الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السَّادِسَةُ- مَا وَقَعَ فِي الْفَخِّ وَالْحِبَالَةِ فَلِرَبِّهَا، فَإِنْ أَلْجَأَ الصَّيْدَ إِلَيْهَا أَحَدٌ وَلَوْلَاهَا لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ أَخْذُهُ فَرَبُّهَا فِيهِ شَرِيكُهُ. وَمَا وَقَعَ فِي الْجُبْحِ «1» الْمَنْصُوبِ فِي الْجَبَلِ مِنْ ذُبَابِ النَّحْلِ فَهُوَ كَالْحِبَالَةِ وَالْفَخِّ، وَحَمَامُ الْأَبْرِجَةِ تُرَدُّ عَلَى أَرْبَابِهَا إِنِ اسْتُطِيعَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ نَحْلُ الْجِبَاحِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ حَصَلَ الْحَمَامُ أَوِ النَّحْلُ عِنْدَهُ أَنْ يَرُدَّهُ. وَلَوْ أَلْجَأَتِ الْكِلَابُ صَيْدًا فَدَخَلَ فِي بَيْتِ أَحَدٍ أَوْ دَارِهِ فَهُوَ لِلصَّائِدِ مُرْسِلُ الْكِلَابِ دُونَ صَاحِبِ الْبَيْتِ، وَلَوْ دَخَلَ فِي الْبَيْتِ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارِ الْكِلَابِ لَهُ فَهُوَ لِرَبِّ الْبَيْتِ. السَّابِعَةُ- احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ لِلْآخِذِ لَا لِلْمُثِيرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الْمُثِيرَ لَمْ تَنَلْ يَدُهُ وَلَا رُمْحُهُ بَعْدُ شَيْئًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. الثَّامِنَةُ- كَرِهَ مَالِكٌ صَيْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ" يَعْنِي أَهْلَ الْإِيمَانِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَدْرِ الْآيَةِ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" فَخَرَجَ عَنْهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَخَالَفَهُ جُمْهُورُ أهل العلم، لقوله تَعَالَى:" وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ"] المائدة: 94] وَهُوَ عِنْدَهُمْ مِثْلُ ذَبَائِحِهِمْ. وَأَجَابَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا تَضَمَّنَتْ أَكْلَ طَعَامِهِمْ، وَالصَّيْدُ بَابٌ آخَرُ فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الطَّعَامِ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ لَفْظِهِ. قُلْتُ: هَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ لَيْسَ مَشْرُوعًا عِنْدَهُمْ فَلَا يَكُونُ مِنْ طَعَامِهِمْ، فَيَسْقُطُ عَنَّا هَذَا الْإِلْزَامُ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ مَشْرُوعًا عِنْدَهُمْ فِي دِينِهِمْ فَيَلْزَمُنَا أَكْلُهُ لِتَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ طَعَامِهِمْ. والله أعلم.
[سورة المائدة (5): آية 95]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95)
(1). الجبح (بجيم مثلثة وموحدة ساكنة): خلية العسل ويجمع على (أجبح وجبوح وجباح).
فِيهِ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هَذَا خِطَابٌ عَامٌّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، وَهَذَا النَّهْيُ هُوَ الِابْتِلَاءُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ" الْآيَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا الْيَسَرِ وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ «1» - كَانَ مُحْرِمًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِعُمْرَةٍ فَقَتَلَ حِمَارَ وَحْشٍ فَنَزَلَتْ فِيهِ" لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ". الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ) الْقَتْلُ هُوَ كُلُّ فِعْلٍ يُفِيتُ الرُّوحَ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا النَّحْرُ وَالذَّبْحُ وَالْخَنْقُ وَالرَّضْخُ وَشِبْهُهُ، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الصَّيْدِ كُلَّ فِعْلٍ يَكُونُ مُفِيتًا لِلرُّوحِ. الثَّالِثَةُ- مَنْ قَتَلَ صَيْدًا أَوْ ذَبَحَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِقَتْلِهِ دُونَ أَكْلِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ جَزَاءُ مَا أَكَلَ، يَعْنِي قيمته، وخالفه صاحباه فقالا: لا شي عَلَيْهِ سِوَى الِاسْتِغْفَارِ، لِأَنَّهُ تَنَاوَلَ الْمَيْتَةَ كَمَا لَوْ تَنَاوَلَ مَيْتَةً أُخْرَى، وَلِهَذَا لَوْ أَكَلَهَا مُحْرِمٌ آخَرُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا الِاسْتِغْفَارُ. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَنَاوَلَ مَحْظُورَ إِحْرَامِهِ، لِأَنَّ قَتْلَهُ كَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقَتْلِ هُوَ التَّنَاوُلُ، فَإِذَا كَانَ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْمَقْصُودِ- مَحْظُورٌ إِحْرَامُهُ- مُوجِبًا عَلَيْهِ الْجَزَاءُ فَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ كَانَ أَوْلَى. الرَّابِعَةُ- لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا ذَبْحُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ، لِنَهْيِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الْمُحْرِمَ عَنْ قَتْلِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ذَبْحُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ ذَكَاةٌ، وَتَعَلَّقَ بِأَنَّهُ ذَبْحٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ وَهُوَ الْمُسْلِمُ، مُضَافٌ إِلَى مَحَلِّهِ وَهُوَ الْأَنْعَامُ، فَأَفَادَ مَقْصُودَهُ مِنْ حِلِّ الْأَكْلِ، أَصْلُهُ ذَبْحُ الْحَلَالِ. قُلْنَا: قَوْلُكُمْ ذَبْحٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فَالْمُحْرِمُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَبْحِ الصَّيْدِ، إذ الأهلية لا تستفاد
(1). كذا بالأصل، واسمه في (التهذيب) وغيره: كعب بن عمرو
…
إلخ.
