الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ الصَّبْرُ عَلَى الْمَكَارِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، أَيْ مِمَّا عَزَمَهُ اللَّهُ وَأَمَرَ بِهِ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَعَزَائِمِ أَهْلِ الْحَزْمِ السَّالِكِينَ طَرِيقَ النَّجَاةِ. وَقَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ أَصْوَبُ.
[سورة لقمان (31): آية 18]
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ:" تُصَاعِرْ" بِالْأَلِفِ بَعْدَ الصَّادِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ:" تُصَعِّرْ" وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ:" تُصْعِرْ" بِسُكُونِ الصَّادِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَالصَّعَرُ: الْمَيَلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ: وَقَدْ أَقَامَ الدَّهْرُ صَعَرِي، بَعْدَ أَنْ أَقَمْتُ صَعَرَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ حُنَيٍّ التَّغْلِبِيِّ:
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ
…
أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَ «1»
وَأَنْشَدَهُ الطَّبَرِيُّ:" فَتَقَوَّمَا". قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ قَافِيَةَ الشِّعْرِ مَخْفُوضَةٌ «2». وَفِي بَيْتٍ آخَرَ:
أَقَمْنَا لَهُ مِنْ خَدِّهِ الْمُتَصَعِّرِ
قَالَ الهروي:" لا تُصَاعِرْ" أَيْ لَا تُعْرِضُ عَنْهُمْ تَكَبُّرًا عَلَيْهِمْ، يُقَالُ: أَصَابَ الْبَعِيرَ صَعَرٌ وَصَيَدٌ إِذْ أَصَابَهُ دَاءٌ يَلْوِي مِنْهُ عُنُقَهُ. ثُمَّ يُقَالُ لِلْمُتَكَبِّرِ: فِيهِ صَعَرٌ وَصَيَدٌ، فَمَعْنَى:" لَا تُصَعِّرْ" أَيْ لَا تُلْزِمْ خَدّكَ الصَّعَرَ. وَفِي الْحَدِيثِ: (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِمْ إِلَّا أَصْعَرُ أو أبتر)
(1). يريد: فتقوم أنت.
(2)
. قبل هذا البيت كما في معجم العراء للمرزباني:
نعاطى الملوك الحق ما قصدوا بنا
…
وليس علينا قتلهم بمحرم
قال المرزباني: وهذا البيت- بيت الشاهد- يروى من قصيدة المتلمس التي أولها:
يعيرني أمي رجال ولن ترى
…
أخا كرم إلا بأن يتكرما
وَالْأَصْعَرُ: الْمُعْرِضُ بِوَجْهِهِ كِبْرًا، وَأَرَادَ رُذَالَةَ النَّاسِ الَّذِينَ لَا دِينَ لَهُمْ. وَفِي الْحَدِيثِ:(كُلُّ صَعَّارٍ مَلْعُونٌ) أَيْ كُلُّ ذِي أُبَّهَةٍ وَكِبْرٍ. الثَّانِيَةُ- مَعْنَى الْآيَةِ: وَلَا تُمِلْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ كِبْرًا عَلَيْهِمْ وَإِعْجَابًا وَاحْتِقَارًا لَهُمْ. وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ تَلْوِيَ شِدْقَكَ إِذَا ذُكِرَ الرَّجُلُ عِنْدَكَ كَأَنَّكَ تَحْتَقِرُهُ، فَالْمَعْنَى: أَقْبِلْ عَلَيْهِمْ مُتَوَاضِعًا مُؤْنِسًا مُسْتَأْنِسًا، وَإِذَا حَدَّثَكَ أَصْغَرُهُمْ فَأَصْغِ إِلَيْهِ حَتَّى يُكْمِلَ حَدِيثَهُ. وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى «1» مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ). فَالتَّدَابُرُ الْإِعْرَاضُ وَتَرْكُ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ وَنَحْوِهِ. وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْإِعْرَاضِ تَدَابُرٌ لِأَنَّ مَنْ أَبْغَضْتُهُ أَعْرَضْتَ عَنْهُ وَوَلَّيْتُهُ دُبُرَكَ، وَكَذَلِكَ يَصْنَعُ هُوَ بِكَ. وَمَنْ أَحْبَبْتُهُ أَقْبَلْتَ عَلَيْهِ بِوَجْهِكَ وَوَاجَهْتَهُ لِتُسِرَّهُ وَيُسِرَّكَ، فَمَعْنَى التَّدَابُرِ مَوْجُودٌ فِيمَنْ صَعَّرَ خَدَّهُ، وَبِهِ فَسَّرَ مُجَاهِدٌ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: قَوْلُهُ:" وَلَا تُصَاعِرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ" كَأَنَّهُ نَهَى أَنْ يُذِلَّ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:(لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ). الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أَيْ مُتَبَخْتِرًا مُتَكَبِّرًا، مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَدْ مَضَى فِي" سُبْحَانَ"«2» . وَهُوَ النَّشَاطُ وَالْمَشْيُ فَرَحًا فِي غَيْرِ شُغْلٍ وَفِي غَيْرِ حَاجَةٍ. وَأَهْلُ هَذَا الْخُلُقِ مُلَازِمُونَ لِلْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، فَالْمَرِحُ مُخْتَالٌ فِي مِشْيَتِهِ. رَوَى يحيى ابن جَابِرٍ الطَّائِيُّ عَنِ ابْنِ عَائِذٍ الْأَزْدِيِّ عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ «3» قَالَ: فَجَلَسْنَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ الْقَبْرَ يُكَلِّمُ العبد إذا وضع فيه فيقول: يا ابن آدَمَ مَا غَرَّكَ بِي! أَلَمْ تَعْلَمْ أَنِّي بَيْتُ الْوَحْدَةِ! أَلَمْ تَعْلَمْ أَنِّي بَيْتُ الظُّلْمَةِ! ألم تعلم أني بيت الحق! يا ابن آدَمَ مَا غَرَّكَ بِي! لَقَدْ كُنْتَ تَمْشِي حولي
(1). في ج (ومن هذا الباب).
(2)
. راجع ج 10 ص 260.
(3)
. ورد هذا الاسم مضطربا في نسخ الأصل. والتصويب عن تهذيب التهذيب.