الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الزكاة ففيها تعلق بالذمة وبالمال لكن تعلقها بالمال أقوى ففي كل مال زكوي بلغ نصابًا الزكاة بغض النظر عن مالكه أعني إن كان له مالك معين حتى لا تجب الزكاة في الأموال العامة التي يشترك المسلمون في ملكيتها، والله أعلم.
وأما حديث: (مروهم) فليس هو أمر للصغار، وإنما هو أمر للأولياء والأمر بالأمر ليس أمرًا به على الراجح من قول الأصوليين، وإنما هو أمر للأولياء لأمر صبيانهم بالصلاة ليعتادوها لا لأنها واجبة. وأما حديث الحسن فهو من الخصوصيات بآل هاشم؛ لأنه لا تحل لهم الصدقة فلا يستدل به على ما نحن بصدده (1) .
وأما حديث عمر بن سلمة فلاشك أنه للوجوب العام على الصغير والكبير والذكر والأنثى؛ لأن القاعدة الأصولية: (أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لواحدٍ من الأمة أمر للأمة ما لم يدل دليل على التخصيص بالمأمور) لكن خرج من هذا الوجوب الصغير (2) الذي لم يحتلم فليس فيه الأمر للوجوب وذلك لحديث: (رفع القلم عن ثلاثة عن الصغير حتى يحتلم
…
) فالأول عام والثاني خاص والخاص يقضي على ما يقابله من العام، والجمع بين الأدلة واجب فيكون الأمر للإرشاد والتأديب لمن لم يبلغ وللوجوب لمن كلف.
وأما ضربهم على ترك الصلاة إذا بلغوا عشر سنين فهو من باب التعزير لا الحد، والتعزير ليس من شروطه التكليف وإنما التكليف من شروط إقامة الحدود فقط، وبهذا يتبين أن القول الصحيح - إن شاء الله تعالى - هو القول بأن الصبي المميز ليس بمكلف وذلك لعدم بلوغه، والله أعلم.
ولا نريد الإطالة فيكفي ما ذكرناه دليلاً على غيره، والله وأعلم.
القاعدة التاسعة والعشرون
29 - كل حكم في تطبيقه عسر فإنه يصحب باليسر
(1) خصوصيات بأنهم لا يأكلون الصدقة ولو كانوا صغاراً لم يبلغوا.
(2)
هذا من باب التربية على الآداب الإسلامية ليعتادها ومثله ضربه للصلاة إذا بلغ العاشرة.
اعلم - أرشدك الله لطاعته - أن الأصل هو أن الشريعة الإسلامية يسيرة سهلة، فهي أخف الشرائع السماوية على الإطلاق، وهي الحنيفية السمحة.
قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} وليس في الشريعة حكم يخرج عن حدود الطاقة البشرية، قال تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} .
وأجمع العلماء أن الله تعالى لم يكلفنا بما لا نطيق، وهذا من فضله ورحمته جل وعلا فهذا هو الأصل العام في جميع الأحكام أصولاً وفروعًا، لكن قد يعرض أحيانًا للمكلف ما يكون تطبيق الحكم معه فيه حرج ومشقة، فإذا كان ذلك كذلك فإن الشريعة تخفف هذا الحكم إما بإسقاطه كله، أو بإسقاط بعضه، أو بالتخيير بين فعله وتركه، أو بإبداله بشيء أخف منه ونحو ذلك من أنواع التخفيف وذلك حتى تنتفي هذه المشقة ويرتفع ذلك الحرج. وهذه القاعدة هي ما يعبر عنها بعض الفقهاء بـ (المشقة تجلب التيسير) وقد دلت عليها أدلة كثيرة عامة وخاصة. فأما العامة فهي كل دليل من القرآن أو السنة فيه نفي الحرج ورفعه وأن الله لا يكلفنا ما لا نطيق، ولا يحملنا ما لا طاقة لنا به، وأنه يريد اليسر لا العسر، وأنه وضع عنا الآصار والأغلال، وأنه خفف عنا ما كان على من قبلنا فكل ذلك دليل على هذه القاعدة.
وأما الأدلة الخاصة فسنذكر طرفًا منها في الفروع -إن شاء الله تعالى-.
وهذه القاعدة من أعظم ميزات هذه الشريعة السمحة عن سائر الشرائع، فالحمد لله تعالى أن جعلنا من أهلها، وممن يدين بها فإنه من فضل الله ورحمته التي أمرنا أن نفرح بها قال تعالى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} .
وحتى تتضح معالم هذه القاعدة اذكر لك طرفًا من فروعها فأقول:
منها: قصر الصلاة في السفر فإن الأدلة دلت على تأكيد سنية قصر الصلاة في السفر حتى قيل بوجوبه وتحريم الإتمام، وهو رواية عن الإمام أحمد، وذلك لأن حالة السفر حالة تخالف حالة الإقامة، فالمسافر يجد من الحرج والمشقة في تطبيق بعض الأحكام ما لا يجده المقيم فروعيت حالة السفر وشرع فيه من التخفيف والتيسير ما لم يشرع للمقيم. من ذلك قصر الرباعية، وجواز الجمع، وجواز المسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليها، وإسقاط الجمعة عنه، وجواز الفطر في رمضان، بل استحبابه على قولٍ في المذهب كل ذلك مراعاة لحالة المسافر حتى لا يكون عليه حرج ولا عسر ولا مشقة.
