الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها: الرهون التي لا يعرف أهلها، فقد نص الإمام أحمد على جواز الصدقة بها في رواية أبي طالب، أو تسلم للحاكم على ما هو الأصلح من هذا أو هذا، لكن إن قلنا: يتصدق بها فإن الصدقة تكون بنية عن أصحابها وموقوفة على إجازتهم فلو عرفوا في يوم من الأيام وقبلوا فأجرها لهم، وإلا ضمنها المتصدق بمثلها أو قيمتها ويكون أجر صدقته له، وعلى ذلك فقس، والله أعلم.
القاعدة السابعة والخمسون
57 - من تعجل حقه أو ما أبيح له قبل وقته على وجه محرم عوقب بحرمانه
ومعناها: أن من أجازت له الشريعة شيئًا في وقتٍ معين ثم تباطأ هذا الوقت وطال عليه الأمد، وحاول استعجاله بطرقٍ ملتوية محرمة، فإنه حينئذٍ يعاقب بحرمانه من ما هو مباحٍ له ويحال بينه وبين حقه، معاملةً له بنقيض قصده جزاءً وفاقًا، فكما أنه توسل للمشروع بوسائل محرمة تعجلاً منه للحصول على مقصوده المستحق له فإنه يعاقب بالحرمان منه، وهذا هو العدل، فإن هذا الحق الذي جعل صاحبه يقع في الحرام من أجل استعجاله لا خير فيه، وحقه أن يمنع منه، وهذه القاعدة العظيمة تمثل جانبًا من جوانب السياسة الشرعية في القمع وسد الذرائع؛ ولأن فعل ذلك الشخص الذي أراد الوصول إلى حقه بطرقٍ محرمه يُعَدُّ تحايلاً على الشرع من جانبٍ آخر، فعنده بليتان:
أحدهما: أنه وقع في المحرم استعجالاً لحقه. الثانية: أنه تحايل على الشرع بسلوك هذه الطرق للتوصل إلى حقه، فعوقب بحرمانه من هذا الحق أصلاً.
وأدلة هذه القاعدة كثيرة شهيرة نسوق بعضها فنقول:
من الأدلة: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يرث القاتل شيئًا) رواه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وعن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس لقاتلٍ ميراث) رواه مالك وأحمد وابن ماجه، فهذا القاتل كان من جملة الورثة أي ممن يستحقون إرث مورثهم إذا مات لكنه استعجل الإرث منه واستطال حياته فقتله استعجالاً للإرث فعاملته الشريعة بنقيض قصده وحرمته من الميراث جزاءً وفاقًا، وما أعدله وأقواه وأسدَّه لأبواب الشر والفساد، وإلا لو كان القاتل يرث من مال المقتول لانتشر الفساد بين ضعفة الإيمان وأهل الدنيا، لكن لما علم القاتل أنه إن قتل مورثه فإنه يحرم من الميراث فإنه حينئذٍ ينزجر عن فعله ذلك، وهذا من باب سد الذرائع.
ومن الأدلة: حديث أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ففتح الله عز وجل علينا ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد له وهبه له رجل من جذام يسمى رفاعة بن يزيد من بني الضبيب، فلما نزلنا الوادي قام العبد يحل رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمي بسهم فكان فيه حتفه، فقلنا: هنيئًا له الشهادة يا رسول الله فقال: (كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة التي غلها من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارًا)، قال: فجاء رجل بشراك أو شراكين، فقال:(هذا شيء كنت أصبته) . فقال عليه الصلاة والسلام: (شراك أو شراكان من نار) رواه البخاري. وعن عبد الله بن عمرو قال: كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(هو في النار) فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءةً قد غلها. رواه البخاري، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا وجدتم الرجل قد غَلَّ فأحرقوا متاعه واضربوه) رواه أحمد وأبو داود. وعن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه) رواه أبو داود، وزاد:(ومنعوه سهمه) فالمجاهد في صفوف المسلمين له ما لهم من الغنم فيما يغنمونه، لكن لا تملك الغنيمة ملكًا خاصًا إلا بالقسمة، فالغال من الغنيمة استعجل نصيبه بالأخذ منها قبل القسمة فعوقب بانتزاعها منه وبتحريق رحله وبمنعه من سهمه عند البعض؛ لأن من استعجل حقه قبل أوانه عوقب بحرمانه.
