المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌62 - الأصل أن نفي الشيء يحمل على نفي الوجود إن أمكن، وإلا فنفي الصحة وإلا فنفي الكمال - تلقيح الأفهام العلية بشرح القواعد الفقهية - جـ ٣

[وليد السعيدان]

فهرس الكتاب

- ‌41 - تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز

- ‌42 - مباشرة الحرام للتخلص منه جائزة

- ‌43، 44 - يدفع أعظم المفسدتين بارتكاب أدناهما ويحصل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما

- ‌45 - كل وسيلة فإن حكمها حكم مقصدها

- ‌46، 47 - الأصل في العبادات الحظر والتوقيف والأصل في العادات الحل والإباحة

- ‌48 - القصود في العقود معتبرة

- ‌49 - من لا يعتبر رضاه لفسخ عقدٍ أوحَلهِ لا يعتبر علمه به

- ‌50 - كل من سبق إلى مباحٍ فهو أحق به

- ‌51 - اليمين في جانب أقوى المتداعيين

- ‌52 - الأمر بعد الحظر يفيد ما أفاده قبل الحظر

- ‌53 - يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء

- ‌54 - تستعمل القرعة في تمييز المستحِقِّ

- ‌55 - إذا اجتمع مبيح وحاظر غُلِّبَ جانب الحاظر

- ‌56 - إذا تعذر معرفة صاحب الحق نزل منزلة المعدوم

- ‌57 - من تعجل حقه أو ما أبيح له قبل وقته على وجه محرم عوقب بحرمانه

- ‌58 - تقدم اليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزين، واليسرى فيما عداه

- ‌59 - يثبت تبعًا وضمنًا ما لا يثبت استقلالاً وقصدًا

- ‌60 - من سقطت عنه العقوبة لفوات شرط أو لوجود مانعٍ ضوعف عليه الغرم

- ‌61 - من اجتهد وبذل ما في وسعه فلا ضمان عليه وكتب له تمام سعيه

- ‌62 - الأصل أن نفي الشيء يحمل على نفي الوجود إن أمكن، وإلا فنفي الصحة وإلا فنفي الكمال

الفصل: ‌62 - الأصل أن نفي الشيء يحمل على نفي الوجود إن أمكن، وإلا فنفي الصحة وإلا فنفي الكمال

ومنها: صلاة العاجز عن بعض الركوع أو السجود، فإن عليه أن يتقي الله ما استطاع فيأتي بما يقدر عليه منهما، فيحني ظهره بركوع قائمًا وبسجودٍ قاعدًا ما أمكنه الحني ولا يكلف أكثر من ذلك ولا ضمان عليه ولا ينقص من عمله شيء، بل له تمام سعيه.

القاعدة الثانية والستون

‌62 - الأصل أن نفي الشيء يحمل على نفي الوجود إن أمكن، وإلا فنفي الصحة وإلا فنفي الكمال

وهذه قاعدة مفيدة جدًا، فإن بها يعرف الطالب ما يكون النهي فيه متوجهًا إلى وجوده حقيقة، أو إلى صحته، أو إلى كماله.

ص: 90

وبيان ذلك أن نقول: إنه إذا ورد في الأدلة شيء تقدمته (لا) النافية، فإن عندنا في حكم هذا النفي ثلاث مراتب على الترتيب بحيث لا نتنقل إلى الأخرى إلا إذا لم يمكن حمل النفي على الأولى، أما إذا كان حمله على الأولى لا يلزم منه مانع فإنه يجب حمله عليها ولا يعدل عنه لغيره، فأول هذه المراتب: أننا نحمل النفي على نفي الحقيقة - أي نفي وجوده إذا أمكن - أي نقول: إن هذا الشيء المنفي ليس بموجودٍ أصلاً؛ لأن هذا هو حقيقة النفي، والأصل حمل الكلام على الحقيقة المتبادرة للذهن، فإن كان حمله على الوجود ممكنًا فالقول به المتعين، وذلك كقولنا:(لا خالق إلا الله) فالمنفي (بلا) النافية هو كلمة (خالق) والأصل أننا نحمله على نفي الوجود، فنقول: إن المنفي هنا هو وجود خالق غير الله أي لا يوجد في الكون العلوي والسفلي أحد يخلق شيئًا إلا الله تعالى فهو الخالق لكل شيء، هذا هو الذي ندين الله عز وجل به، خلافًا للقدرية الذين يقولون إن العبد يخلق فعله - وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا -، بل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار، والمراد أنه إن أمكن حمل النفي على نفي الوجود أصلاً قلنا به ولا نتعداه إلى غيره، لكن إذا لم يمكن حمله على نفي الوجود فإننا حينئذٍ ننتقل إلى المرتبة الثانية وهو: نفي الصحة، أي أن الفعل المنفي قد يتحقق وجوده لكن تتخلف صحته، ذلك لأن الشيء إذا أمكن وجوده فإنه لا يمكن حمل النفي على نفي وجوده فننتقل إلى المرتبة التي تليها وهي نفي الصحة فنقول: هذا النفي يعود إلى نفي الصحة أي إذا فعل الشيء المنفي فإنه يقع باطلاً لا تبرأ به الذمة إذا كان عبادة، ولا يترتب عليه أثره إن كان معاملة، ولا يجوز لنا أن نقول بالمرتبة الثالثة مع إمكاننا حمل النفي على المرتبة الثانية.