وهذه الأحكام السابقة متعلقة بما يسمى سفرًا عرفًا وإن لم يكن مصحوبًا بالمشقة في آحاده، أي بالنسبة لبعض الناس، فالعبرة بالغالب الشائع لا القليل النادر، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(السفر قطعة من العذاب) ، والله أعلم.
ومنها: جواز الانتقال من الطهارة المائية إلى الترابية إذا كان في استعمال الأولى حرج ومشقة كخوف من زيادة مرض، أو تأخر برء، أو شدة بردٍ، أو وجد الماء يباع بثمن زائد على ثمن المثل كثيرًا ونحوه، فإنه يجوز له حينئذٍ الانتقال وذلك مراعاة لحاله ورفعاً للحرج والعسر عنه بهذا التيسير، وعليه حديث عمرو بن العاص لما صلى بأصحابه وقد أجنب ثم تيمم خوفًا من الهلاك؛ لأنه كان في ليلة باردة (1) .
ومنها: جواز الفطر في رمضان لمريضٍ يلحقه بترك الفطر مشقة من زيادة مرضٍ أو تأخر برء ونحوه، فلما حصل العسر حل اليسر.
ومنها: جواز الصلاة قاعدًا في فرض للمريض إذا كان القيام يزيد في مرضه، أو لمداواةٍ لقول طبيب مسلم.
ومنها: جواز صلاة القصاب في ثيابه وربما أصابها شيء من الدم لوجود العسر عليه بكثرة إبدالها فارتفع العسر وحل اليسر إذا لم يتيقن نجاستها.
(1) يخرج هذا الحديث.
ومنها: جواز صلاة المرضع في ثيابها مع عدم خلوها غالبًا من نجاسة من بولٍ أو غائط بسبب كثرة حمل الطفل وإرضاعه، فترتفع حكم هذه النجاسة لوجود العسر عليها بكثرة إبدالها، والله أعلم.
ومنها: أنه يجوز للضعفة من الناس الدفع من مزدلفة إلى منى لرمي جمرة العقبة بعد غياب القمر تخفيفًا عليهم، وذلك لأنه يعسر عليهم الدفع مع الناس لوجود الزحام الشديد، فلما تحقق العسر عليهم بدفعهم مع الناس حل اليسر لهم بجواز الدفع في الليل.
ومنها: جواز المسح على الخفين، بل سنيته إن كانت الرجل في الخف، فلما كان خلع الخف دائمًا عند كل وضوءٍ فيه مشقة وحرج خففت الشريعة هذا وأجازت المسح على الخفين رفعًا للمشقة والحرج وإحلالاً لليسر مكان العسر.
ومنها: قول الأصحاب في باب المياه: إنه إذا تغير الماء بطاهر مما يشق صون الماء عنه من نابتٍ فيه، وورق شجر فإنه لا يؤثر في الماء أبدًا وعللوا ذلك بعسر التحرز منه إذ لا يمكن حماية الماء منه غالبًا فراعوا ذلك فلم يجعلوه مؤثرًا في الماء بخلاف ما لا يشق صون الماء عنه فإنه يؤثر في الماء، هذا على المذهب وليس على الراجح، وإنما المقصود مجرد التفريع فقط، والله أعلم.
ومنها: أن العلماء – رحمهم الله تعالى – أجازوا الجمع للمريض الذي يلحقه بترك الجمع مشقة كالمستحاضة لحديث حمنة بنت جحش، وذلك لأن ترك الجمع في هذه الحالة فيه عسر فارتفع العسر بجواز الجمع؛ لأن مع العسر يسرًا، والله أعلم.
ومنها: الأعذار التي يجوز معها ترك الجمعة والجماعة، كالمريض، والخائف بشرطهما المذكور في كتب الفقه فإن مطالبتهم بالحضور للجمعة والجماعة في هذه الحالة فيه عسر ومشقة وحرج فخفف الحكم في حقهم وارتفعت المشقة وزال الحرج بإسقاط الجمعة والجماعة عنهم فتحقق لهم اليسر بفضل الله ورحمته.
ومنها: جواز المسح على العمامة والجبيرة، فقد دلت الأدلة على جواز المسح عليهما، ولا يكلف لابسهما بخلعهما والإتيان بالفرض، بل اجتزأت الشريعة بالمسح عليهما وذلك لما في خلعهما من العسر والحرج.
ومنها: جواز جمع الاثنين والثلاثة من الأموات في قبرٍ واحدٍ للضرورة، وذلك لكثرة الموتى وقلة من يدفن وخيف الفساد عليهم، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بشهداء أحد فقد كان يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد ويقول: أيهم أكثر أخذًا للقرآن فيقدمه في اللحد، فلما وجد العسر في تخصيص كل واحد منهم بقبر ارتفع باليسر وهو جواز الجمع بينهم في القبر الواحد.
ومنها: إسقاط المؤاخذة عن من فعل محظورًا من المحظورات، كمحظورات الإحرام والمفطرات للصائم إذا كان ناسيًا أو جاهلاً أو مكرهًا وذلك؛ لأن الامتثال في هذه الأحوال فيه عسر ومشقة فزال العسر وارتفعت المشقة بإسقاط الإثم والمؤاخذة وهذا هو الراجح الموافق للأدلة الشرعية.
وتقدم طرف منه في القاعدة السادسة عشرة، والله أعلم.
وتتبع هذا الباب يطول فعلى المفتي أن يجعل ذلك الأصل بين عينيه عند الإفتاء فيما يتعلق به، فلا يغلظ على الناس فيما لم يرد فيه دليل صريح، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يخير بن أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، والله أعلم.