الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن أخر ذبح أضحيته حتى خرج وقتها بلا عذر فلا تكون أضحية بذبحها بعد غروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق، بل يأثم على القول بالوجوب وهكذا.
ومأخذ ذلك هو أنه فوت العبادة المؤقتة بوقتٍ محدد بلا عذر ففاتت بذلك؛ لأن العبادة المؤقتة بوقت تفوت بفواتها إلا من عذرٍ، فليحرص المسلم على ذلك وليبادر بإيقاع العبادة في وقتها المحدد لها حتى تبرأ ذمته ويخرج من عهدة التكليف بها، ومن وقع في تفويت شيء بلا عذر فعليه المبادرة بالتوبة والإكثار من فعل جنسها نفلاً ما أمكن ذلك، والله يتجاوز عن الخطأ والزلل وهو أعلى وأعلم.
القاعدة الثامنة والعشرون
28 - لا تكليف إلا بعقل وفهم خطاب واختيار
هذه القاعدة من قواعد الأصول وعليها مدار التشريع، وبيان ذلك أن يقال:
اعلم أن معنى التكليف هو إلزام ما فيه كلفة أي مشقة.
واصطلاحًا: عرفه الطوفي بأنه: (إلزام مقتضى خطاب الشارع) .
إذا علمت هذا فاعلم أن التكليف له شروط ترجع إلى الفعل المكلف به، وشروط ترجع إلى الشخص المكلف. فأما الشروط التي ترجع إلى الفعل المكلف فستأتي - إن شاء الله تعالى - في قاعدة مستقلة، وأما الشروط التي ترجع إلى المكلف فهي نص قاعدتنا التي نحن بصدد شرحها فأقول:
اعلم أنه يشترط في الشخص ليكون داخلاً في جملة المكلفين شروط إذا توفرت جميعها فهو مكلف، وإذا اختل أحدها فإنه يسقط عنه التكليف وهي كما يلي:
الأول: العقل: وضده الجنون، فيشترط في المكلف أن يكون عاقلاً وذلك للدليل الأثري والنظري. فأما الأثري فقوله صلى الله عليه وسلم:(رفع القلم عن ثلاثة) وذكر منهم: (وعن المجنون حتى يفيق) فقلم التكليف مرفوع عن المجنون لانعدام شرط التكليف الذي هو العقل. وأما النظري فلأن الشريعة إنما جاءت بامتثال المأمور وترك المحظور، والامتثال هو قصد الطاعة بذلك تحقيقًا لامتحان المكلف كما قال سبحانه:{لِيَبْلُوَكُمْ أيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلا} وشرط كون الامتثال طاعة قصدها لله تعالى رغبة ورهبة فيما عنده من الوعد والوعيد فهذا القصد هو المصحح لكون الامتثال طاعة وهو مفقود في المجنون؛ لأنه لا يتصور منه ذلك الامتثال الذي هو قصد الطاعة، فانتفت فيه حكمة التشريع فلم يعد إيجابه عليه مناسبًا لانعدام الحكمة منه وهذا واضح.
الشرط الثاني: فهم الخطاب: ويعني أن يفهم المكلف خطاب التكليف بأمرٍ أو نهي فالذي لا يفهم الخطاب لا تكليف عليه، ولا يلزم من كونه لا يفهم الخطاب أن يكون لا عقل له، بل فهم الخطاب مرتبة زائدة على مجرد العقل، لكن لا يلزم من وجود العقل فهم الخطاب كما سيأتي في الفروع - إن شاء الله تعالى -، والدليل على هذا الشرط أثري ونظري، فأما الأثري فلحديث: (رفع القلم عن ثلاثة عن الصغير حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ
…
) فالقلم مرفوع عن هؤلاء ليس لأنهم مجانين لا عقول لهم أصلاً، بل لهم عقول لكنهم في حالة لا يفهمون معها الخطاب، فالنائم لا يفهم قوله تعالى:{وَأقِيمُوا الصَّلاةَ} ونحوه وكذلك الصغير لا يفهم ذلك، فسقط عنهم التكليف؛ لأنهم لا يفهمون الخطاب.
