الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة المائدة (5): الآيات 20 الى 26]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يَا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)
قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَاّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) تَبْيِينٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ أَسْلَافَهُمْ تَمَرَّدُوا عَلَى مُوسَى وَعَصَوْهُ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ عَلَى مُحَمَّدٍ عليه السلام، وَهُوَ تَسْلِيَةٌ لَهُ، أَيْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَاذْكُرُوا قِصَّةَ مُوسَى. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ" يَا قَوْمُ اذْكُرُوا" بِضَمِّ الْمِيمِ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ، وَتَقْدِيرُهُ يَا أَيُّهَا الْقَوْمُ. (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) لَمْ يَنْصَرِفْ، لِأَنَّهُ فِيهِ أَلِفُ التَّأْنِيثِ. (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) أَيْ تَمْلِكُونَ أَمْرَكُمْ لَا يَغْلِبُكُمْ عَلَيْهِ غَالِبٌ بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ مَمْلُوكِينَ لِفِرْعَوْنَ مَقْهُورِينَ، فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهُ بِالْغَرَقِ، فَهُمْ مُلُوكٌ بِهَذَا الوجه، وبنحوه فسر السدي والحسين وغيرهما. قال السدي: ملك
كل واحد منهم نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَمَالَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا قَالَ:" وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً" لِأَنَّا كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ خُدِمَ مِنْ بَنِي آدَمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْقِبْطَ قَدْ كَانُوا يَسْتَخْدِمُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَظَاهِرُ أَمْرِ بَنِي آدَمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يُسَخِّرُ بَعْضًا مُذْ تَنَاسَلُوا وَكَثُرُوا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ فِي مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَقَطْ. وَقِيلَ: جَعَلَكُمْ ذَوِي مَنَازِلَ لَا يُدْخَلُ عَلَيْكُمْ إِلَّا بِإِذْنٍ، رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ بَيْتَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَهُوَ مَلِكٌ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا وَزَيْدِ بن أسلم أن مَنْ كَانَتْ لَهُ دَارٌ وَزَوْجَةٌ وَخَادِمٌ فَهُوَ مَلِكٌ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَلَكَ مَنْزِلٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ. قَالَ: فَإِنَّ لِي خَادِمًا. قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَفَائِدَةُ هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَمَلَكَ دَارًا وَخَادِمًا بَاعَهُمَا فِي الْكَفَّارَةِ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الصِّيَامُ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الرَّقَبَةِ وَالْمُلُوكِ لَا يُكَفِّرُونَ بِالصِّيَامِ، وَلَا يُوصَفُونَ بِالْعَجْزِ عَنِ الْإِعْتَاقِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: جَعَلَهُمْ مُلُوكًا بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَالْحَجَرِ «1» وَالْغَمَامِ، أَيْ هُمْ مَخْدُومُونَ كَالْمُلُوكِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا يَعْنِي الْخَادِمَ وَالْمَنْزِلَ، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَزَادُوا الزَّوْجَةَ، وَكَذَا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيمَا يُعْلَمُ- عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:(مَنْ كَانَ لَهُ بَيْتٌ- أَوْ قَالَ مَنْزِلٌ- يَأْوِي إِلَيْهِ وَزَوْجَةٌ وَخَادِمٌ يَخْدُمُهُ فَهُوَ مَلِكٌ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَيُقَالُ: مَنِ اسْتَغْنَى عَنْ غَيْرِهِ فَهُوَ مَلِكٌ، وَهَذَا كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي بدنه وله قوت يومه فكأنما جيزت لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا (. قَوْلُهُ تَعَالَى:) وَآتاكُمْ) أَيْ أَعْطَاكُمْ (مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ). وَالْخِطَابُ مِنْ مُوسَى لِقَوْمِهِ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ وَجْهُ الْكَلَامِ. مُجَاهِدٌ: وَالْمُرَادُ بِالْإِيتَاءِ المن
(1). هي إخراج المياه العذبة من الحجر بالتفجير.