عَقْلًا، وَإِنَّمَا يُفِيدُهَا الشَّرْعُ، وَذَلِكَ بِإِذْنِهِ فِي الذَّبْحِ، أَوْ بِنَفْيِهَا وَذَلِكَ بِنَهْيِهِ عَنِ الذَّبْحِ، وَالْمُحْرِمُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَبْحِ الصَّيْدِ، لِقَوْلِهِ:" لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ" فَقَدِ انْتَفَتِ الْأَهْلِيَّةُ بِالنَّهْيِ. وَقَوْلُكُمْ أَفَادَ مَقْصُودَهُ فَقَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا ذَبَحَ الصَّيْدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ، وَإِنَّمَا يَأْكُلُ مِنْهُ غَيْرُهُ عِنْدَكُمْ، فَإِذَا كَانَ الذَّبْحُ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ لِلذَّابِحِ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَلَّا يُفِيدَهُ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْفَرْعَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فِي أَحْكَامِهِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ مَا لَا يَثْبُتُ لِأَصْلِهِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" الصَّيْدَ" مَصْدَرٌ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْأَسْمَاءِ، فَأُوقِعَ عَلَى الْحَيَوَانِ الْمَصِيدِ، وَلَفْظُ الصَّيْدِ هُنَا عَامٌّ فِي كُلِّ صَيْدٍ بَرِّيٍّ وَبَحْرِيٍّ حَتَّى جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً"] المائدة: 96] فَأَبَاحَ صَيْدَ الْبَحْرِ إِبَاحَةً مُطْلَقَةً، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْآيَةِ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّادِسَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي خُرُوجِ السِّبَاعِ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ وَتَخْصِيصِهَا مِنْهُ، فقال مالك: كل شي لَا يَعْدُو مِنَ السِّبَاعِ مِثْلُ الْهِرِّ وَالثَّعْلَبِ وَالضَّبْعِ وَمَا أَشْبَهَهَا فَلَا يَقْتُلُهُ الْمُحْرِمُ، وَإِنْ قَتَلَهُ فَدَاهُ. قَالَ: وَصِغَارُ الذِّئَابِ لَا أَرَى أَنْ يَقْتُلَهَا الْمُحْرِمُ، فَإِنْ قَتَلَهَا فَدَاهَا، وَهِيَ مِثْلُ فِرَاخِ الْغِرْبَانِ. وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ كُلِّ مَا عَدَا عَلَى النَّاسِ فِي الْأَغْلَبِ، مِثْلِ الْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ، وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ عَلَيْهِ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ: إِنَّمَا ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عليه السلام:] خَمْسُ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ [الْحَدِيثَ، فَسَمَّاهُنَّ فُسَّاقًا، وَوَصَفَهُنَّ بِأَفْعَالِهِنَّ، لِأَنَّ الْفَاسِقَ فَاعِلٌ [لِلْفِسْقِ]«1» ، وَالصِّغَارُ لَا فِعْلَ لَهُنَّ، وَوَصَفَ الْكَلْبَ بِالْعَقُورِ وَأَوْلَادُهُ لَا تَعْقِرُ، فَلَا تَدْخُلُ فِي هَذَا النَّعْتِ. قَالَ [الْقَاضِي] «2» إِسْمَاعِيلُ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ مِمَّا يَعْظُمُ ضَرَرُهُ عَلَى النَّاسِ. قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ، لِأَنَّهُ يُخَافُ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ الْحِدَأَةُ وَالْغُرَابُ، لِأَنَّهُمَا يَخْطَفَانِ اللَّحْمَ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ. قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ: إِنَّمَا أُذِنَ فِي قَتْلِ الْعَقْرَبِ لِأَنَّهَا ذَاتُ حُمَةٍ «3» ، وَفِي الْفَأْرَةِ لِقَرْضِهَا السِّقَاءَ «4» وَالْحِذَاءَ اللَّذَيْنِ بِهِمَا قِوَامُ الْمُسَافِرِ. وفي الغراب
(1). من ك. [ ..... ]
(2)
. من ك.
(3)
. الحمة: السم أو الإبرة تضرب بها العقرب والزنبور ونحو ذلك.
(4)
. السقاء: القربة.
لِوُقُوعِهِ عَلَى الظَّهْرِ «1» وَنَقْبِهِ عَنْ لُحُومِهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يقتل الغراب ولا الحدأة إلا أن يضرا. قال] القاضي [«2» إسماعيل: واختلف في الزنبور، فشبهه بعضهم بالحية والعقرب، قال: ولولا أن الزنبور لا يبتدئ لكان أغلظ على الناس من الحية والعقرب، ولكنه ليس في طبعه من العداء ما في الحية والعقرب، وإنما يحمي الزنبور إذا أوذي. قال: فإذا عرض الزنبور لاحد فدفعه عن نفسه لم يكن عليه شي في قتله، وثبت عن عمر بن الخطاب إباحة قتل الزنبور. وقال مالك: يُطْعِمُ قَاتِلُهُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ قَتَلَ الْبُرْغُوثَ وَالذُّبَابَ وَالنَّمْلَ وَنَحْوَهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرأي: لا شي عَلَى قَاتِلِ هَذِهِ كُلِّهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنَ السِّبَاعِ إِلَّا الْكَلْبَ الْعَقُورَ وَالذِّئْبَ خَاصَّةً، سَوَاءٌ ابْتَدَآهُ أَوِ ابْتَدَأَهُمَا، وَإِنْ قَتَلَ غَيْرَهُ مِنَ السِّبَاعِ فَدَاهُ. قَالَ: فَإِنِ ابْتَدَأَهُ غَيْرُهُمَا مِنَ السِّبَاعِ فَقَتَلَهُ فَلَا شي عليه، قال: ولا شي عَلَيْهِ فِي قَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ، هَذِهِ جُمْلَةُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ إِلَّا زُفَرَ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَصَّ دواب بِأَعْيَانِهَا وَأَرْخَصَ لِلْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهَا مِنْ أَجْلِ ضَرَرِهَا، فَلَا وَجْهَ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا إِلَّا أن يجمعوا على شي فَيَدْخُلُ فِي مَعْنَاهَا. قُلْتُ: الْعَجَبُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله يَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى الْبُرِّ بِعِلَّةِ الْكَيْلِ، وَلَا يَحْمِلُ السِّبَاعَ الْعَادِيَةَ عَلَى الْكَلْبِ بِعِلَّةِ الْفِسْقِ وَالْعَقْرِ، كَمَا فَعَلَ مَالِكٌ والشافعي رحمهما الله! وقال زفر ابن الْهُذَيْلِ: لَا يُقْتَلُ إِلَّا الذِّئْبُ وَحْدَهُ، وَمَنْ قَتَلَ غَيْرَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، سَوَاءٌ ابْتَدَأَهُ أَوْ لَمْ يَبْتَدِئْهُ، لِأَنَّهُ عَجْمَاءُ فَكَانَ فِعْلُهُ هَدَرًا، وَهَذَا رَدٌّ لِلْحَدِيثِ وَمُخَالَفَةٌ لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَصِغَارُ ذَلِكَ وَكِبَارُهُ سَوَاءٌ، إِلَّا السِّمْعَ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالضَّبْعِ، قَالَ: وَلَيْسَ فِي الرَّخَمَةِ وَالْخَنَافِسِ وَالْقِرْدَانِ وَالْحَلَمِ «3» وما لا يؤكل لحمه شي، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الصَّيْدِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً"] المائدة: 96] فدل أن الصيد
(1). الظهر: الإبل الذاتي يحمل عليها ويركب.
(2)
. من ك.
(3)
. الحلم- بالتحريك- يجمع (الحلمة) وهي الصغيرة من القردان. وقيل: الضخم منها.
الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ لَهُمْ قَبْلَ الْإِحْرَامِ حَلَالًا، حَكَى عَنْهُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ تُفْدَى الْقَمْلَةُ وَهِيَ تُؤْذِي وَلَا تُؤْكَلُ؟ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ تُفْدَى إِلَّا عَلَى مَا يُفْدَى بِهِ الشَّعْرُ وَالظُّفْرُ وَلُبْسُ مَا لَيْسَ لَهُ لُبْسُهُ، لِأَنَّ فِي طَرْحِ الْقَمْلَةِ إِمَاطَةَ الْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ إِذَا كَانَتْ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَكَأَنَّهُ أَمَاطَ بَعْضَ شَعْرِهِ، فَأَمَّا إِذَا ظَهَرَتْ فَقُتِلَتْ فَإِنَّهَا لَا تُؤْذِي. وَقَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ فِي هَذَا الْبَابِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ. السَّابِعَةُ- رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ). اللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:] خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ الْحَيَّةُ وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالْحُدَيَّا [. وَبِهِ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: لَا يُقْتَلُ مِنَ الْغِرْبَانِ إِلَّا الْأَبْقَعُ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ تَقْيِيدٌ مُطْلَقٌ. وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:] وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ [. وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ: وَالسَّبُعُ الْعَادِي، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) عَامٌّ فِي النَّوْعَيْنِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، يُقَالُ: رَجُلٌ حَرَامٌ وَامْرَأَةٌ حَرَامٌ، وَجَمْعُ ذَلِكَ حُرُمٌ، كَقَوْلِهِمْ: قَذَالٌ وَقُذُلٌ. وَأَحْرَمَ الرَّجُلُ دَخَلَ فِي الْحَرَمِ، كَمَا يُقَالُ: أَسْهَلَ دَخَلَ فِي السَّهْلِ. وَهَذَا اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ وَحَالَةُ الْإِحْرَامِ بِالِاشْتِرَاكِ لَا بِالْعُمُومِ. يُقَالُ: رَجُلٌ حَرَامٌ إِذَا دَخَلَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَوْ فِي الْحَرَمِ، أَوْ تَلَبَّسَ بِالْإِحْرَامِ، إِلَّا أَنَّ تَحْرِيمَ الزَّمَانِ خَرَجَ بِالْإِجْمَاعِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا، وَبَقِيَ تَحْرِيمُ الْمَكَانِ وَحَالَةُ الْإِحْرَامِ عَلَى أَصْلِ التَّكْلِيفِ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. التَّاسِعَةُ- حَرَمُ الْمَكَانِ حَرَمَانِ، حَرَمُ الْمَدِينَةِ وَحَرَمُ مَكَّةَ- وَزَادَ الشَّافِعِيُّ الطَّائِفَ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ قَطْعُ شَجَرِهِ، وَلَا صَيْدُ صَيْدِهِ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فَأَمَّا حَرَمُ
الْمَدِينَةِ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الِاصْطِيَادُ لِأَحَدٍ وَلَا قَطْعُ الشَّجَرِ كَحَرَمِ مَكَّةَ، فَإِنْ فَعَلَ أَثِمَ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِمَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَقَالَ سَعْدٌ: جَزَاؤُهُ أَخْذُ سَلَبِهُ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: صَيْدُ الْمَدِينَةِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَكَذَلِكَ قَطْعُ شَجَرِهَا. وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَهُ بِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:] مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَصِيدُ فِي حُدُودِ الْمَدِينَةِ أَوْ يَقْطَعُ شَجَرَهَا فَخُذُوا سَلَبَهُ [. وَأَخَذَ سَعْدٌ سَلَبَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. قَالَ: وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ سَلَبُ مَنْ صَادَ فِي الْمَدِينَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ. وَاحْتَجَّ لَهُمِ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا بِحَدِيثِ أَنَسٍ- ما فعل النفير، فَلَمْ يُنْكِرْ صَيْدَهُ وَإِمْسَاكَهُ- وَهَذَا كُلُّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ. أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، ولو صح لم يكن في نسخ أحد السَّلَبِ مَا يُسْقِطُ مَا صَحَّ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ، فَكَمْ مِنْ مُحْرِمٍ لَيْسَ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَيْدٌ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ، أَنَّهُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحْشٌ فَإِذَا خَرَجَ لَعِبَ وَاشْتَدَّ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا أَحَسَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَبَضَ، فَلَمْ يَتَرَمْرَمْ «1» كَرَاهِيَةَ أَنْ يُؤْذِيَهُ. وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِمْ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ تَرْتَعُ بِالْمَدِينَةِ مَا ذَعَرْتُهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:] مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا «2» حَرَامٌ [فَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا ذَعَرْتُهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْوِيعُ الصَّيْدِ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَرْوِيعُهُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ. وَكَذَلِكَ نَزْعُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ النُّهَسَ- وَهُوَ طَائِرٌ- مِنْ يَدِ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ كَانَ صَادَهُ بِالْمَدِينَةِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمُوا مُرَادَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَحْرِيمِ صَيْدِ الْمَدِينَةِ، فَلَمْ يُجِيزُوا فِيهَا الِاصْطِيَادَ وَلَا تَمَلُّكَ مَا يُصْطَادُ. وَمُتَعَلَّقُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحِ:] اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ مِثْلَ مَا حَرَّمَ بِهِ مَكَّةَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَا يُخْتَلَى «3» خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا [وَلِأَنَّهُ
حَرَّمَ مَنْعَ الِاصْطِيَادِ فِيهِ فَتَعَلَّقَ الْجَزَاءُ بِهِ كَحَرَمِ مَكَّةَ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وهذا قول أقيس عندي
(1). أي سكن ولم يتحرك.
(2)
. لابتا المدينة هما حرتان يكتنفانها.
(3)
. الخلي: النبات الرقيق ما دام رطبا، ويختلى: يقطع.
