الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة لقمان (31): آية 6]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ)" مِنَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ. وَ" لَهْوَ الْحَدِيثِ": الْغِنَاءُ، فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا. النَّحَّاسُ: وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ يَشْتَرِي ذَا لَهْوٍ أو ذات لهو، مثل:" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ"«1» [يوسف: 82]. أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَمَّا كَانَ إِنَّمَا اشْتَرَاهَا يَشْتَرِيهَا وَيُبَالِغُ فِي ثَمَنِهَا كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا لِلَّهْوِ «2» . قُلْتُ: هَذِهِ إِحْدَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الْغِنَاءِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ. والآية الثانية قوله تعالى:" وَأَنْتُمْ سامِدُونَ"«3» [النجم: 61]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْغِنَاءُ بِالْحِمْيَرِيَّةِ، اسْمُدِي لَنَا، أَيْ غَنِّي لَنَا. وَالْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ"«4» [الاسراء: 64] قَالَ مُجَاهِدٌ: الْغِنَاءُ وَالْمَزَامِيرُ. وَقَدْ مَضَى فِي" سُبْحَانَ"«5» الْكَلَامُ فِيهِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا تَبِيعُوا الْقَيْنَاتِ وَلَا تَشْتَرُوهُنَّ وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ وَلَا خَيْرَ فِي تِجَارَةٍ فِيهِنَّ وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ، فِي مِثْلِ هَذَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، إِنَّمَا يُرْوَى مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَالْقَاسِمُ ثِقَةٌ وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبِهَذَا فَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَمُجَاهِدٌ، وَذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ عَنِ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقتادة والنخعي.
(1). راجع ج 9 ص 245 فما بعد. [ ..... ]
(2)
. كذا في جميع نسخ الأصل. وفي كتاب النحاس: (أو يكون التقدير: لما كان إنما يشتريها ويبالغ في ثمنها كأنه اشترى اللهو). وفي العبارتين غموض ولعل العبارة هكذا: أو يكون التقدير أنه لما كان إنما يشتريها ويبالغ في ثمنها لأجل لهوها كان كأنه اشترى اللهو.
(3)
. راجع ج 17 ص 121 فما بعد.
(4)
. راجع ج 10 ص 290.
(5)
. راجع ج 10 ص 290.
قُلْتُ: هَذَا أَعْلَى مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِنَّهُ الْغِنَاءُ. رَوَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي الصَّهْبَاءِ الْبَكْرِيِّ قَالَ: سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ" فَقَالَ: الْغِنَاءُ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، يُرَدِّدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ الْغِنَاءُ، وَكَذَلِكَ قَالَ عِكْرِمَةُ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَمَكْحُولٌ. وَرَوَى شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ عَنِ الْحَكَمِ وَحَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَزَادَ: إِنَّ لَهْوَ الْحَدِيثِ فِي الْآيَةِ الِاسْتِمَاعِ إِلَى الْغِنَاءِ وَإِلَى مِثْلِهِ مِنَ الْبَاطِلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَهْوُ الْحَدِيثِ الْمَعَازِفُ وَالْغِنَاءُ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: الْغِنَاءُ بَاطِلٌ وَالْبَاطِلُ فِي النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْهُ فَقَالَ: قَالَ الله تعالى:"فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ"«1» [يونس: 32] أَفَحَقٌّ هُوَ؟! وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ «2» (بَابٌ كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٍ إِذَا شَغَلَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَمَنْ قال لصاحبه تعال أُقَامِرْكَ)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً" فَقَوْلُهُ: (إِذَا شَغَلَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ) مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:" لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ". وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: هُوَ الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ. وَتَأَوَّلَهُ قَوْمٌ عَلَى الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَتَلَهَّى بِهَا أَهْلُ الْبَاطِلِ وَاللَّعِبِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، لِأَنَّهُ اشْتَرَى كُتُبَ الْأَعَاجِمِ: رُسْتُمَ، وَإسْفِنْدِيَارَ، فَكَانَ يَجْلِسُ بِمَكَّةَ، فَإِذَا قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ مُحَمَّدًا قَالَ كَذَا ضَحِكَ مِنْهُ، وَحَدَّثَهُمْ بِأَحَادِيثِ مُلُوكِ الْفُرْسِ وَيَقُولُ: حَدِيثِي هَذَا أَحْسَنُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدٍ، حَكَاهُ الْفَرَّاءُ وَالْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَقِيلَ: كَانَ يَشْتَرِي الْمُغَنِّيَاتِ فَلَا يَظْفَرُ بِأَحَدٍ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ إِلَّا انْطَلَقَ بِهِ إِلَى قَيْنَتِهِ فَيَقُولُ: أَطْعِمِيهِ وَاسْقِيهِ وَغَنِّيهِ، وَيَقُولُ: هَذَا خَيْرٌ مِمَّا يَدْعُوكَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَأَنْ تُقَاتِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ وَالْأَوَّلُ ظَاهِرٌ فِي الشِّرَاءِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الشِّرَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَعَارٌ، وَإِنَّمَا نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَحَادِيثَ قُرَيْشٍ وَتَلَهِّيهِمْ بِأَمْرِ الْإِسْلَامِ وَخَوْضِهِمْ فِي الْبَاطِلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَكَانَ تَرْكُ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ وَامْتِثَالُ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ
(1). راجع ج 8 ص 335 فما بعد.
(2)
. في آخر كتاب الاستئذان.
شِرَاءٌ لَهَا، عَلَى حَدِّ قَوْلُهُ تَعَالَى:" أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى "«1» [البقرة: 16]، اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ، أَيِ اسْتَبْدَلُوهُ مِنْهُ وَاخْتَارُوهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُطَرِّفٌ: شِرَاءُ لَهْوِ الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُهُ. قَتَادَةُ: وَلَعَلَّهُ لَا يُنْفِقُ فِيهِ مَالًا، وَلَكِنَّ سَمَاعَهُ شِرَاؤُهُ. قُلْتُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى مَا قِيلَ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ، لِلْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِيهِ، وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِيهِ. وَقَدْ زَادَ الثَّعْلَبِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ:(وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْغِنَاءِ إِلَّا بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَيْطَانَيْنِ أَحَدُهُمَا عَلَى هَذَا الْمَنْكِبِ «2» [والآخر على هذا المنكر] فَلَا يَزَالَانِ يَضْرِبَانِ بِأَرْجُلِهِمَا حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْكُتُ). وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرُهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (صَوْتَانِ مَلْعُونَانِ فَاجِرَانِ أَنْهَى عَنْهُمَا: صَوْتُ مِزْمَارٍ وَرَنَّةُ شَيْطَانٍ عِنْدَ نَغْمَةٍ وَمَرَحٍ وَرَنَّةٌ عِنْدَ مُصِيبَةٍ لَطْمُ خُدُودٍ وَشَقُّ جُيُوبٍ). وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (بُعِثْتُ بِكَسْرِ الْمَزَامِيرِ) خَرَّجَهُ أَبُو طَالِبٍ الْغَيْلَانِيُّ. وَخَرَّجَ ابْنُ بَشْرَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (بُعِثْتُ بِهَدْمِ الْمَزَامِيرِ وَالطَّبْلِ). وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً حَلَّ بِهَا الْبَلَاءُ- فَذَكَرَ مِنْهَا: إِذَا اتُّخِذَتِ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ (. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:) وَظَهَرَتِ الْقِيَانُ وَالْمَعَازِفُ (. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ جَلَسَ إِلَى قَيْنَةٍ يَسْمَعُ مِنْهَا صُبَّ فِي أُذُنِهِ الْآنُكُ «3» يَوْمَ الْقِيَامَةِ). وَرَوَى أَسَدُ بْنُ مُوسَى عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (أَيْنَ عِبَادِي الَّذِينَ كَانُوا يُنَزِّهُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ عَنِ اللَّهْوِ وَمَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ أَحِلُّوهُمْ رِيَاضَ «4» الْمِسْكِ وَأَخْبِرُوهُمْ أَنِّي قَدْ أَحْلَلْتُ عَلَيْهِمْ رِضْوَانِي). وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ مِثْلَهَ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ (الْمِسْكِ: ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَسْمِعُوهُمْ حَمْدِي وَشُكْرِي وَثَنَائِي، وَأَخْبِرُوهُمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
(1). راجع ج 1 ص 210.