وَالسَّلْوَى وَالْحَجَرُ وَالْغَمَامُ. وَقِيلَ: كَثْرَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ، وَالْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْهُمْ. وَقِيلَ: قُلُوبًا سَلِيمَةً مِنَ الْغِلِّ وَالْغِشِّ. وَقِيلَ: إِحْلَالُ الْغَنَائِمِ وَالِانْتِفَاعُ بِهَا. قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ الْغَنَائِمَ لَمْ تَحِلْ لِأَحَدٍ إِلَّا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ مِنْ مُوسَى تَوْطِئَةٌ لِنُفُوسِهِمْ حَتَّى تُعَزَّزَ وَتَأْخُذَ الْأَمْرَ بِدُخُولِ أَرْضِ الْجَبَّارِينَ بِقُوَّةٍ، وَتَنْفُذَ فِي ذَلِكَ نُفُوذَ مَنْ أَعَزَّهُ اللَّهُ وَرَفَعَ مِنْ شَأْنِهِ. وَمَعْنَى" مِنَ الْعالَمِينَ" أَيْ عَالَمِي زَمَانِكُمْ، عَنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو مَالِكٍ: الْخِطَابُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا عُدُولٌ عَنْ ظَاهِرِ الْكَلَامِ بِمَا لَا يَحْسُنُ مِثْلُهُ. وَتَظَاهَرَتِ الاخبار أن دمشق قاعدة الجبارين. و" الْمُقَدَّسَةَ" مَعْنَاهُ الْمُطَهَّرَةُ. مُجَاهِدٌ: الْمُبَارَكَةُ، وَالْبَرَكَةُ التَّطْهِيرُ مِنَ الْقُحُوطِ وَالْجُوعِ وَنَحْوِهِ. قَتَادَةُ: هِيَ الشَّامُ. مُجَاهِدٌ: الطُّورُ وَمَا حَوْلَهُ. ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ أَرِيحَاءُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: دِمَشْقُ وَفِلَسْطِينُ وَبَعْضُ: الْأُرْدُنِ. وَقَوْلُ قَتَادَةَ يَجْمَعُ هَذَا كُلَّهُ. (الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) أَيْ فَرَضَ دُخُولَهَا عَلَيْكُمْ وَوَعَدَكُمْ دُخُولَهَا وَسُكْنَاهَا لَكُمْ. وَلَمَّا خَرَجَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ أَمَرَهُمْ بِجِهَادِ أَهْلِ أَرِيحَاءَ مِنْ بِلَادِ فِلَسْطِينَ فَقَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا بِتِلْكَ الدِّيَارِ، فَبَعَثَ بِأَمْرِ اللَّهِ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، مِنْ كُلِّ سِبْطٍ رَجُلٌ يَتَجَسَّسُونَ الْأَخْبَارَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَرَأَوْا سُكَّانَهَا الْجَبَّارِينَ مِنَ الْعَمَالِقَةِ، وَهُمْ ذَوُو أَجْسَامٍ هَائِلَةٍ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ بَعْضَهُمْ رَأَى هَؤُلَاءِ النُّقَبَاءَ فَأَخَذَهُمْ فِي كُمِّهِ مَعَ فَاكِهَةٍ كَانَ قَدْ حَمَلَهَا مِنْ بُسْتَانِهِ وَجَاءَ بِهِمْ إِلَى الْمَلِكِ فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدِهِ وَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ قِتَالَنَا، فَقَالَ لَهُمُ الْمَلِكُ: ارْجِعُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ فَأَخْبِرُوهُ خَبَرَنَا، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا أَخَذُوا مِنْ عِنَبِ تِلْكَ الْأَرْضَ عُنْقُودًا فَقِيلَ: حَمَلَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَقِيلَ: حَمَلَهُ النُّقَبَاءُ الِاثْنَا عَشَرَ. قُلْتُ: وَهَذَا أَشْبَهُ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْجَبَّارِينَ وَجَدُوهُمْ يَدْخُلُ فِي كُمِّ أَحَدِهِمْ رَجُلَانِ مِنْهُمْ، وَلَا يَحْمِلُ عنقود أحدهم إلا خمسة منهم في خشية، وَيَدْخُلُ فِي شَطْرِ الرُّمَّانَةِ إِذَا نُزِعَ حَبُّهُ خمسة أنفس أو أربعة «1» .
(1). قال الألوسي: هذه الاخبار عندي كأخبار (عوج بن عوق) وهي حديث خرافة.
