الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثامنة والخمسون
58 - تقدم اليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزين، واليسرى فيما عداه
وهي قاعدة مفيدة للطالب وعليها أدلة كثيرة، وبيانها أن يقال:
إن الله تعالى لما خلق الخلق اصطفى منه واختار ما شاء، وكان من جملة ما اصطفاه واختاره تفضيل التيامن على التياسر، وبسبرنا للأدلة وجدنا أن الشيء إذا كان من باب التكريم والتجمل والعبادة فإن البداءة فيه تكون باليمين تبركًا بها؛ ولأن المقامَ مقامُ تشريف، واليمين أشرف من الشمال وأكمل وأشد قوةً وإذا كان الفعل المراد ليس من هذه الأبواب وإنما من باب إزالة النجاسة وغسلها وأخذ الأشياء المستقذرة وإزالتها فإن البداءة تكون بالشمال فهي خلقت لذلك (1) .
وإليك سبر الأدلة على هذه القاعدة:
فمنها: حديث عائشة في الصحيحين قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله) فقولها: (تنعله) أي لبس النعال ولبسها مكرمة للإنسان وفيه تجمل وتزين فالسنة فيها البداءة باليمين، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى وإذا خلع فليبدأ باليسرى) ولما كان في خلعهما ترك لهذا التزين سُنَّ فيه البداءة باليسار.
ومن الأدلة أيضًا: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأتم فابدأوا بميامنكم) رواه الأربعة بإسناد صحيح، ومن المعلوم أن الطهارة فيها من التكريم والتجمل، بل والتعبد لله ما هو معلوم، فالسنة البداءة بالميامن قبل المياسر، فيغسل يده اليمنى قبل اليسرى وهكذا في الرجلين.
(1) بل فيه حديث صريح صحيح في هذا وهو حديث عائشة عند أبي داود والبغوي في شرح السنة ولفظه " عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل يده اليمنى لطهورة وطعامه وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى ".
ومن ذلك: الترجل - وهو تسريح الشعر - فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ بجانب شقه الأيمن، وذلك لأن الإنسان يتزين بالترجل، فلما كان من باب التزين سُنَّ فيه البداءة باليمين ودليلها ما سبق في الحديث:(وترجله) .
ومن ذلك: الأكل والشرب، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بها فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها) قال: وكان نافع يزيد فيها (ولا يأخذ بها ولا يعطي بها) أي بشماله رواه مسلم والترمذي بدون الزيادة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ليأكل أحدكم بيمينه وليشرب بيمينه وليأخذ بيمينه وليعط بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ويعطي بشماله ويأخذ بشماله) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح، والأكل والشرب والأخذ والإعطاء هي من باب الكمال فسن فيها البداءة باليمين مخالفة للشيطان وتنزهًا عن الأكل والشرب والأخذ والإعطاء باليد التي تباشر النجاسات.
ومن ذلك: إجماع العلماء على استحباب البداءة في دخول المسجد باليمين والخروج باليسار لحديث أنس قال: (من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى) صححه الحاكم وغيره، فدل ذلك على أن الانتقال من المكان المفضول إلى الفاضل تبدأ باليمين والعكس بالعكس.
ومن ذلك: الإجماع أيضًا على أفضلية تقديم الرجل اليسرى عند الدخول للخلاء والبداءة باليمنى عند الخروج منه.
ومن ذلك: حديث عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ولا يتمسح من الخلاء بيمينه ولا يتنفس في الإناء) فصينت اليمين عن ملامسة الأذى؛ لأن هذا من عمل اليد اليسرى.
ومن ذلك: إكرام الضيوف لحديث أنس في الصحيحين وغيرهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلبن قد شيب بماءٍ وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكرٍ فشرب ثم أعطى الأعرابي، وقال: (الأيمن فالأيمن)، وفيهما من حديث سهل بن سعد:(أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بشرابٍ فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: (أتأذن أن أعطي هؤلاء) . فقال الغلام: والله يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحدًا، فتله في يده) . أي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا دليل على كرامة جهة اليمين أيضًا، والأدلة كثيرة ولعل ما مضى فيه كفاية - إن شاء الله تعالى -.
