الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأخلاق والآداب والمواعظ- هو لله ومن الله ليس لأحد غيره فيه شىء، وكأنه قال اقرأ يا محمد هذه السورة بسم الله الرحمن الرحيم، أي اقرأها على أنها من الله لا منك، فإنه أنزلها عليك لتهديهم بها إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم فى الدنيا والآخرة، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد من تلاوتها على أمته أنه يقرأ عليهم هذه السورة باسم الله لا باسمه أي أنها من الله لا منه، فإنما هو مبلّغ عنه تبارك وتعالى كما جاء فى قوله:
(وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) .
[سورة الفاتحة (1) : الآيات 2 الى 7]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
الإيضاح
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الحمد لغة هو المدح على فعل حسن صدر عن فاعله باختياره سواء أسداه إلى الحامد أو إلى غيره.
والمدح يعم هذا وغيره فيقال مدح المال، ومدح الجمال، ومدح الرياض.
والثناء يستعمل فى المدح والذم على السواء، فيقال أثنى عليه شرا، كما يقال أثنى عليه خيرا.
والشكر هو الاعتراف بالفضل إزاء نعمة صدرت من المشكور بالقلب أو باللسان أو باليد أو غيرها من الأعضاء كما قال شاعرهم:
أفادتكم النعماء منّى ثلاثة
…
يدى ولساني والضّمير المحجّبا
يريد أن يدى ولسانى وقلبى لكم، فليس فى القلب إلا نصحكم ومحبتكم، ولا فى اللسان لا الثناء عليكم ومدحكم، ولا فى اليد وسائر الجوارح والأعضاء إلا مكافأتكم وخدمتكم.
وورد فى الأثر- الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبد لم يحمده.
وقد جعله رأس الشكر، لأن ذكر النعمة باللسان والثناء على من أسداها، يشهرها بين الناس ويجعل صاحبها القدوة المؤتسى به، أما الشكر بالقلب فهو خفى قلّ من يعرفه، وكذلك الشكر بالجوارح منهم لا يستبين لكثير من الناس.
(لله) هو المعبود بحق لم يطلق على غيره تعالى.
(رب) هو السيد المربّى الذي يسوس من يربّيه ويدبّر شئونه.
وتربية الله للناس نوعان، تربية خلقية تكون بتنمية أجسامهم حتى تبلغ الأشد وتنمية قواهم النفسية والعقلية- وتربية دينية تهذيبية تكون بما يوحيه إلى أفراد منهم ليبلّغوا للناس ما به تكمل عقولهم وتصفو نفوسهم- وليس لغيره أن يشرع للناس عبادة ولا أن يحلّ شيئا ويحرم آخر إلا بإذن منه.
ويطلق الرب على الناس فيقال رب الدار، ورب هذه الأنعام كما قال تعالى حكاية عن يوسف صلوات الله عليه فى مولاه عزيز مصر (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) وقال عبد المطلب يوم الفيل لأبرهة قائد النجاشي: أما الإبل فأنا ربّها، وأما البيت فإن له ربّا يحميه.
(العالمين) واحدهم عالم (بفتح اللام) ويراد به جميع الموجودات، وقد جرت عادتهم ألا يطلقوا هذا اللفظ إلا على كل جماعة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العقلاء إن لم تكن منهم، فيقولون عالم الإنسان، وعالم الحيوان وعالم النبات، ولا يقولون عالم الحجر، ولا عالم التراب، ذاك أن هذه العوالم هى التي يظهر فيها معنى التربية الذي يفيده لفظ (رب) إذ يظهر فيها الحياة والتغذية والتوالد.
والخلاصة- إن كل ثناء جميل فهو لله تعالى إذ هو مصدر جميع الكائنات.
وهو الذي يسوس العالمين ويربيهم من مبدئهم إلى نهايتهم ويلهمهم ما فيه خيرهم وصلاحهم، فله الحمد على ما أسدى، والشكر على ما أولى:
(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قد سبق أن قلنا: إن معنى الرّحمن المفيض للنعم المحسن على عباده
بلا حصر ولا نهاية، وهذا اللفظ خاص بالله تعالى ولم يسمع عن العرب إطلاقه على غيره تعالى إلا فى شعر لبعض من فتن بمسيلمة الكذاب:
سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا
…
وأنت غيث الورى لازلت رحمانا
والرّحيم هو الثابت له صفة الرحمة التي عنها يكون الإحسان.