قُلْتُ: وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا وَالْأَوَّلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْجَبَّارَ الَّذِي أَخَذَهُمْ فِي كُمِّهِ- وَيُقَالُ: فِي حِجْرِهِ- هُوَ عُوجُ «1» بْنُ عُنَاقٍ وَكَانَ أَطْوَلَهُمْ قَامَةً وَأَعْظَمَهُمْ خَلْقًا، عَلَى مَا يَأْتِي مِنْ ذِكْرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَانَ طول سائرهم ستة أذرع ونصف فِي قَوْلِ مُقَاتِلٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ طُولُ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ ثَمَانِينَ ذِرَاعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَمَّا أَذَاعُوا الْخَبَرَ مَا عَدَا يُوشَعَ وَكَالِبَ ابن يُوقِنَا، وَامْتَنَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ الْجِهَادِ عُوقِبُوا بِالتِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِلَى أَنْ مَاتَ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ وَنَشَأَ أَوْلَادُهُمْ، فَقَاتَلُوا الْجَبَّارِينَ وَغَلَبُوهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) أَيْ لَا تَرْجِعُوا عَنْ طَاعَتِي وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ. وَقِيلَ: لَا تَرْجِعُوا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ إِلَى مَعْصِيَتِهِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى:(قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) أَيْ عِظَامُ الْأَجْسَامِ طِوَالٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، يُقَالُ: نَخْلَةٌ جَبَّارَةٌ أَيْ طَوِيلَةٌ. وَالْجَبَّارُ الْمُتَعَظِّمُ الْمُمْتَنِعُ مِنَ الذُّلِّ وَالْفَقْرِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْجَبَّارُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ الْعَاتِي، وَهُوَ الَّذِي يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى مَا يُرِيدُ، فَأَصْلُهُ عَلَى هَذَا مِنَ الْإِجْبَارِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ، فَإِنَّهُ يُجْبِرُ غَيْرَهُ عَلَى مَا يُرِيدُهُ، وَأَجْبَرَهُ أَيْ أَكْرَهَهُ. وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ جَبْرِ الْعَظْمِ، فَأَصْلُ الْجَبَّارِ عَلَى هَذَا الْمُصْلِحُ أَمْرَ نَفْسِهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مَنْ جَرَّ لِنَفْسِهِ نَفْعًا بِحَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ. وَقِيلَ: إِنَّ جَبْرَ الْعَظْمِ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْإِكْرَاهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَمْ أَسْمَعْ فَعَّالًا مِنْ أَفْعَلَ إِلَّا فِي حَرْفَيْنِ، جَبَّارٌ مِنْ أَجْبَرَ وَدَرَّاكٌ مِنْ أَدْرَكَ. ثُمَّ قِيلَ: كَانَ هَؤُلَاءِ مِنْ بَقَايَا عَادٍ. وَقِيلَ: هُمْ مِنْ وَلَدِ عيصو بْنِ إِسْحَاقَ، وَكَانُوا مِنَ الرُّومِ، وَكَانَ مَعَهُمْ عُوجٌ الْأَعْنَقُ، وَكَانَ طُولُهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ «2» ذِرَاعٍ وثلاثمائة وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ ذِرَاعًا، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَكَانَ يَحْتَجِنُ السَّحَابَ أَيْ يَجْذِبُهُ بِمِحْجَنِهِ وَيَشْرَبُ مِنْهُ، وَيَتَنَاوَلُ الْحُوتَ مِنْ قَاعِ الْبَحْرِ فَيَشْوِيهِ بِعَيْنِ الشَّمْسِ يَرْفَعُهُ إِلَيْهَا ثُمَّ يَأْكُلُهُ. وَحَضَرَ طُوفَانَ نُوحٍ عليه السلام وَلَمْ يُجَاوِزْ رُكْبَتَيْهِ وَكَانَ عمره ثلاثة آلاف
(1). عوج بن عناق: هكذا في الأصول. والذي ذكر في القاموس مادة (عوق)(وعوق كنوح والد عوج الطويل ومن قال: عوج بن عنق فقد أخطأ) وقال في شرحه: (هذا الذي خطأه هو المشهور على الألسنة قال شيخنا: وزعم قوم من حفاظ التواريخ أن عنق هي أم عوج وعوق أبوه فلا خطأ ولا غلط، وفي شعر عرقلة الدمشقي المذكور في بدائع البداية المتوفى سنة 567 (أعور الرجال يمشي: خلف عوج بن عناق) وهو ثقة عارف. (عن القاموس وشرحه).