وأما النظري فلأن تكليف من لا يفهم الخطاب تكليف بما لا يطاق وهو منتفٍ شرعًا ولعدم وجود قصد الامتثال منهما فاجتمع هؤلاء في أنهم لا يفهمون الخطاب لكن عدم الفهم في هؤلاء مختلف فالصبي والمجنون لا يدركان معنى كلام الشرع، أما الصبي فبالأصالة؛ لأن عقله الذي يفهم به الخطاب لم يكمل بحيث يقوى على الإدراك، وأما المجنون فبعارضٍ قوي قهري وهو الجنون، وأما النائم فلعارض طبيعي وهو النوم، قاله الطوفي في شرح مختصر الروضة.
الشرط الثالث: الاختيار: وهو أن يفعل المأمور ويترك المنهي اختيارًا منه، فإذا ترك المأمور وفعل المنهي عنه بإكراه فإنه لا يأثم لأنه غير مكلف، والدليل على ذلك أثري ونظري، فأما الأثري فقوله تعالى {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلا مَنْ أكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} فرخص الله جل وعلا قول كلمة الكفر وفعله مع اطمئنان القلب بسبب الإكراه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(عُفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ،
وأما النظري فلأن المكرَه – بفتح الراء – صار كالآلة في يد المكرِه – بكسر الراء – فلا ينسب إليه فعل، وشرط العقوبة أن يقدم الإنسان على المعصية وهو مختار لها؛ لأنه حينئذ يستحق العقاب، لكن إذا صار كالآلة في يد غيره فلا يستحق حينئذٍ العقاب،؛ ولأنه يقدم على الفعل وهو لا يريده ولم يقصده، وإنما فعل بدافع الإكراه فقط.
واعلم أن الإكراه نوعان: إكراه ملجئ وهو الذي لا يبقي للإنسان قدره ولا اختيار فهذا مسقط للتكليف في قول عامة أهل العلم.
وإكراه غير ملجئ وهو الذي يبقى للإنسان نوع نظر واختيار، وعموم الأدلة يدل على أنه داخل في إسقاط التكليف فإن الأدلة لم تفرق بين إكراه وإكراه وترك الاستفصال في مقام الاحتمال يجرى مجرى العموم في المقال.
إذا علمت هذا فاعلم أنه لا يثبت التكليف إلا إذا توفرت هذه الشروط جميعها فإذا اختل شرط منها فلا تكليف، لكن يلزمنا أن نفرق بين أمرين متشابهين:
الأول: الحكم التكليفي. الثاني: الحكم الوضعي، فهذه القاعدة إنما تسقط الأول ولا تعلق لها بالثاني. فالأحكام الوضعية ثابتة ولو على غير المكلف كالمجنون والصغير والبهيمة ونحوها؛ لأنها من باب ربط الأشياء بأسبابها. إذا علمت هذا فدونك هذه المسائل المهمة في هذا الباب لتعرف أحكامها وتفاصيلها فأقول:
المسألة الأولى: هل الغضبان مكلف أم لا؟
الجواب: فيه خلاف عريض، والذي يتوافق مع الأدلة هو أن يقال: إن الغضب أقسام ثلاثة: الأول: غضب لا يغلق على الإنسان عقله واستقامة تفكيره، ويدري ما يقول فهذا طلاقه وعتاقه وجميع تصرفاته معتبرة بالإجماع؛ لأنه داخل في التكليف لعقله وفهمه للخطاب. الثاني: غضب يغلق على الإنسان عقله الكامل لكنه يدري ما يقول ويفعل فهذا أيضًا طلاقه وعتاقه وتصرفاته معتبرة على الصحيح؛ لأن عقله باقٍ وليس فيه إلا مطلق الإغلاق فقط. الثالث: غضب يغلق على الإنسان عقله الغلق المطلق بحيث لا يدري ما يقول ولا ما يفعل، بل بعضهم يصيبه الإغماء وبعضهم تنتفخ أوداجه انتفاخًا واضحًا فيكون كالوحش الكاسر، فهذا لاشك أنه لا يقع طلاقه وعتاقه وتصرفاته لا تعتبر؛ لأنه فاقد لمناط التكليف الذي هو العقل، فهو وإن كان موجودًا لكنه مغلق أي أن هذا الغضب أغلق على عقله الذي هو مناط التكليف فصار وجوده كعدمه.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) واختار هذا القول الشيخ تقي الدين وتلميذه ابن القيم وهو المفتى به عندنا في بلادنا.