عَلَى أُصُولِنَا، لَا سِيَّمَا أَنَّ الْمَدِينَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَمِنْ حُجَّةِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَلَّا يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِجَزَاءٍ وَلَا أَخْذِ سَلَبٍ- فِي الْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ- عُمُومُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحِ:] الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ «1» فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا [«2» فَأَرْسَلَ صلى الله عليه وسلم الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ سَعْدٍ فَذَلِكَ مَذْهَبٌ لَهُ مَخْصُوصٌ بِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ رَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ، فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا- أَوْ يَخْبِطُهُ- فَسَلَبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلَامِهِمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلَامِهِمْ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ، فَقَوْلُهُ:(نَفَّلَنِيهِ) ظَاهِرُهُ الْخُصُوصُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُتَعَمِّدَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُخْطِئَ وَالنَّاسِيَ، وَالْمُتَعَمِّدُ هُنَا هُوَ الْقَاصِدُ لِلشَّيْءِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْإِحْرَامِ. وَالْمُخْطِئُ هُوَ الَّذِي يَقْصِدُ شَيْئًا فَيُصِيبُ صَيْدًا، وَالنَّاسِي هُوَ الَّذِي يَتَعَمَّدُ الصَّيْدَ وَلَا يَذْكُرُ إِحْرَامَهُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- مَا أَسْنَدَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا التَّكْفِيرُ فِي الْعَمْدِ، وَإِنَّمَا غَلَّظُوا فِي الْخَطَأِ لِئَلَّا يَعُودُوا. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ:" مُتَعَمِّداً" خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ، فَأُلْحِقَ بِهِ النَّادِرُ كأصول الشريعة. الثالث- أنه لا شي عَلَى الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي، وَبِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابن عباس وسعيد ابن جُبَيْرٍ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ. وَتَعَلَّقَ أَحْمَدُ بِأَنْ قَالَ: لَمَّا خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُتَعَمِّدَ بِالذِّكْرِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ بِخِلَافِهِ. وَزَادَ بِأَنْ قَالَ: الْأَصْلُ براءة الذمة فمن
(1). عير جبل بناحية المدينة، أما ثور فيرى بعض أهل الحديث أن ذكره هنا وهم من الراوي، وإنما هو جبل بمكة، والصحيح (من عير إلى أحد) وهي رواية قليلة. وقدر بعض: حرم المدينة مقدار ما بين عير وثور. وفي (النووي) قال القاضي: أكثر الرواة في كتاب البخاري ذكروا عيرا وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا، ومنهم من ترك مكانه بياضا لأنهم اعتقدوا ذكر ثور هنا خطأ.
(2)
. لا يقبل منه صرف ولا عدل: الصرف التوبة والعدل الفدية. وقيل: الصرف النافلة والعدل الفريضة. وقيل: غير ذلك.
ادَّعَى شَغْلَهَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. الرَّابِعُ- أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالزُّهْرِيِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمْ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَجَبَ الْجَزَاءُ فِي الْعَمْدِ بِالْقُرْآنِ، وَفِي الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ بِالسُّنَّةِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنْ كَانَ يُرِيدُ بِالسُّنَّةِ الْآثَارَ الَّتِي وَرَدَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ فَنِعِمَّا هِيَ، وَمَا أَحْسَنَهَا أُسْوَةً. الْخَامِسُ- أَنْ يَقْتُلَهُ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ- وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ- لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ:" وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ". قَالَ: وَلَوْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ لَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، قَالَ: فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ فَقَدْ حَلَّ وَلَا حَجَّ لَهُ لِارْتِكَابِهِ مَحْظُورَ إِحْرَامِهِ، فَبَطَلَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ أَحْدَثَ فِيهَا، قَالَ: وَمَنْ أَخْطَأَ فَذَلِكَ الَّذِي يُجْزِئُهُ. وَدَلِيلُنَا عَلَى مُجَاهِدٍ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ الْجَزَاءَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْفَسَادَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِلْإِحْرَامِ أَوْ نَاسِيًا لَهُ، وَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْحَجِّ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ عَلَيْهِ فِي قَتْلِهِ مُتَعَمِّدًا، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَحَجُّهُ تَامٌّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ. وَدَلِيلُنَا عَلَى دَاوُدَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الضَّبْعِ فَقَالَ:] هِيَ صَيْدٌ [وَجَعَلَ فِيهَا إِذَا أَصَابَهَا الْمُحْرِمُ كَبْشًا، وَلَمْ يَقُلْ عَمْدًا وَلَا خَطَأَ. وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ مِنْ عُلَمَائِنَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:" مُتَعَمِّداً" لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّجَاوُزَ عَنِ الْخَطَأِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ" مُتَعَمِّداً" لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ كَابْنِ آدَمَ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ فِي قَتْلِهِ مُتَعَمِّدًا كَفَّارَةً، وَأَنَّ الصَّيْدَ فِيهِ كَفَّارَةٌ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ إِسْقَاطَ الْجَزَاءِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- فَإِنْ قَتَلَهُ فِي إِحْرَامِهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حُكِمَ عَلَيْهِ كُلَّمَا قَتَلَهُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ" فَالنَّهْيُ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ عَلَيْهِ مَا دَامَ مُحْرِمًا فَمَتَى قَتَلَهُ فَالْجَزَاءُ لِأَجْلِ ذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِنْ عَادَ ثَانِيَةً فَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ لَهُ: يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ". وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وإبراهيم ومجاهد
وَشُرَيْحٌ. وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَمَادِي التَّحْرِيمِ فِي الْإِحْرَامِ، وَتَوَجُّهِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ فِي دين الإسلام. الثانية عشرة- قَوْلُهُ تَعَالَى:(فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) فِيهِ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ،" فَجَزاءٌ مِثْلُ" بِرَفْعِ جَزَاءٌ وَتَنْوِينِهِ، وَ" مِثْلُ" عَلَى الصِّفَةِ، وَالْخَبَرِ مُضْمَرٌ، التَّقْدِيرُ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ مُمَاثِلٌ وَاجِبٌ أَوْ لَازِمٌ مِنَ النَّعَمِ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ هُوَ الْجَزَاءَ بِعَيْنِهِ. وَ" جَزَاءُ" بِالرَّفْعِ غَيْرُ مُنَوَّنٍ وَ" مِثْلُ" بِالْإِضَافَةِ أَيْ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ، وَ" مِثْلُ" مُقْحَمَةٌ كَقَوْلِكَ أَنَا أُكْرِمُ مِثْلَكَ، وَأَنْتَ تَقْصِدُ أَنَا أُكْرِمُكَ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ"«1» ] الانعام: 122] التَّقْدِيرُ كَمَنْ هُوَ فِي الظُّلُمَاتِ، وَقَوْلُهُ" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" «2»] الشورى: 11] أي ليس كهو شي «3» . وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ غَيْرَ الْمِثْلِ، إِذِ الشَّيْءُ لَا يُضَافُ إِلَى نَفْسِهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءُ الْمَقْتُولِ، لَا جَزَاءُ مِثْلِ الْمَقْتُولِ، وَالْإِضَافَةُ تُوجِبُ جَزَاءَ الْمِثْلِ لَا جَزَاءَ الْمَقْتُولِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَا يَأْتِي. وَقَوْلُهُ:" مِنَ النَّعَمِ" صِفَةٌ لِجَزَاءٍ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ" مِنَ النَّعْمِ" بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَهِيَ لُغَةٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ" فَجَزاءٌ" بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ" مِثْلَ" بِالنَّصْبِ، قَالَ أَبُو الْفَتْحِ:" مِثْلَ" مَنْصُوبَةٌ بِنَفْسِ الْجَزَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنْ يُجْزَى مِثْلَ مَا قَتَلَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ" فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ" بِإِظْهَارِ (هَاءٍ)، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الصَّيْدِ أَوْ عَلَى الصَّائِدِ الْقَاتِلِ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- الْجَزَاءُ إِنَّمَا يَجِبُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ لَا بِنَفْسِ أَخْذِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى. وَفِي (الْمُدَوَّنَةِ): مَنْ اصْطَادَ طَائِرًا فَنَتَفَ رِيشَهُ ثُمَّ حَبَسَهُ حَتَّى نَسَلَ رِيشَهُ فَطَارَ، قَالَ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ.] قَالَ [«4» وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يَدَ صَيْدٍ أَوْ رِجْلَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْ أَعْضَائِهِ وَسَلِمَتْ نَفْسُهُ وَصَحَّ وَلَحِقَ بِالصَّيْدِ فلا شي عَلَيْهِ. وَقِيلَ: عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَهُ. وَلَوْ ذَهَبَ وَلَمْ يَدْرِ مَا فَعَلَ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ. وَلَوْ زَمِنَ الصَّيْدُ وَلَمْ يَلْحَقِ الصيد، أو تركه محوفا «5» عليه
فعليه جزاؤه كاملا.
