المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌43، 44 - يدفع أعظم المفسدتين بارتكاب أدناهما ويحصل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما - تلقيح الأفهام العلية بشرح القواعد الفقهية - جـ ٣

[وليد السعيدان]

فهرس الكتاب

- ‌41 - تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز

- ‌42 - مباشرة الحرام للتخلص منه جائزة

- ‌43، 44 - يدفع أعظم المفسدتين بارتكاب أدناهما ويحصل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما

- ‌45 - كل وسيلة فإن حكمها حكم مقصدها

- ‌46، 47 - الأصل في العبادات الحظر والتوقيف والأصل في العادات الحل والإباحة

- ‌48 - القصود في العقود معتبرة

- ‌49 - من لا يعتبر رضاه لفسخ عقدٍ أوحَلهِ لا يعتبر علمه به

- ‌50 - كل من سبق إلى مباحٍ فهو أحق به

- ‌51 - اليمين في جانب أقوى المتداعيين

- ‌52 - الأمر بعد الحظر يفيد ما أفاده قبل الحظر

- ‌53 - يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء

- ‌54 - تستعمل القرعة في تمييز المستحِقِّ

- ‌55 - إذا اجتمع مبيح وحاظر غُلِّبَ جانب الحاظر

- ‌56 - إذا تعذر معرفة صاحب الحق نزل منزلة المعدوم

- ‌57 - من تعجل حقه أو ما أبيح له قبل وقته على وجه محرم عوقب بحرمانه

- ‌58 - تقدم اليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزين، واليسرى فيما عداه

- ‌59 - يثبت تبعًا وضمنًا ما لا يثبت استقلالاً وقصدًا

- ‌60 - من سقطت عنه العقوبة لفوات شرط أو لوجود مانعٍ ضوعف عليه الغرم

- ‌61 - من اجتهد وبذل ما في وسعه فلا ضمان عليه وكتب له تمام سعيه

- ‌62 - الأصل أن نفي الشيء يحمل على نفي الوجود إن أمكن، وإلا فنفي الصحة وإلا فنفي الكمال

الفصل: ‌43، 44 - يدفع أعظم المفسدتين بارتكاب أدناهما ويحصل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما

ومنها: لا يجوز للإنسان مباشرة الأموال التي اكتسبها من الربا، فلا يجوز له مباشرتها بالنفقة على نفسه ولا على ولده أو خادمه ولا يتصدق بها، ذلك لأنها أموال خبيثة لكن إذا تاب من الربا وأراد التخلص من هذا المال فله أن ينفقه في المرافق العامة كبناء المدارس وإصلاح الطرق ونحوه ولا يكون إنفاقه في هذه الحالة حرامًا؛ لأنه أنفقه للتخلص منه ومباشرة الحرام للتخلص منه جائزة.

ومنها: مباشرة المال المسروق بقصد التخلص منه برده إلى صاحبه جائزة؛ لأنها من هذا الباب، والله أعلم.

القاعدة الثالثة والأربعون، والرابعة والأربعون

‌43، 44 - يدفع أعظم المفسدتين بارتكاب أدناهما ويحصل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما

وهما قاعدتان من أعظم القواعد وأهمها وليس تأخيري لها مقصودًا، بل لأنني لا أراعي الترتيب بين القواعد وإنما أكتب ما يسنح بالبال منها على غايةٍ من الإعجال في وقتٍ قلَّ فيه المعين - فالله المستعان -، والمراد أن هاتين القاعدتين من أهم القواعد الأصولية الفقهية وعلينا أن نطنب في شرحها والتدليل لها مع التفريع.

ص: 9

فأقول: إن هذه الشريعة خير كلها ومصالح كلها وعدل كلها، فلم تدع خيرًا إلا دلت عليه ولا شرًا إلا حذرت منه وقد جاءت بأصلين عظيمين هما: تقرير المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فما ترك النبي صلى الله عليه وسلم خيرًا إلا دلنا عليه ولا شرًا إلا حذرنا منه، فلا تجد فعلاً أو قولاً فيه مصلحة إلا والشريعة قد أمرت به أمر إيجاب أو استحباب، ولا فعلاً أو قولاً فيه مفسدة إلا والشريعة قد نهت عنه إما نهي تحريم أو كراهة فالواجب إذًا هو فعل المصالح كلها، واجتناب المفاسد كلها، بحيث لا يقر الإنسان على ترك مصلحة ولا فعل مفسدة، لكن هذا عند عدم تعارض المصالح والمفاسد، لكن لو قدرنا تعارض مصلحتين بحيث يؤدي فعلنا لأحدهما تفويت الأخرى، أو تعارض مفسدتين بحيث يؤدي ترك أحدهما إلى فعل الأخرى، ففي هذه الحالة تكون ملزمين بترك إحدى المصلحتين وبالوقوع في إحدى المفسدتين، فأي المصالح يقدم وأي المفاسد يجتنب هذا هو ما تجيب عليه هاتان القاعدتان، فالأولى: في تعارض المفاسد. والثانية: في تعارض المصالح.

