الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها: لو قتل الصغير الذي لم يبلغ معصومة الدم عمدًا وقلنا إن عمده صحيح فإنه لا قصاص عليه؛ لأن من شروط استيفاء القصاص البلوغ، لكن عليه ضمان المقتول مرتين أي بديتين؛ لأن من سقطت عنه العقوبة ضوعف عليه الغرم، والله أعلى وأعلم.
القاعدة الحادية والستون
61 - من اجتهد وبذل ما في وسعه فلا ضمان عليه وكتب له تمام سعيه
(1)(2)
(1) حبذا لو جعلت هذه القاعدة فرعاً للقاعدة " التاسعة والعشرون ".
(2)
يستدل على شق القاعدة الثاني أيضاً بحديثين مشهورين في الصحيح " إن خلفنا لرجالاً بالمدينة ما سرنا مسيراً
…
" الحديث، وحديث " إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل مقيماً صحيحاً ".
اعلم - أرشدنا الله وإياك لطاعته - أن هذه الشريعة شريعة سمحة يسيرة، فلا أغلال فيها ولا آصار، فجميع ما أمرنا الله تعالى به هو داخل تحت قدرتنا ووسعنا ليس شيء من ذلك خارجًا عنها، قال تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} وقال {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} وقال: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} الآية. وقد قال الله: (قد فعلت) رواه مسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين:(صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب) رواه البخاري، وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمريضٍ وصلى على وسادةٍ فرمى بها، وقال:(صل على الأرض إن استطعت وإلا فأومئ إيماءً واجعل سجودك أخفض من ركوعك) رواه البيهقي وسنده صحيح. ورأى النبي صلى الله عليه وسلم في السفر زحامًا ورجلاً قد ظلل عليه، فقال:(ما هذا) ؟ قالوا: صائم. فقال: (ليس من البر الصوم في السفر) . وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) رواه أحمد من حديث ابن عمر، وشرع في السفر قصر الرباعية ركعتين والمسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليها وغير ذلك من الأدلة والبراهين الساطعة الدالة على أن هذه الشريعة جاءت بالتيسير والتخفيف على الناس. وقد وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَيَضَعُ
عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} وهذا أصل من أصول الشريعة وقد تقدم طرف من ذلك في قاعدة: (كل فعل فيه عسر فإنه يصحب باليسر) . إذا علم هذا الأصل العظيم فليعلم أن المكلف قد تحصل له حالة لا يستطيع معها القيام بما أمره الله تعالى إما أصلاً وإما على وجه الكمال، إما لمرضٍ أو خوف أو اشتباه حالٍ أو ضرورةٍ أو لغيرها من الأعذار، فإذا لم يستطع المكلف الإتيان بالمأمور على الوجه المطلوب فإن عليه أن يجتهد للوصول إليه ويبذل ما في وسعه ثم يفعل المأمور على حسب طاقته ووسعه واجتهاده، ويكون هذا الفعل حسب الطاقة والوسع فعل صحيح مجزئ ولا يأثم المكلف بترك ما لم يستطعه من المأمور؛ لأنه عاجز عنه، والواجبات تسقط بالعجز عنها، بل عليه الاجتهاد وبذل الوسع وفعل ما كان داخلاً في طاقته، والإتيان بما استطاعه منه، ويكون بهذا - أي بفعل ما في وسعه وطاقته - يكون بهذا قد خرج من عهدة المطالبة فلا إثم عليه ولا إعادة عند القدرة على فعل المأمور على وجه الكمال؛ لأنه قد فعل ما أمر به شرعًا، بل ومن تمام فضل الله علينا أن المكلف إذا فعل المأمور حسب طاقته ووسعه ونقص منه شيء فإنه لا ينظر إلى هذا النقص، بل يكتب له مثل أجر من عمل المأمور على وجه الكمال.
إذًا من فعل ما في وسعه وطاقته فإنه يخرج من عهدة المطالبة، فلا ضمان عليه ولا إثم وينزل منزلة من فعل المأمور على وجه الكمال، وهذه القاعدة أصل من أصول الشريعة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا)، وقال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فكل من اتقى ما استطاع فلا ضمان عليه ولا يطالب بالإعادة، وفي قوله صلى الله عليه وسلم:(فأتوا منه ما استطعتم) دليل على وجوب بذل الجهد؛ لأنه ببذله يعمل القدر المستطاع فيكون مأمورًا به وما عداه فلا يطالب به لمفهوم المخالفة، فعلق وجوب فعل المأمور أو بعضه بالاستطاعة وهذا من فضل الله علينا وتيسيره على عباده، فالحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
وإليك بعض فروع هذه القاعدة فأقول: منها: من اشتبهت عليه القبلة في السفر - ومن المعلوم أن استقبالها واجب - فماذا يفعل؟ نقول: يجب عليه بذل الجهد والوسع في كشف جهة القبلة بالدلالة أو النظر في العلامات ونحوها، فإذا اجتهد وبذل وسعه وطاقته في التعرف على جهة القبلة فصلى ثم تبين له بأخرة أن القبلة ليست هي جهة اجتهاده فإنه لا ضمان عليه أي لا إعادة عليه؛ لأنه بذل ما في وسعه، ومن بذل ما في وسعه فلا ضمان عليه؛ ولأنه فعل ما أمر به شرعًا وهو البحث والاجتهاد وإفراغ الوسع والطاقة، فلا يحمل غير ذلك، بل ومن تمام فضل الله على هذا الرجل أن يكتب له كأجر صلاة من صلى إلى الجهة الصحيحة، وبهذا تعرف خطأ من ذهب من العلماء بوجوب الإعادة إن كان في الوقت، وهو قول مجانب للصحة، بل الصواب أن صلاته الأولى مجزئة ومسقطة للمطالبة ولا ضمان عليه.