ومن ذلك أيضًا: عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها) رواه الخمسة إلا النسائي وحسنه الترمذي. فالمرأة لها أن تتزوج لكن يشترط أن يتولى عقدها وليها؛ لأنه أعلم بمصلحتها، فإذا استعجلت المرأة زواجها فتولت هي عقده بدون الرجوع إلى وليها أو السلطان إن لم يكن لها ولي إذا فعلت المرأة ذلك فتكون قد استعجلت ما هو حلال لها بطريق محرم فتعاقب بالحرمان منه، فيفرق بينهما؛ لأن نكاحها حينئذٍ باطل ولها المهر إن كان الرجل قد استحل فرجها فلما استعجلت شيئًا قبل وقته عوقبت بالحرمان منه.
ومن ذلك: حديث أبي هريرة في الصحيحين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعًا من تمر) متفق عليه، ولمسلم:(فله الخيار ثلاثة أيامٍ) والتصرية حبس اللبن في الضرع ليوهم المشتري أنها ذات لبن، وهذا من التدليس وهو إظهار المبيع في صورة غير صورته بقصد التغرير بالمشتري لزيادة الثمن فحصل على هذه الزيادة بطريق غير مشروع استعجالاً لها فعوقب بثبوت الخيار للمشتري بين الإمساك أو الرد بعد حلبها مع صاع من تمر معاملة له بنقيض قصده.
ومن ذلك: حديث ابن عباس في الصحيحين مرفوعًا: (لا تلقوا الركبان) ولمسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: (لا تلقوا الجلب من تلقي فاشتري منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار) فهذا الذي تلقى الجلب قد استعجل الشراء برخص قبل وصول الجلب إلى السوق لعدم علمهم بالثمن، فيكون قد استعجل الشيء قبل أوانه على وجهٍ محرم فعوقب بثبوت الخيار لأصحاب الجلب بين الرد وبين دفع الثمن المتبقي معاملة له بنقيض قصده.
ومن الأدلة أيضاً: قوله تعالى لأهل الربا: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} وقال: {وَإنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} فأهل الربا استعجلوا زيادة أموالهم - أي هم يريدون زيادتها - وهذا أمر مشروع لكنهم سلكوا لزيادتها طريقًا محرمًا وهو الربا فاستعجلوا ما هو مشروع لهم بتحصيله بطريق محرم فعاقبهم الله تعالى بمحق هذه الزيادة معاقبة لهم بنقيض قصدهم، وقال تعالى:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ} فأموال أهل الربا أموال ممحوقة البركة حسًا ومعنىً، وعلى هذا يقاس جميع المكاسب المحرمة.
ومن الأدلة أيضًا: حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون من أعطاها مؤتجرًا بها فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء) رواه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم، فعلى القول بثبوته فإن هذا الرجل الذي منع زكاة ماله هو يريد نماءه بذلك وظن أن الزكاة تنقصه فمنعها، فعوقب بنقيض قصده وهو أنه أخذت منه قهرًا وأخذ منه معها شطر ماله تعزيرًا؛ لأن من استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه فحرم من زكاة ماله وحرم من شطره أيضًا، والله أعلم.
ومن ذلك: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي) رواه أحمد وأبو داود وصححه الترمذي.
والمرتشي أخذ المال من غير حله استعجالاً لنماء ماله فعوقب باللعنة وبتعزيره بأخذها منه، فهذه الأدلة وغيرها تفيدك دلالة قاطعة على أن الإنسان إذا استعجل حقه أو ماله بالطريق المحرم شرعًا أنه يعاقب بنقيض قصده وهو حرمانه من ذلك الذي صار سببًا لوقوعه في المحرم.
وأما الفروع فتعرف بما مضى من الأدلة ونزيدها فنقول:
من استعجل فنكح امرأة في عدتها فرق بينهما فرقة أبدية على قول بعض أهل العم معاملة بنقيض قصده، ومن استعجل فقتل من أوصى له بشيء فإنه يحرم من ذلك الشيء كالوارث إذا قتل مورثه، ومن طلق زوجته في مرض الموت المخوف لم ينفذ طلاقه؛ لأنه متهم بحرمانها من الميراث فعومل بنقيض قصده.
وتخليل الخمر - أعني القصد إلى تخليله - لا يفيد في جواز الانتفاع به ولا طهارته أيضًا عند من يقول بأنه نجس، لكن لو تخللت بنفسها بلا فعل آدمي حلت وطهرت، وكذلك من باع النصاب الزكوي فرارًا من الزكاة لا يُعَدُّ ذلك مسقطًا للزكاة عنه معاملة له بنقيض قصده، كذلك لو استعجل المحرم بقتل الصيد حال إحرامه فإنه يحرم عليه أكله معاملة له بنقيض قصده، ولو أفطر الإنسان في نهار رمضان عمدًا فإنه يأثم ويلزمه القضاء عند جمهور العلماء ويمسك بقية ذلك اليوم لبقاء الحرمة في حقه.
ولعل هذا كافٍ في فهم القاعدة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلى وأعلم.