وخلاصة الكلام هو أن تعلم أن الأفعال نوعان:
أحدهما: فعل مشترك بين العضوين. والثاني: مختص بأحدهما، وقد استقرت قواعد الشريعة على أن الأفعال التي تشترك فيها اليمنى واليسرى أنها تقدم فيها اليمنى إذا كانت من باب الكرامة، كالوضوء والغسل ونحوها كما سيأتي، وتقدم اليسرى ضد ذلك، وأما الفعل الذي يختص بأحدهما فأيضًا إن كان من باب الكرامة قدمت فيه اليمنى كالأكل والشرب والمصافحة ومناولة الكتب وتناولها ونحو ذلك، وإن كان ضد ذلك كان باليسرى كالاستجمار ومس الذكر والاستنثار والامتخاط ونحو ذلك.
وإتمامًا للفائدة نذكر بعض الفروع الفقهية غير ما سبق مع الأدلة فأقول:
منها: السواك، هل الأفضل أن يستاك الإنسان باليد اليسرى أم اليمنى؟
فأقول: لا أعلم في السنة دليلاً صريحًا في ترجيح أحد المذهبين إلا أنه ورد في حديث عائشة رضي الله عنها في بعض رواياته: (وسواكه) وهي عند أبي داود من زيادات شيخه مسلم بن إبراهيم وهو ثقة مأمون، لكن المراد بها البداءة في السواك بجانب الفم الأيمن ولذلك اختلف العلماء في ذلك إلى ثلاثة أقوال: فقيل: هو باليمين مطلقًا، وقيل: باليسار وهو المشهور في المذهب وهو اختيار الشيخ تقي الدين - رحمه الله تعالى - وقال: ما علمنا أحدًا من الأئمة خالف في ذلك. ا. هـ، وذلك لأن الاستياك من باب إماطة الأذى وأصل شرعيته أنه مطهرة للفهم، ووسيلة التطهير هي اليسار وليست اليمين فهو كالاستنثار والامتخاط ونحو ذلك مما فيه إزالة أذى، فالجميع يعرف أنه مشروع لإزالة ما في داخل الفم وهذه العلة متفق عليها بين العلماء، قاله الشيخ تقي الدين ولهذا شرع عند الأسباب المغيرة لرائحة الفم كالنوم والإغماء وعند العبادة التي يشرع لها تطهير كالصلاة والقراءة، وقال بعض العلماء إن قصد بالاستياك إزالة ما في الفم من الأذى فباليسرى، وإن كان لمجرد اتباع السنة فباليمنى، وهذا فيه مع ضعفه ففيه عسر في تطبيقه، ذلك لأن العبرة هي العلة الشرعية في تشريعه أصلاً فالسواك معقول المعنى باتفاق العلماء وهي أنه وسيلة من وسائل تطهير الفم، وحتى لو استعمله الإنسان قبل الصلاة مثلاً وكانت أسنانه لا تحتاج إليه فإنه من باب زيادة التنظيف والتطهر ولا يخلو الفم غالبًا من تغير ريحٍ أو بقايا طعامٍ أو قلحٍ على الأسنان ونحوه فالعبرة بالكثير الغالب لا القليل النادر فالراجح - إن شاء الله تعالى - أنه باليسرى مبتدءاً بجانب فمه الأيمن، وذلك لأن السواك فيه إزالة أذىً وهي وصيفة اليسار.
ومنها: الدخول للمنزل، هل الأفضل أن يبدأ فيه باليسار أو باليمين؟
أقول: لا أعلم في ذلك سنة تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن المذهب عندنا أنه يبدأه باليمين ويخرج باليسار، وذلك لأنه مكان فاضل والطرقات أمكنة مفضولة فإذا انتقل منها إلى بيته فإنه يبدأها باليمين؛ ولأن الله تعالى قد امتن علينا بهذه البيوت فهي من باب الكرامة لنا كما قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا
…
} الآيتان. فإذا تقرر أنها من باب الكرامة فالسنة فيها حينئذٍ البداءة باليمين (1) ، والله أعلم.
