويروى هذا عن ابن عباس-رضي الله عنهما. وقيل: إن الرفرف البسط. وقيل: الفرش المرتفعة. وقيل: كل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف، قال ابن مقبل:[الطويل] وإنا لنزّالون تغشى نعالنا

سواقط من أصناف ريط ورفرف

وقال عاصم الجحدري: الرفرف: الوسائد، وهو قول الحسن البصري. هذا؛ وقال الترمذي:

فالرفرف أعظم خطرا من الفرش، فذكر في الأوليين:{مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} وقال هنا: {مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} فالرفرف هو شيء إذا استوى عليه الولي رفرف به؛ أي: طار به هكذا وهكذا حيث ما يريد كالمرجاح. هذا؛ ورفرف اسم للجمع، فلذلك نعت ب:{خُضْرٍ} وهو جمع: أخضر، فهو كقولك: رهط كرام، وقوم لئام. وقيل: هو جمع، واحده: رفرفة.

ص: 431

{وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ:} قيل: هي الزرابي، والطنافس الثخان. وقيل: هي الطنافس الرقاق.

وقيل: كل ثوب موشى عند العرب، فهو عبقري. قاله العتبي. وقال أبو عبيد: هو منسوب إلى أرض يعمل فيها الوشي، فينسب إليها كل وشي حبك، قال ذو الرمة:[البسيط] حتّى كأنّ رياض القفّ ألبسها

من وشي عبقر تجليل وتنجيد

وقال الخليل: كل جليل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم فهو عبقري عند العرب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر:«فلم أر عبقريّا يفري فريّه» وأصل هذا فيما قيل: إنه نسب إلى عبقر، وهي أرض يسكنها الجن، فصار مثلا لكل منسوب إلى شيء رفيع عجيب، وذلك: أن العرب تعتقد في الجن كل صفة عجيبة، وأنهم يأتون بكل أمر عجيب، ولما كانت عبقر معروفة بسكنى الجن؛ نسبوا إليها كل شيء عجيب. هذا؛ وقد قال أبو عمرو بن العلاء، وقد سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر-رضي الله عنه:«فلم أر عبقريّا يفري فريّه» فقال: العبقري رئيس قوم وجليلهم.

والحديث بتمامه كما يلي، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«بينا أنا نائم رأيتني على قليب، عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع منها ذنوبا، أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم استحالت غربا؛ فأخذها ابن الخطاب فاستحالت في يده غربا، فلم أر عبقريّا من الناس يفري فريّه؛ فنزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن» . (القليب): البئر.

(الذنوب): الدلو العظيمة. (غربا): دلوا كبيرا. وفي نزعه ضعف: إشارة إلى مدة خلافته، وهي سنتان. (ضرب الناس بعطن): حتى اتخذ الناس حولها بركا لإبلهم لغزارة مائها. أخرج الحديث البخاري من حديث عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما، وقال زهير بن أبي سلمى:[الطويل] بخيل عليها جنّة عبقرية

جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا

أقول: وبالجملة فالعبقري من كل نوع، ومن أي شيء ما يجمع فضائل ذلك النوع، وفضائل ذلك الشيء مثل لفظ:(كريم) فإنه صفة جليلة لكل ما يرضي في بابه. انظر الاية رقم [11] من سورة (الحديد). وقال الجوهري: العبقري: موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن، قال لبيد رضي الله عنه:[الطويل] ومن ساد من إخوانهم وبنيهم

كهول وشبّان كجنّة عبقر

وقال آخر: [المتقارب] فوارس ذبيان تحت الحدي

د كالجنّ يوفضن من عبقر

ثم نسبوا إليه كل شيء يعجبون من حذقه، وجودة صنعته، وقوته، فقالوا: عبقري، وهو واحد وجمع. هذا؛ وروى أبو بكر-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ:«(متكئين على رفارف خضر وعباقر حسان)» .