المسألة الثانية: السكران هل هو مكلف أم لا؟
فيه خلاف والصواب التفصيل في السؤال عن مدى تغطية السكر للعقل، فإن كان السكر لم يغط العقل تغطية كاملة بحيث يدري ما يقول ويعرف معنى الطلاق والعتاق ونحوه فهذا لاشك أنه مكلف وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحدٍ من أهل العلم.
وإن كان السكر قد غطى على عقله التغطية المطلقة بحيث أغلق عليه فلا يدري ما يقول ولا ما يفعل، فإنه ينزل منزلة من زال عقله، ومن زال عقله فلا تكليف عليه، أي لا نوقع طلاقه ولا عتاقه ولا بيعه ونحوها واختار هذا القول الشيخ تقي الدين وتلميذه ابن القيم.
المسألة الثالثة: المكره على الكفر هل يجوز له الكفر أو لا؟ وهل الأفضل له الصبر ولو مع إيقاع الألم به أو الأفضل الاستجابة لمن أكرهه؟
أقول: هذا السؤال مكون من شقين: فأما الأول: فاعلم أن من أكره على الكفر فإنه يباح له الكفر الظاهر لا الباطن، أي يجوز له موافقة المكرِه بقول الكفر أو فعله ظاهرًا لكن لا يجوز له ذلك في الباطن؛ لأنه لا استيلاء للمكرِه على الباطن ولا علم له به. ودليل ذلك الآية السابقة:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلا مَنْ أكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، وللحديث السابق ذكره:(عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) لكنه لو كفر في الباطن لخرج عن الإسلام؛ لأنه فعل ذلك باختياره؛ لأنهم لم يكرهوه على الكفر القلبي، وإنما أكرهوه على الكفر في الظاهر فقط، ولذلك قال الله تعالى:{وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} لكن عندنا حديث مشكل وهو حديث طارق بن شهاب رضي الله عنه في: أن رجلاً دخل الجنة في ذباب ورجل دخل النار في ذباب، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: (مر رجلان على قومٍ لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئًا، فقالوا لأحدهما: قرب، فقال: ليس عندي شيء أقرب، قالوا: قرب ولو ذبابًا فقرب ذباباً فخلوا سبيله فدخل النار
…
الحديث) (1) فهذا الرجل في ظاهر الحديث أنه لم يقرب ذبابًا إلا أنه يريد التخلص من القتل إذا لم يقرب، فهو إذًا مكره ومع ذلك عوقب على ذلك الفعل ودخل النار بسببه مع أنه كفر في الظاهر ولا ندري عن الباطن، وليس في الحديث ما يشير إلى أنه وافقهم في
(1) الحديث لايصح مرفوعاً بل هو موقوف على سلمان ومن أخرجه كالإمام أحمد في الزهد وأبي نعيم في الحلية أخرجاه عن طارق بن شهاب عن سلمان من قوله رضي الله عنه فهو موقوف، والأقرب أنه مأخوذ عن بني اسرائيل. ويكون إن صح من شرع من قبلنا وورد شرعنا بخلافه كما رجحته جزاك الله خيراً.
الباطن. فكيف نقول: أن من أكره على الكفر يجوز له الكفر في الظاهر فقط وهذا الحديث يثبت عقوبة من كفر ظاهرًا وهو مكره؟
أقول: هذا سؤال وجيه جدًا، وقد حاول العلماء الإجابة عنه فذكروا أجوبة عديدة فقال بعضهم: إن الرجل الذي قرب ذبابًا وافقهم في الظاهر والباطن فاستحق دخول النار؛ لأنه وافقهم في الباطن. ويجاب عنه: بأن هذه دعوى وكل دعوى لا تقبل إلا بالدليل، فأين الدليل الدال على موافقته لهم في الباطن؟ بل ظاهر الأمر أنه لم يفعل ذلك إلا لخوفه أن يقتلوه فهو في الحقيقة مكره.
