الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: غير ذي عوج؛ أي: غير مخلوق، وذلك لأن كونه مقروءًا بالألسنة، ومسموعًا بالآذان، ومكتوبًا في الأوراق، ومحفوظًا في الصدور لا يقتضي مخلوقيته، إذ المراد: كلام الله القديم القائم بذاته. وفي حقائق البقلي: قرآنًا قديمًا ظهر من الحق على لسان حبيبه، لا يتغير بتغير الزمان، ولا يرهقه غبار الحدثان، لا تعوجه الحروف، ولا تحيط به الظروف، وفي «بحر الحقائق»: صراطًا مستقيمًا إلى حضرتنا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ؛ أي: لكي يتقوا بالقرآن عما نهاهم الله تعالى، علة أخرى مترتبة على الأولى، فإن المصلحة في ضرب الأمثال هو التذكر والاتعاظ بها أولًا، ثم تحصيل التقوى، والمعنى: لعلهم يعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على حدود الله تعالى في القرآن، والاعتبار بأمثاله.
والمعنى: وعزتي وجلالي، قد بينا (1) لهؤلاء المشركين بالله، أمثال القرون الخالية، تخويفا لهم، وتحذيرا ليتعظوا، ويزدجروا، ويقلعوا عما هم عليه، مقيمون من الكفر بربهم، بكلام عربي لا لبس فيه، ولا اختلاف ليفهموا ما فيه من مواعظ، ويعتبروا بما فيه من حكم، فيتقوا ما حذرهم فيه من بأسه وسطوته، وينيبوا إليه، ويفردوه بالعبادة، ويتبرؤوا من الآلهة والأنداد.
29
- ثم أورد سبحانه مثلًا من تلك الأمثال، فقال:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} ؛ أي: بيّن الله تمثيل حالةٍ عجيبة، بأخرى مثلها، ثم بيّن المثل، فقال:{رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ} والمراد (2) بضرب المثل هنا: تطبيق حالة عجيبة بأخرى مثلها، كما مر في أوائل سورة يس. و {مَثَلًا} مفعول ثان لضرب، و {رَجُلًا} مفعوله الأول، أخر عن الثاني للتشويق إليه، وليتصل به ما هو من تتمته التي هي العمدة في التمثيل. و {فِيهِ} خبر مقدم لقوله:{شُرَكاءُ} ، والجملة في حيز النصب على الوصفية لرجلا، ومعنى {مُتَشاكِسُونَ}؛ أي: مختلفون عسروا الأخلاق سيئوها. والمعنى: جعل الله تعالى للمشرك مثلا، حسبما يقود إليه مذهبه من ادعاء كل من معبوديه
(1) المراغي.
(2)
روح البيان.
عبوديته، عبدًا يتشارك فيه جماعة يتجاذبونه، ويتعاورونه في مهماتهم المتباينة في تحسره، وتوزع قلبه. {وَرَجُلًا}؛ أي: وجعل للموحد مثلا رجلًا {سَلَمًا} ؛ أي: خالصًا {لِرَجُلٍ} فردٍ وسيدٍ واحدٍ، ليس لغيره عليه سبيل أصلًا، فالتنكير في كل منهما للإفراد؛ أي: فردًا من الأشخاص لفرد من الأشخاص، والسلم: بفتحتين وكقتل وفسق مصدر من سلم له كذا؛ أي: خلص له واختص به كما سيأتي، وُصف به مبالغةً كرجل عدل؛ أي: سالمًا أو ذو سلامة واختصاص به، والرجل ذكر من بني آدم جاوز حد الصغر، وتخصيص الرجل لأنه أنطق، وأفطن وأعرف لما يجرى عليه من الضر والنفع، لأن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك.
والاستفهام في قوله: {هَلْ يَسْتَوِيانِ} للإنكار؛ أي: ما يستوي الرجلان المذكوران المشترك والمختص {مَثَلًا} ؛ أي: من جهة الصفة والحال، نصب على التمييز، والوحدة حيث لم يقل: مثلين لبيان الجنس وإرادته، فيعم؛ أي: هل يستوي حالهما وصفاتهما، يعني: لا يستويان.
والحاصل: أن الكافر كالعبد الأول، في كونه حيران متفرق البال؛ لأنه يعبد آلهة مختلفة؛ أي: أصنامًا لا يجيء منها خير، بل يكون سببًا لوقوعه في أسفل سافلين، كما أن العبد يخدم ملاكا متعاسرين، مختلفي الأهوية، لا يصل إليه منهم منفعة أصلًا. والمؤمن كالعبد الثاني، في انضباط أحواله واجتماع باله، حيث يعبد ربًا واحدًا يوصله إلى أعلى عليين، كما أن العبد يخدم سيدًا واحدًا يرضى عنه، ويصل إليه بالعطاء الجزيل.
وقرأ عبد الله، وابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والزهري، والحسن بخلاف عنه، والجحدري، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب (1):{سالما} بالألف وكسر اللام، اسم فاعل من سلم؛ أي: خالصًا عن الشركة، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وقرأ الأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، وأبو رجاء، وطلحة، والحسن: بخلاف عنه، وباقي السبعة {سلما} بفتح السين وسكون
(1) البحر المحيط.
اللام، وهذه أيضًا مصدر وصف به، مبالغة في الخلوص من الشركة، وقرىء {ورجل سالم} برفعهما، وقال الزمخشري؛ أي: وهناك رجل سالم لرجل، انتهى. فجعل الخبر {هناك} ، وقرىء {هل يستويان مثلين} ، فطابق حال الرجلين، ذكره أبو حيان.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} حيث خصمهم، كما قال مقاتل؛ أي: قطعهم بالخصومة، وغلبهم، وأظهر الحجة عليهم، ببيان عدم الاستواء بطريق ضرب المثل، وقال الشوكاني: وجملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} تقرير لما قبلها، من نفي الاستواء، وللإيذان للموحدين، بما في توحيدهم لله من النعمة العظيمة، المستحقة لتخصيص الحمد به.
ثم أضرب سبحانه، عن نفي الاستواء، المفهوم من الاستفهام الإنكاري، إلى بيان أن أكثر الناس، وهم المشركون، لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره، فيبقون في ورطة الشرك، والضلال من فرط جهلهم، فقال:{بَلْ أَكْثَرُهُمْ} وهم المشركون {لا يَعْلَمُونَ} عدم استوائهما مع ظهوره، ووضوحه لفرط جهالتهم، أو لا يعلمون أن الحمد له لا لغيره، فيشركوا به سواه.
وعبارة «المراح» في معنى الآية: أي (1): واضرب يا أشرف الرسل لقومك مثلا، وقل لهم: ما تقولون في رجل مملوك، قد اشترك فيه شركاء بينهم تنازع، فكل واحد منهم يدعي أنه عبده، فهم يتجاذبونه في حوائجهم، وهو متحير في أمره، فكلما أرضى أحدهم غضب الباقون، وإذا احتاج في مهم إليهم، فكل واحد منهم يرده إلى الآخر، فهو يبقى متحيرًا لا يعرف أيهم أولى بأن يطلب رضاه، وأيهم يعينه في حاجاته، فهو بهذا السبب يلقى منهم التعب العظيم، وفي رجل آخر له مخدوم واحد، يخدمه على سبيل الإخلاص، وذلك السيد يعينه على حاجاته، فإن أطاعه عرف له، وإن أخطأ صفح عن خطئه، فأي هذين العبدين أحسن حالًا، وأحمد شأنا، وأقل تعبًا؟ وهذا مثل ضربه الله للكافر، الذي يعبد
(1) المراح.