المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌14 - لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة - تلقيح الأفهام العلية بشرح القواعد الفقهية - جـ ١

[وليد السعيدان]

فهرس الكتاب

- ‌1 - العبادات الواردة على وجوهٍ متنوعة تفعل على جميع وجوهها في أوقاتٍ مختلفة

- ‌2 - لا يجوز تقديم العبادة على سبب وجوبها ويجوز بعد السبب وقبل شرط الوجوب

- ‌3 - لا ينقض الأمر المتيقن ثبوتًا أو نفيًا بشك عارض

- ‌4- لا يعتبر الشك بعد الفعل ومن كثير الشك

- ‌5 - إذا تعذر الأصل يصار إلى البدل

- ‌6 - كل فعل توفر سببه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فالمشروع تركه

- ‌7- الشروط في باب المأمورات لا تسقط بالجهل والنسيان وفي التروك تسقط بهما

- ‌8 - العدل أكبر مقاصد الشريعة في العقيدة والأحكام

- ‌9 - النهي إن عاد إلى الذات أو شرط الصحة دل على الفساد وإن عاد إلى أمر خارج فلا

- ‌10 - الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل

- ‌11 - الأصل بقاء ما كان على ما كان

- ‌12 - الأصل براءة الذمم إلا بدليل

- ‌13 - الأصل أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر

- ‌14 - لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة

- ‌15 - لا تقبل العبادة إلا بالإخلاص والمتابعة

- ‌16 - لا يؤثر فعل المنهي عنه إلا بذكرٍ وعلمٍ وإرادة

- ‌17 - من أتلف شيئًا لينتفع به ضمنه ومن أتلفه ليدفع ضرره عنه فلا

- ‌18 - إذا اجتمعت عبادتان من جنسٍ واحد ووقتٍ واحد وليست إحداهما مفعوله على وجه القضاء والتبع دخلت إحداهما في الأخرى

- ‌19 - كل حكم لم يرد في الشرع ولا اللغة تحديده حُدَّ بالعرف

- ‌20 - إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما ما أمكن

- ‌21 - فعل ما اتفق عليه العلماء أولى من فعل ما انفرد به أحدهم ما أمكن

- ‌22 - الأمر المطلق عن القرائن يفيد الوجوب

- ‌23 - من كرر محظورًا من جنسٍ واحد وموجبه واحد أجزأ عن الجميع فعل واحد إن لم يخرج موجب الأول

- ‌24 - كل عبادة انعقدت بدليل شرعي فلا يجوز إبطالها إلا بدليل شرعي آخر

- ‌25 - من قبض العين لحظ نفسه لم يقبل قوله في الرد إلا ببينة،ولغيره يقبل مطلقًا

- ‌26 - لا يضمن الأمين تلف العين بلا تعدٍ ولا تفريط والظالم يضمن مطلقًا

- ‌27 - العبادات المؤقتة بوقتٍ تفوت بفوات وقتها إلا من عذرٍ

- ‌28 - لا تكليف إلا بعقل وفهم خطاب واختيار

- ‌29 - كل حكم في تطبيقه عسر فإنه يصحب باليسر

الفصل: ‌14 - لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة

وجماع فروعها أن كل من ادعى حقًا في ذمة غيره فإنه يطالب بالبينة والمنكر يطالب باليمين، وتفصيل المسائل يطول وفي مضى كفاية - إن شاء الله تعالى -، والله وأعلم. وسيأتي - إن شاء الله تعالى - بقية قواعد الأصول في ثنايا القواعد، والله تعالى وأعلم.

القاعدة الرابعة عشر

‌14 - لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة

هذه القاعدة من أصول الشريعة، وذلك أن الشريعة الإسلامية جاءت بالحنفية السمحة فلا أغلال فيها ولا آصار ولا تكليف فيها بما فيه حرج ومشقة شديدة لاتحتمل، بل كل تشريعاتها داخلة تحت القدرة والاستطاعة فهي كما قال تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} ، وقال تعالى:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} .

وقال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) هذا هو الأصل في شريعتنا أنها يسيرة في تشريعاتها إذا علمت هذا فاعلم أن الأصل في كل واجب هو وجوب القيام به بنفسه فلا يجوز تركه أبدًا، والأصل في كل محرم وجوب تركه فلا يجوز فعله أبدًا، هذا هو الأصل إلا أن الإنسان قد تعرض له عوارض يعجز عن القيام بالواجب أو يحتاج إلى ارتكاب المحرم فحينئذٍ يجوز له ذلك، فيفوت من الواجب ما يعجز عنه ويرتكب من المحرم ما يضطر إليه؛ لأن أدلة الشريعة دلت على أن الواجبات تسقط بالعجز عنها؛ لأن من شروط التكليف بالفعل أن يكون مقدورًا عليه فإذا عجز الإنسان عن هذا الفعل الواجب فإنه لا يكون واجبًا في حقه، وإن عجز عن بعضه دون بعض فإن ما عجز عنه هو الذي يسقط دون ما قدر عليه، ولأن الأدلة أيضًا دلت على أن المحرم يحرم ارتكابه في حالة عدم الاضطرار إليه، أما إذا اضطر إليه فله ارتكاب ما تندفع به ضرورته فإذا اندفعت الضرورة عاد الحكم كما كان. إذًا هذه القاعدة مكونة من جزئين نذكرهما كل واحد بأدلته وفروعه فأقول:

