الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِلَّا شَفَيْتَهُ. وَلَا فَقِيرٌ إِلَّا أَغْنَيْتَهُ. وَالْخَامِسَةُ: أَلَّا تَصْرِفَ نَظَرَكَ عَمَّنْ دَخَلَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ، إِلَّا مَنْ أَرَادَ إِلْحَادًا أَوْ ظُلْمًا، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. قُلْتُ: وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَفْرُغْ بِنَاؤُهُ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هذا ما خرجه النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى خِلَالًا ثَلَاثَةً: حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَائِهِ الْمَسْجِدِ أَلَّا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا يَنْهَزُهُ «1» إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْحَدِيثَ فِي" آلِ عِمْرَانَ"«2» وَذَكَرْنَا بِنَاءَهُ فِي" سُبْحَانَ"«3» .
[سورة سبإ (34): آية 15]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ «4» آيَةٌ) قَرَأَ نَافِعٌ وَغَيْرُهُ بِالصَّرْفِ وَالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ حَيٍّ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمُ رَجُلٍ، جَاءَ بِذَلِكَ التَّوْقِيفُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. رَوَى التِّرْمِذِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَكَمِ النَّخَعِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو سَبْرَةَ النَّخَعِيُّ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيَّ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أُقَاتِلُ مَنْ أَدْبَرَ مِنْ قَوْمِي بِمَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ، فَأَذِنَ لِي فِي قِتَالِهِمْ وَأَمَّرَنِي، فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ سَأَلَ عَنِّي:(مَا فَعَلَ الْغُطَيْفِيُّ)«5» ؟ فَأُخْبِرَ أَنِّي قَدْ سِرْتُ، قَالَ: فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَرَدَّنِي فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: (ادْعُ الْقَوْمَ فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَاقْبَلْ مِنْهُ وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ فَلَا تَعْجَلْ حَتَّى أُحْدِثَ إِلَيْكَ، قَالَ: وَأُنْزِلَ فِي سَبَأٍ مَا أُنْزِلَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا سَبَأٌ؟ أَرْضٌ أَوِ امْرَأَةٌ؟ قَالَ: ليس بأرض ولا بامرأة
(1). أي لا يحركه.
(2)
. راجع ج 4 ص (137)
(3)
. راجع ج 10 ص (211)
(4)
. (في مساكنهم) قراءة نافع وبها كان يقرأ المؤلف رحمة الله عليه.
(5)
. في الأصول والترمذي: (القطيفي) بالقاف بدل الغين وهو تحريف.
وَلَكِنَّهُ رَجُلٌ وَلَدَ عَشَرَةً مِنَ الْعَرَبِ فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ تَشَاءَمُوا فَلَخْمُ وَجُذَامُ وَغَسَّانُ وَعَامِلَةُ. وَأَمَّا الَّذِينَ تَيَامَنُوا فَالْأَزْدُ وَالْأَشْعَرِيُّونَ وَحِمْيَرُ وَكِنْدَةُ وَمَذْحِجُ وَأَنْمَارُ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا أَنْمَارُ؟ قَالَ: (الَّذِينَ مِنْهُمْ خَثْعَمُ وَبَجِيلَةُ). وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو" لِسَبَأَ" بِغَيْرِ صَرْفٍ، جَعَلَهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ قَبِيلَةٍ بِأَنَّ بَعْدَهُ" فِي مَسَاكِنِهِمْ". النَّحَّاسُ: وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَكَانَ فِي مَسَاكِنِهَا. وَقَدْ مَضَى فِي" النَّمْلِ"«1» زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي الصَّرْفِ:
الْوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذرى سبإ
…
قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وَقَالَ آخَرُ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ:
مِنْ سَبَأَ الْحَاضِرِينَ مَأْرِبَ إِذْ
…
يَبْنُونَ مِنْ دُونِ سَيْلِهَا الْعَرِمَا
وَقَرَأَ قُنْبُلُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْجَحْدَرِيُّ" لِسَبَأْ" بِإِسْكَانِ الْهَمْزَةِ." فِي مَسَاكِنِهِمْ" قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ عَلَى الْجَمْعِ، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ، لِأَنَّ لَهُمْ مَسَاكِنَ كَثِيرَةً وَلَيْسَ بِمَسْكَنٍ وَاحِدٍ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ" مَسْكَنِهِمْ" مُوَحَّدًا، إِلَّا أَنَّهُمْ فَتَحُوا الْكَافَ. وَقَرَأَ يَحْيَى وَالْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ مُوَحَّدًا كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَسَرُوا الْكَافَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالسَّاكِنُ فِي هَذَا أَبْيَنُ، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى، فَإِذَا قُلْتُ" مَسْكَنِهِمْ" كَانَ فِيهِ تَقْدِيرَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا يُؤَدِّي عَنِ الْجَمْعِ. وَالْآخَرُ- أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ"«2» [البقرة: 7] فجاء بالسمع موحدا. وكذا" مَقْعَدِ صِدْقٍ"«3» [القمر: 55] وَ" مَسْكِنٌ" مِثْلُ مَسْجِدٍ، خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ، وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ إِلَّا سَمَاعًا." آيَةٌ" اسْمُ كَانَ، أَيْ عَلَامَةٌ دَالَّةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ لَهُمْ خَالِقًا خَلَقَهُمْ، وَأَنَّ كُلَّ الْخَلَائِقِ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ الْخَشَبَةِ ثَمَرَةً لَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِ الثِّمَارِ وَأَلْوَانِهَا وَطُعُومِهَا وَرَوَائِحِهَا وَأَزْهَارِهَا، وَفِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ عَالِمٍ قَادِرٍ. (جَنَّتانِ) يجوز
