الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الحادية والأربعون
41 - تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
وهي قاعدة أصولية، لكنها من أهم القواعد التي ينبغي عدم إهمالها، ويقبح بطالب العلم جهلها لكثرة الفروع المخرجة عليها. وهي قاعدة تشتمل على بحثين:
الأول: تأخير البيان عن وقت الحاجة. والثاني: تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة. فأما الأولى: فاعلم أنه لا يجوز تأخر البيان عن وقت الحاجة باتفاق العلماء إلا على قول من قال بجواز التكليف بالمحال، لكن اتفقوا جميعًا على أنه غير واقع شرعًا وذلك لقوله تعالى:{ثمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ، ولقوله تعالى:{وَأنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ، ولأن الإتيان بالشيء مع عدم العلم به محال، إذ من شروط التكليف العلم بالمكلف به، والتكليف بما لا يُعلم تكليف بما لا يطاق، وقد قال تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَها} وهذا ليس من وسعها، وقد نقل القاضي في مختصر التقريب إجماع أرباب الشرائع على ذلك، وبما أنها مسألة متفق عليها بين العلماء فلا داعي للإطالة فيها. وأما البحث الثاني: فهو في حكم التأخير عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة فهذا فيه خلاف طويل بين الأصوليين، والقول الراجح طلبًا للاختصار هو القول بجواز ذلك، وهي الرواية المشهورة في المذهب سواءً كان اللفظ المبيَّن عامًا أو مجملاً أو مطلقًا فيجوز تأخير تخصيصه أو توضيح المراد منه أو تقييده عن وقت الخطاب به إلى وقت الحاجة وهو قول بعض الشافعية والمالكية وبعضهم منع ذلك، لكن الصواب ما رجحناه وذلك للدليل الأثري والنظري، فأما الأثري فقوله تعالى:{كِتَابٌ أحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} وقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} فرتب
تفصيل الآيات على أحكامها وبيان القرآن على القراءة بحرف (ثم) وهي تفيد التعقيب مع التراخي وذلك يقتضي جواز تأخير البيان، وقد أجمعنا على عدم جوازه عن وقت الحاجة، فلم يبق إلا جوازه إليها وهو المطلوب.
ومن الأدلة أيضًا: قصة بني إسرائيل لما أمرهم الله تعالى بذبح البقرة فإنه أخر بيانها أعني بيان صفتها حتى راجعوه فيها مرارًا وذلك في قوله تعالى: {وَإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} إلى قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} وذلك يدل على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة (1) .
ومن الأدلة أيضًا: أن الله تعالى أخر بيان أن ابن نوحٍ ليس من أهله إلى وقت الحاجة وذلك أنه سبحانه قال لنوح عليه السلام: {اصْنَعْ الْفُلْكَ} وأمره أن يحمل فيها من كلٍ زوجين اثنين وأهله، وهو عام في ابنه وغيره فلما أدرك ابن نوحٍ الغرق خاطب نوح ربه عز وجل فيه بقوله:{إنَّ ابْنِي مِنْ أهْلِي وَإنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} أي وعدتني أن تنجيني وأهلي وأنت أهلكته فأنجه، فقال سبحانه:{إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ} فسكت نوح بعد أن سمع ما سمع خائفًا مستغفرًا، فهذا من تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
(1) في هذا الإستدلال نظر لأن الأصل الأمر ببقرة مطلقه فلما شددوا شدد الله عليهم.
ومن الأدلة أيضًا على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر بيان كثير من الأحكام إلى وقت الحاجة، فمن ذلك: أنه أخر بيان قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى
…
} فاقتضت الآية أن جميع الغنيمة لهذه الأصناف، ثم بين بعد ذلك أن السلب للقاتل، وأن المراد بذي القربى بنو هاشم، وبنو المطلب بن عبد مناف وإخوته هاشم ونوفل وعبد شمس، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:(إنا وبني المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام) .
ومنها: قوله تعالى: {وَآتَوْا الزَّكَاةَ} فقد بينه صلى الله عليه وسلم مؤخرًا بقوله: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًا العشر، وفيما سقي بالسواني نصف العشر) وقال: (في كل أربعين شاة شاة) وبين نصاب الإبل والبقر والذهب والفضة وعروض التجارة والركاز وغيره من الأموال الزكوية، فكل ذلك يُعَدُّ بيانًا لقوله تعالى:{وَآتَوْا الزَّكَاةَ} .
ومنها: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} فإنه صلى الله عليه وسلم أخر بيانه بفعله إلى أن حج حجة الوداع فكان كلما انتهى في حجته من نسك قال: (خذوا عني مناسككم) .
ومنها: قوله تعالى: {وَأقِيمُوا الصَّلاةَ} فإنه قد بينه جبريل عليه الصلاة والسلام بفعله في اليومين، وكل ذلك كان متأخرًا عن وقت الخطاب، كما في حديث نافع بن جبير بن مطعم قال أخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمني جبريل
…
) الحديث الطويل، وفي آخره أنه قال له:(يا محمد الوقت بين هذين) وهذا كله حصل متأخرًا.
