الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الستون
60 - من سقطت عنه العقوبة لفوات شرط أو لوجود مانعٍ ضوعف عليه الغرم
اعلم - رحمك الله تعالى - أن المحرمات في الشريعة قسمان: قسم ثبت تحريمه وليس فيه عقوبة دنيوية قد نص عليها أي لا حَدَّ فيه ولا قصاص ولا ضمان ولا كفارة، وأعني بقولي:(ليس فيها عقوبة) أي عقوبة مقدرة من قبل الشارع الحكيم، فهذا النوع من المحرمات لا يدخل معنا في هذه القاعدة، بل تكون عقوبته أخروية أو تعزيرية في الدنيا لكن لا تعلق له بهذه القاعدة.
والقسم الثاني: محرمات ثبت تحريمها ورتبت الشريعة عليها عقوبات فمن ارتكبها فعليه هذه العقوبة المقدرة شرعًا وهذا القسم هو الذي يدخل معنا في هذه القاعدة، والحكم الشرعي في هذا القسم أن من ارتكب هذا المحرم أن عليه عقوبته إذا توفرت شروط إقامتها وانتفت موانعه، لكن إذا ارتكبها الإنسان وتخلف فيه شرط من الشروط أو وجد فيه مانع حال دون إقامتها فإنها تسقط عنه العقوبة لكن يعاقب بعقوبة أخرى وهي مضاعفة الغرم أي أنه يضمن الشيء الذي انتهكه مرتين عقوبة له على فعله للمحرم، وكأن هذه العقوبة قد نزلت منزلة البدل للأصل، ذلك لأن الأصل أن تقام عليه العقوبة المقدرة شرعًا، لكن تعذر إقامتها لفوات شرطٍ أو وجود مانعٍ فسقطت لذلك، أي سقط الأصل فقام البدل مقامه وهو مضاعفة الغرم عليه أي إذا كان ارتكاب هذا المحرم يوجب غرمًا فإنه يضاعف عليه مرتين، ويتم فهم هذه القاعدة بفهمك لشروط إقامة العقوبات الشرعية وموانع إقامتها حتى تعرف هل توفرت الشروط وانتفت الموانع فتقام العقوبة الأصلية؟ أو تخلف شيء من ذلك فتقام العقوبة البدلية؟ فعليك أن تحفظ الشروط والموانع لتؤتي هذه القاعدة ثمارها.
فإن قلت: فهل دل على مضاعفة الغرم دليل؟ فأقول: نعم بل أدلة كثيرة:
فمن ذلك: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلق فقال: (من أصاب بفيه من ذي حاجةٍ غير متخذٍ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة
…
) الحديث.
فالثمر المعلق إذا أخذ الإنسان منه شيئًا وخرج به فإنه في منزلة السارق والسرقة عقوبتها قطع اليد، لكن هذا سقط عنه القطع؛ لأنه لم يأخذ المال من حرزه، والثمر مادام على رؤوس الشجر فليس في حرز، فلما سقطت عنه العقوبة ضوعف عليه الغرم في قوله:(فعليه غرامة مثليه) أي عليه ثمن ما أخذه ومثله معه، وهذا الحديث رواه النسائي والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن وفي بعض النسخ: حسن صحيح، والمراد أنه لما سقطت عنه العقوبة لعدم الأخذ من الحرز ضوعف عليه الغرم مرتين.
ومن الأدلة عليها: ما قضى به عمر رضي الله عنه وعثمان وعلي وابن عمر رضي الله عنهم من أنه إذا قلع الأعور عين الصحيح أنه لا يقتص منه؛ لأنه لو شرع القصاص في عينه العوراء لأدى ذلك إلى ذهاب بصره بالكلية وهذا حيف، ومن شرط إقامة القصاص الأمن من الحيف، وهنا فيه حيف، ذلك لأن الصحيح بقيت له عين ينظر بها، وأما الأعور فإنه ليس له إلا عين واحدة ينظر بها والأخرى ممسوحة فلو قلعناها قصاصًا لذهب بصره بالكلية، فسقطت عنه عقوبة القصاص، فلما سقطت عنه ضوعف عليه الغرم فقضى عليه الصحابة بأن على الأعور الدية كاملة مع أن العين الواحدة فيها نصف الدية، لكن ضوعف عليه الغرم لسقوط العقوبة عنه ولا يعرف لهؤلاء الصحابة مخالف فكان إجماعًا مع أن منهم عمر وعلياً وعثمان هم من الخلفاء الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم:(عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) وهذا هو المشهور من مذهبنا وفاقًا لمالك.