وقد ذكر سبحانه هذين الوصفين ليبين لعباده أن ربوبيته ربوبية رحمة وإحسان، ليقبلوا على عمل ما يرضيه وهم مطمئنو النفوس منشر حو الصدور، لا ربوبية جبروت وقهر لهم.
والعقوبات التي شرعها الله لعباده فى الدنيا والعذاب الأليم فى الآخرة لمن تعدّى حدوده وانتهك حرماته- هى قهر فى الظاهر ورحمة فى الحقيقة، لأنها تربية للناس وزجر لهم حتى لا ينحرفوا عن الجادة التي شرعها لهم إذ في اتباعها سعادتهم ونعيمهم، وفى تجاوزها شقاؤهم وبلاؤهم، ألا ترى إلى الوالد الرءوف كيف يربّى أولاده بالترغيب في عمل ما ينفع والإحسان إليهم إذا لزموا الجادّة، فإذا هم حادوا عن الصراط السوي لجأ إلى الترهيب بالعقوبة حين لا يجد منها محيصا، قال أبو تمام:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما
…
فليقس أحيانا على من يرحم
(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قرأ بعض القرّاء مالك، وبعض آخر ملك، والفارق بينهما أن المالك هو ذو الملك (بكسر الميم) والملك هو ذو الملك (بضم الميم) وقد جاء فى الكتاب الكريم ما يعاضد كلّا من القراءتين، فيعاضد الأولى قوله:(يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) ويعاضد الثانية قوله: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) .
قال الراغب: والقراءتان وإن رويتا عن جمع كثير من الصحابة، فالثانية يكنفها من الجلال والرّوعة وإثارة الخشية ما لا يوجد مثله فى القراءة الأولى، فهى تدلّ على أنه سبحانه هو المتصرف فى شئون العقلاء بالأمر والنهى والجزاء، ومن ثمّ يقال ملك الناس ولا يقال ملك الأشياء:
والدين يطلق لغة على الحساب، وعلى المكافأة، وعلى الجزاء، وهو المناسب هنا،
وإنما قال مالك يوم الدين، ولم يقل مالك الدين ليعلم أن للدين يوما معينا يلقى فيه كل عامل جزاء عمله.
والناس وإن كانوا يلاقون جزاء أعمالهم فى الدنيا باعتبارهم أفرادا من بؤس وشقاء جزاء تفريطهم فى أداء الحقوق والواجبات التي عليهم- فربما يظهر ذلك فى بعض دون بعض، فإنا نرى كثيرا من المنغمسين فى شهواتهم يقضون أعمارهم وهم متمتعون بلذاتهم، نعم إنهم لا يسلمون من المنغّصات، وربما أتتهم الجوائح فى أموالهم، واعتلّت أجسامهم، وضعفت عقولهم، ولكن هذا لا يكون جزاء كاملا لما اقترفوه من عظيم الموبقات، وكبير المنكرات، كذلك نرى كثيرا من المحسنين يبتلون بهضم حقوقهم ولا ينالون ما يستحقون من حسن الجزاء، نعم إنهم ينالون بعض الجزاء بإراحة ضمائرهم وسلامة أجسامهم وصفاء ملكاتهم وتهذيب أخلاقهم، ولكن ليس هذا كلّ ما يستحقون من الجزاء، فإذا جاء ذلك اليوم استوفى كل عامل جزاء عمله كاملا إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، جزاء وفاقا لما عمل (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) .
أما الناس باعتبارهم أمما وجماعات فيظهر جزاؤهم فى الدنيا ظهورا تاما، فما من أمّة انحرفت عن الصراط السوي، ولم تراع سنة الله في الخليقة إلا حلّ بها ما تستحق من الجزاء من فقر بعد غنى، وذلّ بعد عزة، ومهانة بعد جلال وهيبة.
وقد جاء قوله: (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) إثر قوله: (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ليكون كترهيب بعد ترغيب، وليعلمنا أنه تعالى ربّى عباده بكلا النوعين من التربية، فهو رحيم بهم، ومجاز لهم على أعمالهم كما قال:(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) .
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) العبادة خضوع ينشأ عن استشعار القلب بعظمة المعبود اعتقادا بأن له سلطانا لا يدرك العقل حقيقته لأنه أعلى من أن يحيط به فكره، أو يرقى إليه إدراكه.