(1). راجع ج 7 ص 78.
(2)
. راجع ج 16 ص 7.
(3)
. من ب، ى وسقطت الجملة مع الآية من ج، ك، هـ، ع، ز، وفي أ، و، ل: ليس هو كشيء. [ ..... ]
(4)
. من ك.
(5)
. من ع، ك. في ج، أ: مخوفا.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- مَا يُجْزَى مِنَ الصَّيْدِ شَيْئَانِ: دَوَابٌّ وَطَيْرٌ، فَيُجْزَى مَا كَانَ مِنَ الدَّوَابِّ بِنَظِيرِهِ فِي الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ، فَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ وَبَقَرَةِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَأَقَلُّ مَا يَجْزِي عِنْدَ مَالِكٍ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَكَانَ أُضْحِيَّةً، وَذَلِكَ كَالْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ وَالثَّنِيِّ مِمَّا سِوَاهُ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْ جَزَاؤُهُ ذَلِكَ فَفِيهِ إِطْعَامٌ أَوْ صِيَامٌ. وَفِي الْحَمَامِ كُلِّهُ قِيمَتُهُ إِلَّا حَمَامَ مَكَّةَ، فَإِنَّ فِي الْحَمَامَةِ مِنْهُ شَاةً اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ فِي ذَلِكَ. وَالدُّبْسِيُّ «1» وَالْفَوَاخِتُ وَالْقُمْرِيُّ وَذَوَاتُ الْأَطْوَاقِ كُلُّهُ حَمَامٌ. وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ فِي حَمَامِ مَكَّةَ وَفِرَاخِهَا شَاةً، قَالَ: وَكَذَلِكَ حَمَامُ الْحَرَمِ، قَالَ: وَفِي حَمَامِ الْحِلِّ حُكُومَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْمِثْلُ فِي الْقِيمَةِ دُونَ الْخِلْقَةِ، فَيُقَوَّمُ الصَّيْدُ دَرَاهِمَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قَتَلَهُ فِيهِ، أَوْ فِي أَقْرَبِ مَوْضِعٍ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ لَا يُبَاعُ الصَّيْدُ فِي مَوْضِعِ قَتْلِهِ، فَيَشْتَرِي بِتِلْكَ الْقِيمَةِ هَدْيًا إِنْ شَاءَ، أَوْ يَشْتَرِي بِهَا طَعَامًا وَيُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ يَرَى الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ ثُمَّ يُقَوَّمُ الْمِثْلُ كَمَا فِي الْمُتْلَفَاتِ يُقَوَّمُ الْمِثْلُ، وَتُؤْخَذُ قِيمَةُ الْمِثْلِ كَقِيمَةِ الشَّيْءِ، فَإِنَّ الْمِثْلَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْوُجُوبِ، وَهَذَا بَيِّنٌ وَعَلَيْهِ تُخَرَّجُ قِرَاءَةُ الْإِضَافَةِ (فَجَزَاءٌ مِثْلُ). احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: لَوْ كَانَ الشَّبَهُ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ مُعْتَبَرًا، فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي الْحِمَارِ بَقَرَةٌ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ، لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ يَحْكُمَانِ بِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الِارْتِيَاءِ وَالنَّظَرِ، وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْعُدُولِ وَالنَّظَرِ مَا تُشْكِلُ الْحَالُ فِيهِ، وَيَضْطَرِبُ وَجْهَ النَّظَرِ عَلَيْهِ. وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:" فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ" الْآيَةَ. فَالْمِثْلُ يَقْتَضِي بِظَاهِرَةِ الْمِثْلِ الْخِلْقِيِّ الصُّورِيِّ دُونَ الْمَعْنَى، ثُمَّ قَالَ:" مِنَ النَّعَمِ" فَبَيَّنَ جِنْسَ الْمِثْلِ، ثُمَّ قَالَ:" يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ" وَهَذَا ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَى مِثْلٍ مِنَ النَّعَمِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِسِوَاهُ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:" هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ" وَالَّذِي يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْهَدْيُ مِثْلُ الْمَقْتُولِ مِنَ النَّعَمِ، فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ هَدْيًا، وَلَا جَرَى لَهَا ذِكْرٌ فِي نَفْسِ الْآيَةِ، فَصَحَّ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ الشَّبَهُ مُعْتَبَرًا لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ اعْتِبَارَ الْعَدْلَيْنِ إِنَّمَا وَجَبَ لِلنَّظَرِ فِي حَالِ الصَّيْدِ مِنْ صِغَرٍ وَكِبَرٍ، وَمَا لَا جِنْسَ لَهُ مِمَّا لَهُ جِنْسٌ، وَإِلْحَاقُ مَا لَمْ يَقَعْ عليه نص بما وقع عليه النص.
(1). الدبسي: نوع من الفواخت.
