الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السيف والسّنان بعد أن أعجزتهم الحجة والبرهان ثم ذكر حالا أخرى لهم هى أن علماءهم وقعوا في الحيرة والاضطراب حين مجيء الدين الجديد، أيتبعونه ولكن ربما خذله أتباعه، أم يحتفظون بالقديم ولكن ربما كسدت سوقه وقلّ أنصاره، وقالوا من الخير كل الخير أن نوافق كل حزب نخلو به، ونعتذر إلى الحزب الآخر إذا عرف ما كان منا حتى يتبين اتجاه ربح السفينة.
أما عامتهم فلا علم لهم بشىء من الكتاب، وما عندهم من الدين إلا ظنون أخذوها عن أسلافهم دون أن يكون لديهم دليل على صحتها أو فسادها، ومثل هذا لا يسمى علما، إنما العلم ما كان عن حجة وبرهان، ولا يقبل الله إلا العلم الصحيح في عقائد الأديان.
الإيضاح
(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الطمع تعلق النفس بإدراك ما تحب تعلقا قويا، وهو أشد من الرجاء، أن يؤمنوا لكم، أي أن يؤمنوا لأجل دعوتكم إياهم، والفريق الجماعة لا واحد له من لفظه، من بعد ما عقلوه: أي ضبطوه وفهموه ولم تشتبه عليهم صحته، وفي ذلك إيماء إلى تعمدهم وسوء قصدهم، وإبطال لما عساه أن يعتذر لهم به من سوء الفهم، وقوله: وهم يعلمون، أي وكانوا في حال العلم بالصواب لا ناسين ولا ذاهلين، وفي هذين الوصفين نعى عليهم وتسجيل لتعمق الفسوق والعصيان فيهم.
وخلاصة المعنى- استبعاد الطمع في إيمان هؤلاء، فقد كان لهم سلف من الأحبار والرؤساء على تلك الحال الشنيعة من تحريف لكلام الله بعد سماعه وتأويله بحسب ما يشاءون، وليس هؤلاء بأحسن حالا من أولئك.
(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) أي وإذا لقى اليهود أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال المنافقون منهم: إنا آمنا كإيمانكم وإن محمدا هو الرسول المبشر به.
(وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ؟) قوله: فتح الله عليكم، أي بيّنه لكم خاصة في التوراة من الأحكام والبشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتعبير عنه بالفتح للإشارة إلى أنه سر مكتوم وباب مغلق لا يقف عليه أحد، وقوله:(لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ) أي ليحتجوا عليكم به فيقطعوكم بالحجة ويبكتوكم وقوله: (عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي في حكمه وكتابه، وقوله:(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تعقلون هذا الخطأ الفاحش وأن ذلك يكون حجة عليكم.
أي إذا اجتمع بعض ممن لم ينافق إلى بعض ممن نافق، قال الأولون عاتبين على الآخرين من المنافقين وعاذلين لهم على الإفضاء إلى المؤمنين بما بينت لهم التوراة من الإيمان بالنبي الذي يجىء مصدقا لما معهم كى يقيموا عليهم الحجة من كتاب ربهم، من قبل أن ما حدّثوا به موافق لما في القرآن، ولولا أن محمدا نبىّ لما علم بهذا الذي حكاه عنهم.
(أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي أيقول اللائمون ما قالوا، ويكتمون من صفات النبي صلى الله عليه وسلم ما كتموا. ويحرّفون من كتابهم ما حرّفوا؟
ولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون من كفر وكيد، وما يعلنون من إظهار إيمان وودّ، فإن كانوا يؤمنون بأن الله محيط بكل شىء علما، فلم لا يخشون بأسه، وهو المطّلع على الظاهر، والعالم بما يجول في الضمائر، والمجازى على ذلك بالخزي في الدنيا والعذاب المهين فى الآخرة؟
(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) الأميون واحدهم أمي، وهو من لا يقرأ ولا يكتب، أي إنه يكون كما ولدته أمه، ومنه
الحديث: «إنّا أمة أميّة لا نكتب ولا نحسب» ،
والأمانى: واحدها أمنية وهى التلاوة كما قال كعب ابن زهير:
تمنّى كتاب الله أوّل ليلة
…
وآخره لاقى حمام المقادر
أي إنه لا حظ لهم من الكتاب إلا قراءة الألفاظ من غير فهم للمعنى ولا تدبر له بحيث يظهر أثرهما في العمل، وهذا على حدّ قوله:(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) .
(وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي وما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظنّ من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم المبنى على البرهان القاطع الذي لا شكّ فيه.
وقد كانوا أكثر الناس جدلا ومراء في الحق وإن كان بيّنا ظاهرا، وأشدّهم كذبا وغرورا وأكلا لأموال غيرهم بالباطل من ربا فاحش وغشّ وتدليس، وهم مع ذلك يعتقدون أنهم أفضل الناس كما يعتقد أشباههم في هذا الزمان.
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الويل كلمة يقولها من يقع في هلكة، وهى دعاء على النفس بالعذاب كما جاء في قوله تعالى حكاية عن الكافرين (يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ) .
أي هلاك عظيم لأولئك العلماء الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون لعوامّهم.
هذا المحرّف من عند الله في التوراة.
(لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا) أي ليأخذوا لأنفسهم في مقابلة هذا المحرّف ثمنا وهى الرّشى التي كانوا يأخذونها جزاء ما صنعوا، ووصف الثمن بالقلة وقد يكون كثيرا، لأن كل ما يباع به الحق ويترك لأجله فهو قليل، لأن الحق أثمن الأشياء وأغلاها.
وقد روى أن الآية نزلت في أحبار اليهود الذين خافوا أن تذهب رياستهم بإبقاء صفة النبي في التوراة فغيّروها.
ثم كرر الوعيد فقال:
(فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) أي فلهم عقوبة عظيمة من أجل كتابتهم هذا المحرّف، وويل لهم من أخذهم الرشوة وفعلهم للمعاصي.