(1). راجع ج 13 ص (181)
(2)
. راجع ج 1 ص (185)
(3)
. راجع ج 17 ص 149 [ ..... ]
أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ" آيَةٌ"، وَيَجُوزُ أَنْ يكون خبر ابتداء محذوف، فوقف عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى" آيَةٌ" وَلَيْسَ بِتَمَامٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيِ الْآيَةُ جَنَّتَانِ، فَجَنَّتَانِ رُفِعَ لِأَنَّهُ خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: رُفِعَ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَنْصِبَ" آيَةٌ" عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ كَانَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَنْصِبَ الْجَنَّتَيْنِ عَلَى الْخَبَرِ أَيْضًا فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي كَانَتْ لِأَهْلِ سَبَأٍ فِي مَسَاكِنِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا فِيهَا بَعُوضَةً قَطُّ وَلَا ذُبَابًا وَلَا بُرْغُوثًا وَلَا قَمْلَةً وَلَا عَقْرَبًا وَلَا حَيَّةً وَلَا غَيْرَهَا مِنَ الْهَوَامِّ، وَإِذَا جَاءَهُمُ الرَّكْبُ فِي ثِيَابِهِمُ الْقَمْلُ وَالدَّوَابُّ فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ مَاتَتِ الدَّوَابُّ. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ هِيَ الْجَنَّتَانِ، كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَمْشِي فِيهِمَا وَعَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلٌ «1» فَيَمْتَلِئُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمَسَّهَا بِيَدِهَا، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَرُوِيَ أَنَّ الْجَنَّتَيْنِ كَانَتَا بَيْنَ جَبَلَيْنِ بِالْيَمَنِ. قَالَ سُفْيَانُ: وُجِدَ فِيهِمَا قَصْرَانِ مَكْتُوبٌ عَلَى أَحَدِهِمَا: نَحْنُ بَنَيْنَا سَلْحِينَ فِي سَبْعِينَ خَرِيفًا دَائِبِينَ، وَعَلَى الْآخَرِ مَكْتُوبٌ: نَحْنُ بَنَيْنَا صِرْوَاحَ، مَقِيلَ وَمَرَاحَ، فَكَانَتْ إِحْدَى الْجَنَّتَيْنِ عَنْ يَمِينِ الْوَادِي وَالْأُخْرَى عَنْ شِمَالِهِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَلَمْ يُرِدْ جَنَّتَيْنِ اثْنَتَيْنِ بَلْ أَرَادَ مِنَ الْجَنَّتَيْنِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، أَيْ كَانَتْ بِلَادُهُمْ ذَاتَ بَسَاتِينَ وَأَشْجَارٍ وَثِمَارٍ، تَسْتَتِرُ النَّاسُ بِظِلَالِهَا." كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ" أَيْ قِيلَ لَهُمْ كُلُوا، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ أَمْرٌ، وَلَكِنَّهُمْ تَمَكَّنُوا مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ. وَقِيلَ: أَيْ قَالَتِ الرُّسُلُ لَهُمْ قَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تعالى لهم ذَلِكَ، أَيْ أَبَاحَ لَكُمْ هَذِهِ النِّعَمَ فَاشْكُرُوهُ بِالطَّاعَةِ. (مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ) أَيْ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّتَيْنِ. (وَاشْكُرُوا لَهُ) يَعْنِي عَلَى مَا رَزَقَكُمْ. (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، أَيْ هَذِهِ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ أَيْ كَثِيرَةُ الثِّمَارِ. وَقِيلَ: غَيْرُ سَبْخَةٍ. وَقِيلَ: طَيِّبَةٌ لَيْسَ فِيهَا هَوَامٌّ لِطِيبِ هَوَائِهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ صَنْعَاءُ. (وَرَبٌّ غَفُورٌ) أَيْ وَالْمُنْعِمُ بِهَا عَلَيْكُمْ رَبٌّ غَفُورٌ يَسْتُرُ ذُنُوبَكُمْ، فَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ مَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِمْ وَطِيبِ بَلَدِهِمْ وَلَمْ يَجْمَعْ ذَلِكَ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَكَرَ الْمَغْفِرَةَ مُشِيرًا إِلَى أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ حَرَامٌ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي أَوَّلِ" الْبَقَرَةِ"«2» . وَقِيلَ: إِنَّمَا امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِعَفْوِهِ عَنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ بِتَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبُوهُ مِنْ سَالِفِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى أَنِ استداموا الإصرار فاستؤصلوا.
(1). المكتل: شبه الزنبيل.
(2)
. راجع ج 1 ص 177