الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن ذلك: قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} فنهى عن جماع المرأة الحائض ثم قال: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} فأمر بإتيانها، وهذا الأمر يفيد الإباحة؛ لأن الإتيان قبل الحيض مباح، وبهذا يتبين لك جليًا أن الأمر بعد الحظر يرجع إلى حكمه السابق قبل الحظر إلا أنك تلاحظ أن غالب ما ورد في الشريعة من الأمر بعد الحظر إنما يفيد الإباحة ولذلك قال من قال إنه للإباحة، لكن الأجود هو القول بمقتضى هذه القاعدة، والله تعالى أعلى وأعلم.
القاعدة الثالثة والخمسون
53 - يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء
(1)
وقد يقال: (البقاء أسهل من الابتداء) وكلها بمعنىً واحد، وقولنا:(يغتفر) أي يتسامح ويتساهل، وقولنا:(في البقاء) أي في أثناء الفعل وخلال الأمر وقولنا: (ما لا يغتفر في الابتداء) أي في إنشاء الفعل مرة أخرى من جديد، ومعناها: أن الشيء أحيانًا لا يجوز ابتداؤه لكن يجوز استمراره، فاستمراره لا يعطى حكمًا؛ لأنه مغفور، لكن لو ابتدأه مرةً أخرى فإنه يعطى حينئذٍ حكمًا، فبقاؤه لا حكم له، وابتداؤه له حكم.
وعلى ذلك فروع كثيرة جدًا هي كالأدلة لها:
منها: الطيب للمحرم، فإن السنة دلت على استحباب الطيب قبل الإحرام لحديث عائشة في المتفق عليه:(كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت) فيستحب للمحرم أن يتطيب في بدنه فقط قبل عقد نية الإحرام وإذا أحرم بعد ذلك فإنه لاشك سيكون أثر الطيب باقٍ عليه فهذا الأثر لا بأس به؛ لأنه مغتفر لكن لو ابتدأ الطيب مرةً أخرى بعد عقد الإحرام فعليه حينئذٍ فدية؛ لأن ابتداء الطيب حال الإحرام لا يغتفر، فاغتفر بقاؤه ولم يغتفر ابتداؤه؛ لأنه يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء.
(1) والتعبير عنها بـ" الرفع أقوى من الابتداء " أجود.
ومنها: من محظورات الإحرام عقد النكاح، فلا يجوز للمحرم أن يَنْكِحُ ولا يُنْكَحُ لحديث عثمان رضي الله عنه عند مسلم مرفوعاً:(لا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ ولا يُنْكَحُ ولا يَخْطُبُ) فلو أن المحرم ابتدأ عقد نكاحٍ بعد إحرامه فقد باء بالإثم ولا شك، لكن لو طلق الشخص زوجته ثم أحرم فبدا له أن يراجعها حال إحرامه فهل يجوز له أن يراجعها أم لا؟
نقول: نعم يجوز له ذلك لأن الرجعة ليست ابتداء عقد جديد ولكن هي استمرار لعقد النكاح الأول، فهي من باب البقاء لا من باب الابتداء، فيجوز للمحرم مراجعة زوجته؛ لأن الرجعة من باب البقاء ولا يجوز له أن ينشئ عقد نكاح جديد؛ لأنه من باب الابتداء، ويغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء.
ومنها: من محظورات الإحرام قتل الصيد البري المتوحش طبعًا لقوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} لكن لو قتل شخص صيدًا وليس بمحرم ولا في الحرم، ثم عقد نية الإحرام، فهل يلزمه تخليته أم لا؟ الجواب: لا يلزمه تخليته؛ لأن وجود الصيد معه إنما هو من باب البقاء، لكن لو أنه بعد الإحرام قتل الصيد فإنه يأثم وعليه مثله من النعم لأن قتله حينئذٍ من باب الابتداء، والبقاء أسهل من الابتداء.
ومنها: الأموال المحرمة التي اكتسبها أصحابها وهم لا يعلمون بالتحريم كالأموال الربوية ونحوها، فإذا جهلوا جهة تحريمها ثم علموه فهل يلزمهم أن يتخلصوا من هذه الأموال أم لا؟ الجواب: لا يلزمهم ذلك لأنهم معذورون بجهلهم لتحريمها فيغتفر لهم إبقاؤها لكن لا يجوز لهم بعد العلم بالتحريم تحصيل شيء جديد من هذه الجهة المحرمة فلو فعلوا وجب عليهم التخلص منه؛ لأن البقاء أسهل من الابتداء.
ومنها: صلاة التطوع المطلق أعني الذي لا سبب له، لو ابتدأه الإنسان في غير وقت النهي ثم أطاله حتى دخل عليه وقت النهي فإنه لا بأس به؛ لأنه من باب البقاء، لكن لو دخل عليه وقت النهي ثم ابتدأ فيه نافلة مطلقة فإنه حينئذٍ لا تصح؛ لأنه من باب الابتداء فاغتفر البقاء ولم يغتفر الابتداء؛ لأن البقاء أسهل من الابتداء (1) .
ومنها: أن المرأة لا يجوز لها إسقاط المهر عن الزوج عند العقد، بل هو لا يسقط بالإسقاط (2) ؛ لأن من شروط صحة العقد أن يكون على مهرٍ وتسميته في العقد سنة وإن لم يسم فلها مهر مثلها لا وكس ولا شطط، لكن لو تم العقد بالمهر ثم بعد مدة أسقطته المرأة وعفت عنه، فهذا جائز لتمام العقد حينئذٍ فابتداء إسقاط المهر مع العقد لا يجوز وإسقاطه بعد تمام العقد يجوز؛ لأنه يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء.
ومنها: بيع العبد الآبق فإن ابتداء بيعه وهو آبق لا يجوز؛ لأن من شروط صحة البيع القدرة على التسليم لكن لو باع الإنسان عبدًا ثم أبق فإباقه هذا بعد تمام عقد البيع لا يؤثر في صحة البيع فلم يجز ابتداء بيعه ولم يُفسدِ البيعَ إباقُه بعده؛ لأن البقاء أسهل من الابتداء.
(1) يحرر هذا الفرع لأن من أهل العلم من قال: لا يجوز الإبتداء ولا البقاء لعموم الأدلة.
(2)
هذا على اختيار شيخ الإسلام، لأن المذهب إن شرط عدم مهر لها فسد الشرط وصح النكاح.