الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأحسب - إن شاء الله تعالى - أن هذين الأصلين قد اتضحا كل الوضوح - إن شاء الله تعالى -، والله تعالى أعلى وأعلم.
القاعدة الخامسة والأربعون
45 - كل وسيلة فإن حكمها حكم مقصدها
اعلم - رحمك الله تعالى - أن هذه الشريعة كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، ولا يخرج عنها شيء من الأشياء يحتاجه الناس في عباداتهم أو معاملاتهم إلا وله فيها حكم شرعي، ويفرق بين كونه وسيلةً أو مقصدًا،فإن كان مقصدًا من المقاصد فحكمه واضح؛ لأن الشريعة حرصت على تبيين أحكام المقاصد، وإن كان وسيلة فإنه يكون تابعًا لحكم قصده، فإن كان يقصد به حرامًا فهو حرام، وإن كان يقصد به واجبًا لا يتم إلا به فهو واجب، وإن كان يقصد به سنة فهو سنة، أو مكروهًا فهو مكروه أو مباحًا فهو مباح، ولا يخرج شيء عن هذه الأحكام الخمسة، وهذا من كمال الشريعة، فإنها إذا حرمت شيئًا حرمت جميع الوسائل المفضية إليه وإذا أوجبت شيئًا أوجبت جميع الوسائل التي لا يتم إلا بها وهكذا، ذلك لأن من تمام تحريم الشيء تحريم وسائله وسد جميع ذرائعه، ومن تمام إيجاب الشيء إيجاب جميع الأشياء التي يتوقف حصوله عليها، فيدخل تحت هذا الأصل الكبير قواعد كثيرة نأتي عليها قاعدة قاعدة بفروعها - إن شاء الله تعالى - فأقول:
القاعدة الأولى: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) : أي أن جميع الأشياء التي يتوقف عليه تحقق الواجب وصحته فهي واجبة إن كانت داخلة قدرة الإنسان وكان مأمورًا بتحصيلها، وأزيد الأمر وضوحًا فأقول: إن ما لا يتم الواجب إلا به قسمان:
الأول: أن لا يكون داخلاً تحت قدرة المكلف أصلاً كزوال الشمس لوجوب الظهر، وغروبها لوجوب المغرب، وحلول شهر رمضان لوجوب الصوم وهكذا فهذا لا يدخل تحت قاعدتنا.
الثاني: أن يكون داخلاً تحت قدرة المكلف واستطاعته فهذا لا يخلو إما أن لا يكون مطالبًا بتحصيله أو يكون مطالبًا بذلك، فإن لم يكن مطالبًا بتحصيله فهذا لا يدخل تحت قاعدتنا (1) وذلك كتحصيل النصاب لوجوب الزكاة، والإقامة لوجوب الصوم ونحو ذلك، وإن كان داخلاً تحت قدرة المكلف ومأمورًا بتحصيله فهذا هو المراد بهذه القاعدة، وخلاصة الكلام أن يقال: يشترط لتحقق هذه القاعدة شرطان: أن يكون الفعل داخلاً تحت قدرة المكلف، وأن يكون المكلف قد أمر بتحصيله، أي أن الفعل الذي لا يتم الواجب إلا به لا تعلق له بالوجوب أصلاً، بل له تعلق بالصحة مثلاً أو بإقامته ونحو ذلك وبالمثال يتضح المقال: فمن الأمثلة: الطهارة للصلاة، فإنه لا تتم الصلاة إلا بالطهارة الكاملة فتكون الطهارة مأمورًا بها لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لكن لو لم يتطهر العبد فإن عدم تطهره لا يؤثر في إسقاط الصلاة، فالصلاة واجبة سواءً تطهر أم لم يتطهر لكن لا تصح الصلاة إلا بالطهارة الكاملة.
ومنها: المشي لصلاة الجماعة، فإن الصلاة مع الجماعة واجبة، للأدلة من الكتاب والسنة وهو القول الراجح، لكن لا تتم الصلاة الجماعة إلا بالمشي إلى المساجد لتقام الجماعة فيها فصلاة الجماعة واجب يتوقف حصوله على المشي لها فصار المشي واجبًا؛ لأنه لا يقوم هذا الواجب إلا به، والمشي للصلاة وسيلة لإقامة الجماعة فكان واجبًا؛ لأنه يقصد به تحقيق الواجب فالوسائل لها أحكام المقاصد.
ومنها: الأكل من الميتة للمضطر لإحياء نفسه واجب يأثم بتركه، مع أن الأكل في أصله مباح لكنه لما كان في هذه الحالة وسيلة لواجب الذي هو إحياء النفس صار واجبًا؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
(1) بل هو داخل في قاعدة: ما لايتم الواجب إلا به فهو واجب.