الْخَّامِسَةَ عَشْرَةَ- مَنْ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ فَأَغْلَقَ بَابَ بَيْتِهِ عَلَى فِرَاخِ حَمَامٍ فَمَاتَتْ فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ فَرْخٍ شَاةٌ. قَالَ مَالِكٌ: وَفِي صِغَارِ الصَّيْدِ مِثْلُ مَا فِي كِبَارِهِ، وَهُوَ قول عطاء. ولا يفدى عند مالك شي بِعَنَاقٍ «1» وَلَا جَفْرَةٍ، قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ مِثْلُ الدِّيَةِ، الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فِيهَا سَوَاءٌ. وَفِي الضَّبِّ عِنْدَهُ وَالْيَرْبُوعِ «2» قِيمَتُهُمَا طَعَامًا. وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي صِغَارِ الصَّيْدِ، وَفِي اعْتِبَارِ الْجَذَعِ وَالثَّنِيِّ، وَيَقُولُ بِقَوْلِ عُمَرَ: فِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ، رَوَاهُ مَالِكٌ مَوْقُوفًا. وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:] فِي الضَّبْعِ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ كَبْشٌ وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ [قَالَ: وَالْجَفْرَةُ الَّتِي قَدِ ارْتَعَتْ. وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ قُلْتُ لِأَبِي الزُّبَيْرِ: وَمَا الْجَفْرَةُ؟ قَالَ: الَّتِي قَدْ فُطِمَتْ وَرَعَتْ. خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي فَرْخِهَا فَصِيلٌ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ، وَفِي سَخْلِهِ «3» عِجْلٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِالْمِثْلِيَّةِ فِي الْخِلْقَةِ، وَالصِّغَرُ وَالْكِبَرُ مُتَفَاوِتَانِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ الصَّغِيرِ فِيهِ وَالْكَبِيرِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ عُلَمَائِنَا، قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الصَّيْدُ أعور أو أعرج أَوْ كَسِيرًا لَكَانَ الْمِثْلُ عَلَى صِفَتِهِ لِتَتَحَقَّقِ الْمِثْلِيَّةِ، فَلَا يَلْزَمُ الْمُتْلِفُ فَوْقَ مَا أَتْلَفَ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ" وَلَمْ يُفْصَلْ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ. وَقَوْلُهُ:" هَدْياً" يَقْتَضِي مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْهَدْيِ لِحَقِّ الْإِطْلَاقِ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْهَدْيَ التَّامَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ عُشْرُ ثَمَنِ الْبَدَنَةِ عِنْدَ مَالِكٍ. وَفِي بَيْضِ الْحَمَامَةِ الْمَكِّيَّةِ عِنْدَهُ عُشْرُ ثَمَنِ الشَّاةِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَسَوَاءٌ كَانَ فِيهَا فَرْخٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَا لَمْ يَسْتَهِلَّ الْفَرْخُ بَعْدَ الْكَسْرِ، فَإِنِ اسْتَهَلَّ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ كَامِلًا كَجَزَاءِ الْكَبِيرِ مِنْ ذَلِكَ الطَّيْرِ. قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: بِحُكُومَةِ عَدْلَيْنِ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَرَوْنَ فِي بَيْضِ كُلِّ طَائِرٍ الْقِيمَةَ. رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي بَيْضِ نَعَامٍ أَصَابَهُ مُحْرِمٌ بِقَدْرِ ثَمَنِهِ، خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «4» قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:] فِي كُلِّ بَيْضَةِ نعام صيام يوم أو إطعام مسكين [.
(1). العناق: الأنثى من أولاد المعز.
(2)
. اليربوع: دويبة فوق الفأر.
(3)
. في كل الأصول: سخلة. والسخل ولد الضأن والمعز. أما ولد حمار الوحش فهو الجحش والهنبر والدوبل والقلو واللكع.
(4)
. كذا في ب، ج، ع.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَأَمَّا مَا لَا مِثْلَ لَهُ كَالْعَصَافِيرِ وَالْفِيَلَةِ فَقِيمَةُ لَحْمِهِ أَوْ عَدْلِهِ مِنَ الطَّعَامِ، دُونَ مَا يُرَادُ لَهُ مِنَ الْأَغْرَاضِ «1» ، لِأَنَّ الْمُرَاعَى فِيمَا لَهُ مِثْلُ وُجُوبٍ مِثْلُهُ، فَإِنْ عُدِمَ الْمِثْلُ فَالْقِيمَةُ قَائِمَةٌ مَقَامَهُ كَالْغَصْبِ وَغَيْرِهِ. وَلِأَنَّ النَّاسَ قَائِلَانِ- أَيْ عَلَى مَذْهَبَيْنِ- مُعْتَبِرٌ لِلْقِيمَةِ فِي جَمِيعِ الصَّيْدِ، وَمُقْتَصِرٌ بِهَا عَلَى مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ، فَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ. وَأَمَّا الْفِيلُ فَقِيلَ: فِيهِ بَدَنَةٌ مِنَ الْهِجَانِ الْعِظَامِ الَّتِي لَهَا سَنَامَانِ، وَهِيَ بِيضٌ خُرَاسَانِيَّةٌ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ شي مِنْ هَذِهِ الْإِبِلِ فَيُنْظَرُ إِلَى قِيمَتِهِ طَعَامًا، فَيَكُونُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَالْعَمَلُ فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ الْفِيلُ فِي مَرْكَبٍ، وَيُنْظَرُ إِلَى مُنْتَهَى مَا يَنْزِلُ الْمَرْكَبُ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ يُخْرَجُ الْفِيلُ وَيُجْعَلُ فِي الْمَرْكَبِ طَعَامٌ حَتَّى يَنْزِلَ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي نَزَلَ وَالْفِيلُ فِيهِ، وَهَذَا عَدْلُهُ مِنَ الطَّعَامِ. وَأَمَّا أَنْ يُنْظَرَ إِلَى قِيمَتِهِ فَهُوَ يَكُونُ لَهُ ثَمَنٌ عَظِيمٌ لِأَجْلِ عِظَامِهِ وَأَنْيَابِهِ فَيَكْثُرُ الطَّعَامُ وَذَلِكَ ضَرَرٌ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) روى مالك عن عبد الملك ابن قُرَيْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إِنِّي أَجْرَيْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي فَرَسَيْنِ نَسْتَبِقُ إِلَى ثَغْرَةِ ثَنِيَّةٍ «2» ، فَأَصَبْنَا ظَبْيًا وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ فَمَاذَا تَرَى؟ فَقَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِهِ: تَعَالَ حَتَّى أَحْكُمَ أَنَا وَأَنْتَ، فَحَكَمَا عَلَيْهِ بِعَنْزٍ، فَوَلَّى الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْكُمَ فِي ظَبْيٍ حَتَّى دَعَا رَجُلًا يَحْكُمُ مَعَهُ، فَسَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَوْلَ الرَّجُلِ فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ، هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ" الْمَائِدَةِ"؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ: هَلْ تَعْرِفُ الرَّجُلَ الَّذِي حَكَمَ مَعِي؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَوْ أَخْبَرْتَنِي أَنَّكَ تَقْرَأُ سُورَةَ" الْمَائِدَةِ" لَأَوْجَعْتُكَ ضَرْبًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ:" يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ" وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- إِذَا اتَّفَقَ الْحَكَمَانِ لَزِمَ الْحُكْمُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ. وَإِنِ اخْتَلَفَا نُظِرَ فِي غَيْرِهِمَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ: لَا يَأْخُذُ بِأَرْفَعِ مِنْ قَوْلَيْهِمَا، لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِغَيْرِ تَحْكِيمٍ. وَكَذَلِكَ
(1). في ى: الأغراض. بمعجمة. وباقي الأصول بمهملة.
(2)
. الثنية: كل عقبة مسلوكة في الجبل.