وقال بعضهم: إنه استحق دخول النار؛ لأنه كان كافرًا بالأصل، فليس سببه التقريب لغير الله. ويجاب عنه: بأن الحديث سيق لبيان خطر الذبح لغير الله، ولو كان كافرًا لدخل النار بمجرد كفره، فلما قال:(فقرب ذبابًا فخلو سبيله فدخل النار) دل ذلك على أن سبب دخوله للنار هو هذا التقريب؛ ولأن قوله: (فدخل النار) حكم مقرون بالفاء بعد قوله: (فقرب ذبابًا) وهو وصف وعلة الحكم المقرون بالفاء بعد وصف هو عين ذلك الوصف.
وقال بعضهم: بل دخل النار؛ لأنه لم يصل إلى حد الإكراه الملجئ الرافع للتكليف. ويجاب عنه: بأن هؤلاء القوم قد هددوهما بالقتل إن لم يقربا، بل إنهم قتلوا الآخر وهذا هو عين الإكراه الملجئ.
وقد يقال: إن التكليف يزول بمسمى الإكراه ولا ينظر هل هو ملجئ أو غير ملجئ لعموم الأدلة، وتقدم ذلك.
وقال بعضهم: إن الرخصة إنما هي في الكفر القولي أي باللسان فقط، أما الكفر العملي فإنه يقع حكمه على صاحبه وإن كان مكرهًا، وهذا الرجل كفر كفرًا عمليًا وهو الذبح لغير الله، ولا رخصة في ذلك. ويجاب: أن عموم الآية والحديث يدل على دخول الكفر العملي، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وذكروا غير ذلك.
فإن قلت فما الجواب الصحيح؟
أقول: الجواب الصحيح هو أن هذه القصة كانت فيمن كان قبلنا، وهذا هو ظاهر الحديث، فهي من شرع من قبلنا، وشرع ما قبلنا شرع لنا ما لم يرد نسخه في شرعنا، وكان من شرعهم عدم جواز النطق بكلمة الكفر أو فعله ولو مع الإكراه ونسخ ذلك في شريعتنا رحمة من الله تعالى وتيسيراً علينا. فإن قيل: ما دليلك على أنها كانت فيمن كان قبلنا؟ فأقول: هذا هو ظاهر الحديث، وإذا لم يظهر ذلك فنقول: حتى ولو كانت في هذه الأمة فهي أيضًا مما نسخ بالآيات والأحاديث التي تعفو عن فعل الكفر أو قوله بالإكراه والنسخ في شريعتنا جائز وواقع، هذا هو جواب الشق الأول.
أما جواب الشق الثاني: وهو هل الأفضل فعل الكفر المكره عليه أم الأفضل الصبر وإن أدى إلى القتل؟ أقول: هذا فيه خلاف طويل بين العلماء – رحمهم الله تعالى – وفصل القول فيه أنه تابع للمصلحة، فإن الشريعة لا تأمر إلا بما فيه مصلحة غالبة أو خالصة، ولا تنهى إلا عن ما فيه مفسدة خالصة أو غالبة، وليس في الشريعة ما تستوي فيه المصالح والمفاسد وإنما يفرض من باب التقسيم فقط وإلا فلا حقيقة له، فإذا أكره الإنسان على الكفر أو القتل فلينظر بعين الشرع، فإن كانت إجابته للمكره فيما أراد فيها مفسدة خالصة أو غالبة فنقول: عليه أن يصبر، وإن مات فهو شهيد، ومن ذلك صبر من صبر من الصحابة – رضوان الله عليهم – في أول الإسلام، وعليه قوله صلى الله عليه وسلم لما قال له خباب بن الأرت: ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا؟ فقال: (إنه كان من كان قبلكم يؤتى بالرجل فيحفر له في الأرض فيوضع المنشار على رأسه فيشق نصفين لا يرده ذلك عن دينه) . ومنه صبر الراهب وجليس الملك في حديث غلام الأخدود وهو عند مسلم من حديث صهيب بن سنان الرومي (1) . ومنه صبر الإمام أحمد على الفتنة وعذابها فإنه قد افتتن كثير من علماء عصره إلا هو – رضي الله عنه وأرضاه – ومن شاء الله تعالى، فثبت على البلاء ووقف في وجه المأمون والمعتصم والواثق وقوف الرجال وكان يقال له: إن لك في ذلك فسحة من الله فإنك مكره، وكان يجيبهم بأن كلامه مسموع فلو قال ما أرادوه من القول بخلق القرآن لنقلها الناس عن إمام أهل السنة وافتتن بها خلق كثير، فلما غلبت المفسدة على المصلحة صبر وثبت وأصر على الحق ولم يجبهم إلى ما أرادوه (2) ، والأمثلة كثيرة.