وعلى ذلك فروع كثيرة:

ص: 91

منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة إلا بطهور) فقوله: (لا) حرف نفي، وقوله:(صلاة) عبادة منفية (بلا) فنجري عليه المرتبة الأولى وهي نفي الوجود فنظرنا فوجدنا أن الصلاة بلا طهور قد توجد، فقد يصلي الإنسان بلا طهارة، فإذًا حمله على نفي الوجود لا يمكن فننتقل للمرتبة الثانية وهي نفي الصحة والحمل عليها لا مانع منه فقلنا به، فكأنه قال: لا تصح الصلاة بلا طهور، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) متفق عليه.

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي) من حديث أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه فقوله: (لا) نافية للجنس، وقوله:(نكاح) المراد به إبرام عقد الزوجية، وهو منفي بـ (لا) فالأصل أنه ينفي حقيقة وجوده، لكن هذا غير مراد لعدم إمكان الحمل عليه؛ لأن المرأة قد تنكح نفسها بغير إذن وليها، فالنكاح بلا ولي قد يوجد، إذًا لا يمكن حمل النفي على نفي الوجود، فننتقل إلى المرتبة الثانية وهي نفي الصحة أي لا نكاح يقع صحيحًا إلا بولي فالولي شرط من شروط صحة النكاح، ولا نتعدى هذه المرتبة إلى التي بعدها وهي نفي الكمال؛ لأن الأصل موجود فلا ننتقل إلى بدله، فالمنفي هنا هو الصحة، وبه تعرف خطأ الحنفية الذين يجيزون للمرأة الحرة أن تنكح نفسها وهو خطأ مخالف للدليل.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها) رواه ابن ماجه والدارقطني ورجاله ثقات وعلى كل حالٍ فمذهب جمهور أهل العلم هو أن المنفي هو الصحة.

ص: 92

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صيام لمن لم يفرضه من الليل) وفي رواية: (من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له) فالصيام هنا فعل منفي بـ (لا) النافية فتجري عليه المراتب الثلاث فنبدأ بالمرتبة الأولى وهي مرتبة نفي الوجود فنظرنا فإذا الحمل عليها متعذر؛ لأنه قد يقع في الوجود صيام بلا نية من الليل، فلما تعذرت انتقلنا إلى الصحة فإذا الحمل عليها لا يلزم منه مانع فحملناه عليها، فنقول: المنفي هنا هو صحة الصيام، فالذي لا يبيت النية من الليل فلا صيام له، وهذا في الفرض، وأما النفل فقد دل الدليل على جواز إنشاء نيته من النهار كما في حديث عائشة عند الإمام مسلم.

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان) رواه مسلم من حديث عائشة، فهنا قال:(لا صلاة) فالصلاة هنا فعل منفي والأصل أن يحمل النفي على الوجود، ولكن حمله عليه هنا متعذر؛ لأنه قد يصلي الإنسان بحضرة الطعام، فننتقل إلى المرتبة الثانية وهي نفي الصحة، فنظرنا إذا الأمر لا يمكن لأنه قد أجمع العلماء إلا من شذ أن الصلاة بحضرة الطعام صحيحة، وكذلك مع مدافعة الأخبثين، فالحمل على عدم الصحة أيضًا متعذر، فننتقل إلى المرتبة الثالثة وهي نفي الكمال.

فنقول: أي لا صلاة كاملة.

