الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثامنة والأربعون
48 - القصود في العقود معتبرة
وتسمى قاعدة العقود، ومعناها: أنه إذا أبرم شخصان عقدًا فإنه لا ينظر إلى الألفاظ التي يستعملها المتعاقدان، وإنما ينظر إلى مقاصدهم الحقيقية من الكلام التي يلفظ به حين العقد؛ لأن المقصود بالعقود هو معناها، وليس اللفظ ولا الصيغة المستعملة، فالألفاظ إذا كانت تنص على شيء والمقاصد والبواعث والنيات والحقائق على شيء آخر فنطرح اللفظ ونعمل بالمقصد، ومن تدبر مصادر الشريعة ومواردها تبين له أن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد المتكلم معانيها، بل جرت على غير قصدٍ منه كالنائم والناسي والسكران والجاهل والمكره والمخطئ من شدة الفرح أو الغضب أو المرض ونحوهم. ولم يكفر من قال من شدة فرحه براحلته بعد إياسه منها:(اللهم أنت عبدي وأنا ربك) فكيف يعتبر الألفاظ التي يقطع بأن مراد قائلها خلافها، ولهذا رد شهادة المنافقين ووصفهم بالخداع والكذب والاستهزاء وذمهم على أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وأن بواطنهم تخالف ظواهرهم، وذم تعالى من يقول ما لا يفعل، وأخبر أن ذلك عنده من أكبر المقت، ولعن اليهود إذ توسلوا بصورة عقد البيع على ما حرمه عليهم إلى أكل ثمنه، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عاصرها ومعتصرها، ومن المعلوم أن العاصر إنما عصر عنبًا، ولكن لما كانت نيته إنما هي تحصيل الخمر لم ينفعه ظاهر عصره، وعومل بنيته الفاسدة، فمن تدبر ذلك علم علمًا يقينيًا أن الشريعة ما أهملت النظر في مقاصد الأقوال والأفعال،وأن من اقتصر على النظر إلى ظواهر الألفاظ فقط فإنه قد يحلل الحرام ويحرم الحلال وينصر الظالم ويعينه على ظلمه، ويصحح الفاسد إذًا فالمقاصد لها شأن كبير في الشريعة، وهي الأصل وإنما جعل اللفظ معبرًا عنها، فإذا اختلف معها قدمناها عليه.
وأدلة هذه القاعدة لا حصر لها من الكتاب والسنة:
فمن ذلك: قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في زمن العدة {إنْ أرَادُوا إصْلاحًا} وهذا عقد الرجعة وهو خاضع لرضى الزوج، لكن الله تعالى شرط ذلك بإرادة الإصلاح دون قصد الإضرار، فعلق أحقية الزوج برجعة زوجته بإرادة الإصلاح، ويفهم منه أن الزوج إذا ظهرت منه قرائن تدل على إرادته بالرجعة مجرد الإضرار بزوجته أنه يمنع من ذلك ولا يمكن منه، وهذا نص صريح في اعتبار المقاصد.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله المحلل والمحلل له) مع أن المتعاقدين لا يذكران في ألفاظهما التحليل، وإنما يذكران ألفاظ النكاح المعروفة، لكن لما كان المقصود من هذا العقد مجرد تحليل المطلقة البائن بالثلاث لزوجها عوملا بمقاصدهما. فهو في الظاهر عقد نكاح لكن في الباطن والمقاصد عقد تحليل فحكم عليهما باللعنة للنظر إلى مقاصدهما، مما يدل على أن الاعتبار في العقود إنما هو المقاصد.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: (من تزوج امرأة بصداق ينوي أن لا يؤديه إليها فهو زانٍ، ومن أدان دينًا ينوي أن لا يقضيه فهو سارق) وروى البخاري من حديث أبي هريرة أيضًا: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) فأنزل الناكح الذي ينوي أن لا يؤدي الصداق لمنكوحته أنزله منزلة الزاني؛ لأن الزاني يستحل الفرج بلا عوض مع أن صورة العقد صحيحة في الظاهر، لكن بالنظر إلى نيته وقصده حكم عليه بذلك، والذي يأخذ أموال الناس بعقد مقارضة أو غيره ويريد أن لا يؤديها إليهم فإنه بهذه النية سارق؛ لأن السارق هو الذي يستحل أموال الناس بلا عوض ولا رضىً مع أن صورة العقد في الظاهر أنها عقد دين أو مقارضة لكن لم ينظر إلى مجرد اللفظ والمبنى، وإنما نظر إلى المقصد والمعنى والباعث.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) فبين في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية ولهذا لا يكون عمل إلا بنية، ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه، وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال، فمن نوى بعمله شيئاً فإنه إنما يحصل له ما نواه ويحكم عليه بمقتضاه.