فأما الأولى: فتقضي قضاءً جازمًا بأنه عند تعارض المفاسد فإنه ينظر فيهما هل هما متساويتان في المفسدة؟ أو أن إحداهما أشد مفسدة من الأخرى؟ فإن كانت هذه المفاسد متساوية فإن الإنسان يخير بترك أحدهما، إذ لا مرجح لإحداهما على الأخرى، أما إذا كانت إحداهما أشد مفسدة من الأخرى فإن الواجب هو اجتناب المفسدة الأشد بارتكاب المفسدة الأخف، وكذلك إذا تعارضت مصلحتان فإن الواجب حينئذٍ هو النظر بينهما هل هما متساويتان في المصلحة أو أن إحداهما أعظم مصلحة من الأخرى، فإن كانتا متساويتين في المصلحة فإن الإنسان يخير بفعل إحداهما إذ لا مرجح لإحداهما على الأخرى، هذا على تقدير استواء المصالح والمفاسد وإلا فالمراد إنما هو التقسيم وحصر الأصناف فقط.

ص: 10

أما إذا كانت إحداهما أعظم مصلحة من الأخرى فإن المشروع حينئذٍ هو فعل ما كانت مصلحته أكبر بتفويت ما كانت مصلحته أقل.

وقد دل على هاتين القاعدتين أدلة كثيرة من النقل والعقل، فأما من النقل:

فمنها: قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} فهنا عندنا مفسدتان ومصلحتان، فالمفسدة الأولى: هي ترك سب آلهة المشركين المجرد. والثانية: سب الله تعالى. والمصلحة الأولى: هي سب آلهة المشركين المجرد. والثانية: تركهم سب الله تعالى، والمفاسد والمصالح هنا متعارضة، فغلب الله تعالى ترك أعلى المفسدتين الذي هو سب الله تعالى بفعل الصغرى وهو ترك سب آلهة المشركين، ذلك لأن ترك سب آلهتهم وإن كان فيه مفسدة لكن أقدمنا عليه؛ لأن في فعله اقتحام مفسدة أكبر وهو سب الله تعالى، فتعارضت المفسدتان فراعينا الكبرى بفعل الصغرى؛ لأن الشريعة جاءت بتقليل المفاسد وغلب الشارع كذلك فعل أكبر المصلحتين على فعل أدناهما فقال: إن سبكم لآلهتهم مصلحة، وتركهم لسب إلهكم أيضًا مصلحة، ولكن المصلحة الثانية أعظم بكثير من المصلحة الأولى، فاتركوا المصلحة الصغرى التي هي سبكم لآلهتهم ليتحقق لكم المصلحة الكبرى وهو تركهم لسب إلهكم؛ لأنه إذا تعارضت مصلحتان روعي أكبرهما بتفويت أدناهما، وهذا من أقوى الأدلة على هذا الأصل.

ص: 11

ومن الأدلة أيضًا: قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ} فهنا عندنا مفسدتان ومصلحتان تعارضتا: فالمفسدة الأولى: هي نكاح الأمة، ووجه المفسدة فيها هو رق الولد واشتغالها بخدمة سيدها، فلا يحصل لزوجها من السكن إليها والإيواء ودوام المعاشرة ما تَقَرُّ به عينه، وتسكن به نفسه. والثانية: هي أنه لو لم ينكحها لخيف عليه من الوقوع في المحظور وهو الزنا أو اللواط أو نكاح اليد، فهنا مفسدتان تعارضتا فقدمت الشريعة اجتناب أشدهما بفعل أخفهما فأباحت نكاح الأمة بشرطه المعروف مع أنه مفسدة دفعًا للمفسدة الكبرى وهو الوقوع في الحرام. وأما المصلحتان المتعارضتان: فالأولى: حفظ النفس من الوقوع فيما حرم الله من الزنا ونحوه. والثانية: ترك نكاح الأمة، والأولى أكبر مصلحة فنظرت إليها الشريعة وغضت الطرف عن الأخرى فأجازت نكاح الأمة مراعاةً للمصلحة الكبرى وهو حفظ النفس من الوقوع في المحظور.