(2)
. في ج وهـ وك وز: ثلاثة آلاف وعشرون ألفا. إلخ. [ ..... ]
وَسِتَّمِائَةِ سَنَةٍ، وَأَنَّهُ قَلَعَ صَخْرَةً عَلَى قَدْرِ عَسْكَرِ مُوسَى لِيَرْضَخَهُمْ بِهَا، فَبَعَثَ اللَّهُ طَائِرًا فَنَقَرَهَا وَوَقَعَتْ فِي عُنُقِهِ فَصَرَعَتْهُ. وَأَقْبَلَ مُوسَى عليه السلام وَطُولُهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، وَعَصَاهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ وَتَرَقَّى فِي السَّمَاءِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فَمَا أَصَابَ إِلَّا كَعْبَهُ وَهُوَ مَصْرُوعٌ فَقَتَلَهُ. وَقِيلَ: بَلْ ضَرَبَهُ فِي الْعِرْقِ الَّذِي تَحْتَ كَعْبِهِ فَصَرَعَهُ فَمَاتَ وَوَقَعَ عَلَى نِيلِ مِصْرَ فَجَسَرَهُمْ «1» سَنَةً. ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى بِاخْتِلَافِ أَلْفَاظٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالطَّبَرِيُّ وَمَكِّيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عُوجٌ مِنْ وَلَدِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ حَيْثُ وَقَعَا بالمرأة فحملت. والله أعلم. قوله تعالى (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها) يَعْنِي الْبَلْدَةَ إِيلِيَاءَ، وَيُقَالُ: أَرِيحَاءَ (حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) أَيْ حَتَّى يُسَلِّمُوهَا لَنَا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ. وَقِيلَ: قَالُوا ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ الْجَبَّارِينَ وَلَمْ يَقْصِدُوا الْعِصْيَانَ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا:" فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ" قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) قَالَ ابْنُ عباس وغيره: هما يوشع وكالب ابن يُوقِنَا وَيُقَالُ ابْنُ قَانِيَا، وَكَانَا مِنِ الِاثْنَيْ عشر نقيبا. و" يَخافُونَ" أَيْ مِنَ الْجَبَّارِينَ. قَتَادَةُ: يَخَافُونَ اللَّهَ تَعَالَى. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُمَا رَجُلَانِ كَانَا فِي مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ عَلَى دِينِ مُوسَى، فَمَعْنَى" يَخافُونَ" عَلَى هَذَا أَيْ مِنَ الْعَمَالِقَةِ مِنْ حَيْثُ الطَّبْعِ لِئَلَّا يَطَّلِعُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ فَيَفْتِنُوهُمْ وَلَكِنْ وَثِقَا بِاللَّهِ. وَقِيلَ: يَخَافُونَ ضَعْفَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَجُبْنَهُمْ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ" يُخَافُونَ" بِضَمِّ الْيَاءِ، وَهَذَا يُقَوِّي أَنَّهُمَا مِنْ غَيْرِ قَوْمِ مُوسَى. (أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا) أَيْ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالْيَقِينِ وَالصَّلَاحِ. (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) قَالَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يَهُولَنَّكُمْ عِظَمُ أَجْسَامِهِمْ فَقُلُوبُهُمْ مُلِئَتْ رُعْبًا مِنْكُمْ، فَأَجْسَامُهُمْ عَظِيمَةٌ وَقُلُوبُهُمْ ضَعِيفَةٌ، وَكَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ كَانَ لَهُمُ الْغَلَبُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا قَالَا ذَلِكَ ثِقَةً بِوَعْدِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَا:(وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مُصَدِّقِينَ بِهِ، فَإِنَّهُ يَنْصُرُكُمْ. ثُمَّ قِيلَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: لَمَّا قَالَا هَذَا أَرَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ رَجْمَهُمَا بِالْحِجَارَةِ، وَقَالُوا: نُصَدِّقُكُمَا وَنَدَعُ قَوْلَ عَشَرَةٍ! ثُمَّ قَالُوا لِمُوسَى: (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها) وَهَذَا عناد وحيد عن
(1). أي صار لهم جسرا يعبرون عليه. كل ما ذكره المؤلف في هذا المقام من الإسرائيليات التي لا يعول عليها.
