الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير المفردات
السفك: الصبّ والإراقة، والتظاهر: التعاون، والإثم: هو الفعل الذي يستحق فاعله الذمّ واللوم، والعدوان: تجاوز الحد في الظلم.
المعنى الجملي
ذكّر الله بنى إسرائيل في الآية السابقة بأهمّ ما أمروا به من إفراده تعالى بالعبادة والإحسان إلى الوالدين وذوى القربى، ثم بين أنهم لم يأتمروا بذلك.
وفي هذه الآيات ذكّرهم بأهم المنهيات التي أخذ عليهم العهد باجتنابها، ثم نقضوا الميثاق ولم ينتهوا، والخطاب هناك للذين كانوا في عصر موسى عليه السلام، وهو هنا للحاضرين في عصر التنزيل، إرشادا إلى أن الأمة كالفرد يصيب خلفها أثر ما كان عليه سلفها، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر ما داموا على سنتهم، يحتذون حذوهم ويجرون على نهجهم، كما أن ما يفعله الشخص حين الصغر يؤثر في قواه العقلية وأخلاقه النفسية حين الكبر، والمشاهدة أكبر برهان على ذلك.
الإيضاح
(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي وإذ أخذنا عليكم العهد: لا يريق بعضكم دم بعض، ولا يخرج بعضكم بعضا من ديارهم
وأوطانهم، وقد جعل غير الرجل كأنه نفسه، ودمه كأنه دمه إذا اتصل به دينا أو نسبا، إشارة إلى وحدة الأمة وتضامنها، وأن ما يصيب واحدا منها فكأنما يصيب الأمة جمعاء، فيجب أن يشعر كل فرد منها بأن نفسه نفس الآخرين ودمه دمهم، فالروح الذي يحيا به والدم الذي ينبض في عرقه هو كدم الآخرين وأرواحهم، لا فرق بينهم فى الشريعة التي وحّدت بينهما في المصالح العامة، وهذا ما يومئ إليه
وقد يجوز أن يكون المعنى لا ترتكبوا من الجرائم ما تجازون عليه بالقتل قصاصا، أو بالإخراج من الديار فتكونون كأنكم قد قتلتم أنفسكم، لأنكم فعلتم ما تستحقون به القتل، كما يقول الرجل لآخر قد فعل ما يستحق به العقوبة: أنت الذي جنى على نفسه.
(ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أي ثم أقررتم بهذا الميثاق أيها الحاضرون المخاطبون واعترفتم به ولم تنكروه بألسنتكم، بل شهدتم به وأعلنتموه، فالحجة عليكم قائمة- وقد يراد- وأنتم أيها الحاضرون تشهدون على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق وقبوله، وشهودهم الوحى الذي نزل به على موسى عليه السلام.
(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي ثم أنتم بعد ذلك التوكيد في الميثاق تنقضون العهد فتقتلون أنفسكم: أي يقتل بعضكم بعضا كما كان يفعل من قبلكم، مع أنكم معترفون بأن الميثاق أخذ عليكم كما أخذ عليهم.
ومن حديث ذلك أن بنى قينقاع من اليهود كانوا حلفاء الأوس وأعداء لإخوانهم فى الدين بنى قريظة، كما كان بنو النضير حلفاء الخزرج، وكان الأوس والخزرج قبل الإسلام أعداء يقتتلون، ومع كل حلفاؤه، وهذا مانعاه الله على اليهود بقوله:
(تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) .
(وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) كان كل من اليهود يظاهر حلفاءه من العرب ويعاونهم على إخوانه من اليهود بالإثم كالقتل والسلب، والعدوان كالإخراج من الديار.
(وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) أي وكانوا إذا أسر بعض العرب وحلفاؤهم من اليهود بعضا من اليهود أعدائهم واتفقوا على فداء الأسرى، يفدى كل فريق من اليهود أسرى أبناء جنسه وإن كانوا من أعدائه، ثم يعتذرون عن هذا بأن الكتاب أمرهم بفداء أسرى ذلك الشعب المقدس، فإن كانوا مؤمنين حقّا بما يقولون، فلم قاتلوهم وأخرجوهم من ديارهم والكتاب ينهاهم عن ذلك؟ أفليس هذا إلا لعبا واستهزاء بالدين؟
(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟) أي أتفعلون ما ذكر فتؤمنون إلخ وذلك أن الله أخذ على بنى إسرائيل العهد في التوراة ألا يقتل بعضهم بعضا، ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم، وقال: أيّما عبد أو أمة وجدتموه من بنى إسرائيل فاشتروه وأعتقوه- لكنهم قتلوا وأخرجوا من الديار مخالفين العهد، وافتدوا الأسرى على مقتضى العهد، أفليس هذا إلا إيمانا ببعض الكتاب، وكفرا ببعضه الآخر؟ وذلك منتهى ما يكون من الجماقة، فإن الإيمان لا يتجزأ، فالكفر ببعضه كالكفر بكله.
قال الأستاذ الإمام: فى التعبير عن المخالفة والمعصية بالكفر دليل على أن من يقدم على الذنب لا يتألم ولا يندم بعد وقوعه، بل يسترسل فيه بلا مبالاة بنهي الله عنه وتحريمه له فهو كافر به، وهذا هو الوجه في الأحاديث الصحيحة، نحو:
«لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر وهو مؤمن»
اهـ.
ثم توعدهم على نقضهم الميثاق الذي جعلهم أمة واحدة، ذات شريعة هى رباط وحدتهم بخزي عاجل في هذه الحياة، وعذاب آجل في الآخرة فقال:
(فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) فقد دلت المشاهدة على أن كل أمة تفسق عن أمر ربها وتطرح أوامر دينها وراءها ظهريّا يتفرق شملها، وينزل بها عذاب الهون جزاء فساد أخلاقها وكثرة شرورها.
أما من استقاموا على الطريقة، وزكت نفوسهم وصلحت أحوالهم فلهم عند ربهم نعيم مقيم، يرشد إلى ذلك قوله:«قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» .
ثم زاد في الوعيد والتهديد والزجر الشديد فقال:
(وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فهو مجازيكم على ما اجترحتم من السيئات.
ثم أكد عظيم حماقتهم وسيىء إجرامهم، ثم شديد نكالهم على ما اجترحوا فقال:
(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي أولئك الذين آثروا الحياة الدنيا واستبدلوها بالآخرة، فقدّموا حظوظهم في هذه الحياة على حظوظهم في الحياة الأخرى، بما أهملوا من الشرائع، وتركوا من أوامرها التي يعرفونها كما يعرفون أبناءهم كالانتصار للحليف المشرك، ومظاهرته على قومه الذين تجمعهم وإياه رابطة الدين والنسب، وإخراج أهله من دياره ابتغاء مرضاته.
(فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) يوم القيامة (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) لأن أعمالهم قد سجلت عليهم الشقاء، وأحاطت بهم الخطايا من كل جانب، فسدّت عليهم باب الرحمة، وقطعت عنهم الفيض الإلهي، فلا يجدون شافعا ينصرهم، ولا وليّا يدفع عنهم ما حلّ بهم من النكال والوبال في جهنم وبئس القرار.