ص: 49

الأول: (لا واجب مع العجز) قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع في الجملة، فمن الكتاب قوله تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} وما يعجز عنه الإنسان فإنه ليس في وسعه فلا يكلف به وهذا واضح.

ومن الأدلة: قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} والقول بالتكليف مع العجز فيه إثقال وأغلال وآصار وقد أزيلت من الشريعة الإسلامية فمقتضى إزالتها أن لا يكلف العاجز عن الواجب به.

ومنها: قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} والقول بتكليف العاجز مع عجزه منافٍ لإرادة الله تعالى؛ لأنه من العسر، لكن مقتضى هذه الإرادة أن يسقط التكليف عن العاجز عن الواجب بالإتيان بالواجب، وجماع ذلك كل دليل من القرآن فيه إخبار بيسر الشريعة وإرادة التخفيف وعدم تكليف النفس ما لا تطيق كل ذلك داخل في أدلة هذه القاعدة.

وأما أدلة ذلك من السنة: فحديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب) رواه البخاري.

ومثله حديث جابر عند البيهقي بسند قوي، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:(ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم) ، فعلق إتيان الأمر بالاستطاعة فغير المستطيع لا يطالب بما عجز عنه. وأدلتها كثيرة لكن فيما مضى كفاية.

وإلى فروع هذه الجزئية من القاعدة فأقول:

منها: من عجز عن القيام في الفرض سقط عنه ويصلي قاعدًا لحديث عمران بن حصين.

ومنها: من عجز عن الطهارة المائية لعذرٍ ما، سقطت عنه وينتقل إلى الطهارة الترابية ولا يعيد على الصحيح ولو قدر عليها في الوقت.

ومنها: من عجز عن الإتيان لصلاة الجماعة لعذرٍ من الأعذار سقطت عنه ويصلي في بيته.

ص: 50

ومنها: من عجز عن استقبال القبلة لعذرٍ سقط عنه ويصلي على حسب حاله ولا يعيد.

ومنها: من عجز عن الحج بنفسه سقط عنه ووجب بغيره وتقدم.

ومنها: من عجز عن الصوم لكبرٍ أو مرضٍ لا يرجى برؤه سقط عنه ويطعم عن كل يومٍ مسكينًا.

ومنها: من عجز عن إزالة أثر النجاسة سقطت عنه ويصلي ولا يضيره هذا الأثر وعليه حديث أبي هريرة عن خوله عند أبي داود.

ومنها: من عجز عن السجود والركوع أو أحدهما أومأ بهما أو أومأ بما عجز عنه.

وجماع هذه الفروع أن كل واجب عجزت عنه كله سقط كله وإن كان العجز عن بعضه فإنه يسقط ما عجزت عنه، وعلى ذلك تخرج الفروع.

الجزء الثاني: (لا محرم مع الضرورة) أي أنه في حالة الضرورة يجوز المحرم ولا يكون محرمًا، وقد دل على ذلك قوله تعالى بعد ذكر المحرمات من بهيمة الأنعام:{إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ} (1) يعني أن هذه المحرمات السابق ذكرها تجوز في حالة الضرورة.

ومن الأدلة: جميع الأدلة التي فيها رفع الحرج والآصار والأغلال، وأنه لا تكلف نفس إلا وسعها، وأن الله لا يحمل النفس إلا ما تطيق، كل ذلك يدل على هذه القاعدة؛ لأنه لو لم يجز ارتكاب المحرم مع قيام الضرورة لكان ذلك من الحرج ومن تكليف مالا يطاق، فإن الضرورة حالة لو لم تراعى لأدى ذلك إلى فوات النفس أو الطرف.

(1) هذه في الأنعام لم تسبق بمحرمات والأنسب قوله تعالى في سورة المائدة بعد ذكر المحرمات من بهيمة الأنعام (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) ثم يقال وقال تعالى (أوقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) .