ص: 93

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) وهو حديث حسن بمجموع طرقه، فالوضوء فعل منفي فنحمل النفي على الوجود، لكن هذا الحمل متعذر؛ لأنه قد يوجد الوضوء بلا تسمية، فإذا تعذر ذلك فنحمله على نفي الصحة، وهنا اختلفت كلمة العلماء اختلافًا قويًا، وقد ذكرنا خلافهم في غير هذا الموضع، والصحيح أن نفي الصحة أيضًا متعذر؛ لأنه مصروف عن حقيقته إلى الندب؛ لأن كل من وصفوا وضوءه صلى الله عليه وسلم ونقلوه إلى الأمة ليعلموهم لم يذكروا أنه كان يبدأ بالبسملة كأبي هريرة وعثمان وعلي وعبد الله بن زيد والربيع بنت معوذ وغيرهم لم يثبت عن أحدٍ منهم أنه قال ذلك مع أنهم في مقام التعليم، فدل ذلك على أنهم لم يحفظوها من النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى) أي في آية المائدة، وليس فيها ذكر البسملة لا تصريحًا ولا تضمنًا وغير ذلك من الأدلة فالجمع بينها وبين حديث أبي هريرة - إذا قلنا إنه حسن - هو أن نقول إن البسملة على الوضوء سنة فإذا ثبت أنها سنة فلا يكون النفي في قوله:(لا وضوء) منصبًا على نفي الصحة، وإنما يكون لنفي الكمال أي لا وضوء كاملاً، والله أعلم.

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لا يقيم صلبه من الركوع والسجود) فهنا الصلاة منفية بـ (لا) النافية إذا لم يقم المصلي صلبه من الركوع والسجود فينصب النفي على نفي الوجود، لكن هذا لا يمكن؛ لأنه قد يصلي الإنسان ولا يقيم صلبه من الركوع والسجود، فإذا تعذر ذلك فنحمل النفي على نفي الصحة وهو الصحيح فنقول: أي لا صلاة صحيحة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، ويدل على ذلك حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته؛ ولأن الطمأنينة ركن في الصلاة، فالمنفي هنا هو الصحة لا الكمال، والله أعلم.

ص: 94

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا دين لمن لا أمانة له) الحديث، فهنا نفى النبي صلى الله عليه وسلم الدين بـ (لا) النافية فيحمل على نفي الوجود وهو متعذر؛ لأنه موجود، فلما تعذر ذلك حملناه على الصحة أي أنه دينه ليس بصحيح، لكن هذا متعذر أيضًا لإجماع من أهل السنة على أن الخائن الذي ليس عنده أمانة أنه من أهل الدين ولا يخرج عن مسمى الدين بمجرد ذلك فإذا تعذر حمله على نفي الصحة فنحمله إذًا على نفي الكمال فنقول: لا دين كاملاً إلا بأمانة، أما الذي ليس عنده أمانة فإن دينه ناقص، وفي بعض الروايات:(لا إيمان) ويقال فيها ما قيل في قوله: (لا دين) ، والله أعلم.

ومنها: قوله: (لا عمل إلا بنية) والمنفي هو الصحة أي لا عمل يقع صحيحًا إلا بالنية، والفروع كثيرة لكن المقصود الإشارة، والله تعالى أعلى وأعلم.

وبهذه القاعدة ينتهي ما أردت إثباته من جملة هذه القواعد المفيدة العظيمة، والله أسأل أن ينفع به مؤلفه وقارئه ومدرسه وسامعه، والوصية لمن انتفع بشيء منه إن كان قد وجد ما ينفعه فيه، أن يدعو لمؤلفه فإنه من أفقر عباد الله إلى الله، ومن أحوجهم لرحمة الله لما يعلمه من نفسه من الوقوع في الزلل والخطأ. وإن وجدت عيبًا فبادر بإصلاحه وبتوجيهي فإن الإنسان قوي بإخوانه ضعيف بنفسه والعذر ثم العذر مما تراه عينك من مجانبة الصواب ومخالفة الدليل، فإن هذا جهد مقصر هو فيه عالة على غيره.

وإني حرصت كل الحرص على إيصال ما عندي إليك بما يَسَّرَهُ الله تعالى لي من التوضيح والتسهيل، وأستغفر الله وأتوب إليه من الزلل، وأبرأ من الحول والقوة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

والله أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

وقد فرغت منه عام عشرين وأربعمائة وألف من هجرة المصطفى

على صاحبها أفضل الصلاة والسلام والله يتولانا وإخواننا ويوفقنا لما فيه الخير

ص: 95

وصلاح الدين والدنيا إنه ولي ذلك والقادر عليه.

ص: 96