الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله في هذه الآية: وَهَذَا ظَاهِرٌ بَيِّنٌ، أَيْ لَا يَنْفَعُ تَأَسُّفُكَ عَلَى مُقَامِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ أَضَلَّهُمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَرُدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ قَوْلَهُمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، أَيْ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا تُرِيدُ أَنْ تَهْدِيَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَيْكَ، وَالَّذِي إِلَيْكَ هُوَ التَّبْلِيغُ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ:" فَلَا تُذْهِبْ" بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ" نَفْسُكَ" نَصْبًا عَلَى الْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ." حَسَراتٍ" مَنْصُوبٌ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ فَلَا تَذْهَبُ نَفْسُكَ لِلْحَسَرَاتِ. وَ" عَلَيْهِمْ" صِلَةُ" تَذْهَبْ"، كَمَا تَقُولُ: هَلَكَ عَلَيْهِ حُبًّا وَمَاتَ عَلَيْهِ حُزْنًا. وَهُوَ بَيَانٌ لِلْمُتَحَسَّرِ عَلَيْهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْحَسَرَاتِ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ صلته. ويجوز أن يكون حالا كأن كلها صَارَتْ حَسَرَاتٍ لِفَرْطِ التَّحَسُّرِ، كَمَا قَالَ جَرِيرٌ:
مشق الهواجر لحمهن مع السرى
…
وحتى ذَهَبْنَ كَلَاكِلًا وَصُدُورَا
يُرِيدُ: رَجَعْنَ كَلَاكِلًا وَصُدُورًا، أَيْ لَمْ يَبْقَ إِلَّا كَلَاكِلُهَا وَصُدُورُهَا. وَمِنْهُ قول الآخر:
فعلى إثرهم تساقط نفسي
…
وحسرات وذكرهم لي سقام
أو مصدرا.
[سورة فاطر (35): آية 9]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ" مَيِّتٌ وَمَيْتٌ وَاحِدٌ، وَكَذَا مَيِّتَةٌ وَمَيْتَةٌ، هَذَا قَوْلُ الْحُذَّاقِ مِنَ النَّحْوِيِّينَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: هَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ أَحَدًا، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِدَلَائِلَ قَاطِعَةٍ. وَأَنْشَدَ:
ليس من مات فاستراح بميت
…
وإنما الميت ميت الأحياء
إنما المت من يعيش كئيبا
…
وكاسفا بَالُهُ قَلِيلَ الرَّجَاءِ
قَالَ: فَهَلْ تَرَى بَيْنَ مَيِّتٍ وَمَيْتٍ فَرْقًا، وَأَنْشَدَ:
هينون لينون أيسار بنو يسر
…
وسواس مَكْرُمَةٍ أَبْنَاءُ أَيْسَارِ
قَالَ: فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَيْنُونَ وَلَيْنُونَ وَاحِدٌ، وَكَذَا مَيِّتٌ وَمَيْتٌ، وَسَيِّدٌ وَسَيْدٌ. قَالَ:" فَسُقْناهُ" بَعْدَ أَنْ قَالَ:" وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ" وَهُوَ مِنْ بَابِ تَلْوِينِ الْخِطَابِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سَبِيلُهُ" فَتَسُوقُهُ"، لِأَنَّهُ قَالَ:" فَتُثِيرُ سَحاباً". الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ جَاءَ" فَتُثِيرُ" عَلَى الْمُضَارَعَةِ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ؟ قُلْتُ: لِتَحْكِيَ الْحَالَ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا إِثَارَةُ الرِّيَاحِ السَّحَابَ، وَتَسْتَحْضِرُ تِلْكَ الصورة البديعة الدالة على القدوة الرَّبَّانِيَّةِ، وَهَكَذَا يَفْعَلُونَ بِفِعْلٍ فِيهِ نَوْعُ تَمْيِيزٍ وَخُصُوصِيَّةٍ بِحَالٍ تُسْتَغْرَبُ، أَوْ تُهِمُّ الْمُخَاطَبَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَأَبَّطَ شَرًّا:
بِأَنِّي قد لقيت الغول تهوي
…
وبسهب كالصحيفة صحصحان
فاضربها بلا دهش فخرت
…
وصريعا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْجِرَانِ
لِأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يُصَوِّرَ لِقَوْمِهِ الْحَالَةَ الَّتِي تَشَجَّعَ فِيهَا بِزَعْمِهِ عَلَى ضَرْبِ الْغُولِ، كَأَنَّهُ يُبَصِّرُهُمْ إِيَّاهَا، وَيُطْلِعُهُمْ عَلَى كُنْهِهَا مُشَاهَدَةً لِلتَّعَجُّبِ. مِنْ جُرْأَتِهِ عَلَى كُلِّ هَوْلٍ، وَثَبَاتِهِ عِنْدَ كُلِّ شِدَّةٍ وَكَذَلِكَ سَوْقُ السَّحَابِ إِلَى الْبَلَدِ الْمَيِّتِ، لَمَّا كَانَا مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ قِيلَ:" فَسُقْنَا" وَ" أَحْيَيْنَا" مَعْدُولًا بِهِمَا عَنْ لَفْظَةِ الْغَيْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أَدْخَلُ فِي الِاخْتِصَاصِ وَأَدَلُّ عَلَيْهِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" الرِّياحَ". وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَالْأَعْمَشُ وَيَحْيَى وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" الرِّيحَ" تَوْحِيدًا. وَقَدْ مَضَى بَيَانُ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْكَلَامُ فِيهَا مُسْتَوْفًى. أي كذلك تحيون بعد ما مُتُّمْ، مِنْ نَشْرِ الْإِنْسَانِ نُشُورًا. فَالْكَافُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، أَيْ مِثْلُ إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ نَشْرُ الْأَمْوَاتِ. وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى، وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ:(أَمَا مَرَرْتَ بِوَادِي أَهْلِكَ مُمْحِلًا ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضِرًا) قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قال (فكذلك يحيي الله الموتى وتلك آياته فِي خَلْقِهِ) وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْخَبَرَ فِي" الأعراف" وغيرها