ص: 51

إذا علمت هذا فإن هذا الجزء من القاعدة ليس بمطلق وإنما هو مقيد بحالة الضرورة فقط أي أنه يجوز تناول الحرام بالقدر الذي تندفع به الضرورة فإذا زالت الضرورة عاد الحكم إلى ما كان عليه ولذلك قال العلماء: (الضرورة تقدر بقدرها) فالحرام جاز لعلة وهي الضرورة والحكم مناط بعلة ينتفي بانتفائها، فإذا زالت العلة التي هي الضرورة زال الجواز وعاد الحكم إلى الحرمة.

ثم اعلم: أن الإنسان إذا اضطر إلى ارتكاب المحرم من أجل الضرورة لإنقاذ نفسه أو طرفٍ من أطرافه ولكنه لم يفعل ومات فإنه يموت عاصيًا آثمًا، لأن حفظ نفسه وأطرافه واجب عليه، ففعل المحرم حال الاضطرار ليس من الرخص المستحبة وإنما هو من الرخص الواجبة فهو عزيمة لا يجوز تركه.

ثم اعلم: أن الإنسان إذا ارتكب المحرم للضرورة ولكنه زاد عن حدها أي فعل ما تندفع به ضرورته وزاد، فهل يأثم على الجميع أو لا يأثم إلا على القدر الزائد فقط؟

فيه خلاف في المذهب، والراجح منه أنه راجع إلى نيته إن كان لا ينوي بارتكاب المحرم إلا دفع الضرورة ثم زاد على ذلك فإنه لا يأثم إلا على الزائد فقط، وإن كان ينوي به التلذذ أو الاستمتاع فإنه يأثم على الجميع، ذلك لأن الله تعالى قال:{فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ} فقوله: {غَيْرَ بَاغٍ} أي غير مريد لارتكاب المحرم وإنما اضطرته ضرورته وإلا فهو لا يبغي ارتكابه، وقوله:{وَلا عَادٍ} أي غير متعدٍ لحد الضرورة، وقوله:{فَلا إثْمَ عَلَيْهِ} أي بهذين الوصفين، والحكم المعلق بوصفٍ يثبت بثبوته وينتفي بزواله، فنقول: من زاد على المحرم إن كان غير باغ له فإنه يأثم على الزيادة فقط لأنه تعدى حد الضرورة، وإن كان باغياً للمحرم ومتعدياً لحد الضرورة فإنه يأثم مرتين على إرادة الحرام تلذذًا، وعلى تعدي حد الضرورة.

ص: 52

ثم اعلم أنه إذا كانت لا تندفع الضرورة إلا باستعمال ملك الغير (1) فإنه يجوز له استعماله إذا لم تتعلق به ضرورة مالكه، ولا يجوز لهذا المالك أن يمنع صاحب الضرورة من القدر الذي تندفع به ضرورته فإن منعه فلصاحب الضرورة قهره عليه واستعماله ولو بغير إذنه لكن يضمن صاحب الضرورة هذا المال إن كان طعامًا ضمن بدله أو ثمنه وهكذا، والقاعدة عند العلماء تقول:(الاضطرار لا يبطل حق الغير)(2) فعلى صاحب الضرورة ضمان ما أتلفه بسبب دفع ضرورته إذا لم يتبرع بها صاحب الملك، والله أعلم.

ثم اعلم أنه يجب أن يفرق الإنسان من حالة الضرورة وبين الحاجة فلا يخلط بينهما (3) فحالة الحاجة لا يؤدي عدم مراعاتها إلى تلف النفس أو الطرف بخلاف حالة الضرورة.

ولكي تتضح هذه القاعدة نذكر بعض فروعها:

فمنها: من بلغ به الجوع حد الهلاك وليس عنده ما يطعمه إلا ميتة فيجوز له أن يأكل منها بقدر ما تندفع به الضرورة وليس له أن يشبع منها، بل يأكل ما يقيم أوده فقط.

ومنها: من غص وليس عنده ما يدفع به غصته إلا خمراً فله أن يشرب منه بالقدر الذي تندفع به الضرورة فقط.

ومنها: من اضطر إلى لبس الحرير لمرضٍ به كحكة أو نحوها فإنه يجوز له ذلك كما في الحديث عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في قميص الحرير في سفرٍ من حكةٍ كانت بهما)(4) متفق عليه. وسيأتي زيادة إيضاح لذلك.

(1) لأن أل لا تدخل إلى غير في اللغة وإن استعمل ذلك بعض الفقهاء.

(2)

هذه القاعدة فيها خلاف، فمن أهل العلم من يرى أن إطعام الجائع فرض كفايه وهذا مضطر فإن كان فقيراً لا يجد ضمان فتناوله لم يلزمه شيء.

(3)

لكن المُحرم لغيره تبيحه الحاجه لا الضرورة كلبس الحرير لمن به حكه كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف بلبس الحرير لحكة بهما كما في الصحيحين من حديث أنس.

(4)

هذا تبيحه الحاجه كما أسلفت.

ص: 53