الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تسبيح الجبال معه، ولم يقل: مسبحات، للدلالة على تجدد التسبيح حالًا بعد حال، قال في «كشف الأسرار»: كان داود يسمع، ويفهم تسبيح الجبال على وجه تخصيصه به، كرامة له، ومعجزة، انتهى. واختلفوا في كيفية التسبيح، فقيل: بصوت يتمثل له، وهو بعيد، وقيل: بلسان الحال، وهو أبعد. وقيل: بخلق الله في جسم الجبل، حياة وعقلًا وقدرة ونطقًا، فحينئذ يسبح الله معه، كما يسبح الأحياء العقلاء، وهذا قول أهل الظاهر. وقال مقاتل: كان داود، إذا ذكر الله، ذكرت الجبال معه. انتهى. والظاهر: أن تسبيح الجبال مع داود على حقيقته، لكن لما كان على كيفية مخصوصة، وسماعه على وجه مخصوص، خارج عن العقول .. كان من معجزات داود عليه السلام وكراماته، وقد سبق مرارًا تحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه.
وقوله: {بِالْعَشِيِّ} ؛ أي: في آخر النهار {وَالْإِشْراقِ} ؛ أي: في أول النهار. متعلق بـ {يُسَبِّحْنَ} . ووقت الإشراق حين تشرق الشمس؛ أي: تضيء ويصفو شعاعها، وهو وقت الضحى، وأما شروقها فطلوعها، يقال: شرقت الشمس، ولما تشرق، فكان داود يسبح عقب صلاته، عند طلوع الشمس، وعند غروبها،
19
- وقوله: {وَالطَّيْرَ} معطوف على {الْجِبالَ} . وقوله: {مَحْشُورَةً} حال من الطير، والعامل فيه {سَخَّرْنَا}؛ أي: وسخرنا الطير معه، حال كونها محشورة، مجموعة إليه من كل جانب، وناحية، وكانت الملائكة تحشر إليه ما امتنع عليه منها، كما في «كشف الأسرار»: عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان داود، إذا سبح، جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه الطير فسبحت، وذلك حشرها. وقيل: كانت تجمعها الريح إليه، وإنما لم يراع المطابقة بين الحالين، بأن يقال: والطير يحشرن؛ لأن الحشر جملةً أدل على القدرة منه، متدرجًا كما يفهم من لفظ المضارع، وليس مرادًا، لأنه لم يرد أنها تحشر شيئًا فشيئًا، إذ حاشرها، هو الله تعالى، فحشرها جملة واحدة، أدل على القدرة، ذكره أبو حيان.
{كُلٌّ} ؛ أي: كل واحد من الجبال والطير {لَهُ} ؛ أي: لأجل داود؛ أي: لأجل تسبيحه. فهو على حذف المضاف. {أَوَّابٌ} ؛ أي: رجاع إلى التسبيح، إذا
سبح، سبحت الجبال، والطير معه، ووضع الأواب موضع المسبح؛ لأنها كانت ترجع التسبيح، والمرجع رجّاع؛ لأنه يرجع إلى فعله رجوعًا بعد رجوع، والفرق بينه وبين ما قبله وهو {يُسَبِّحْنَ}: أن {يُسَبِّحْنَ} يدل على الموافقة في التسبيح، وهذا يدل على المداومة عليها، وقيل: الضمير في {لَهُ} لله؛ أي: كل من داود، والجبال، والطير، لله أواب، أي: مسبح لله، مرجع التسبيح له. وقرأ الجمهور (1):{وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} بنصبهما كما مر بيان وجهه، وقرأ ابن أبي عبلة، والجحدري {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} برفعهما مبتدأ وخبرًا.
روي: أن الله تعالى لم يعط أحدًا من خلقه ما أعطى داود، من حسن الصوت، فلما وصل إلى الجبال ألحان داود، تحركت من لذة السماع، فوافقته في الذكر والتسبيح، ولما سمعت الطيور نغماته، صفرت بصفير التنزيه والتقديس، ولما أصغت الوحوش إلى صوته، دنت منه حتى كانت تؤخذ بأعناقها، فقبل الكل فيض المعرفة، والحالة بحسب الاستعداد، ألا ترى إلى الهدهد، والبلبل، والقمري، والحمامة، ونحوها، فالتأثر، والحركة، والبكاء، ونحوها، ليست من خواص الإنسان فقط، بل إذا نظرت بنظر الحقيقة، وجدتها في الحيوانات، بل في الجمادات أيضًا، لكونها أحياءً بالحياة الحقيقة.
قال بعضهم (2): سبحت الجبال، وكذا الطير، لتسبيح داود، ليكون له عملها؛ لأن تسبيحها، لما كان لتسبيحه منتشأ منه، لا جرم، يكون ثوابه عائدًا إليه، لا إليها، لعدم استحقاقها لذلك، بخلاف الإنسان فإنه إذا وافقه إنسان آخر في ذكره وتسبيحه، أو عمل بقوله .. يكون له مثل ثواب ذكره وتسبيحه، لأحيائه وإيقاظه له، فهو صيده وأحق به، وتخصيص العشي والإشراق لما فيهما من زيادة ظهور أنوار قدرته، وآثار بركة عظمته، ولأن وقت الإشراق، وقت إقبال المخلوقات إلى طلب الأرزاق والمعاش، ووقت العشي، وقت إقبال المصلين إلى المناجاة، وعرض الحاجات على رب البريات.
(1) البحر المحيط.
(2)
روح البيان.