ومنها: لبس الساعة والخاتم هل الأفضل في اليمين أم الشمال؟
أقول: الأمر في ذلك واسع، فأما الخاتم فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لبسه في اليمين تارة وفي شماله تارة، فيجوز هذا وهذا، وأما الساعة فلا نص فيها؛ لأنها واقعة جديدة ولنا فيها تخريجان: الأول: أن تقاس على الخاتم فيجوز لبسها في اليمين أو في الشمال فالأمر واحد. والثاني: أن تلبس في اليمين، وذلك لثلاثة أمور: أحدها: أنها من باب الكرامة والتجمل والتزين، ذلك لأن الإنسان لا يقصد بشرائها مجرد مراعاة الوقف فقط، بل يقصد منها أيضًا النواحي الجمالية، وقد تقرر أن ما كان من باب التكريم والتزيين فتقدم فيه اليمين.
(1) هذا وجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل عنه تقصد البداءة باليمنى فكيف يقال بالسنية.
الثاني: أن لبسها في اليسار هي العادة السائدة عند الكفار على مختلف طوائفهم ومن المعلوم أن المسلمين أخذوا هذه العادة منهم تقليدًا لهم في ذلك (1) ، ومخالفة الكفار فيما هو من عاداتهم وعبادتهم مقصد من مقاصد الشريعة حتى وإن كان في الأشياء اليسيرة كفرق الشعر؛ لأنهم يسدلون، وحف الشارب؛ لأنهم لا يحفون، والصلاة في النعل؛ لأنهم لا يصلون فيها، وكراهة اشتمال الصماء فقيل إنها لبسة اليهود، وتحريم شد الزنار، وغيرها كثيرة فمخالفة الكفار عمومًا واليهود والنصارى خصوصًا مقصد من مقاصد الشريعة فإذا كان من عادتهم لبس الساعة في اليسار فنحن نخالفهم ونلبسها في اليمين وينوي الإنسان بذلك مخالفتهم فيثاب عليه.
الثالث: أن اليد اليسار هي آلة إزالة النجاسات والأشياء المستقذرة فيخشى عند لبسها في اليسار أن يتسرب لها شيء من النجاسات وخصوصًا إذا كانت واسعة وهذا مما يغلب على الظن وغلبة الظن منزلة منزلة اليقين فدرءاً لذلك تلبس في اليمين التي لا تعلق لها بإزالة شيء من ذلك، والنفس تطمئن للتخريج الثاني لكن الأمر واسع ولا أظن العاقل ينكر على من لبسها في هذه أو لبسها في هذه؛ لأن مسائل الاجتهاد لا إنكار فيها وهذه منها.
ومنها: الكتابة بالقلم هل الأفضل فيها استعمال اليمين أو الشمال؟
(1) ملاحظة: تلبس باليسار عند الناس لأن لبس الساعة باليمين التي يحركها الإنسان عند العمل عرضة لكسر زجاجها لا لمقصد خاص.
أقول: لاشك أن الكتابة بالقلم من باب الكرامات التي امتن الله بها علينا فقال تعالى عن نبيه عيسى عليه السلام: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاة وَالإنجِيلَ} وقال تعالى: {ن * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} وغيرها فإذا تقرر أنها من باب الكرامات والفضائل فلاشك أن الأفضل فيها تقديم اليمين ولعل هذا يستفاد بدلالة الإشارة من قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} ، والله أعلم.
ومنها: حلق الشعر في الحج أو العمرة يسن للإنسان أن يبدأ فيه بجانبه الأيمن ثم الأيسر؛ لأنه من باب العبادات، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم فعن أنس رضي الله عنه:(أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق: (خذ) وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس) رواه مسلم، ويقاس عليه أخذ شعر الإبطين وحف الشارب وأخذ شعر العانة فيبدأ بشقه الأيمن ثم الأيسر.
ومنها: صفوف الصلاة هل الأفضل فيها التيامن أو التياسر؟
الجواب: لاشك أن الأفضل أن يقف الإنسان عن يمين الإمام وذلك لما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف)(1) ؛ ولأن العلماء أجمعوا فيما أعلم على أفضلية ميامن الصفوف، وهذا الفضل فيما إذا لم يلزم منه البعد عن الإمام مع الدنو له عند التياسر، بمعنى إذا تعارض التيامن مع البعد، والتياسر مع القرب، فلاشك أن الثاني هو الأفضل لثبوت الأدلة الصحيحة الدالة على فضل الدنو من الإمام؛ والله أعلم، وعلى ذلك فقس.
(1) هذا الحديث ضعيف ويغني عنه حديث البراء " كنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم أحبنا أن نكون عن يمينه حتى يقبل علينا بوجهه " رواه مسلم وأبو داود.