الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهم وهو أبوهم آدم عليه السلام، فقد تغلبت عليه الوساوس، فلا تأس أيها الرسول الكريم على القوم الكافرين، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.
الإيضاح
(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) أي وقلنا له: اتخذ الجنة مسكنا لك ولزوجك. واختلفت آراء العلماء في الجنة المرادة هنا، فمن قائل إنها دار الثواب التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة، لسبق ذكرها في هذه السورة، وفي ظواهر السنة ما يدلّ عليه، فهي إذا في السماء حيث شاء الله منها.
ومن قائل إنها جنة أخرى خلقها الله تعالى امتحانا لآدم عليه السلام، وكانت بستانا فى الأرض بين فارس وكرمان، وقيل بفلسطين وليست هى الجنة المعروفة، وعلى هذا جرى أبو حنيفة وتبعه أبو منصور الماتريدى في تفسيره المسمى بالتأويلات، فقال: نحن نعتقد أن هذه الجنة بستان من البساتين، أو غيضة من الغياض كان آدم وزوجه منعمين فيها، وليس علينا تعيينها ولا البحث عن مكانها، وهذا هو مذهب السلف ولا دليل لمن خاض في تعيين مكانها من أهل السنة وغيرهم اهـ.
قال الآلوسى في تفسيره روح المعاني: ومما يؤيد هذا الرأى:
(1)
أن الله خلق آدم في الأرض ليكون خليفة فيها هو وذريته، فالخلافة منهم مقصودة بالذات، فلا يصح أن يكون وجودهم فيها عقوبة عارضة.
(2)
أنه تعالى لم يذكر أنه بعد خلق آدم في الأرض عرج به إلى السماء، ولو حصل لذكر لأنه أمر عظيم (3) أن الجنة الموعود بها لا يدخلها إلا المتقون المؤمنون، فكيف دخلها الشيطان الكافر للوسوسة.
(4)
أنها دار للنعيم والراحة، لا دار للتكليف، وقد كلف آدم وزوجه ألا يأكلا من الشجرة.
(5)
أنه لا يمنع من فيها من التمتع بما يريد منها.
(6)
أنه لا يقع فيها العصيان والمخالفة لأنها دار طهر، لا دار رجس.
وعلى الجملة فالأوصاف التي وصفت بها الجنة الموعود بها، ومنها أن عطاءها غير مجذوذ ولا مقطوع لا تنطبق على جنة آدم اهـ.
(وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) أي كلا منها أكلا هنيئا من أي مكان شئتما.
وأباح لهما الأكل كذلك إزاحة للعذر في التناول من الشجرة المنهي عنها من بين أشجارها التي لا حصر لها.
(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) لم يبين لنا ربنا هذه الشجرة، فلا نستطيع أن نعيّنها من تلقاء أنفسنا بلا دليل قاطع، ولأن المقصود يحصل بدون التعيين، ولكنا نقول إن النهى كان لحكمة كأن يكون في أكلها ضرر أو يكون ذلك ابتلاء من الله لآدم واختبارا له، ليظهر به ما في استعداد الإنسان من الميل إلى معرفة الأشياء واختبارها، ولو كان في ذلك معصية يترتب عليها ضرر وقوله: من الظالمين، أي لأنفسكما بالوقوع فيما يترتب على الأكل منها من المعصية، أو بنقصان حظوظكما بفعل ما يمنع الكرامة والنعيم، أو بتعدي حدود الله.
وقد علق النهى بالقرب منها وهو مقدمة الأكل، تنبيها إلى أن القرب من الشيء يورث ميلا إليه يلهى القلب عما يوجبه العقل والشرع.
(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) أي حملهما على الزلة بسبب الشجرة، وقد وسوس لهما بقوله:
(هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) وقوله: (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) وقسمه لهما: (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) .
(فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) أي من الجنة أو من النعيم الذي كانا فيه، فاتصلت العقوبة بالذنب اتصال المسبّب بسببه المباشر.
(وَقُلْنَا اهْبِطُوا) المأمور بالهبوط آدم وزوجه وإبليس، وهو المأثور عن ابن عباس ومجاهد وكثير من السلف، ويشهد له قوله «بعضكم لبعض عدو» إذ العداوة بين الشيطان والإنسان.
(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي اهبطوا متعادين يبغى بعضكم على بعض بتضليله.
(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي إن استقراركم في الأرض وتمتعكم فيها ينتهيان إلى وقت محدود وليسا بدائمين كما زعم إبليس حين وسوس لآدم، وسمى الشجرة المنهىّ عنها شجرة الخلد.
وفي هذا إشارة إلى أن الإخراج من جنة الراحة إلى الأرض للعمل فيها لا للفناء ولا للمعاقبة بالحرمان من التمتع بخيراتها ولا للخلود فيها.
(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) أي إن الله تعالى ألهمه كلمات فعمل بها فأناب إليه- وهى كما روى عن ابن عباس: (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) وروى عن ابن مسعود أنها: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله إلا أنت، ظلمت نفسى، فاغفرلى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
(فَتابَ عَلَيْهِ) التوب الرجوع، فإذا وصف به العبد كان رجوعا عن المعصية إلى الطاعة، وإذا وصف به الباري تعالى أريد به الرجوع عن العقوبة إلى المغفرة.
ولا تكون التوبة مقبولة من العبد إلا بالندم على ما كان، وبترك الذنب الآن وبالعزم على ألا يعود إليه في مستأنف الزمان، وبردّ مظالم العباد، وبإرضاء الخصم بإيصال حقه إليه والاعتذار له باللسان.
والخلاصة- إنه تعالى قبل توبته وعاد إليه بفضله ورحمته.