فهذه الآية وهذا الحكم من العلي الحكيم مبني على دفع أعظم المفسدتين بفعل أدناهما وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما.

ص: 12

ومنها: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} إلى قوله تعالى: {فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فهنا فيه مفسدتان ومصلحتان تعارضتا: فالمفسدة الأولى: هي الأكل من الميتة. والثانية: مفسدة هلاك النفس وتلفها وقد تعارضتا هنا، فإن المضطر إذا لم يأكل من الميتة سيموت، ولاشك أن مفسدة تلف النفس أشد من مفسدة الأكل من الميتة فجوزت الشريعة ارتكاب أدنى المفسدتين الذي هو الأكل من الميتة دفعًا للمفسدة الكبرى الذي هو هلاك النفس. وأما المصلحتان المتعارضتان: فالأولى: مصلحة إحياء النفس وحمايتها من الهلاك. والثانية: مصلحة ترك الأكل من الميتة، ولاشك أن مصلحة إحياء النفس والمحافظة عليها من الهلاك أكبر من مصلحة ترك الأكل، فجوزت الشريعة ترك المصلحة الصغرى لتتحقق المصلحة الكبرى، والله أعلم.

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: (لولا أن قومك حديثو عهد بكفرٍ لهدمت الكعبة ولبنيتها على قواعد إبراهيم وجعلت لها بابين باب يدخل الناس منه وباب يخرجون منه) ففي هذا الحديث مفسدتان ومصلحتان متعارضتان: فالمفسدة الأولى: ترك البيت على وضعه الراهن. والثانية: افتتان الناس بهدم البيت،فارتكبت أدناهما وهي تركه على وضعه الراهن. وأما المصلحتان: فالأولى: بناء البيت على قواعد إبراهيم. والثانية: مصلحة عدم افتتان الناس عن الإسلام وتأليفهم عليه إلى أن يقر الإيمان في قلوبهم، ولاشك أن المصلحة الثانية هي الكبرى، فلما تعارضتا روعي أكبرهما بتفويت أدناهما، فترك البيت كما هو مراعاةً لمصلحة تأليف الناس على الإسلام، والله أعلم.

ص: 13

ومن الأدلة أيضًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم المنافقين بأعيانهم وأخبر بهم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ومع ذلك لم يتعرض لهم بقتل، وذلك كله خشية أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه فيكون هذا الكلام منفرًا للناس عن الدين، فهنا مفسدتان ومصلحتان: فالمفسدة الأولى: افتتان الناس عن الإسلام ونفورهم منه. والثانية: الإبقاء على المنافقين وترك قتلهم مع أنهم يستحقون القتل لكفرهم في الباطن، لكن المفسدة الأولى أشد وقعًا فروعيت بارتكاب المفسدة الصغرى، دفعًا لكبرى المفسدتين بارتكاب أدناهما. وأما المصلحتان: فالأولى: تأليف الناس على الإسلام وهي المصلحة الكبرى. والثانية: إراحة الإسلام والمسلمين من المنافقين ودفع شرهم وأذاهم بقتلهم وهي الصغرى فروعيت المصلحة الكبرى بتفويت المصلحة الصغرى، والله أعلم.

ص: 14

ومنها: في الصحيحين من حديث أنس في قصة الأعرابي الذي دخل المسجد وبال فيه، فقام الصحابة ليضربوه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وتركه يكمل بوله، ففي الحديث مفسدتان ومصلحتان: فالمفسدة الأولى: مفسدة تلويث المسجد بهذا الأذى والقذر. والثانية: مفسدة تنفيره عن الإسلام وإيغار صدره على من اعتدى عليه وتلويث مواضع من المسجد، ولاشك أن المفسدة الثانية أشد من المفسدة الأولى فروعيت المفسدة الكبرى بارتكاب الصغرى، فقال:(دعوه) أي لا بأس أن يرتكب هذه المفسدة، ولا تضربوه حتى لا يقع في المفسدة الكبرى. وأما المصلحتان: فالأولى: مصلحة صيانة المساجد من البول والأذى، وهي الصغرى، ومصلحة تأليفه على الإسلام، بل ومصلحة المحافظة على نفسه من تأذيه باحتباس البول، بل ومصلحة عدم انتشار البول في أكثر من بقعة في المسجد بسبب هروبه منهم، فهذه المصالح روعيت جميعها بتفويت المصلحة الصغرى التي هي صيانة المسجد من الأذى والقذر في هذه البقعة فقط؛ لأنه إذا تعارضت مصلحتان روعي أكبرهما بتفويت أصغرهما. والله أعلم.