فمن يتذلل لملك لا يقال إنه عبده، لأن سبب التذلل معروف، وهو إما الخوف من جوره وظلمه، وإما رجاء كرمه وجوده.
وللعبادة صور وأشكال تختلف باختلاف الأديان والأزمان، وكلها شرعت لتنبيه الإنسان إلى ذلك السلطان الأعلى، والملكوت الأسمى، ولتقويم المعوجّ من الأخلاق وتهذيب النفوس، فإن لم تحدث هذا الأثر لم تكن هى العبادة التي شرعها الدين.
هاك الصلاة تجد أن الله أمرنا بإقامتها والإتيان بها كاملة وجعل من آثارها أنها تنهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، كما قال:(إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فإن لم يكن لها هذا الأثر فى النفوس كانت صورا من الحركات والعبارات خالية من روح العبادة وسرها، فاقدة جلالها وكمالها، وقد توعد الله فاعلها بالويل والثبور ذفقال:(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) فهم وإن سماهم مصلين لأنهم أتوا بصورة الصلاة، وصفهم بالسهو عن حقيقتها ولبّها، وهو توجه القلب إلى الله والإخبات إليه وهو المشعر بعظمته، وقد جاء فى الحديث: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا. وأنها تلفّ كما يلفّ الثوب البالي ويضرب بها وجهه.
والاستعانة طلب المعونة والمساعدة على إتمام عمل لا يستطيع المستعين الاستقلال بعمله وحده.
وقد أمرنا الله فى هذه الآية ألا نعبد أحدا سواه، لأنه المنفرد بالسلطان، فلا ينبغى أن يشاركه فى العبادة سواه، ولا أن يعظم تعظيم المعبود غيره، كما أمرنا ألا نستعين بمن دونه، ولا نطلب المعونة المتممة للعمل والموصلة إلى الثمرة المرجوة إلا منه، فيما وراء الأسباب التي يمكننا كسبها وتحصيلها.
بيان هذا أن الأعمال يتوقف نجاحها على أسباب ربطتها الحكمة الإلهية بمسبباتها، وجعلتها موصلة إليها، وعلى انتفاء موانع من شأنها أن تحول دونها، وقد أوتى الإنسان بما فطره الله عليه من العلم والمعرفة كسب بعض الأسباب، ودفع بعض الموانع بقدر
استعداده الذي أوتيه، وفى هذا القدر أمرنا أن نتعاون ويساعد بعضنا بعضا كما قال تعالى (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) فنحن نحضر الدواء مثلا لشفاء المرضى، ونجلب السلاح والكراع ونكثر الجند لغلب العدو، ونضع فى الأرض السّماد ونرويها ونقتلع منها الحشائش الضارة للخصب وتكثير الغلة.
وفيما وراء ذلك مما حجب عنا من الأسباب يجب أن نفوض أمره إلى الله تعالى.
فنستعين به وحده، ونفزع إليه في شفاء مريضنا، ونصرنا على عدونا، ورفع الجوائح السماوية والأرضية عن مزارعنا، إذ لا يقدر على دفع ذلك سواه، وهو قد وعدنا إذا نحن لجأنا إليه بإجابة سؤلنا كما قال:(ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وأرشد إلى أنه قريب منا يسمع دعاءنا كما قال: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) .
فمن يستعين بقبر ناسك، أو ضريح عابد لقضاء حاجة له، أو تيسير أمر تعسّر عليه، أو شفاء مريض أو هلاك عدو فقد ضل سواء السبيل، وأعرض عما شرعه الله، وارتكب ضربا من ضروب الوثنية التي كانت فاشية قبل الإسلام وبعده ولا تزال إلى الآن كذلك، وقد نهى عن مثلها الشارع الحكيم، إذ حصر طلب المعونة فيه دون سواه، وجعلها مقصد كل مخبت أوّاه.
وفى ذكر الاستعانة بالله إرشاد للإنسان إلى أنه يجب عليه أن يطلب المعونة منه على عمل له فيه كسب، فمن ترك الكسب فقد جانب الفطرة، ونبذ هدى الشريعة، وأصبح مذموما مدحورا، لا متوكّلا محمودا، وكذلك فيها إيماء إلى أن الإنسان مهما أوتى من حصافة الرأى، وحسن التدبير، وتقليب الأمور على وجوهها- لا يستغنى عن العون الإلهى، واللطف الخفىّ.
والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله، وهى من كمال التوحيد والعبادة الخالصة له تعالى، وبها يكون المرء مع الله عبدا خاضعا مخبتا، ومع الناس حرا كريما لا سلطان لأحد عليه، لا حىّ ولا ميت، وفى هذا فكّ للإرادة من أسر الرؤساء والدجالين، وإطلاق العزائم من قيود الأفّاكين الكاذبين.
(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) الهداية هى الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب، والصراط هو الطريق، والمستقيم ضد المعوجّ، وهو ما فيه انحراف عن الغاية التي يجب على سالكها أن ينتهى إليها.
وهداية الله للإنسان على ضروب:
(1)
هداية الإلهام، وتكون للطفل منذ ولادته، فهو يشعر بالحاجة إلى الغذاء ويصرخ طالبا له.
(2)
هداية الحواس، وهاتان الهدايتان يشترك فيهما الإنسان والحيوان الأعجم، بل هما فى الحيوان أتمّ منهما فى الإنسان، إذ إلهامه وحواسه يكملان بعد ولادته بقليل، ويحصلان في الإنسان تدريجا.
(3)
هداية العقل، وهى هداية أعلى من هداية الحس والإلهام، فالإنسان قد خلق ليعيش مجتمعا مع غيره، وحواسّه وإلهامه لا يكفيان لهذه الحياة، فلا بد له من العقل الذي يصحح له أغلاط الحواس، ألا ترى الصفراوي يذوق الحلو مرّا، والرائي يبصر العود المستقيم فى الماء معوجّا.
(4)
هداية الأديان والشرائع، وهى هداية لا بد منها لمن استرقّت الأهواء عقله، وسخّر نفسه للذاته وشهواته، وسلك مسالك الشرور والآثام، وعدا على بنى جنسه، وحدث بينه وبينهم التجاذب والتدافع- فبها يحصل الرشاد إذا غلبت الأهواء العقول، وتتبين للناس الحدود والشرائع، ليقفوا عندها ويكفّوا أيديهم عما وراءها- إلى أن فى غرائز الإنسان الشعور- بسلطان غيبى متسلّط على الأكوان، إليه ينسب كل ما لا يعرف له سببا، وبأن له حياة وراء هذه الحياة المحدودة، وهو بعقله لا يدرك ما يجب لصاحب هذا السلطان، ولا يصل فكره إلى ما فيه سعادته فى هذه الحياة فاحتاج إلى هداية الدين التي تفضل الله بها عليه ووهبه إياها.
وإلى تلك الهدايات أشار الكتاب الكريم فى آيات كثيرات كقوله: (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أي طريقى الخير والشر والسعادة والشقاء. وقوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ
فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى)
أي أرشدناهم إلى طريق الخير والشر فاختاروا الثاني الذي عبر عنه بالعمى.
وهناك نوع آخر من الهداية وهو المعونة والتوفيق للسير فى طريق الخير، وهى التي أمرنا الله بطلبها فى قوله:(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إذ المراد- دلّنا دلالة تصحبها من لدنك معونة غيبية تحفظنا بها من الوقوع فى الخطأ والضلال.
وهذه الهداية خاصة به سبحانه لم يمنحها أحدا من خلقه، ومن ثمّ نفاها عن النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله:(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) وأثبتها لنفسه فى قوله:
(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) .
أما الهداية بمعنى الدلالة على الخير والحق، مع بيان ما يعقب ذلك من السعادة والفوز والفلاح، فهى مما تفضل الله بها على خلقه ومنحهموها، ومن ثم أثبتها للنبى صلى الله عليه وسلم فى قوله:(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
هذا- والصراط المستقيم هو جملة ما يوصل إلى السعادة فى الدنيا والآخرة من عقائد وأحكام وآداب وتشريع دينى كالعلم الصحيح بالله والنبوة وأحوال الكون وأحوال الاجتماع- وقد سمّى هذا صراطا مستقيما تشبيها له بالطريق الحسى، إذ كل منهما موصل إلى غاية، فهذا سير معنوى يوصل إلى غاية يقصدها الإنسان، وذاك سير حسىّ يصل به إلى غاية أخرى.
وقد أرشدنا الله إلى طلب الهداية منه، ليكون عونا لنا ينصرنا على أهوائنا وشهواتنا بعد أن نبذل ما نستطيع من الجهد فى معرفة أحكام الشريعة، ونكلف أنفسنا الجري على سننها، لنحصل على خيرى الدنيا والآخرة.