(2)
. ما بين المربعين ساقط من الأصل المطبوع.
(3)
. الآنك: الرصاص.
(4)
. في ج، ش:" رياض الجنة".
(مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى صَوْتِ غِنَاءٍ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ الرُّوحَانِيِّينَ). فَقِيلَ: وَمَنِ الرُّوحَانِيُّونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (قُرَّاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ مَعَ نَظَائِرِهِ:(فَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ). إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحُ الْمَعْنَى عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ هُنَاكَ. وَمِنْ رِوَايَةِ مَكْحُولٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ جَارِيَةٌ مُغَنِّيَةٌ فَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِ). وَلِهَذِهِ الْآثَارِ وَغَيْرِهَا قَالَ الْعُلَمَاءُ بِتَحْرِيمِ الْغِنَاءِ. وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ:- الثَّانِيَةُ- وَهُوَ الْغِنَاءُ الْمُعْتَادُ عِنْدَ الْمُشْتَهِرِينَ بِهِ، الَّذِي يُحَرِّكُ النُّفُوسَ وَيَبْعَثُهَا عَلَى الْهَوَى وَالْغَزَلِ، وَالْمُجُونُ الَّذِي يُحَرِّكُ السَّاكِنَ وَيَبْعَثُ الْكَامِنَ فَهَذَا النَّوْعُ إِذَا كَانَ فِي شِعْرٌ يُشَبَّبُ فِيهِ بِذِكْرِ النِّسَاءِ وَوَصْفِ مَحَاسِنِهِنَّ وَذِكْرِ الْخُمُورِ وَالْمُحَرَّمَاتِ لَا يُخْتَلَفُ فِي تَحْرِيمِهِ، لِأَنَّهُ اللَّهْوُ وَالْغِنَاءُ الْمَذْمُومُ بِالِاتِّفَاقِ. فَأَمَّا مَا سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَيَجُوزُ الْقَلِيلُ مِنْهُ فِي أَوْقَاتِ الْفَرَحِ، كَالْعُرْسِ وَالْعِيدِ وَعِنْدَ التَّنْشِيطِ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، كَمَا كَانَ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ وَحَدْوِ أَنْجَشَةَ «1» وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ. فَأَمَّا مَا ابْتَدَعَتْهُ الصُّوفِيَّةُ الْيَوْمَ مِنَ الْإِدْمَانِ عَلَى سَمَاعِ الْمَغَانِي بِالْآلَاتِ الْمُطْرِبَةِ مِنَ الشَّبَّابَاتِ «2» والطار والمعازف والأوتار فحرام. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَأَمَّا طَبْلُ الْحَرْبِ فَلَا حَرَجَ فِيهِ، لِأَنَّهُ يُقِيمُ النُّفُوسَ وَيُرْهِبُ الْعَدُوَّ. وَفِي الْيَرَاعَةِ «3» تَرَدُّدٌ. وَالدُّفُّ مُبَاحٌ. [الْجَوْهَرِيُّ «4»: وَرُبَّمَا سَمَّوْا قَصَبَةَ الرَّاعِي الَّتِي يَزْمِرُ بِهَا هَيْرَعَةَ وَيَرَاعَةَ «5» ]. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: ضُرِبَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَهَمَّ أَبُو بَكْرٍ بِالزَّجْرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(دَعْهُنَّ يَا أَبَا بَكْرٍ حَتَّى تَعْلَمَ الْيَهُودُ أَنَّ دِينَنَا فَسِيحٌ) فَكُنَّ يَضْرِبْنَ وَيَقُلْنَ: نَحْنُ بَنَاتُ النَّجَّارِ، حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الطَّبْلَ فِي النِّكَاحِ كَالدُّفِّ، وَكَذَلِكَ الْآلَاتُ الْمُشْهِرَةُ لِلنِّكَاحِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا فِيهِ بِمَا يَحْسُنُ مِنَ الْكَلَامِ وَلَمْ يكن فيه رفث.