ومنها: أن الأصل في الغيبة هي التحريم ولاشك، والأدلة على تحريمها من الكتاب والسنة معروفة مشهورة، لكن دل الدليل على جواز ذكرك أخاك بما يكره في أمور ستة معروفة.

ومنها: أنه إن سألك أحد عن شخص ليعرف حاله لتزويجه فإنه يجب عليك أن تبين له جميع ما تعرف عنه من أمور الشر (1) استدلالاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه) وهذا من باب الغيبة لانطباق تعريف الغيبة عليها، لكن جاز ذلك مع أن فيه مفسدة درءاً للمفسدة الأشد وهي تورط الناس بمن لا يصلح لهم خلقًا ودينًا، فروعيت هذه المفسدة بارتكاب أدنى المفسدتين.

(1) بل تبين ما يكفي إبعادهم وتحذيرهم منه وأما الباقي فلا حاجة إلى ذكره.

ص: 15

وعلى ذلك قس بقية ما قال فيه العلماء إنه من الغيبة الجائزة، والله أعلم.

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه عن كثرة سؤاله وكان يقول: (ذروني ما تركتكم) مع أن سؤاله عن بعض الأشياء فيه مصلحة لهم، لكن أيضًا مصلحة إبقاء الذمة بريئة من التكاليف أكبر، ذلك لأنهم لو أكثروا السؤال لشدد الله عليهم بكثرة التكاليف، فقال لهم:(ذروني ما تركتكم) ففوت المصلحة الصغرى التي هي زيادة علمهم لتتحقق المصلحة الكبرى وهي بقاء ذمتهم بريئة من التكاليف؛ لأنه إذا تعارض مصلحتان روعي أكبرهما بتفويت أصغرهما، والله أعلم.

ومنها: النهي عن الصلاة بعد العصر والفجر فيه مفسدتان ومصلحتان، فالمفسدتان هما: الأولى: ترك الصلاة النافلة بلا سبب. والثانية: التشبه بالمشركين في سجودهم للشمس في هذه الأوقات فروعيت هذه المفسدة الكبرى أعني مفسدة التشبه بالمشركين بارتكاب المفسدة الصغرى التي هي ترك الصلاة. وأما المصلحتان: فالأولى: فعل الصلاة النافلة في هذه الأوقات. والثانية: مصلحة عدم التشبه بالمشركين، ولاشك أن المصلحة الثانية أكبر فروعيت بتفويت المصلحة الصغرى تحقيقًا لهذا الأصل العظيم.

ومنها: النهي عن الصلاة حال حضور طعام تشتهيه أو وهو يدافع الأخبثين كما في حديث عائشة المشهور عند مسلم، فإن فيه مفسدتان: الأولى: مفسدة ذهاب الخشوع بسبب التفكير في الطعام ومدافعة الأخبثين. والثانية: مفسدة تأخير الصلاة عن أول الوقت أو تفويت الجماعة، لكن لاشك أن مفسدة ذهاب الخشوع الذي هو لب الصلاة وروحها أشد وأكبر من مفسدة فوات الجماعة فروعيت المفسدة الكبرى بارتكاب أدناهما وكذلك فيه مصلحتان: الأولى: الصلاة بخشوع القلب بسبب عدم الشواغل. والثانية: الصلاة في أول الوقت أو مع الجماعة، ولكن روعيت المصلحة الأولى بتفويت المصلحة الثانية؛ لأن الأولى أكبر من الثانية، والله أعلم.

