الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها: الأرض التي وقع بها الطاعون، فإن من كان فيها لا يخرج منها هربًا منه فقعوده فيها مع ظنه الهلاك لا يؤثر؛ لأنه من باب البقاء، ولا يُعَدُّ بفعله ذلك قاتلاً لنفسه ولا أنه يلقي بنفسه للتهلكة، وأما من كان خارجًا عنها فإنه لا يجوز له ابتداء دخولها؛ لأن الإنسان يحرم عليه أن يلقي بنفسه في التهلكة، وهو مأمور بالمحافظة على نفسه، فالبقاء فيها مغتفر وابتداء دخولها محرم؛ لأنه يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء، وفي الصحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعًا:(إذا وقع عليكم وأنتم بأرضٍ فلا تخرجوا منها فرارًا منه وإذا سمعتم به في بلدٍ فلا تقدموا عليه) ، والله أعلم.
ومنها: نكاح الأمة فإنه يجوز بشرطين: أن لا يستطيع مهر حرة، وأن يخاف على نفسه العنت لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ
…
} إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} أي الوقوع في الفاحشة، فإذا توفر هذان الشرطان فيجوز له نكاحها، فإذا أيسر أو ذهب خوف الوقوع في العنت فإنه حينئذٍ لا يصح له ابتداء نكاح أمةٍ أخرى لكن لا ينفسخ عقد الأمة التي عنده؛ لأن المحرم هو ابتداء العقد لا استمراره، ذلك لأن البقاء أسهل من الابتداء، ولو تتبعنا الفروع لأطلنا والمقصود الاختصار ما أمكن والإشارة تغني عن التطويل فعلى هذه الفروع قس، والله أعلم.
القاعدة الرابعة والخمسون
54 - تستعمل القرعة في تمييز المستحِقِّ
إن هذه الشريعة شريعة كاملة،لم تدع شيئًا مشتبهًا يؤدي اشتباهه إلى التنازع إلا وجعلت في تمييزه طرقًا كثيرة، ومن هذه الطرق القرعة، والقرعة هي السهمة، والمقارعة المساهمة، والأصل فيها الكتاب والسنة.
فأما الكتاب: فقوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} أي نبيه وعبده يونس عليه السلام لما ركب السفينة مغاضبًا هاجت الأمواج وتلاطمت وأشرفت السفينة على الغرق لثقل حملها، فقالوا لابد أن يضحي أحدنا من أجل نجاتنا فاقترعوا فخرجت القرعة على نبي الله يونس، ثم استعظموا الأمر فاقترعوا ثانية وثالثة كلها تخرج عليه فألقى نفسه في اليم فإذا الحوت قد فَغَرَ فاه مستقبلاً له فالتقمه، ولم ينكر الله جل وعلا هذا الاقتراع ولو كان منكرًا لما أقره، وكذلك قوله تعالى عن اختصام ملأ بني إسرائيل من يكفل مريم، فاتفقوا على أن يأتوا إلى البحر ويلقون أقلامهم فأيهم خرج قلمه فهو يكفلها، فخرج قلم زكريا فكفلها، فقال تعالى:{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ} وهاتان الآيتان وإن كانتا في شرع من قبلنا لكن ورد شرعنا بتقريرها وجوازها، واتفق العلماء أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا ورد شرعنا بالأمر به، وإن لم يرد بجوازه فهل هو شرع لنا أو لا؟
فيه خلاف، والصواب: نعم، إن لم يرد في شرعنا ما ينسخه والقرعة قد ورد في شرعنا ما يجيزها ومن ذلك فعله صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يخرج في سفرٍ غزوةٍ أو غيرها إلا أقرع بين نسائه فأيتهن أصابتها القرعة خرج بها، وعن عمران بن الحصين رضي الله عنهما أن رجلاً من الأنصار أعتق ستة مملوكين في مرضه لا مال له غيرهم فجزأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة) رواه مسلم، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة
…
) الحديث، وأخرج أحمد في المسند عن ابن الزبير:(أن صفية جاءت بثوبين ليكفن فيهما حمزة رضي الله عنه فوجدنا إلى جنبه قتيلاً فقلنا لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب، فوجدنا أحد الثوبين أوسع من الآخر فأقرعنا عليهما ثم كفنا كل واحدٍ في الثوب الذي صار إليه)، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم مرفوعًا:(لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)، وأخرج أبو داود وأحمد في المسند من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رجلين اختصما في مواريث دَرَسَتْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(استهما وتوخيا وليحلل كل واحدٍ منكما صاحبه) وأصله في الصحيحين: (وتشاح الناس يوم القادسية على الأذان فأقرع بينهم سعد) قال ابن قدامة: (وقد أجمع العلماء على استعمالها في القسمة) ا. هـ.