(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) الذين أنعم الله عليهم هم النبيون والصدّيقون والصالحون من الأمم السالفة، وقد أجملهم هنا وفصلهم فى مواضع عدة من
الكتاب الكريم بذكر قصصهم للاعتبار بالنظر فى أحوالهم، فيحملنا ذلك على حسن الأسوة فيما تكون به السعادة، واجتناب ما يكون طريقا إلى الشقاء والدمار.
وقد أمرنا باتباع صراط من تقدّمنا، لأن دين الله واحد فى جميع الأزمان: فهو إيمان بالله ورسله واليوم الآخر، وتخلّق بفاضل الأخلاق وعمل الخير وترك الشر، وما عدا ذلك فهو فروع وأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان، يرشد إلى ذلك قوله تعالى:
(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) إلى آخر الآية.
والمغضوب عليهم هم الذين بلغهم الدين الحق الذي شرعه الله لعباده فرفضوه ونبذوه وراءهم ظهريّا، وانصرفوا عن النظر فى الأدلة تقليدا لما ورثوه عن الآباء والأجداد- وهؤلاء عاقبتهم النكال والوبال فى جهنم وبئس القرار.
والضالون هم الذين لم يعرفوا الحق، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح، وهؤلاء هم الذين لم تبلغهم رسالة، أو بلغتهم على وجه لم يستبن لهم فيه الحق، فهم تائهون فى عماية لا يهتدون معها إلى مطلوب، تعترضهم الشبهات التي تلبس الحق بالباطل، والصواب بالخطأ إن لم يضلّوا فى شئون الدنيا ضلوا فى شئون الحياة الأخرى، فمن حرم هدى الدين ظهر أثر الاضطراب فى أحواله المعيشية وحلت به الرزايا، والذين جاءوا على فترة من الرسل لا يكلّفون بشريعة، ولا يعذبون فى الآخرة لقوله تعالى:(وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) .
وهذا رأى جمهرة العلماء، وترى فئة منهم أن العقل وحده كاف فى التكليف، فمتى أوتيه الإنسان وجب عليه النظر فى ملكوت السموات والأرض والتدبر والتفكر فى خالق الكون، وما يجب له من عبادة وإجلال، بقدر ما يهديه عقله ويصل إليه اجتهاده، وبذلك ينجو من عذاب النار يوم القيامة، فإن لم يفعل ذلك كان من الهالكين.
(آمين) اسم بمعنى استجب، وفيه لغتان: المد كما قال شاعرهم:
يا رب لا تسلبنّى حبها أبدا
…
ويرحم الله عبدا قال آمينا
والقصر كما قال الآخر:
…
أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وروى فى الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقننى جبريل آمين عند فراغى من قراءة الفاتحة، وقال إنه كالختم على الكتاب، وأوضح ذلك علىّ كرّم الله وجهه فقال: آمين خاتم رب العالمين، ختم به دعاء عبده-
يريد أنّه كما يمنع الخاتم الاطلاع على المختوم والتصرف فيه، يمنع آمين الخيبة عن دعاء العبد.
وهذا اللفظ ليس من القرآن إذ لم يثبت فى المصاحف، ولا يقوله الإمام فى الصلاة، لأنه الداعي كما قال الحسن البصري، والمشهور عن أبي حنيفة أنه يقوله ويخفيه وفاقا لرواية أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعند الشافعية يجهر به، كما
رواه وائل بن حجر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان إذا قرأ ولا الضالين، قال: آمين ورفع صوته.
ويرى بعض علماء الآثار المصرية فى العصر الحاضر أن كلمة (آمين) معناها الله، فكأنها ذكرت فى آخر الفاتحة للختم باسمه تعالى إشارة إلى أن المرجع كله إليه، ويعقدون موازنة بين (مينو) و (آمون) و (آمين) .
ويرى الثقات من علماء اللغات السامية رأيهم، ويقولون: إنها ذكرت آخر الفاتحة للترنم بها بعد قراءة السورة التي تضمنت الإشارة إلى أغراض الكتاب الكريم.
ويؤيدون رأيهم بأن المزامير ختمت بكلمة (سلاه) للترنم بها على هذا النحو- ويكون المعنى العام- إنا نتوجه إليك يا إلهنا فإليك المرجع والمصير.