(1). هو عبد أسود كان يسوق أو يقود بنساء النبي صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وكان حسن الحداء، وكانت الإبل تزيد في الحركة بحدائه.
(2)
. الشبابة (بالتشديد): قصبة الزمر وهي مولدة.
(3)
. اليراعة: مزمار الراعي.
(4)
. ما بين المربعين ساقط من ج، ش. [ ..... ]
(5)
. ما بين المربعين ساقط من ج، ش.
الثَّالِثَةُ- الِاشْتِغَالُ بِالْغِنَاءِ عَلَى الدَّوَامِ سَفَهٌ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، فَإِنْ لَمْ يَدُمْ لَمْ تُرَدَّ. وَذَكَرَ إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى الطَّبَّاعُ قَالَ: سَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَمَّا يُرَخِّصُ فِيهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنَ الْغِنَاءِ فَقَالَ: إِنَّمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَنَا الْفُسَّاقُ. وَذَكَرَ أَبُو الطَّيِّبِ طَاهِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ قَالَ: أَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَإِنَّهُ نَهَى عَنِ الْغِنَاءِ وَعَنِ اسْتِمَاعِهِ، وَقَالَ: إِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً وَوَجَدَهَا مُغَنِّيَةً كَانَ لَهُ رَدُّهَا بِالْعَيْبِ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَائِرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، إِلَّا إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ فَإِنَّهُ حَكَى عَنْهُ زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: فَأَمَّا مَالِكٌ فَيُقَالُ عَنْهُ: إِنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالصِّنَاعَةِ وَكَانَ «1» مَذْهَبُهُ تَحْرِيمَهَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: تَعَلَّمْتُ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ وَأَنَا غُلَامٌ شَابٌّ، فَقَالَتْ لِي أُمِّي: أَيْ بُنَيَّ! إِنَّ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ يَصْلُحُ لَهَا مَنْ كَانَ صَبِيحَ الْوَجْهِ وَلَسْتَ كَذَلِكَ، فَطَلَبَ الْعُلُومَ الدِّينِيَّةَ، فَصَحِبْتُ رَبِيعَةَ فَجَعَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ خَيْرًا. قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَكْرَهُ الْغِنَاءَ مع إباحته شرب النبيذ، ويجمل سَمَاعَ الْغِنَاءِ مِنَ الذُّنُوبِ. وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ سَائِرِ أَهْلِ الْكُوفَةِ: إِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ وَحَمَّادٍ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ بَيْنَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ خِلَافٌ فِي كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ وَالْمَنْعِ مِنْهُ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا. قَالَ: وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ: الْغِنَاءُ مَكْرُوهٌ يُشْبِهُ الْبَاطِلَ، وَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ فَهُوَ سَفِيهٌ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ. وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ عَنْ إِمَامِهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ وَصَاحِبِهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِبَاحَةَ الْغِنَاءِ، وَإِنَّمَا أَشَارُوا إِلَى مَا كَانَ فِي زَمَانِهِمَا مِنَ الْقَصَائِدِ الزُّهْدِيَّاتِ، قَالَ: وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا لَمْ يَكْرَهْهُ أَحْمَدُ، وَيَدُلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَخَلَّفَ وَلَدًا وَجَارِيَةً مُغَنِّيَةً فَاحْتَاجَ الصَّبِيُّ إِلَى بَيْعِهَا فَقَالَ: تُبَاعُ عَلَى أَنَّهَا سَاذَجَةٌ لَا عَلَى أَنَّهَا مُغَنِّيَةٌ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا تُسَاوِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَلَعَلَّهَا إِنْ بِيعَتْ سَاذَجَةً تُسَاوِي عِشْرِينَ أَلْفًا؟ فَقَالَ: لَا تُبَاعُ إِلَّا عَلَى أَنَّهَا سَاذَجَةٌ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ: وَإِنَّمَا قَالَ أَحْمَدُ هَذَا لِأَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ الْمُغَنِّيَةَ لَا تُغْنِّي بِقَصَائِدَ الزُّهْدِ، بَلْ بِالْأَشْعَارِ الْمُطْرِبَةِ الْمُثِيرَةِ إِلَى العشق.