ومن هذه الأدلة: تعلم أن القرعة أصل من الأصول في استخراج المستحق وتمييزه عن غيره، وروى أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:(أن رجلين تداعيا عينًا لم يكن لواحدٍ منهما بينة فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يستهما على اليمين أحبا أم كرها)، وروى البخاري من حديث أبي هريرة أيضًا:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض على قومٍ اليمين فسارعوا إليه فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف)، وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا أكره اثنان على اليمين أو استحباها فليستهما عليها) ، وقد صنف الإمام أبو بكر الخلال مصنفًا في القرعة وهو في جامعه، ومن النظر أيضًا أن الحقوق إذا تساوت فلا من مرجح بينهما وهذا المرجح هو القرعة، وإذا أردت أن تعرف أهمية الحكم بالقرعة فانظر إلى تأثيرها فيما أذكره من الفروع - إن شاء الله تعالى - فترى الحكم يثبت لأحد الاثنين بمجرد القرعة، فإليك بعض الفروع:
فمنها: إذا تشاحوا في الأذان مع تساويهم في الصفات المعتبرة شرعًا فإنه يقرع بينهم نص عليه الإمام أحمد في رواية أبي داود وأبي طالب ومحمد ابن موسى واحتج بأن سعدًا أقرع في الأذان يوم القادسية.
ومنها: إذا استوى اثنان في الصفات المرجح بها في الإمامة أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة فهو أحق به، كما في الأذان.
ومنها: إذا استوى جماعة في صفات الإمام الأعظم فإنه يقرع بينهم قياسًا على الأذان.
ومنها: إذا اجتمع ميتان فبذل لهما كفنان وكان أحد الكفنين أجود من الآخر ولم يعين الباذل ما لكل واحدٍ منهما فإنه يقرع بينهما كما وردت السنة بذلك كما في حديث الزبير عن صفية وتقدم.
ومنها: تملك المباحات إذا استبق اثنان إلى مباحٍ كالجلوس في الأماكن المباحة كالطرق الواسعة ورحاب المساجد أو استبقا إلى إحياء الموات، فالمذهب أنه يقدم أحدهما بالقرعة وفيه وجه أن السلطان يقدم من رأى المصلحة في تقديمه.
ومنها: إذا التقط اثنان طفلاً واستويا في الصفات المعتبرة فإنه يقرع بينهما فمن خرجت عليه القرعة فهو الأحق بكفالته.
ومنها: إذا أعتق عبدًا من عبيده ثم أنسيه أو قال لهم أحدكم حر فحينئذٍ تستعمل القرعة لإخراج من وقع عليه العتق.
ومنها: إذا طلق امرأة من نسائه فأنسيها أو قال إحداكن طالق، ولا قرينة تصرفه لأحدهن، ميزت المطلقة بالقرعة.
ومنها: إذا دعاه اثنان إلى وليمة واستويا في الصفات المرجحة من تقديم الأسبق أو الأقرب رحمًا أو الأقرب دارًا كل ذلك قد استويا فيه فإنه يقرع بينهما فمن خرجت عليه القرعة أجابه.
ومنها: إذا أراد السفر وأراد اصطحاب إحدى زوجاته ولا يعرف من هي فإنها تخرج بالقرعة وهذا هو السنة كما تقدم حديثها.
ومنها: الأولياء المستوون في النكاح إذا تشاحوا أقرع بينهم ومن خرجت عليه القرعة تولى عقد النكاح، وعلى ذلك فقس.
ولكن ينبغي التنبيه على أنه لا مدخل للقرعة في العبادات المحضة كالصلاة كمن ترك صلاة لكن لا يدري أهي الظهر أم العصر، فإنه لا يقرع بينهما لأن الصلاة من العبادات المحضة وإنما الواجب أن يجتهد في ذلك فإن غلب على ظنه شيء عمل به، وإلا فلا يخرج من العهدة إلا بأداء صلاتين صلاة الظهر وصلاة العصر فإنه بذلك يكون قد قضى الفائتة، والثانية نافلة وكذلك الحال في الجمرات مثلاً إذا شك هل رمى ستًا أو سبعًا، وكذلك إذا شك في عدد الطواف والسعي فإنه لا يقرع في ذلك وإنما عليه أن يجتهد فإن غلب على ظنه شيء عمل به على الراجح وإن لم يغلب على ظنه شيء فإنه يبني على اليقين وهو الأقل دائمًا، والله تعالى أعلى وأعلم.