الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة السادسة والخمسون
56 - إذا تعذر معرفة صاحب الحق نزل منزلة المعدوم
اعلم - رحمك الله تعالى - أن الواجب هو أداء الحقوق إلى أصحابها إذا عرفوا ولا يجوز منع أصحابها منها بغصبٍ أو مماطلةٍ ونحو ذلك، بل إذا عرف صاحب الحق فهو أحق به من غيره، سواءً كان صاحب الحق فردًا أو جهة معينة؛ لأن هذا من أداء الأمانات وقد قال الله تعالى:{إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أهْلِهَا} وهو نص عام في جميع الأمانات الواجبة على الإنسان من حقوق الله عز وجل على عباده من الصلاة والزكاة والصيام والكفارات والنذور وغير ذلك مما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد، وكذلك حقوق العباد بعضهم على بعضٍ كالودائع وغيرها، وعن سمرة بن جندبٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) رواه أحمد والأربعة وصححه الحاكم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) رواه أبو داود والترمذي وحسنه وصححه الحاكم، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري، وقال الله تعالى:{فَإِنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} فالقاعدة العامة في الشريعة هو أن الإنسان يجب عليه أداء الحقوق إلى أصحابها، لكن هذا إذا كان أصحابها معروفين، أما إذا كانوا لا يعرفون وليس إلى معرفتهم سبيل أو علمناهم ولكن جهلناهم، فما العمل حينئذٍ في هذا الحق؟ هذا هو ما تقرره هذه القاعدة وهو أن صاحب الحق إذا جهل فإنه ينزل منزلة المعدوم أي كأنه لم يوجد، والمعدوم هو الذي ليس في حيز الوجود، فكل ما ليس في حيز الوجود فهو معدوم، فننزل صاحب هذا الحق منزلة المعدوم أي نخرجه عن حيز الوجود،
ونتصرف في حقه على ما تقتضيه المصلحة، هذا هو القول الراجح، ويدل عليه عدة أدلة:
منها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة، فقال:(اعرف عفاصها ووكائها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) متفق عليه، فأنزل صاحبها بعد تعريف اللقطة سنة منزلة المعدوم وأجاز لواجدها التصرف فيها، لكن إن تصرف فيها لنفسه فإنها تكون بمنزلة الدين في ذمته متى ما جاء ربها فإنه يؤديها إليه وفي بعض روايات الحديث الصحيحة:(فإن جاء ربها فأدها إليه)، وعن جابر قال:(رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به) رواه أحمد وأبو داود، أي لا يلزم تعريفه؛ لأنه لا تتبعه همة أواسط الناس لكننا نعلم أن له مالكًا لكننا لا نعرفه ولم نؤمر بالتعرف عليه في هذه الأمور البسيطة فنزل منزلة المعدوم فيأخذها الإنسان وينتفع بها.
ومن ذلك: حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وفي الركاز الخمس) ويوضح ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً وجد مالاً في قرية فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن وجدته في قريةٍ مسكونةٍ فعرفه وإن وجدته في قريةٍ غير مسكونة ففيه وفي الركاز الخمس) ، ونحن نعلم يقينًا أن هذا المال المدفون له أصحاب سواء كانوا موجودين أو معدومين أو قد يكون لهم ورثة، لكن لما كان من دفن الجاهلية لم توجب الشريعة تعريفه، بل يملكه من أخذه بمجرد أخذه، وفيه الخمس، ذلك لأن أصحابه مجهولون فأنزلناهم منزلة المعدومين؛ لأنه يتعذر علينا البحث عنهم لتقادم عهد الجاهلية.
ومن ذلك: ما قضى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرأة المفقود، قال عبيد بن عمير: فقد رجل في عهد عمر فجاءت امرأته إلى عمر فذكرت ذلك له. فقال: (انطلقي فتربصي أربع سنين، فتربصت ثم أتته)، فقال:(انطلقي فاعتدي أربعة أشهر وعشرًا)، ففعلت ثم أتته. فقال:(أين ولي هذا الرجل فجاء وليه فقال: طلقها ففعل) فقال عمر: (انطلقي فتزوجي من شئت) وهو أثر صحيح.
قال أحمد: ما في نفسي شيء منه خمسة من الصحابة أمروها أن تتربص. ا. هـ
وهذا القول هو الذي حكم به الخلفاء من بعد عمر رضي الله عنه، وهو أصح الأقوال وأحراها بالقياس، واختاره الشيخ تقي الدين وتلميذه ابن القيم وابن عبدوس وصوبه في الإنصاف، فلما فقد الرجل ولم يعرف له حسٌّ ولا خبر جعله عمر كالمعدوم، وقد اتفق الصحابة على ذلك فهذه الأدلة تدل دلالة صريحة على أن صاحب الحق إذا تعذرت معرفته فإنه يجعل في حكم المعدوم ويتصرف في حقه بما هو الأصلح له أو بما هو الأصلح لواجده هذا من ناحية الشرح والتدليل.
وأما من ناحية التفريع فهي كثيرة أذكر أهمها فأقول:
منها: اللقطة: وقد قسمها العلماء إلى أقسام ثلاثة وتفصيلها يطول والمقصود أن هذه اللقطة سواءً وجب تعريفها أم لم يجب فإننا إن علمنا صاحبها وجب ردها إليه لحديث عياض بن حمار مرفوعًا: (فإن جاء ربها فهو أحق بها) وإن تعذرت معرفته فإنه ينزل منزلة المعدوم ويتصرف في اللقطة بما هو الأصلح، فإن كانت مالاً فله حفظه لصاحبه وله استنفاقه ويكون دينًا في ذمته، وله التصدق به على نية صاحبه، وإن كانت من بهيمة الأنعام التي لا تمتنع من صغار السباع كالغنم والدجاج والأرانب ونحوها فله أكلها، وله بيعها واستنفاق نفقتها أو حفظها لصاحبها، وله إمساكها والإنفاق عليها حتى يجد ربها، لحديث زيد بن خالد الجهني مرفوعًا:(هي [أي ضالة الغنم] لك أو لأخيك أو للذئب)(1) .
ومنها: المفقود إذا ضرب الحاكم له مدةً معلومةً إما باجتهاده أو المدة التي قضى بها عمر فانقضت المدةُ ولم يعرف له خبر ولا أثر فإنه ينزل منزلة المعدوم فيقسم ماله وتعتد زوجته.
ومنها: إذا سرق الإنسان مالاً أو غصبه وتاب رده إلى أهله وإن لم يجدهم لطول العهد واجتهد في البحث عنهم بدون جدوى، فإنه حينئذٍ يتصرف في هذا المال بما يعود نفعه عليهم من صدقةٍ ونحوها؛ لأن صاحب الحق إذا تعذر وجوده نزل منزلة المعدوم.
ومنها: من قبض وديعة من أحدٍ فغاب المالك غيبةً طويلة وسأل عنه المودَع حتى أيس من وجوده، فله حينئذٍ أن يتصرف في الوديعة بما هو الأصلح من بيع وتصدق بثمنها أو يدفعها إلى بيت المال أو يتصدق بعينها على الفقراء والمساكين بنية عن أصحابها.
ومنها: من مات وليس له وارث معلوم فإن ماله يكون لبيت مال المسلمين فيصرف في المصالح العامة؛ لأن صاحب الحق إذا تعذرت معرفته جعل كالمعدوم.
(1) يحرر هذا فهناك فرق مابين فعله قبل تمام حول التعريف وبين مايفعله بها بعد الحول. والكلام فيه تداخل.