الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فنعى عليهم خبثهم في قوله: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر، ونفى عليهم مكرهم في قوله: يخادعون الله والذين آمنوا: وفضجهم في قوله: وما هم بمؤمنين، وفي قوله. وما يخدعون إلا أنفسهم، وفي قوله: في قلوبهم مرض، واستجهلهم في قوله:
وما يشعرون، وفي قوله: ولكن لا يشعرون، وفي قوله: ولكن لا يعلمون، وتهكّم بفعلهم فى قوله: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى، ودعاهم صما بكما عميا في قوله: صم بكم عمى فهم لا يرجعون، وضرب لهم شنيع الأمثال في قوله: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا إلخ وفي قوله: أو كصيب من السماء إلخ.
الإيضاح
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أصل ناس أناس ويشهد له إنسان وإنسى، وسموا بذلك لظهورهم وتعلق الإيناس بهم، كما سمى الجن جنّا لاجتنانهم واختفائهم.
من يقول إلخ هم أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في عصر التنزيل كعبد الله ابن أبيّ بن سلول وأصحابه وأكثرهم من اليهود، ولهم نظراء في كل عصر ومصر.
واليوم الآخر- هو من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى، أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وخصّوا بالذكر الإيمان بهما، إشارة إلى أنهم أحاطوا بجانبي الإيمان أوله وآخره، وهم لم يكونوا كذلك، إذا كانوا مشركين بالله لأنهم يقولون عزير ابن الله، وجاحدين باليوم الآخر، إذ قالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، وقد حكى الله عبارتهم ليبين كمال خبثهم، لأن ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق مع ما هم عليه لم يكن ذلك إيمانا لاتخاذهم الولد واعتقادهم أن الجنة لا يدخلها غيرهم، فما بالك بهم وهم قالوه تمويها على المؤمنين واستهزاء بهم.
(وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) أي وما هم بداخلين في عداد المؤمنين الصادقين الذين يشعرون
تعظيم سلطان الله، ويعلمون أنه مطّلع على سرهم ونجواهم، إذ هم كانوا يكتفون ببعض ظواهر العبادات، ظنا منهم أن ذلك يرضى ربهم، ثم هم بعد ذلك منغمسون في الشرور والمآثم من كذب وغشّ، وخيانة وطمع إلى نحو ذلك مما حكاه الكتاب الكريم عنهم ونقله الرواة أجمعون.
(يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الخدع: أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه لتحول بينه وبين ما يريد، وأصله من قولهم: خدع الضبّ إذا توارى في جحره، وضب خادع إذا أوهم حارسه الإقبال عليه ثم خرج من باب آخر.
والخدع هنا من جانب المنافقين لله وللمؤمنين، والتعبير بصيغة المخادعة للدلالة على المبالغة في حصول الفعل وهو الخدع، أو للدلالة على حصوله مرّة بعد أخرى، كما يقال مارست الشيء وزاولته، إذ هم كانوا مداومين على الخدع، إذ أعمالهم الظاهرة لا تصدقها بواطنهم، وهذا لا يكون إلا من مخادع، لا من تائب خاشع.
وخداعهم للمؤمنين بإظهار الإيمان وإخفاء الكفر، للاطلاع على أسرارهم وإذاعتها إلى أعدائهم من المشركين واليهود، ودفع الأذى عن أنفسهم.
(وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) إذ ضرر عملهم لا حقّ بهم، فهم يغرّون أنفسهم بالأكاذيب ويلقونها في مهاوى الهلاك والردى.
(وَما يَشْعُرُونَ) يقال شعر به يشعر شعورا: علم به وفطن، والفطنة إنما تتعلق بخفايا الأمور، فالشعور لا يكون إلا في إدراك ما دقّ وخفى من شىء حسى أو عقلى.
وقد نفى الشعور عنهم في مخادعتهم لله، لأنهم لم يحاسبوا أنفسهم على أقوالهم ولم يراقبوه في أفعالهم، ولم يفكروا فيما يرضيه، بل جروا في ريائهم على ما ألفوا وتعوّدوا فهم يعملون عمل المخادعين وما يشعرون، فإذا عرض لهم زاجر من الدين يحول بينهم وبين ما يشتهون- وجدوا لهم من المعاذير ما يسهل أمره، إما بأمل في المغفرة، أو تحريف في أوامر الكتاب، لما رسخ في نفوسهم من عقائد الزيغ التي يسمونها إيمانا، وهم في الحقيقة مخدوعون، وعن الصراط السوىّ ناكبون.
والمشاهد أن الإنسان إذا همّ بعمل وناجى نفسه، وجد كأن في قلبه خصمين مختصمين، أحدهما يميل به إلى اللذة ويسير به في طريق الضلال والغواية، وثانيهما يأمره بالسير في الطريق القويم وينهاه عن اتباع النفس والهوى، ولقد جاء في كلامهم عن المتردد «فلان يشاور نفسيه» .
ولا يترجح عنده جانب الشر إلا إذا خدع نفسه وصرفها عن الحق، وزين لها اتباع الباطل، وإنما يكون ذلك بعد مشاورة ومذاكرة تجول في الخاطر وتهجس فى النفس، ربما لا يلتفت إليها الإنسان ولا يشعر بما يجول بين جنبيه.
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) القلوب هنا العقول، وهو تعبير معروف عند العرب، كأنهم لاحظوا أن القلب يظهر فيه أثر الوجدان الذي هو السائق إلى الأعمال كاضطرا به حين الخوف أو اشتداد الفرح.
ومرضها ما يطرأ عليها مما يضعف إدراكها وتعقلها لفهم الدين ومعرفة أسراره وحكمه، وفقدان هذا الإدراك هو الذي عبّر عنه القرآن بقوله:(لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) .
ومن أسباب ذلك الجهل والنفاق والشك والارتياب والحسد والضغينة إلى غير ذلك مما يفسد الاعتقاد والأخلاق ويجعل أحكام العقل في اضطراب.
وقد وجد هذا المرض عند هؤلاء المنافقين حين كانوا في فترة من الرسل فلم يكن لهم حظ من قراءة كتب الدين إلا تلاوتها، ولا من أعماله إلا إقامة صورها دون أن تنفذ أسرارها إلى القلوب، فتهذب النفوس وتسمو بها إلى فضائل الأخلاق والتفقه فى الدين.
(فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) بعد أن جاء النذير البشير ومعه البرهان القاطع، والنور الساطع، وأبوا أن يتبعوه، وزاد تمسكهم بما كانوا عليه، فكان ذلك النور عمى في أعينهم، ومرضا في قلوبهم، وتحرّقت قلوبهم حسرة على ما فاتهم من الرياسة، وحسدا على ما يرونه من ثبات أمر الرسول وعلوّ شأنه يوما بعد يوم.