الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى الجملي
قد علمت مما سبق أن هذه المراجعات والمناظرات إما أن نفوّض أمر معرفتها إلى الله كما هو رأى السلف، وإما أن نلجأ فيها إلى التأويل، وأحسن طرقه أن يكون الكلام ضربا من التمثيل بإبراز المعاني المعقولة بالصور المحسوسة تقريبا للأفهام.
وبهذا القصص نعرف ما امتاز به النوع الإنسانى عن غيره من المخلوقات، وأنه مستعدّ لبلوغ الكمال العلمي إلى أقصى الغايات، دون الملائكة، ومن ثمّ كان أجدر بالخلافة منهم.
الإيضاح
(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) اسم الله هو ما به عرفناه في أذهاننا بحيث يقال إنا نؤمن بوجوده، وهو بهذا الإطلاق هو الذي يتقدس ويتبارك ويتعالى كما جاء في قوله تعالى:
(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) - (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) .
أو يقال المراد من الأسماء المسميات، وعبر بها عنها للصلة الوثيقة بين الدالّ والمدلول وسرعة الانتقال من أحدهما إلى الآخر، وأيّا كان فإن العلم الحقيقي إنما هو إدراك المعلومات، أما الألفاظ الدالة عليها فهى تختلف باختلاف اللغات التي تجرى بالمواضعة والاصطلاح.
والله تعالى علم آدم الأجناس التي خلقها، وألهمه معرفة ذواتها وخواصها وصفاتها وأسمائها، ولا فارق بين أن يكون هذا العلم في آن واحد أو آنات متعددة، فالله قادر على كل شىء، وإن كان لفظ (علّم) يشعر بالتدريج كما يشهد له نظائره من نحو:
(وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ)
- (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) إلى نحو ذلك من الآيات التي فيها لفظ التعليم، لكن المتبادر هنا أنه كان دفعة واحدة.
(ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) أي ثم أطلعهم على مجموعة تلك الأشياء إطلاعا إجماليا بالإلهام أو غيره مما يليق بحالهم، وربما كان بعرض نماذج من كل نوع يتعرف منها أحوال البقية وأحكامها.
والحكمة في التعليم والعرض تشريف آدم واصطفاؤه، كى لا يكون للملائكة مفخرة عليه بعلومهم ومعارفهم، وإظهار الأسرار والعلوم المكنونة في غيب علمه تعالى على لسان من يشاء من عباده.
(فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) أمر الملائكة بهذا الإنباء إظهارا لعجزهم عن معرفتها، وإشارة إلى أن الخلافة في الكون والتصرف فيه وتدبير شؤونه وإقامة العدل فيه تكون بعد الوقوف على مراتب الاستعداد ومعرفة من يكون أهلا للخلافة.
(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كان هناك مجال للدهشة في كون الخليفة من البشر، وفي أن ما اختلج في خواطركم من الشبهة أصاب الصواب، وحلّ محله من القبول، فأنبئونى بأسماء ما عرضته عليكم.
وإنا لنسترشد بهذه الآية إلى أن المدّعى لشىء يطالب بالحجة والبرهان تأييدا لما ادّعى، فالملائكة قد بحثوا عن سرّ الغيب فقرعوا بالعيان، فكأنه قيل لهم: أنتم لا تعلمون أسرار ما تعاينون، فكيف تتكلمون في أسرار ما لا تعاينون؟.
وفي قوله (هؤلاء) إشارة إلى أنه سمى الأشياء التي وقع عليها حسه كالطيور والبهائم وأنواع الحيوان التي أمامه.
(قالُوا سُبْحانَكَ) أي نقدسك عما لا يليق بك من قصور العلم فتخلق الخليفة عبثا خاليا من الحكمة والفائدة، أو تسألنا عن شىء نفيده، وأنت تعلم أن علمنا لا يحيط به ولا نقدر على الإنباء به.
وكلمة (سبحانك) تقدّم في معرض التوبة كما قال موسى عليه السلام: (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) وقال يونس: (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) .
(لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) وهو علم محدود لا يتناول جميع الأشياء، ولا يحيط بكل المسميات، وهذا منهم اعتراف بالعجز عما كلّفوه، وإشعار بأن سؤالهم كان سؤال مستفسر لا سؤال معترض، وفيه ثناء على الله بما أفاض عليهم من العلم مع تواضع وأدب، فكأنهم قالوا لا علم لنا إلا ما علمتنا بحسب استعدادنا، ولو كنا مستعدين لأكثر من ذلك لأفضت علينا.
ثم أكدوا ما تقدم بقولهم:
(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) وفي هذا الجواب منهم إيذان بأنهم رجعوا إلى ما كان يجب عليهم ألا يغفلوا عن مثله، من التفويض لواسع علم الله وعظيم حكمته، بعد أن تبين لهم ما تبين، وإيماء إلى أن الإنسان ينبغى له ألا يغفل عن نقصانه، وعن فضل الله عليه وإحسانه، ولا يأنف أن يقول لا أعلم إذا لم يكن يعلم، ولا يكتم الشيء الذي يعلم.
(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) أي أعلمهم بأسمائهم التي عجزوا عن علمها، واعترفوا بالقصور عن بلوغ مرتبتها.
وقال «أنبئهم» دون أنبئنى، للإشارة إلى أن علمه عليه السلام بها ظاهر لا يحتاج إلى ما يجرى مجرى الامتحان، وإلى أنه جدير أن يعلّم غيره، فتكون له منّة المعلم المفيد، ولهم مقام المتعلم المستفيد، ولئلا تستولى عليه الهيبة، فإن إنباء العالم ليس كإنباء غيره.
(فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أي فلما أنبأهم بأسمائهم وبين لهم أحوال كل منهم وخواصه وأحكامه، قال تعالى للملائكة: قد قلت لكم إنى أعلم ما غاب في السموات والأرض فلا أخلق شيئا سدى، ولا أجعل الخليفة في الأرض عبثا وأعلم ما تظهرون من نحو قولكم:(أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) وما كنتم تكتمون من نحو قولكم:
لن يخلق الله خلقا أكرم عليه منا، فنحن أحقاء بالخلافة في الأرض.