الْقِتَالِ، وَإِيَاسٌ مِنَ النَّصْرِ. ثُمَّ جَهِلُوا صِفَةَ الرَّبِّ تبارك وتعالى فَقَالُوا" فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) " وَصَفُوهُ بِالذَّهَابِ وَالِانْتِقَالِ، وَاللَّهُ مُتَعَالٍ عَنْ ذَلِكَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُشَبِّهَةً، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ، لِأَنَّهُ قَالَ: هُوَ كُفْرٌ مِنْهُمْ بِاللَّهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ. وَقِيلَ: أَيْ أَنَّ نُصْرَةَ رَبِّكَ [لَكَ]«1» أَحَقُّ مِنْ نُصْرَتِنَا، وَقِتَالَهُ مَعَكَ- إِنْ كُنْتَ رَسُولَهُ- أَوْلَى مِنْ قِتَالِنَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ كُفْرٌ، لِأَنَّهُمْ شَكُّوا فِي رِسَالَتِهِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: اذْهَبْ أَنْتَ فَقَاتِلْ وَلْيُعِنْكَ رَبُّكَ. وَقِيلَ: أرادوا بالرب هرون، وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى وَكَانَ مُوسَى يُطِيعُهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ فَسَقُوا بِقَوْلِهِمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ" أَيْ لَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ. (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) أَيْ لَا نَبْرَحُ وَلَا نُقَاتِلُ. وَيَجُوزُ" قَاعِدِينَ" عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ تَمَّ قَبْلَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:(قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) لِأَنَّهُ كَانَ يُطِيعُهُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ:" وَأَخِي". أَيْ وَأَخِي أَيْضًا لَا يَمْلِكُ إِلَّا نَفْسَهُ، فَأَخِي عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى نَفْسِي، وَعَلَى الثَّانِي فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَإِنْ شِئْتَ عَطَفْتَ عَلَى اسْمِ إِنَّ وَهِيَ الْيَاءُ، أَيْ إِنِّي وَأَخِي لَا نَمْلِكُ إِلَّا أَنْفُسَنَا. وَإِنْ شِئْتَ عَطَفْتَ عَلَى الْمُضْمَرِ فِي أَمْلِكُ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَمْلِكُ أَنَا وَأَخِي إِلَّا أَنْفُسَنَا. (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) يُقَالُ: بِأَيِ وَجْهٍ سَأَلَهُ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ؟ فَفِيهِ أَجْوِبَةٌ، الْأَوَّلُ- بِمَا يَدُلُّ عَلَى بُعْدِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، وَذَهَابِهِمْ عَنِ الصَّوَابِ فِيمَا ارْتَكَبُوا مِنَ الْعِصْيَانِ، وَلِذَلِكَ أُلْقُوا فِي التِّيهِ. الثَّانِي- بِطَلَبِ التَّمْيِيزِ أَيْ مَيِّزْنَا عَنْ جَمَاعَتِهِمْ وَجُمْلَتِهِمْ وَلَا تُلْحِقْنَا بِهِمْ فِي الْعِقَابِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَاقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِعِصْمَتِكَ إِيَّانَا مِنَ الْعِصْيَانِ الَّذِي ابْتَلَيْتَهُمْ بِهِ، وَمِنْهُ قول تعالى:" فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ"«2» ] الدخان: 4] أَيْ يُقْضَى. وَقَدْ فَعَلَ لَمَّا أَمَاتَهُمْ فِي التِّيهِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا أَرَادَ فِي الْآخِرَةِ، أَيِ اجْعَلْنَا فِي الْجَنَّةِ وَلَا تَجْعَلْنَا مَعَهُمْ فِي النَّارِ، وَالشَّاهِدُ عَلَى الْفَرْقِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْمُبَاعَدَةِ فِي الْأَحْوَالِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يَا رَبِّ فَافْرُقْ بَيْنَهُ وَبَيْنِي
…
أَشَدَّ مَا فَرَّقْتَ بَيْنَ اثنين
(1). من ج.
(2)
. راجع ج 16 ص 126.
وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ قَرَأَ:" فَافْرِقْ" بِكَسْرِ الرَّاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ" اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ وَعَاقَبَهُمْ فِي التِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَأَصْلُ التِّيهِ فِي اللُّغَةِ الْحَيْرَةُ، يُقَالُ مِنْهُ: تَاهَ يَتِيهُ تِيهًا وَتَوْهًا إِذَا تَحَيَّرَ. وَتَيَّهْتُهُ وَتَوَّهْتُهُ بِالْيَاءِ وَالْوَاوِ، وَالْيَاءُ أَكْثَرُ. وَالْأَرْضُ التَّيْهَاءُ الَّتِي لَا يُهْتَدَى فِيهَا، وَأَرْضٌ تِيهٌ وَتَيْهَاءُ ومنها قال «1»:
تِيهٌ أَتَاوِيهُ عَلَى السُّقَّاطِ
وَقَالَ آخَرُ:
بِتَيْهَاءَ قَفْرِ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا
…
قَطَا الْحَزَنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا
فَكَانُوا يَسِيرُونَ فِي فَرَاسِخَ قَلِيلَةٍ- قِيلَ: فِي قَدْرِ سِتَّةِ فَرَاسِخَ- يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ فَيُصْبِحُونَ حَيْثُ أَمْسَوْا وَيُمْسُونَ حَيْثُ أَصْبَحُوا، فَكَانُوا سَيَّارَةً لَا قَرَارَ لَهُمْ. وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ معهم موسى وهرون؟ فَقِيلَ: لَا، لِأَنَّ التِّيهَ عُقُوبَةٌ، وَكَانَتْ سِنُو «2» التِّيهِ بِعَدَدِ أَيَّامِ الْعِجْلِ، فَقُوبِلُوا عَلَى كُلِّ يَوْمٍ سَنَةً، وَقَدْ قَالَ:" فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ". وَقِيلَ: كَانَا مَعَهُمْ لَكِنْ سَهَّلَ اللَّهُ الْأَمْرَ عَلَيْهِمَا كَمَا جَعَلَ النَّارَ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَمَعْنَى" مُحَرَّمَةٌ" أَيْ أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ دُخُولِهَا، كَمَا يُقَالُ: حَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَكَ عَلَى النَّارِ، وَحَرَّمْتُ عَلَيْكَ دُخُولَ الدَّارِ، فَهُوَ تَحْرِيمُ مَنْعٍ لَا تَحْرِيمَ شَرْعٍ، عَنْ أكثر أهل التفسير، كما قَالَ الشَّاعِرُ:
جَالَتْ لِتَصْرَعَنِي فَقُلْتُ لَهَا اقْصُرِي
…
إِنِّي امْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْكِ حَرَامُ
أَيْ أَنَا فَارِسٌ فَلَا يُمْكِنُكِ صَرْعِي. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمَ تَعَبُّدٍ. وَيُقَالُ: كَيْفَ يَجُوزُ عَلَى جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ «3» مِنَ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَسِيرُوا فِي فَرَاسِخَ يَسِيرَةٍ فَلَا يَهْتَدُوا لِلْخُرُوجِ مِنْهَا؟ فَالْجَوَابُ- قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَدْ يَكُونُ ذلك بأن يحول الله الأرض التي هم عليها إذا ناموا فيردهم
(1). هو العجاج. يصف أرضا مجهولة ليس بها علامات يهتدي بها، وأتاويه أفاعيل من تيه. والسقاط كل من سقط عليه، وهم الذين لا يصبرون ولا يجدون الواحد ساقط: وصدر البيت:
وبسطه بسعة البساط
والبساط المكان الواسع من الأرض. وقيل هذا البيت:
وبلدة بعيدة النياط
…
مجهولة تغتال خطو الخاطي
(2)
. في ج، سنون.
(3)
. في ج: كبيرة.
إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي ابْتَدَءُوا مِنْهُ. وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنِ الِاشْتِبَاهِ وَالْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْخُرُوجِ عَنْهَا عَلَى طَرِيقِ الْمُعْجِزَةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْعَادَةِ." أَرْبَعِينَ" ظَرْفَ زَمَانٍ لِلتِّيهِ، فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، قَالَا: وَلَمْ يَدْخُلْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَالْوَقْفُ عَلَى هَذَا عَلَى" عَلَيْهِمْ". وَقَالَ الرَّبِيعُ ابن أَنَسٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّ" أَرْبَعِينَ سَنَةً" ظَرْفٌ لِلتَّحْرِيمِ، فَالْوَقْفُ عَلَى هَذَا عَلَى" أَرْبَعِينَ سَنَةً"، فَعَلَى الْأَوَّلِ إِنَّمَا دَخَلَهَا أَوْلَادُهُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا يُوشَعُ وَكَالِبُ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ يُوشَعُ بِذُرِّيَّاتِهِمْ إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَفَتَحُوهَا. وَعَلَى الثَّانِي- فَمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً دَخَلُوهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ موسى وهرون مَاتَا فِي التِّيهِ. قَالَ غَيْرُهُ: وَنَبَّأَ اللَّهُ يُوشَعَ وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ الْجَبَّارِينَ، وَفِيهَا حُبِسَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَفِيهَا أُحْرِقَ الَّذِي وُجِدَ الْغُلُولُ عِنْدَهُ، وَكَانَتْ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِذَا غَنِمُوا نَارٌ بَيْضَاءُ فَتَأْكُلُ الْغَنَائِمَ، وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى قَبُولِهَا، فَإِنْ كَانَ فِيهَا غُلُولٌ لَمْ تَأْكُلْهُ، وَجَاءَتِ السِّبَاعُ وَالْوُحُوشُ فَأَكَلَتْهُ، فَنَزَلَتِ النَّارُ فَلَمْ تَأْكُلْ مَا غَنِمُوا فَقَالَ: إِنَّ فِيكُمُ الْغُلُولَ فَلْتُبَايِعْنِي كُلُّ قَبِيلَةٍ فَبَايَعَتْهُ، فَلَصِقَتْ يَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِيَدِهِ فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ فَلْيُبَايِعْنِي كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ فَبَايَعُوهُ رَجُلًا رَجُلًا حَتَّى لَصِقَتْ يَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِيَدِهِ فقال: عند الْغُلُولُ فَأَخْرَجَ مِثْلَ رَأْسِ الْبَقَرَةِ مِنْ ذَهَبٍ «1» ، فَنَزَلَتِ النَّارُ فَأَكَلَتِ الْغَنَائِمَ. وَكَانَتْ نَارًا بَيْضَاءَ مِثْلَ الْفِضَّةِ لَهَا حَفِيفٌ أَيْ صَوْتٌ مِثْلُ صَوْتِ الشَّجَرِ وَجَنَاحِ الطَّائِرِ فِيمَا يَذْكُرُونَ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ أُحْرِقَ الْغَالُّ وَمَتَاعُهُ بِغَوْرٍ يُقَالُ لَهُ الآن غور عَاجِزٌ، عُرِفَ بِاسْمِ الْغَالِّ، وَكَانَ اسْمُهُ عَاجِزًا. قُلْتُ: وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا عُقُوبَةُ الْغَالِّ قَبْلَنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ «2» فِي مِلَّتِنَا. وَبَيَانُ مَا انْبَهَمَ مِنِ اسْمِ النَّبِيِّ وَالْغَالِّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ) الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَفِيهِ قَالَ: (فَغَزَا فَأَدْنَى لِلْقَرْيَةِ «3» حِينَ صَلَاةِ الْعَصْرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِلشَّمْسِ أَنْتِ مَأْمُورَةٌ وأنا مأمور اللهم أحبسها «4» على شيئا