ومنها: صلاة عادم الطهورين - الماء والتراب - كمن حبس في مكانٍ ولا ماء عنده ولا تراب، وحضرت الصلاة فإنه يجتهد في طلب الماء أو التراب فإن لم يجبه أحد لذلك، ولا طريق له في الحصول على أحدها فإنه يصلي في الوقت وصلاته صحيحة ولا إعادة عليه إذا وجد أحدهما ولو في الوقت؛ لأنه بذل وسعه في تحصيل أحدهما ولم يستطع فلا يكلف إلا ما في وسعه، والذي في وسعه في هذه الحالة هو أن يصلي بلا طهارة، فصلى بدونها للعجز عنها فلا ضمان عليه، بل ومن فضل الله عليه أن يكتب له أجر من صلى بالطهارة، وهذا خلاف من قال تجب عليه الإعادة إذا وجد أحدهما في الوقت، وهذا تكليف آخر بلا دليل، فإن الصحابة الذين ذهبوا يبحثون عن عقد عائشة لما حضرت الصلاة صلوا بلا وضوء ولا تيمم؛ لأنه كان قبل شرعية التيمم، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، بل إن عمارًا رضي الله عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في حاجةٍ فأجنب فلم يجد الماء فتمرغ في الصعيد كما تتمرغ الدابة وصلى، وهذا التيمم ليس هو التيمم الشرعي فكأنه صلى بلا غسل ولا تيمم ومع ذلك لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة؛ لأنه بذل ما في وسعه وطاقته في ذلك، وكل من بذل ما في وسعه فإنه لا ضمان عليه.
ومنها: من اجتهد في مسألة من مسائل العلم، وبذل وسعه في الوصول إلى الحق وعمل به، فإنه مأجور مشكور، فإن أصاب الحق فله أجران أجر على اجتهاده، وأجر لإصابته الحق، وإن أخطأ فله أجر الاجتهاد ولا ضمان عليه في خطئه، بل إن ما فعله مما أداه إليه اجتهاده لا ينقض إن كان عقدًا، ولا يبطل إن كان عبادة، فالاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. ولذلك قال العلماء:(كل مجتهد مصيب) ، وهذا الكلام صواب باعتبار أن كل من اجتهد وبذل وسعه فقد فعل ما هو الواجب عليه، فهو مصيب من هذا الجانب، أما أنه مصيب باعتبار الحق عند الله تعالى فهذا مجانب للصواب، وإن قال به بعض الكبار؛ لأن الحق واحد لا يتعدد.
ومنها: قاعدة عدم تضمين الأمناء كالمودع والملتقط والوكيل والمستعير ونحوهم ممن تدخل تحت يده أملاك الغير فإنه إذا تلفت عنده فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون قد بذل وسعه وجهده في حفظها لصاحبها ولكن الله قدر عليها التلف لا بتفريط منه ففي هذه الحالة لا ضمان عليه؛ لأن كل من بذل ما في وسعه فلا ضمان عليه.
وإما أن يكون قد فرط فيما يجب عليه من الحفظ ولم يبذل جهده في ذلك فإنه يضمن حينئذٍ بتفريطه فيما هو واجب عليه.
ومنها: إذا اشتبهت الثياب الطاهرة بالنجسة ولم تتميز ولا بدل لها، فإن الواجب عليه هو الاجتهاد وبذل الوسع في التعرف على الطاهر منها، فإذا أداه اجتهاده وبذل وسعه إلى أن الطاهر هو هذا الثوب فإنه يصلي فيه ولا بأس، فإن تبين بأخرةٍ أنه صلى في الثوب النجس فلا إعادة عليه؛ لأنه فعل ما في وسعه واتقى الله ما استطاع، وكل من فعل ما في وسعه فلا ضمان عليه، بل ومن فضل الله عليه أنه يكتب له صلاة من صلى في ثوبٍ طاهرٍ أي أن صلاته لا تكون ناقصة في أجرها عن صلاة من صلى في ثوبٍ طاهرٍ.