ص: 432

تنبيه بل فائدة: يقول الغربيون، والشرقيون عن النبي صلى الله عليه وسلم: عبقري، ولا يقولون: نبي، ورسول؛ لأنهم لا يعترفون بنبوته، ورسالته، ويريدون أن يلفتوا أنظار الناس عن الغرض الأسمى، والغاية العظمى من اتباعه والاهتداء بهديه. {تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ..}. إلخ: تكاثر خيره من البركة، وهي كثرة الخير، وزيادته، ومعنى «تبارك الله»: تزايد خيره، وتكاثر، أو تزايد عن كل شيء، وتعالى عنه في صفاته، وأفعاله، وهي كلمة تعظيم، وتقديس، لم تستعمل إلا لله وحده، وهو ملازم للماضي، لا يأتي منه مضارع، ولا أمر، قال الطّرمّاح:[الطويل] تباركت لا معط لشيء منعته

وليس لما أعطيت يا ربّ مانع

وقال آخر: [الطويل] تباركت ما تقدر يقع ولك الشّكر

أي ما تقدّر من القضاء، والقدر. والمعنى: تعالى اسمه من حيث إنه مطلق على ذاته، فما بالك بذاته؟ وقيل:{اِسْمُ} بمعنى الصفة، أو هو مقحم، قال لبيد بن ربيعة العامري-رضي الله عنه-من أبيات قالها لابنتيه قرب وفاته:[الطويل] إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

هذا؛ وقال القرطبي: أي: هذا الاسم، الذي افتتح به هذه السورة، كأنه يعلمهم أن هذا كله خرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقتكم، وخلقت لكم السماء، والأرض، والخلق، والخليقة، والجنة، والنار، فهذا كله لكم من اسم الرحمن، فمدح اسمه، ثم قال:{ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ} أي: جليل في ذاته، كريم في أفعاله. وانظر ما ذكرته في الاية رقم [27]. هذا؛ وقيل:

لما ختم الله نعم الدنيا بقوله: {وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ} وفيه إشارة إلى أن الباقي هو الله تعالى وأن الدنيا فانية؛ ختم نعمة الاخرة بهذه الاية، وهو إشارة إلى تمجيده، وتحميده.

هذا؛ وعن ثوبان-رضي الله عنه-قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته؛ استغفر ثلاثا، وقال:«اللهمّ أنت السّلام، ومنك السّلام، تباركت يا ذا الجلال، والإكرام» . أخرجه مسلم. وعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة؛ لم يقعد إلا مقدار ما يقول: «اللهمّ أنت السّلام، ومنك السّلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» . أخرجه أبو داود، والنسائي.

الإعراب: {مُتَّكِئِينَ:} حال عامله محذوف على مثال ما رأيت في الاية رقم [54] إذ التقدير:

يتنعمون متكئين، وفاعله مستتر فيه. {عَلى رَفْرَفٍ:} متعلقان بمتكئين. {خُضْرٍ:} صفة {رَفْرَفٍ} .

{وَعَبْقَرِيٍّ:} الواو: حرف عطف. (عبقري): معطوف على {رَفْرَفٍ} . {حِسانٍ:} صفة (عبقري). {تَبارَكَ:} فعل ماض. {اِسْمُ:} فاعل، وهو مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه، والكاف

ص: 433

في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {ذِي:} صفة {رَبِّكَ} مجرور مثله، وقرأ ابن عامر:«(ذو)» بالواو صفة للاسم، وعلامة الجر الياء، أو علامة الرفع الواو نيابة عن الكسرة، أو الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذِي} مضاف، و {الْجَلالِ} مضاف إليه. {وَالْإِكْرامِ:} الواو: حرف عطف. (الإكرام): معطوف على ما قبله. وجملة: {تَبارَكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

خاتمة: ذكرت لك في مقدمة هذه السورة الحديث الذي رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت لك: أن الاية {فَبِأَيِّ آلاءِ..} . إلخ كررت في هذه السورة إحدى وثلاثين مرة، وتفصيلها هنا: أن ثمانية منها ذكرت عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله، وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق، ومعادهم، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار، وشدائدها على عدد أبواب جهنم، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما على عدد أبواب الجنة، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين اللتين دونهما، فمن اعتقد الثمانية الأولى، وعمل بموجبها، فتحت له أبواب الجنة، وأغلقت عنه أبواب جهنم، نعوذ بالله منها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.

انتهت سورة (الرحمن) شرحا وإعرابا بحمد الله وتوفيقه.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 434