(1). كقدرة أو كصورته من ذهب كان غله وأخفاه.
(2)
. راجع ج 4 ص 254 وما بعدها.
(3)
. لفظ البخاري (فدنا من القرية) ولعل ما هنا على حذف المفعول أي قرب جيوشه وجموعه لها. النووي
. (4). أي أمنعها من السير زمانا حتى يتيسر لي الفتح نهارا.
فَحُبِسَتْ عَلَيْهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ- قَالَ: فَجَمَعُوا مَا غَنِمُوا فَأَقْبَلَتِ النَّارُ لِتَأْكُلَهُ فَأَبَتْ أَنْ تَطْعَمَهُ فَقَالَ: فِيكُمْ غُلُولٌ فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ فَبَايَعُوهُ- قَالَ- فَلَصِقَتْ] يَدُهُ [بِيَدِ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَقَالَ فِيكُمُ الْغُلُولُ) وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَالْحِكْمَةُ فِي حَبْسِ الشَّمْسِ عَلَى يُوشَعَ عِنْدَ قِتَالِهِ أَهْلَ أَرِيحَاءَ وَإِشْرَافِهِ عَلَى فَتْحِهَا عَشِيَّ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَإِشْفَاقِهِ مِنْ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ قَبْلَ الْفَتْحِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تُحْبَسْ عَلَيْهِ حَرُمَ عَلَيْهِ الْقِتَالُ لِأَجْلِ السَّبْتِ، وَيَعْلَمُ بِهِ عَدُوُّهُمْ فَيُعْمِلُ فِيهِمُ السَّيْفَ وَيَجْتَاحُهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ آيَةً لَهُ خُصَّ بِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ نُبُوَّتُهُ ثَابِتَةً بِخَبَرِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام، عَلَى مَا يُقَالُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ عليه السلام: (فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ مِنْ قَبْلِنَا) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عز وجل رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا. وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ" إِنَّهُ تَحْلِيلُ الْغَنَائِمِ وَالِانْتِفَاعُ بِهَا. وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ [الصَّلَاةُ]«1» وَالسَّلَامُ مَاتَ بِالتِّيهِ عمرو بن ميمون الأودي، وزاد: وهرون، وَكَانَا خَرَجَا فِي التِّيهِ إِلَى بَعْضِ الْكُهُوفِ فمات هرون فَدَفَنَهُ مُوسَى وَانْصَرَفَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: ما فعل هرون؟ فَقَالَ: مَاتَ، قَالُوا: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَتَلْتَهُ لِحُبِّنَا لَهُ، وَكَانَ مُحَبًّا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنِ انْطَلِقْ بِهِمْ إِلَى قَبْرِهِ فَإِنِّي بَاعِثُهُ حَتَّى يُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ مَاتَ مَوْتًا وَلَمْ تَقْتُلْهُ، فَانْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى قَبْرِهِ فنادى يا هرون فَخَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ يَنْفُضُ رَأْسَهُ فَقَالَ: أَنَا قَاتِلُكَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي مُتُّ، قَالَ: فَعُدْ إِلَى مَضْجَعِكَ، وَانْصَرَفَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ مُوسَى لَمْ يَمُتْ بِالتِّيهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ مُوسَى فَتَحَ أَرِيحَاءَ، وَكَانَ يُوشَعُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ فَقَاتَلَ الْجَبَابِرَةَ الَّذِينَ كَانُوا بِهَا، ثُمَّ دَخَلَهَا مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَقَامَ فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَ، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ لَا يَعْلَمُ بِقَبْرِهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ. قُلْتُ: قَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُرْسِلَ مَلَكُ الموت إلى موسى عليه [الصلاة و]«2» السلام فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ:" أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ" قَالَ: فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ:" ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ" قَالَ: أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَهْ"، قَالَ:" ثُمَّ الْمَوْتُ" قَالَ:" فَالْآنَ"، فَسَأَلَ اللَّهُ أن
(1). من ج.