(1) لا بد تخريج هذا الحديث.
(2)
الصبر إذا كان في الإجابة ضرر على الدين والأمة لا على الشخص نفسه فواجب لأنه من باب الجهاد المتعين كصبر الإمام أحمد، وانظر فتاوى شيخ الإسلام.
وأما إن كان في الإجابة مصلحة خالصة أو راجحة فالقول حينئذٍ أن الإجابة هي المشروعة كإجابة عمار رضي الله عنه لكفار قريش في سب النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى العموم فإن إعطاء قانون مستقيم في الإجابة من عدمها ليس صحيحًا؛ لأن الأدلة وردت بهذا وبهذا ولكن القول بتنوع الأحوال هو الصحيح وهذا التنوع ليس تابعًا للخوف أو الهوى وإنما هو تابع للمصلحة فأي الطرفين اقترنت به المصلحة فهو الراجح فإن اقترنت بالإجابة فهي الراجحة وإن اقترنت بتركها فهي الراجحة وتنزل أدلة الطرفين على وجود المصلحة، وبهذا القول تتآلف الأدلة وتتفق، والله أعلم.
المسألة الرابعة: الصبي المميز هل هو مكلف أو لا؟
فيه خلاف، فقيل بتكليفه وهو رواية عن أحمد – رحمه الله تعالى – ليست هي المشهورة واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم:(مروا أولادكم بالصلاة لسبعٍ واضربوهم عليها لعشر) والأمر للوجوب والعقاب لا يكون إلا على ترك واجب، فلو لم تكن واجبة لما استحقوا على تركها العقاب، واستدلوا أيضًا بوجوب الزكاة عليهما، والزكاة حكم تكليفي، وبأنهما لو أتلفا شيئًا وجب عليهما ضمانه، وبقوله صلى الله عليه وسلم للحسن أو للحسين لما أراد أن يأخذ تمرة ساقطة: كخٍ كخٍ إني أخشى أن تكون من الصدقة، وبقوله صلى الله عليه وسلم للذي طاشت يده في الطعام وهو صغير لم يحتلم لكنه مميز وهو عمر بن أبي سلمة قال له:(يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) متفق عليه، والتسمية على الطعام واجبة، والأكل باليمين كذلك وهما حكمان تكليفيان فدل ذلك على أن المميز مكلف. وقال جماهير العلماء بعدم تكليفه وهي رواية عن أحمد أيضًا ورجحها كثير من أصحابه لقوله صلى الله عليه وسلم:(رفع القلم عن ثلاثة، عن الصغير حتى يحتلم) وهو نص في المسألة؛ ولأن تعليق التكليف بأول جزءٍ من أجزاء التمييز تعليق لما لا دليل عليه (1) ، فإن التمييز كضوء النهار يبدأ أولاً لا يكاد يرى ثم ينتشر شيئًا فشيئًا، فعلامة ابتداء التمييز غير معلومة لنا؛ ولأنها متفاوتة أشد تفاوت بين جيل وآخر.
وأما وجوب الضمان لما أتلفوه ووجوب الزكاة فليس هو من باب التكليف، وإنما هو من باب ربط الأحكام بأسبابها. فالضمان من الأحكام الوضعية لا التكليفية، وقلنا سابقًا أن الأحكام الوضعية لا يشترط فيها شروط التكليف.
(1) من حدد بالسبع يجعل السن وهو بلوغ السابعة هو الدليل الفيصل بين المميز وغيره.