ص: 16

ومنها: أنه يجوز لمن خاف تلف نفسه أو تلف عضوٍ من أعضائه باستعمال الماء لبردٍ ونحوه، أن ينتقل من الماء إلى التيمم كما في حديث عمرو ابن العاص الصحيح وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له على ذلك، فهنا فيه مصلحتان ومفسدتان، فالمصلحتان هما: الأولى: حفظ النفس. والثانية: الصلاة بالطهارة المائية، لكنهما متعارضتان فقدمت الشريعة مصلحة حفظ النفس والطرف على مصلحة الصلاة بالطهارة المائية؛ لأن حفظ النفس أهم وأكبر من مراعاة الصلاة بالوضوء؛ ولأن الماء له بدل وهو التراب لكن النفس لا بدل لها، فالمحافظة عليها أهم من المحافظة على الصلاة بالوضوء، وأما المفسدتان فهما: الأولى: تلف النفس أو الطرف. والثانية: الصلاة بالتيمم مع وجود الماء لكن الأولى أشد فروعيت بارتكاب الصغرى، هذا إذا سلمنا أن في الصلاة بالتيمم في هذه الحالة مفسدة، لكن المقصود مجرد التفريع، والله أعلم.

ومنها: أن من طلع عليه الفجر في رمضان وهو يجامع أهله فإنه يجب عليه النزع، ذلك لأن إبقاء الذكر في الفرج بعد طلوع الفجر مفسدة عظيمة وعاقبة وخيمة، ومفسدة نزعه صغيرة ولا حرج عليه فيها؛ لأنه يريد بها التخلص، فتعارضت مفسدة الإبقاء ومفسدة النزع فروعيت مفسدة الإبقاء؛ لأنها الأشد بارتكاب مفسدة النزع؛ لأنها الصغرى.

والأدلة الشرعية كثيرة جدًا، ونكتفي بهذا القدر.

وأما الدليل النظري فلأننا قررنا سابقًا أن الشريعة جاءت بتقرير المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارض مفسدتان إحداهما أكبر من الأخرى فلنا معها حالتان: الأولى: أن نحاول القضاء عليهما جميعًا وهذا هو الواجب عند القدرة عليه؛ لأنه تعطيل للمفاسد، وإذا لم نستطع تعطيلها بالكلية فإننا نحاول تقليلها ولا يكون ذلك إلا بارتكاب المفسدة الصغرى، واجتناب المفسدة الكبرى، وهذا من تقليل المفاسد.

ص: 17

وأما المصالح المتعارضة فالمشروع أيضًا فعلها كلها عند الإمكان، وإذا لم نستطع الجمع بينها فالذي ينبغي هو فعل ما كانت مصلحته أكمل؛ لأن ذلك من باب تكميل المصالح. فدار الأمر في هذين الأصلين بين شيئين: الأول: تقليل المفاسد، والثاني: تكميل المصالح، والله أعلم.

مسألة: ويدخل تحت هذه الأصول قواعد كثيرة:

منها: الضرر الأشد يدفع بالضرر الأخف.

ومنها: الضرر يدفع بقدر الإمكان.

ومنها: الضرر العام يدفع بالضرر الخاص.

ومنها: الضرر لا يزال بالضرر، وغيرها. ويبحثها العلماء تحت القاعدة الكبرى:(الضرر يزال) .

مسألة: جواز رمي الكفار الذين تترسوا بأسرى مسلمين هو من هذا الباب، فإن فيه مفسدتان ومصلحتان. فالمفسدة الأولى: مفسدة القضاء على المسلمين واستباحة ديارهم وأموالهم ونسائهم. والثانية: مفسدة قتل المتترس بهم، ولاشك أن المفسدتين متعارضتان، فإننا إذا راعينا عدم قتل الأسرى المسلمين فإن الكفار سيصلون إلينا ويفعلون بنا الأفاعيل، وإذا رميناهم ودافعنا عن أنفسنا فسنقتل إخواننا المساكين، فهما مفسدتان لابد من إحداهما، لكن مفسدة وصول الكفار إلينا والاستيلاء علينا أشد من مفسدة قتل الأسرى المتترس بهم؛ لأن الأولى ضررها عام، والثانية ضررها خاص، والضرر العام يدفع بالضرر الخاص، فجاز رمي الكفار الذين تترسوا بالمسلمين مع أن فيه مفسدة دفعًا للمفسدة العامة التي هي قتل المسلمين والاستيلاء عليهم.

وأما المصلحتان: فالأولى: مصلحة عدم قتل هؤلاء الأسرى المتترس بهم. والثانية: مصلحة أمن المسلمين والإبقاء عليهم في ديارهم، ولابد لفعل إحداهما من تفويت الأخرى فراعت الشريعة مصلحة حياة الأمة على مصلحة حياة البعض؛ لأنه إذا تعارضت مفسدتان روعي أعلاهما بتفويت أدناهما، والله أعلم.

ص: 18