(1). لفظة: (كان) ساقطة من ج.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغِنَاءَ مَحْظُورٌ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا مَا جَازَ تَفْوِيتُ الْمَالِ عَلَى الْيَتِيمِ. وَصَارَ هَذَا كَقَوْلِ أَبِي طَلْحَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: عِنْدِي خَمْرٌ لِأَيْتَامٍ؟ فَقَالَ: (أَرِقْهَا). فَلَوْ جَازَ اسْتِصْلَاحُهَا لَمَّا أَمَرَ بِتَضْيِيعِ مَالِ الْيَتَامَى. قَالَ الطَّبَرِيُّ: فَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى كَرَاهَةِ الْغِنَاءِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ. وَإِنَّمَا فَارَقَ الْجَمَاعَةَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ. وَمَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً). قَالَ أَبُو الْفَرَجِ: وَقَالَ الْقَفَّالُ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُغَنِّي وَالرَّقَّاصِ. قُلْتُ: وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَجُوزُ فَأَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ لَا تَجُوزُ. وَقَدِ ادَّعَى أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ مَضَى فِي الانعام عند قوله:" وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ"«1» [الانعام: 59] وحسبك. الرَّابِعَةُ- قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَمَّا سَمَاعُ الْقَيْنَاتِ فَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يسمع غناء جاريته، إذ ليس شي مِنْهَا عَلَيْهِ حَرَامًا لَا مِنْ ظَاهِرِهَا وَلَا مِنْ بَاطِنِهَا، فَكَيْفَ يُمْنَعُ مِنَ التَّلَذُّذِ بِصَوْتِهَا. أَمَّا إِنَّهُ لَا يَجُوزُ انْكِشَافُ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ وَلَا هَتْكُ الْأَسْتَارِ وَلَا سَمَاعُ الرَّفَثِ، فَإِذَا خَرَجَ ذَلِكَ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ وَلَا يَجُوزُ مُنِعَ مِنْ أَوَّلِهِ وَاجْتُثَّ مِنْ أَصْلِهِ. وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: أَمَّا سَمَاعُ الْغِنَاءِ مِنَ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَحْرَمٍ فَإِنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ قَالُوا لَا يَجُوزُ، سَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ مَمْلُوكَةً. قَالَ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَصَاحِبُ الْجَارِيَةِ إِذَا جَمَعَ النَّاسَ لِسَمَاعِهَا فَهُوَ سَفِيهٌ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ غَلَّظَ الْقَوْلَ فِيهِ فَقَالَ: فَهِيَ دِيَاثَةٌ. وَإِنَّمَا جُعِلَ صَاحِبُهَا سَفِيهًا لِأَنَّهُ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْبَاطِلِ، وَمَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْبَاطِلِ كَانَ سَفِيهًا. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِضَمِّ الْيَاءِ، أَيْ لِيُضِلَّ غَيْرَهُ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى، وَإِذَا أَضَلَّ غَيْرَهُ فَقَدْ ضَلَّ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَرُوَيْسٌ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ (بِفَتْحِ الْيَاءِ) عَلَى اللَّازِمِ، أَيْ ليضل هو نفسه.
(1). راجع ج 7 ص 3.