وأما النظر فلأن الحاجة للبيان لا تكون إلا عند الحاجة للعمل، فعندها حينئذٍ يحتاج المكلف إلى البيان، أما قبله فإنه لا يحتاجه إلا للعلم والمعرفة فقط، فلا يستحيل عقلاً أن يتأخر البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة لعدم الحاجة، وهذا من اتفاق العقل والنقل، وعلى هذا نقول باختصار: إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بالاتفاق، وأما تأخير البيان إلى وقت الحاجة فجائز على الصحيح.
وفي ذلك قال الناظم في المنظومة السنية:
ويحرم التأخير في البيان عن
…
توقيته ليس إليه فافهمن
وإتماماً للفائدة نذكر بعض الفروع على هذه القاعدة حتى تتضح أكثر فأقول:
منها: أنه يستدل على طهارة ما صاده الكلب وأنه لا يجب غسله أعني غسل ما صاده سبعًا إحداها بتراب، يستدل على ذلك بقوله تعالى:{مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} فأمر بالأكل مما صاده الكلب وأمر بذكر اسم الله عليه، ولم يأمر بغسل الصيد مما يدل على عدم وجوبه إذ لو كان واجبًا لذكره لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وكذلك في حديث عدي ابن حاتم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيد الكلب فقال:(إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل) فرتب الأكل على أمرين على قصد الإرسال مع ذكر اسم الله عليه، ولم يذكر اشتراط غسل ما صاده مما يدل على عدم وجوبه إذ لو كان واجبًا لذكره؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ ولأن هذا حكم تعم به البلوى أعني الصيد بالكلاب ويحتاج إلى بيان فلما لم يبين ذلك دل على عدم وجوبه إذ لا يمكن إهماله مع شدة الحاجة إليه وهذا هو الراجح؛ ولأنه فعل يتكرر فيشق فأوجب التخفيف؛ لأن المشقة تجلب التيسير.
ومنها: استدل بعض العلماء على وجوب الزكاة في الحلي المستعمل بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في قصة المرأة التي أتت بابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب فقال: (أتؤدين زكاة هذا) ؟ قالت: لا. قال: (أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار) فأخذتهما فألقتهما، فقالت: هما لله ورسوله.
وأجاب المانعون عن الاستدلال بذلك بأن الزكاة المدنية شرعت ذات أنصبة محددة لا يجب على المرء ما زاد عنها، ونصاب الذهب والفضة ربع العشر، فلو كان المراد بقوله:(أتؤدين زكاة هذا) الزكاة المدنية لنبه هذه المرأة على أن الواجب فيها إنما هو ربع العشر وليس كلها؛ لأنها تجهل الحكم أصلاً وتحتاج إلى بيان (1) ، فلما لم يبين ذلك دل على أن المراد هو الزكاة0 المكية التي تجب في القليل والكثير حتى في الماعون، ذلك لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فإن قيل: هي تصدقت به كله فأدت الواجب وزيادة.
فنقول: حتى وإن سلمنا هذا فإن المأخذ هو أنها تجهل وجوب الزكاة في الحلي ولا تعرف أنصبائها من باب أولى، فتحتاج إلى بيان، فلما لم يكن ذلك دل على أن الزكاة المرادة هي الزكاة المكية وهي كمرحلة أولى للزكاة المدنية، فإن الزكاة المكية شرعت بلا أنصباء بخلاف الزكاة المدنية، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
(1) ينازع في ذلك فقد يقال إنها تجهل حكم زكاة الحلي لأنه ملبوس. ولكن الأحاديث لا تخلو من مقال.
ومنها: ذهب بعض أهل العلم إلى أن مس المرأة ناقض للوضوء مستدلين بقوله تعالى: {أو لمستم النساء} وهي قراءة سبعية، وذهب البعض إلى أن مس المرأة لا ينقض الوضوء لحديث عائشة:(أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ) رواه أحمد وضعفه البخاري وغيره من الأحاديث، ولأن مس الرجل لزوجته ومسها له أمر مشهور تعم به البلوى، فلو كان ناقضًا للوضوء لبينه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وأما الآية فالمراد باللمس الجماع للقراءة الأخرى:{أو لامستم النساء} والملامسة هي الجماع، وهذا هو الراجح أن مس المرأة لا ينقض الوضوء إلا إذا خرج منه مذي أو مني، فلما حلَّ وقت الحاجة ولم يبين ذلك الحكم دل على عدم اعتباره ناقضًا للوضوء، والله أعلم.
ومنها: ذهب بعض العلماء أن أهل مكة يجمعون ويقصرون مع إمام الحج في المشاعر فيصلون الظهر والعصر جمعًا وقصرًا في عرفة، والمغرب والعشاء جمعًا وقصرًا في مزدلفة، ويصلون أيام منى قصرًا فقط،وهو اختيار أبي العباس – رحمه الله تعالى –، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع حج معه أهل مكة، وكانوا يصلون وراءه، ولم يكن عليه الصلاة والسلام يأمرهم بالإتمام ولم يبين لهم وجوبه عليهم مما يدل على جوازه لأهل مكة في هذه الأماكن في أيام الحج، إذ لو كان القصر لا يجوز لهم لبين ذلك؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.