فإذا علم هذا فقد يثور في بعض الأذهان إشكال على هذه القاعدة وهو قولهم: أنتم قررتم أن المقاصد لها تأثيرها في صحة العقود والأقوال والأفعال وبطلانها وتحليلها وتحريمها وحكمتم على الناس باعتبار نياتهم ومقاصدهم ونحن باستقراء الأدلة الشرعية نجد المنع التام من الحكم على الناس بالنظر إلى سرائرهم؛ لأنها من جملة الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى ومن أصول أهل السنة والجماعة أننا نحكم على الظواهر ونذر السرائر إلى الله تعالى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم) وعتب على أسامة بن زيد لما قتل الذي قال: لا إله إلا الله مع أن ظاهره يدل على أنه إنما قالها خوفًا من السلاح لكن هذا الأمر أمر باطني وكان مأمورًا أن يحكم عليه بما ظهر منه ويكف عنه، وقال – عليه الصلاة والسلام:(إنما أقضي بنحو ما أسمع) وكان يحكم على المنافقين بما يظهر منهم ولا يتعرض لما يبطنونه من الكفر وسيئ القصد، فالمقاصد أمرها إلى الله تعالى ونحن مأمورون أن نحكم على الناس بما يظهر منهم، فكيف تقولون إن القصود في العقود معتبرة؟ أقول: هذا سؤال مهم جيد، والجواب عليه أن يقال: نعم إن الأدلة التي ذكرتموها لا غبار عليها صحة ولا استدلالاً فإنها تفيد أن المقاصد والنيات إنما يعلمها الله وحده لا شريك له وأنه لا يعلمها إلا هو جل وعلا لكن عليكم أن تنظروا إلى أدلتنا فإن فيها أكبر دلالة على اعتبار المقاصد في
الحكم على أصحابها، فحينئذٍ لابد من الجمع بين هذه الأدلة، أعني بين الأدلة التي تجعل للمقاصد أعظم الأثر في حل الشيء وحرمته وصحته وفساده وبين الأدلة التي تدل على أن النظر في المقاصد والنيات إنما هو لله وحده، وقد أجاب عنها ابن القيم أجمل جواب وأنا أنقل لك ملخصه، فأقول: الألفاظ إنما وضعت للدلالة على ما في النفوس، فإذا أراد أحد منا شيئًا من أخيه عرفه بمراده وما في نفسه بلفظه ورتب على تلك الإرادات والمقاصد أحكامها بواسطة الألفاظ، والشارع الحكيم لم يرتب الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة قولٍ أو فعلٍ لما في الصحيح من حديث أبي هريرة مرفوعًا:(إن الله تبارك وتعالى تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) وكذا لم ترتب الأحكام على مجرد ألفاظ مع العلم بأن المتكلم بها لم يرد معانيها ولم يحط بها علمًا، بدليل أنه لم يرتب حكمًا على كلام النائم والناسي والمخطئ والمكره والسكران والغضبان، وأدلة ذلك مشهورة معروفة.
إذا علمت ذلك فاعلم أن الألفاظ ثلاثة:
الأول: أن تظهر مطابقة القصد للفظ وللظهور مراتب تنتهي إلى مرتبة اليقين ككلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وعقلاء الخلق فإنه حينئذٍ يجب حمل كلامه على ظاهره، أعني إذا قصد المتكلم لمعنى الكلام فإنه يجب حمله على ظاهره ولا يجوز إهمال ألفاظه، بل تحمل على معانيها وحقائقها اللغوية وهذا حق لا ينازع فيه عالم.
الثاني: ألفاظ نعلم نحن علم اليقين أحيانًا أو بغلبة الظن أن المتلفظ بها لا يريد معناها وحقيقتها، وهو نوعان: إما أن نعلم أنه ليس مريدًا لمقتضاها ولا لغيره، وإما أن نعلم أنه ليس مريدًا لمقتضاها ولكنه يريد غيره، فالأول ككلام النائم والمخطئ والناسي والمجنون ومن اشتد عليه الغضب والسكر والمكره، والثاني: كالمعرض والمورِّي والملغز والمتأول. فهؤلاء لاشك لا عبرة بألفاظهم؛ لأننا نعلم أو يغلب على ظننا أنهم لم يريدوا حقائقها ومعانيها، وفي ذلك نزاع عند البعض لكن هذا هو الراجح.
الثالث: ألفاظ تقتضي أحكامًا لكن ظهر من المتلفظ بها إرادة غير حقيقتها، أعني أن شواهد الحال وقرائن الواقعة توصلنا إلى اليقين أحيانًا أو غلبة الظن أحيانًا إلى أن المتلفظ بها ما أراد حقيقتها ولا معناها وإنما أراد شيئًا آخر، فهل حينئذٍ العبرة بظواهر الألفاظ وإن ظهرت المقاصد والنيات بخلافها؟ أم للمقصود والنيات تأثير يوجب الالتفات إليها ومراعاة جانبها؟ هذا هو محط رحالنا في هذه القاعدة، فنحن إنما نعمل الألفاظ على ظاهرها إذا لم تظهر النيات بخلافها أما إذا ظهرت بخلافها فلا، وهذا هو وجه الجمع بين الأدلة المتقدمة وهو جمع حسن جدًا، والله أعلم.
وإليك الآن بعض الفروع التي تبين أن القصود في العقود معتبرة فأقول:
منها: من اشترى سلاحًا في فتنة، فإن كان يقصد به إعانة ولي الأمر على إطفائها والقتال معه فهذا مأجور على هذه النية، وإن كان يقصد بشرائه قتل المسلمين به ظلمًا وعدوانًا فهو مأزور مع أن صورة البيع واحدة لكن اختلف باختلاف المقاصد.
ومنها: من اشترى جارية ينوي أن تكون لموكله فإنها تحرم على المشتري، وإن نوى أنها له فإنها تحل له، مع أن صورة البيع واحدة لكن اختلفت حلاً وحرمة باختلاف المقاصد والبواعث.