ومنها: طلب الماء قبل التيمم فإن الفقهاء – رحمهم الله تعالى – نصوا على وجوب الطلب فقالوا: (من دخل عليه وقت الصلاة وهو عادم للماء فعليه أن يتحراه في مضانه فيفتش عنه في رحله ويستبرئ الأمكنة القريبة المجاورة له وإن وجده يباع بثمن مثله أو بزيادة يسيرة عن ثمن المثل بماله وجب عليه شراؤه ذلك لأن هذا البحث والطلب يتحقق به إقامة الواجب الذي هو الطهارة للصلاة بالماء، فصار هذا الطلب واجبًا؛ لأنه وسيلة إلى واجب) .
ومنها: إقامة الحدود بأنواعها فإنها وسيلة لحفظ الضرورات الخمس فلا يتحقق حفظ النفس إلا بالقصاص فصار واجبًا لأنه وسيلة لواجب، ولا يتحقق حفظ الأعراض إلا بإقامة حد القذف وحد الزنا فصار واجبًا؛ لأنه وسيلة إلى واجب، ولا يتحقق حفظ الأمن واستقرار الناس إلا بإقامة حد قطاع الطريق والبغاة، ولا يتحقق حفظ العقول إلا بإقامة حد الخمر، ولا حفظ الأموال إلا بإقامة حد السرقة وهكذا فصارت إقامة هذه الحدود من باب الواجبات؛ لأنها وسائل إلى الواجب والوسائل لها أحكام المقاصد.
ومنها: النكاح يكون واجبًا إذا قدر الإنسان عليه ماليًا وخاف على نفسه العنت كما قاله الفقهاء، ذلك لأن المحافظة على النفس من الوقوع في المحظور واجب ولا يتحقق هذا الواجب إلا بالزواج فكان واجبًا لأنه وسيلة إلى واجب. والفروع كثيرة ويكفي اللبيب الإشارة، والله أعلم.
القاعدة الثانية: (ما لا يتم الحرام إلا به فهو حرام وتركه واجب) : ومعناها: أن جميع الوسائل المفضية إلى الحرام حرام لأن بها يتحقق الحرام ولا يمكن أبدًا أن تحرم الشريعة شيئًا وتفتح الأبواب التي تفضي إليه؛ لأن هذا ينافي الحكمة، والشارع حكيم عليم، فكان من مقتضى الحكمة أنه إذا حرم شيئًا حماه بسياجٍ منيع وذلك بسد جميع الأبواب المفضية إليه، فوسائل الحرام حرام وإذا كانت حرامًا فتركها حينئذٍ واجب.
وإليك بعض الفروع لتتضح أكثر:
فمنها: شراء السلاح الأصل فيه الحل والإباحة لكن يحرم بيعه في الفتنة؛ لأنه حينئذٍ سيكون ذريعة لقتل المسلمين بعضهم بعضًا، فلما كان بيع السلاح في هذه الحالة مفضيًا إلى حرام وهو إزهاق النفس بغير حق، صار بيعه حرامًا؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، وقس على ذلك جميع المباحات إذا جعلت وسائل يتوصل بها إلى الحرام، فإنها تكون حرامًا كشراء السكين لقتل مسلم، وشراء الكوب ليشرب فيه خمرًا، والسفر لبلد لمواقعة الفواحش، والمشي إلى مواضع المنكرات وغيرها، كل ذلك يكون حرامًا؛ لأنه صار وسيلة للحرام.
ومنها: تحريم البيع بعد نداء الجمعة الثاني كما في الآية فإنه حرام تحريم وسائل لا تحريم مقاصد، ذلك لأنه ذريعة إلى التشاغل عن حضور الذكر من الخطبة والصلاة وهذا حرام لا يجوز فكل شيءٍ يشغل عن استماع الذكر وعن الصلاة فإنه يكون حرامًا، ومن ذلك البيع بعد نداء الجمعة الثاني،ويدخل في ذلك السهر إن كان سببًا لتضييع صلاة الفجر فهو حرام؛ لأنه وسيلة إلى حرام حتى ولو كان السهر في طاعة.
ومنها: النظر إلى النساء حرام بالدليل الصحيح؛ لأنه مفضٍ إلى الحرام وهو الافتتان بالنساء ومن ثَمَّ الوقوع في المحظور، فصار حرامًا؛ لأنه وسيلة للحرام ووسائل الحرام حرام، وكذلك الخلوة بالأجنبية وسفر المرأة بلا محرم واختلاط الرجال بالنساء هو من هذا الباب، وجماع ذلك أن كل وسيلة تفضي إلى الزنا والافتتان بالنساء فهي حرام، وما أكثر الوسائل المفضية إلى ذلك في زماننا هذا - والله المستعان -.
وخلاصة الأمر أن محرمات الشريعة قسمان: منها ما حرم تحريم وسائل ومنها ما حرم تحريم مقاصد، والله أعلم.
القاعدة الثالثة: (ما لا يتم المندوب إلا به فهو مندوب) .
القاعدة الرابعة: (ما لا يتم المكروه إلا به فهو مكروه) : والكلام عليهما يطول فتطلب الفروع من كتب الفقه طلبًا للاختصار.