لَا يَنْتَقِلُ عَنِ الْمِثْلِ الْخِلْقِيِّ إِذَا حَكَمَا بِهِ إِلَى الطَّعَامِ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ لَزِمَ، قال ابْنُ شَعْبَانَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ أَمَرَهُمَا أَنْ يَحْكُمَا بِالْجَزَاءِ مِنَ الْمِثْلِ فَفَعَلَا، فَأَرَادَ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى الطَّعَامِ جَازَ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ رحمه الله فِي (الْعُتْبِيَّةِ): مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُخَيِّرَ الْحَكَمَانِ مَنْ أَصَابَ الصَّيْدَ، كَمَا خَيَّرَهُ اللَّهُ فِي أَنْ يُخْرِجَ" هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً" فَإِنِ اخْتَارَ الْهَدْيَ حَكَمَا عَلَيْهِ بِمَا يَرَيَانِهِ نَظِيرًا لِمَا أَصَابَ مَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَدْلُ ذَلِكَ شَاةً لِأَنَّهَا أَدْنَى الْهَدْيِ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْ شَاةً حَكَمَا فِيهِ بِالطَّعَامِ ثُمَّ خُيِّرَ فِي أَنْ يُطْعِمَهُ، أَوْ يَصُومَ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي (الْمُدَوَّنَةِ). الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- وَيُسْتَأْنَفُ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا مَضَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ أَوْ لَمْ تَمْضِ، وَلَوِ اجْتَزَأَ بِحُكُومَةِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِيمَا حَكَمُوا بِهِ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ كَانَ حَسَنًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ مَا عَدَا حَمَامَ مَكَّةَ وَحِمَارَ الْوَحْشِ وَالظَّبْيِ وَالنَّعَامَةِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْحُكُومَةِ، وَيُجْتَزَأُ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ بِحُكُومَةِ مَنْ مَضَى مِنَ السَّلَفِ رضي الله عنهم. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَانِي أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَكُونُ الْجَانِي أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ، وَهَذَا تَسَامُحٌ مِنْهُ، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَانِيًا وَحَكَمَيْنِ فَحَذْفُ بَعْضِ الْعَدَدِ إِسْقَاطٌ لِلظَّاهِرِ، وَإِفْسَادٌ لِلْمَعْنَى، لِأَنَّ حُكْمَ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَاسْتَغْنَى بِنَفْسِهِ عَنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَزِيَادَةُ ثَانٍ إِلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْحُكْمِ بِرَجُلَيْنِ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- إِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ مُحْرِمُونَ فِي قَتْلِ صَيْدٍ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ جَزَاءٌ كَامِلٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِمْ كُلُّهُمْ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِقَضَاءِ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ مَوَالِيَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ أَحْرَمُوا إِذْ مَرَّتْ بِهِمْ ضَبْعٌ فَحَذَفُوهَا «1» بِعِصِيِّهِمْ فَأَصَابُوهَا، فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَتَوْا ابْنَ عُمَرَ فَذَكَرُوا لَهُ فَقَالَ: عَلَيْكُمْ كُلُّكُمْ كَبْشٌ، قَالُوا: أَوْ عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَّا كَبْشٌ، قَالَ: إِنَّكُمْ لَمُعَزَّزٌ بِكُمْ «2» ، عَلَيْكُمْ كُلُّكُمْ كَبْشٌ. قال اللغويون: لمعزز بكم أي لمشدد
(1). الحذف: الرمي.
(2)
. كان الموالي قد سألوا قبل ابن عمر- رضى الله عنه- صحابها فأمر لكل واحد منهم بكفارة، ثم سألوا ابن عمر، وأخبروه بفتيا الذي أفناهم، فقال: إنكم لمعزز بكم
…
إلخ.
عَلَيْكُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْمٍ أَصَابُوا ضَبْعًا قَالَ: عَلَيْهِمْ كَبْشٌ يَتَخَارَجُونَهُ «1» بَيْنَهُمْ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ:" وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ" وَهَذَا خِطَابٌ لِكُلِّ قَاتِلٍ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَاتِلِينَ لِلصَّيْدِ قَاتِلٌ نَفْسًا عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، بِدَلِيلِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِصَاصُ، وَقَدْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ إِجْمَاعًا مِنَّا وَمِنْهُمْ، فَثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ وَكُلُّهُمْ «2» مُحِلُّونَ، عَلَيْهِمْ جَزَاءُ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَهُ الْمُحْرِمُونَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مُحْرِمًا بِدُخُولِهِ الْحَرَمَ، كَمَا يَكُونُ مُحْرِمًا بِتَلْبِيَتِهِ بِالْإِحْرَامِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ قَدْ أَكْسَبَهُ صِفَةٌ تَعَلَّقَ بِهَا نهي، فهو هاتك لها في الحالتين. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ قَالَ: السِّرُّ فِيهِ أَنَّ الْجِنَايَةَ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَقَدِ ارْتَكَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَحْظُورَ إِحْرَامِهِ. وَإِذَا قَتَلَ الْمُحِلُّونَ] صَيْدًا [«3» فِي الْحَرَمِ فَإِنَّمَا أَتْلَفُوا دَابَّةً مُحَرَّمَةً بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَتْلَفَ جَمَاعَةٌ دَابَّةً، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلُ دَابَّةٍ، وَيَشْتَرِكُونَ فِي الْقِيمَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَبُو حَنِيفَةَ أَقْوَى مِنَّا، وَهَذَا الدَّلِيلُ يَسْتَهِينُ بِهِ عُلَمَاؤُنَا وَهُوَ عَسِيرُ الِانْفِصَالِ عَلَيْنَا. الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) الْمَعْنَى أَنَّهُمَا إِذَا حَكَمَا بِالْهَدْيِ فَإِنَّهُ يُفْعَلُ بِهِ مَا يُفْعَلُ بِالْهَدْيِ مِنَ الْإِشْعَارِ وَالتَّقْلِيدِ، وَيُرْسَلُ مِنَ الْحِلِّ إِلَى مَكَّةَ، وَيُنْحَرُ وَيُتَصَدَّقُ بِهِ فِيهَا، لِقَوْلِهِ:" هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ" وَلَمْ يُرِدِ الْكَعْبَةَ بِعَيْنِهَا فَإِنَّ الْهَدْيَ لَا يَبْلُغُهَا، إِذْ هِيَ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْحَرَمَ وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْتَاجُ الْهَدْيُ إِلَى الْحِلِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ مِنَ الْهَدْيِ يَجِبُ فِي الصَّغِيرِ مِنَ الصَّيْدِ، فَإِنَّهُ يُبْتَاعُ فِي الحرم ويهدى فيه.
(1). يتخارج بمعنى يخرج كل واحد منهم نصيبه من ثمنه.
(2)
. من ع.