ومن الأدلة أيضًا: ما رواه الإمام البيهقي في سننه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (ضالة الإبل المكتومة غرامتها ومثلها معها) قال أبو بكر في التنبيه: وهذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يرد، وقد نص عليه الإمام أحمد. ا. هـ
والشاهد أن من كتم الضالة فإنه كالسارق لها وعقوبته القطع لكن تخلفت عنه العقوبة - التي هي القطع - لفوات شرطٍ من شروطها وهي الأخذ من الحرز. فهو أخذ الضالة من غير حرزها ولذلك سقط عنه القطع فلما سقط عنه القطع ضوعف عليه الغرم في قوله: (غرامتها ومثلها معها) أي أنه يضمن قيمتها مرتين عقوبة له، فدل ذلك على أن من سقطت عنه العقوبة لموجبٍ تضاعف عليه الغرم.
ومن الأدلة أيضًا: حديث غلمان حاطب، وذلك أن غلمة لحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه سرقوا ناقة لرجلٍ من مزينة فأتى بهم عمر فأقروا فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء فقال له:(إن غلمان حاطبٍ سرقوا ناقة رجلٍ من مزينة وأقروا على أنفسهم) . فقال عمر: (يا كثير بن الصلت اذهب فاقطع أيديهم)، فلما ولى بهم ردهم عمر ثم قال:(أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت أيديهم وأيم الله إذ لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك)، ثم قال:(يا مزني بكم أريدت منك ناقتك) ؟ قال: بأربع مائة. قال عمر: (اذهب فأعطه ثماني مائة) وهذا الأثر رجاله ثقات غير عارم فإنه قد اختلط لكن قال الدارقطني: ما ظهر له بعد اختلاطه حديث منكر وهو ثقة. ا. هـ فالأثر صحيح، ووجه الدلالة منه واضحة وهي أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أسقط عنهم القطع لحاجتهم إلى الطعام الذي سرقوه ولا قطع في مجاعة فلما أسقط عنهم القطع ضاعف عليهم الغرم، فالناقة ثمنها أربع مائة فغرمهم ضعفها مما يدل على أن من سقطت عنه العقوبة لموجبٍ ضوعف عليه الغرم.
ومن الأدلة أيضًا: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وجدتم الرجل قد غَلَّ فأحرقوا متاعه واضربوه) رواه أبو داود والترمذي وفي رواية: (وامنعوه سهمه) فهذا الغال من الغنيمة هو كالسارق لكن لا قطع عليه؛ لأنه لم يأخذ المال من حرزه، فعقوبة القطع ساقطة عنه لموجبٍ أسقطها فلما سقطت عوقب بأمرين:
الأول: تحريق متاعه. الثاني: حرمانه من سهمه، فلما سقطت عنه العقوبة ضوعف عليه الغرم؛ لأن سهمه قد يكون أكثر بكثير مما سرق ومع ذلك حرق متاعه، وقد يكون فيه ما هو أغلى مما سرق، فلما سقط عنه القطع ضوعف عليه الغرم.
فهذه الأدلة تدل دلالة صريحة على أن من سقطت عنه العقوبة المقدرة شرعًا إما لفوات شرطٍ أو لوجود مانع فإنه يتضاعف عليه الغرم مرتين.
وما مضى من الأدلة هو أدلة وفروع ونزيدها فروعًا فنقول:
منها: من قتل ذميًا عمدًا عدوانًا فإنه لا يقتل به؛ لأن من شروط استيفاء القصاص المكافأة في الدين، وعليه أن يضمنه بدية مسلم، ومن المعلوم أنه لو كان خطأ لما ضمنه إلا بنصف دية المسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(عقل الكافر نصف عقل المسلم) أي ديته نصف دية المسلم، لكن لما قتله عمدًا عدوانًا وسقط عنه القصاص لفوات شرط المكافأة ضوعفت عليه الدية مرتين فقلنا: يضمنه بدية المسلم.
ومنها: من سرق أقل من ربع دينار فإنه لا قطع عليه؛ لأنه لا قطع إلا في ربع دينارٍ فصاعدًا، لكن عليه ضمان المسروق ومثله معه، فلما سقطت عنه العقوبة تضاعف عليه الغرم.
ومنها: السرقة في عام المجاعة أفتى الصحابة بأنه لا قطع فيها ونص عليه الإمام أحمد لكن عليه غرم ما سرقه مرتين؛ لأن من سقطت عنه العقوبة ضوعف عليه الغرم.