الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذا عرفت ذلك فعليك بأمرين: أحدهما: أن تثبت على هذا الأصل وتجعله قاعدة وأساساً لك ترجع إليه ولا تتعداه إلا بدليل. الثاني: أن كل من أراد نقلك عن هذا الأصل الذي تقرر لك أنه مطالب بالدليل الناقل عن هذا الأصل، وأما أنت فلا يحق للناقل مطالبتك بالدليل لأنك ثابت على الأصل والدليل على الناقل لا على المثبت للأصل.
وإليك الفروع حتى تتضح القاعدة أكثر:
منها: من ادعى أن هذا القول أو هذا الفعل عبادة لازمة أو مستحبة فعليه الدليل وذلك لأمرين: أحدهما: لأنه يدعي العبادة والأصل عدم العبادة فهو مخالف للأصل ومن خالف الأصل فعليه الدليل. الثاني: أنه بهذا الادعاء يعمر الذمة بشيء من العبادات، والأصل براءتها من ما ادعاه فهو مخالف لهذا الأصل أيضًا ومن خالف الأصل فعليه الدليل. إذًا قول وادعاؤه لا يقبل إلا بالبرهان والبينة.
ومنها: من ادعى أن له على فلانٍ دينًا ولا بينة معه تثبت دعواه ففلان بريء من الدين؛ لأن المدعي يريد أن يعمر ذمة غيره والأصل أن ذمة غيره بريئة، فالمدعي مخالف للأصل ومن خالف الأصل فعليه الدليل، والله أعلم.
ومنها: من ادعى على غيره أنه قذفه ولا بينة معه تثبت دعواه فالمدعى عليه بريء من هذا الإدعاء؛ لأنه بادعائه هذا يعمر ذمته بحق إقامة حد القذف والأصل براءة الذمة من هذا الحق فهو مخالف لهذا الأصل ومن خالف الأصل فعليه الدليل.
وعلى ذلك فقس لوضوحها ووضوح فروعها، والله تعالى أعلى وأعلم.
القاعدة الثالثة عشر
13 - الأصل أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر
وهذه من أنفع القواعد على الإطلاق للقضاة وغيرهم فإنها أصل يسير سهل، لكنه يحل مشاكل كثيرة لا حصر لها ولا عد وبيانه أن يقال: قوله (البينة) أي الحجة والبرهان وهي كل شيءٍ يثبت به الحق ويبين صدق الدعوى، أيًا كانت هذه البينة، فالعبرة هي ظهور الحق فبأي شيء ظهر الحق فالذي أظهره هو البينة، إلا أن الفقهاء من الأصحاب خصوها ببعض أفرادها، ثم اعلم أن البينة لها صور كثيرة:
منها: الشهادة سواءً الشهادة على الأموال أو الأنساب أو الحدود ونحوها.
ومنها: اليمين سواءً مفردة أو مع شاهد، هي من البينة.
ومنها: الإقرار كإقرار السارق والزاني ونحوها.
ومنها: وجود المسروق عند السارق.
ومنها: ظهور حبل من رميت بالزنا ولا زوج لها ولم تدع شبهة، وغير ذلك كثير فكل ذلك يقال له بينة لأن الحق يظهر به، والله أعلم.
قوله: (المدعي) هو صاحب الدعوى، وقيل هو من يبدأ أولاً، وقيل هو من إذا ترك سكت وقيل هو من يعمر الذمة بشيء، وكل ذلك صحيح يدل على شيءٍ واحد وإن اختلفت ألفاظها ويجمعها أن يقال: المدعي هو من يحاول إثبات حقً له في ذمة غيره، فكل من حاول أن يعمر ذمة غيره بحق له فهو المدعي.
وقلنا: (إثبات حق له) حتى يخرج الشاهد والمقر على نفسه بشيء، فإن الشاهد يحاول أن يثبت حقًا لغيره على غيره، والمقر يحاول أن يثبت حقًا على نفسه لا لنفسه، قوله:(واليمين) أي الحلف وهي تأكيد أمرٍ بذكر اسم من أسماء الله أو صفة من صفاته، وستأتي قواعدها – إن شاء الله تعالى -.
قوله: (على من أنكر) أي على المدعي عليه، وهو الذي يحاول أن يدفع صدق الدعوى عن نفسه فهو ينكر هذه الدعوى فلذلك سمي منكرًا إذا علمت هذا فاعلم أن البينة التي هي الحجة والبرهان لا تطلب إلا من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه، فالمدعي يدعي بأن له حقًا على زيدٍ من الناس مثلاً فهو يريد أن يثبت هذا الحق في ذمة زيد، فهو مخالف للأصل فطولب بالبينة التي تثبت صدق دعواه، وأما المنكر فهو يبرئ ذمته من هذا الحق فهو مع الأصل فلا يطالب في هذه الحالة بشيء إلا أنه في مجلس القضاء يحتاج إلى بينة ضعيفة يأتي بها وهو اليمين حتى يتأكد القاضي من براءة ذمته. فإن قلت: لماذا جعلت الشريعة البينة في جانب المدعي، واليمين في جانب المدعى عليه؟ قلنا: إن جانب المدعي ضعيف جدًا؛ لأنه يخالف الأصل الذي هو براءة الذمة، وكل من خالف الأصل فجانبه ضعيف فيحتاج إلى شيء يقويه والبينة المثبتة لحقه هي التي تقوي ضعفه فطلبت منه البينة، وأما جانب المدعى عليه فهو قوي جدًا؛ لأنه يمشي مع الأصل ولم يخالفه وكل من كان الأصل معه فجانبه قوي فطلب منه بينة ضعيفة وهي اليمين؛ لأنه لا حاجة لتقوية جانبه لذلك القاعدة عندنا تقول:(اليمين في جانب أقوى المتداعيين) وأقوى المتداعيين هنا هو المدعى عليه؛ لأن الأصل معه فشرعت اليمين في جانبه (1) ، والله أعلم.
(1) لابن القيم كلام جميل يرى فيه أن اليمين مشروعة في حق أقوى المتداعيين، ولذا حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بالشاهد ويمين المدعي لقوة جنابه بالشاهد الواحد، وفي القسامة جعلت الأيمان في جانب المدعين لوجود قرينة اللوث معهم فراجع كلامه رحمه الله.