(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) التواب هو الذي يقبل التوبة عن عباده كثيرا، فمهما اقترف العبد من الذنوب وندم على ما فرط منه وتاب تاب الله عليه، والرّحيم هو الذي يحفّ عباده برحمته إذا هم أساءوا ورجعوا إليه تائبين
وقد جمع بين الوصفين (التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) للإشارة إلى عدة الله تعالى للعبد التائب بالإحسان إليه مع العفو عنه والمغفرة له.
وهاهنا مسائل ثلاث أطال المفسرون الكلام فيها، ونحن نوجز القول فيها.
(ا) ما أوردوه في هبوط آدم وحواء من الجنة ووصف ذلك، وقد نقلوا أكثره من الإسرائيليات التي لا يصح شىء منها عند النقدة من أهل العلم ورجال الدين.
(ب) خلق حوّاء من ضلع آدم أخذا بظاهر قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) وقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها)
ومن حديث أبى هريرة في الصحيحين من قوله. صلى الله عليه وسلم: «واستوصوا بالنساء خيرا فإنهنّ خلقن من ضلع أعوج»
ومما ورد في سفر التكوين في التوراة مبينا خلق آدم وحوّاء.
وجوابنا عن ذلك:
(1)
أن كثيرا من المفسرين قالوا إن المراد في الآيتين بقوله «منها» أي من جنسها ليوافق قوله في سورة الروم: (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) إذ المراد دون شك أنه خلق أزواجا من جنسكم، لا أنه خلق كل زوجة من بدن زوجها.
(2)
أن الحديث قد جاء على طريق تمثيل حال المرأة واعوجاج أخلاقها، باعوجاج الضلوع، ويؤيد هذا قوله آخر
الحديث: «وإن أعوج شىء في الضّلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا»
فهو على حدّ قوله تعالى: (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) .
(ح) عصيان آدم ثم توبته، مع أن الأنبياء معصومون من ارتكاب الذنوب، ولنا في الجواب عن هذه المسألة ثلاث طرق:
(1)
أن المخالفة التي صدرت منه كانت قبل النبوة، والعصمة إنما تكون عن مخالفة الأوامر بعدها.
(2)
أن الذي وقع منه كان نسيانا، فسمى عصيانا تعظيما لأمره، والنسيان والسهو لا ينافيان العصمة.
(3)
أن ذلك من المتشابه كسائر ما جاء في القصة، مما لا يمكن حمله على ظاهره، ويجب تفويض أمره إلى الله كما هو رأى سلف الأمة، أو هو من باب التمثيل كما هو رأى الخلف.
وقد أجاد الأستاذ الإمام محمد عبده بيانه قال:
إن إخباز الله تعالى الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها ويكون به كمال الوجود في هذه الأرض، وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد في الأرض لأنه يعمل باختياره ويعطى استعدادا في العلم والعمل لا حدّ لهما، تصوير لما في استعداد الإنسان لذلك، وتمهيد لبيان أنه لا ينافى خلافته في الأرض، وتعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شىء في الأرض وانتفاعه به فى استعمارها، وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصلهم في الجواب، تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبّرة للعوالم محدودا لا يتعدى وظيفته، وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقوى له ينتفع بها فى ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك، وإباء إبليس واستكباره عن السجود تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء التي هى مثار التنازع والتخاصم والتعدي والإفساد في الأرض، ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون أفراده فيه كالملائكة، بل أعظم أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشرى، ويراد بالجنة الراحة والنعيم، فإن من شأن الإنسان أن يجد في الجنة التي هى الحديقة ما يلذ له
من مأكول ومشروب، ومشموم ومسموع في ظل ظليل، وهواء عليل. وماء سلسبيل ويراد بآدم نوع الإنسان كما يطلق اسم أبي القبيلة الأكبر على القبيلة فيقال: كلب فعلت كذا ويراد قبيلة كلب، ويراد بالشجرة معنى الشر والمخالفة كما عبر الله تعالى فى مقام التمثيل عن الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، وفسرت بكلمة التوحيد وعن الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة وفسرت بكلمة الكفر.
والمعنى على هذا- إن الله تعالى كوّن النوع البشرى في أطوار ثلاثة:
(1)
طور الطفولة وهو طور لا همّ فيه ولا كدر، بل هو لهو ولعب كأنه في جنة ملتفة الأشجار يانعة الثمار.
(2)
طور التمييز الناقص، وفيه يكون الإنسان عرضة لاتباع الهوى بوسوسة الشيطان.
(3)
طور الرشد، وهو الذي يعتبر فيه المرء بنتائج الحوادث، ويلتجئ فيه حين الشدة إلى القوة الغيبية العليا التي منها كل شىء وإليها يرجع الأمر كله.
والإنسان في أفراده مثال للإنسان في مجموعه، فقد كان الإنسان في ابتداء حياته الاجتماعية ابتداء ساذجا سليم الفطرة، مقتصرا في طلب حاجاته على القصد والعدل متعاونا على دفع ما عساه يصيبه من مزعجات الكون، وهذا هو العصر الذي يذكره جميع طوائف البشر ويسمونه بالعصر الذهبي.
ولكن لم يكفه هذا النعيم العظيم، فمد بعض أفراده أيديهم إلى تناول ما ليس لهم طاعة للشهوة وميلا مع خيال اللذة، وتنبه من ذلك ما كان نائما في نفوس سائرهم، فثار النزاع وعظم الخلاف، وهذا هو الطور الثاني المعروف في تاريخ الأمم.
ثم جاء الطور الثالث وهو طور العقل والتدبر، ووزن الخير والشر بميزان النظر والفكر، وتحديد حدود للأعمال تنتهى إليها نزعات الشهوات، ويقف عندها سير الرغبات، وهو طور التوبة والهداية إن شاء الله.