(3)
. الزيادة عن ابن العربي. [ ..... ]
الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) " الْكَفَّارَةُ إِنَّمَا هِيَ عَنِ الصَّيْدِ لَا عَنِ الْهَدْيِ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي الَّذِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ فِيهِ، أَنَّهُ يُقَوِّمُ الصَّيْدَ الَّذِي أَصَابَ، فَيَنْظُرُ كَمْ ثَمَنُهُ مِنَ الطَّعَامِ، فَيُطْعِمُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا، أَوْ يَصُومُ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: إِنْ قَوَّمَ الصَّيْدَ دَرَاهِمَ ثُمَّ قَوَّمَهَا طَعَامًا أَجْزَأَهُ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِثْلَهُ، قَالَ عَنْهُ: وَهُوَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالْخِيَارِ، أَيَّ ذَلِكَ فَعَلَ أَجْزَأَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّ" أَوْ" لِلتَّخْيِيرِ. قَالَ مَالِكٌ: كُلُّ شي فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي الْكَفَّارَاتِ كَذَا أَوْ كَذَا فَصَاحِبْهُ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ، أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ أَنْ يَفْعَلَ فَعَلَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ ظَبْيًا أَوْ نَحْوَهُ فَعَلَيْهِ شَاةٌ تُذْبَحُ بِمَكَّةَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَإِنْ قَتَلَ إِيَّلًا «1» أَوْ نَحْوَهُ فَعَلَيْهِ بَقَرَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ عِشْرِينَ مِسْكِينًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَإِنْ قَتَلَ نَعَامَةً أَوْ حِمَارًا فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ «2» ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَالطَّعَامُ مُدٌّ مُدٌّ لِشِبَعِهِمْ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالُوا: وَالْمَعْنَى" أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ" إِنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ حُكِمَ عَلَيْهِ بِجَزَائِهِ، فَإِنْ وَجَدَ جَزَاءَهُ ذَبَحَهُ وَتَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ جَزَاؤُهُ قُوِّمَ جَزَاؤُهُ بِدَرَاهِمَ، ثُمَّ قُوِّمَتِ الدَّرَاهِمُ حِنْطَةً، ثُمَّ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا، وَقَالَ: إِنَّمَا أُرِيدَ بِالطَّعَامِ تَبْيِينُ أَمْرِ الصِّيَامِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ طَعَامًا، فَإِنَّهُ يَجِدُ جَزَاءَهُ. وَأَسْنَدَهُ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ. وَيُعْتَرَضُ هَذَا الْقَوْلُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ يُنَافِرُهُ. السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُتْلَفُ، فَقَالَ قَوْمٌ: يَوْمَ الْإِتْلَافِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَوْمَ الْقَضَاءِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَلْزَمُ الْمُتْلِفُ أَكْثَرَ الْقِيمَتَيْنِ، مِنْ يَوْمِ الْإِتْلَافِ إِلَى يَوْمِ الْحُكْمِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا كَاخْتِلَافِهِمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْإِتْلَافِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْوُجُودَ كَانَ حَقًّا لِلْمُتْلَفِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَعْدَمَهُ الْمُتْلِفُ لَزِمَهُ إِيجَادُهُ بمثله، وذلك في وقت العدم.
(1). الإبل قيل: هو (مثلث الهمزة) والوجه الكسر، وهو الذكر من الأوعال.
(2)
. في ع وك وى: فعليه بدله من الطعام ثلاثين مسكينا.
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- أَمَّا الْهَدْيُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَكَّةَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ". وَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ هَلْ يَكُونُ بِمَكَّةَ أَوْ بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ، وَإِلَى كَوْنِهِ بِمَكَّةَ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا كَانَ مِنْ دَمٍ أَوْ طَعَامٍ فَبِمَكَّةَ وَيَصُومُ حَيْثُ يَشَاءُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الصَّوْمِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ شي مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ بِغَيْرِ الْحَرَمِ إِلَّا الصِّيَامَ. وَقَالَ حَمَّادٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُكَفِّرُ بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ مُطْلَقًا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: يُكَفِّرُ حَيْثُ شَاءَ مُطْلَقًا، فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا وَجْهَ لَهُ فِي النَّظَرِ، وَلَا أَثَرَ فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ يَصُومُ حَيْثُ شَاءَ، فَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِالصَّائِمِ فَتَكُونُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَصِيَامِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا وَجْهُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الطَّعَامَ يَكُونُ بِمَكَّةَ، فَلِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الْهَدْيِ أَوْ نَظِيرٌ لَهُ، وَالْهَدْيُ حَقٌّ لِمَسَاكِينَ مَكَّةَ، فَلِذَلِكَ يَكُونُ بِمَكَّةَ بَدَلُهُ أَوْ نَظِيرُهُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهُ يَكُونُ بِكُلِّ مَوْضِعٍ، فَاعْتِبَارٌ بِكُلِّ طَعَامٍ وَفِدْيَةٍ، فَإِنَّهَا تَجُوزُ بِكُلِّ مَوْضِعٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) الْعَدْلُ وَالْعِدْلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ وَهُمَا الْمِثْلُ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: عِدْلُ الشَّيْءِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَيُؤْثَرُ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ الْكِسَائِيِّ، تَقُولُ: عِنْدِي عَدْلُ دَرَاهِمِكَ مِنَ الدَّرَاهِمِ، وَعِنْدِي عَدْلُ دَرَاهِمِكَ مِنَ الثِّيَابِ، وَالصَّحِيحُ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُمَاثِلَ الصِّيَامُ الطَّعَامَ فِي وَجْهٍ أَقْرَبَ مِنَ الْعَدَدِ. قَالَ مَالِكٌ: يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَإِنْ زَادَ عَلَى شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنَّمَا يُقَالُ كَمْ مِنْ رَجُلٍ يَشْبَعُ من هذا الصيد فيعرف الْعَدَدُ، ثُمَّ يُقَالُ: كَمْ مِنَ الطَّعَامِ يُشْبِعُ هَذَا الْعَدَدَ، فَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ ذَلِكَ الطَّعَامَ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَدَدَ أَمْدَادِهِ. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ احْتَاطَ فِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ قِيمَةُ الصَّيْدِ مِنَ الطَّعَامِ قَلِيلَةً، فَبِهَذَا النَّظَرِ يَكْثُرُ الإطعام. ومن أهله الْعِلْمِ مَنْ لَا يَرَى أَنْ يَتَجَاوَزَ فِي صِيَامِ الْجَزَاءِ شَهْرَيْنِ، قَالُوا: لِأَنَّهَا أَعْلَى الْكَفَّارَاتِ. واختاره ابن العربي. وقال أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدَّيْنِ يَوْمًا اعْتِبَارًا بِفِدْيَةِ الْأَذَى.