(2)
. من ج.
يُدْنِيَهُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ) فَهَذَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم قَدْ عَلِمَ قَبْرَهُ وَوَصَفَ مَوْضِعَهُ، وَرَآهُ فِيهِ قَائِمًا يُصَلِّي كَمَا فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَخْفَاهُ اللَّهُ عَنِ الْخَلْقِ سِوَاهُ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِئَلَّا يُعْبَدَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَعْنِي بِالطَّرِيقِ طَرِيقَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ مَكَانَ الطَّرِيقِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ لَطْمِ مُوسَى عَيْنَ ملك الموت وفقيها عَلَى أَقْوَالٍ، مِنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ عَيْنًا مُتَخَيَّلَةً لَا حَقِيقَةً، وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنَّ مَا يَرَاهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ صُوَرِ الْمَلَائِكَةِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ عَيْنًا مَعْنَوِيَّةً وَإِنَّمَا فَقَأَهَا بِالْحُجَّةِ، وَهَذَا مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَعْرِفْ مَلَكَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ رَأَى رَجُلًا دَخَلَ مَنْزِلَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ يُرِيدُ نَفْسَهُ فَدَافَعَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَطَمَ عَيْنَهُ فَفَقَأَهَا، وَتَجِبُ الْمُدَافَعَةُ فِي هَذَا بِكُلِّ مُمْكِنٍ. وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ، لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَيْنِ وَالصَّكِّ، قَالَهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ، غَيْرَ أَنَّهُ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِمَا فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ لَمَّا رَجَعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ:" يَا رَبِّ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ" فَلَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ مُوسَى لَمَا صَدَقَ الْقَوْلُ مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى:" أَجِبْ رَبَّكَ" يَدُلُّ عَلَى تَعْرِيفِهِ بِنَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا: أَنَّ مُوسَى عليه الصلاة والسلام كان سريع الغضب، إذ غَضِبَ طَلَعَ الدُّخَانُ مِنْ قَلَنْسُوَتِهِ «1» وَرَفَعَ شَعْرُ بَدَنِهِ جُبَّتَهُ، وَسُرْعَةُ غَضَبِهِ كَانَتْ سَبَبًا لِصَكِّهِ مَلَكَ الْمَوْتِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا كَمَا تَرَى، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمُ ابْتِدَاءُ مِثْلِ هَذَا فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ. وَمِنْهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: أَنَّ مُوسَى عليه] الصلاة و [«2» السلام عَرَفَ مَلَكَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ جَاءَ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ لكنه جاء مجيء الجازم بِأَنَّهُ قَدْ أُمِرَ بِقَبْضِ رُوحِهِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ، وَعِنْدَ مُوسَى مَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِنْ (أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ رُوحَ نَبِيٍّ حَتَّى يخبره) فَلَمَّا جَاءَهُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي أُعْلِمَ بَادَرَ بِشَهَامَتِهِ وَقُوَّةِ نَفْسِهِ إِلَى أَدَبِهِ، فَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ امْتِحَانًا لِمَلَكِ الْمَوْتِ، إِذْ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ بِالتَّخْيِيرِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا، أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ فخيره بين الحياة والموت اختار الموت
(1). القلنسوة: ما يلبس على الرأس.
(2)
. من ج. [ ..... ]