الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ووحدانية الله وعظيم قدرته لم تزدهم إلا انهماكا في الشرك وتوغلا في ضروب الوثنية فالنعم التي أسبغها عليهم لم يكن لها من شكر إلا اتخاذ العجل إلها يعبدونه من دون الله، فكيف يعتذرون عن عدم الإيمان بمحمد بأنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل إليهم؟.
وهذا دليل على قسوة قلوبهم وفساد عقولهم، فلا أمل فيهم لهداية، ولا مطمع لفكر وتأمل بعد أن اختلّ الوجدان، وضعف الجنان. وهذه الآيات البينات التي ذكرت هنا كانت في مصر قبل الميعاد الذي نزلت فيه التوراة، وما ذكر من النعم هناك كان فى أرض الميعاد.
الإيضاح
(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ، ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) أي ومن عظيم كفرانكم للنعم أن موسى قد جاء بالأدلة القاطعة والبراهين الناصعة على توحيد الله وعظيم قدرته، فخالفتم ذلك وعصيتم أمره وعبدتم عجل السامري من بعد ذلك، فهذا ظلم ووضع للشىء في غير موضعه اللائق به، وأىّ ظلم أعظم من الإشراك بالله بعبادة من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا؟.
(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) قد سبق شرح مثل هذا من قبل سوى أنه قال هناك: (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) وهنا قال: (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) فأمرهم هناك بالحفظ، وأمرهم هنا بالفهم والطاعة، والعبارتان متقاربتان في المراد.
(قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) أي إنهم قبلوا الميثاق وفهموه، لكنهم لم يعملوا به وخالفوه، وليس المراد أنهم نطقوا بقولهم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) بل كانوا بمثابة من قال ذلك، والعرب تعبّر عن حال الإنسان وغيره من الحيوان والجماد بقول تحكيه عنه يومئ إلى ما يجول فى قرارة نفسه ويدور يخلده فيكون هذا القول ترجمانا عنه.
(وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) أي صار حبّ العجل نافذا فيهم نفوذ الماء فيما يدخل فيه، وقوله: بكفرهم أي إن سبب هذا الحب الشديد لعبادة العجل هو ما كانوا عليه من الوثنية في مصر، فرسخ الكفر في قلوبهم بتمادي الأيام وورثه الخلف عن السلف.
(قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي قل توبيخا لليهود الحاضرين، بعد أن علموا أحوال رؤسائهم السالفين الذين يقتدون بهم، ويحتذون حذوهم في كل ما يأتون وما يذرون: إن كنتم مؤمنين بالتوراة حقا، فبئس هذا الإيمان الذي يأمر بهذه الأعمال التي أنتم تفعلونها كعبادة العجل وقتل الأنبياء ونقض الميثاق، فهذه دعوى لا تقبل منكم، بل يجب القطع بعدم وجودها، بدليل ما يصدر عنكم من الأعمال التي يستحيل أن تكون أثرا للإيمان.
وقد سيقت هاتان الآيتان ردّا على اليهود الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وزعموا أنهم مؤمنون بشريعة لا يطالبهم الله بالإيمان بغيرها، فهى حجة عليهم تشرح طبيعة الإيمان وأثره في المؤمن.
ثم أمر رسوله أن يتحداهم في ادعائهم صادق الإيمان وكامل اليقين فقال:
(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن صدق قولكم، وصحت دعواكم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، وفي أنكم شعب الله المختار، وأن النار لن تمسكم إلا أياما معدودات، فتمنوا الموت الذي يوصلكم إلى ذلك النعيم الخالص الدائم الذي لا ينازعكم فيه أحد، إذ لا يرغب الإنسان عن السعادة ويختار الشقاء. وقد روى عن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم تمنى الموت عند القتال معبّرين بألسنتهم عما يجول في صدورهم من صدق الإيمان بما أعد الله للمؤمنين في الدار الاخرة، فقد جاء في الأخبار أن عبد الله بن رواحة كان ينشد وهو يقاتل الروم:
يا حبّذا الجنة واقترابها
…
طيبة وبارد شرابها
وأن عمّار بن ياسر في حرب صفّين قال:
غدا نلقى الأحبّه
…
محمدا وصحبه
فإن لم تتمنوه، بل كنتم شديدى الحرص على هذه الحياة، فما أنتم بصادقى الإيمان.
وهذه حجة تنطبق على الناس عامة، فيجب على المسلمين أن يجعلوها ميزانا يزنون به دعواهم اليقين بالإيمان والقيام بحقوق الله، فإن ارتاحت نفوسهم لبذل أرواحهم فى سبيل الله والذّود عن الدين كانوا مؤمنين حقا، وإن ضنّوا بها وكانوا شديدى الحرص على الحياة إذا جدّ الحدّ ودعا الداعي كانوا بعكس ما يدّعون.
(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي ولن يقع منهم هذا التمني بحال، لأنهم يعرفون ما اجترحته أنفسهم من المعاصي والذنوب التي يستحقون بها العقوبة كتحريف التوراة، والكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم مع البشارة به في كتابهم.
والعرب تسند الفعل إلى الأيدى لأن أكثر الأعمال تزاول بها، ويجعلون المراد بها الشخص.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي والله يعلم أنهم ظالمون في حكمهم بأن الدار الآخرة خالصة لهم، وأن غيرهم من الشعوب محروم منها.
ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد.
(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) أي إنهم يحبون الإخلاد إلى الأرض، ويعملون كل ما يوصلهم إلى البقاء فيها. فلا ثقة لهم بأنفسهم فيما يزعمون، وتلك سيرتهم فى كل زمان وإن كان الكلام مع من كان في عصر التنزيل.
وهكذا القرآن يرسل عليهم سيلا من الحجاج، فيشاغبون ويعاندون، اعتزازا بشعبهم، واغترارا بكتابهم.
(وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي إنهم أحرص من جميع الناس حتى من الذين أشركوا، وفي هذا توبيخ وإيلام عظيم لهم، إذ أن المشركين لا يؤمنون ببعث ولا يعرفون إلا هذه