المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌46، 47 - الأصل في العبادات الحظر والتوقيف والأصل في العادات الحل والإباحة - تلقيح الأفهام العلية بشرح القواعد الفقهية - جـ ٣

[وليد السعيدان]

فهرس الكتاب

- ‌41 - تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز

- ‌42 - مباشرة الحرام للتخلص منه جائزة

- ‌43، 44 - يدفع أعظم المفسدتين بارتكاب أدناهما ويحصل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما

- ‌45 - كل وسيلة فإن حكمها حكم مقصدها

- ‌46، 47 - الأصل في العبادات الحظر والتوقيف والأصل في العادات الحل والإباحة

- ‌48 - القصود في العقود معتبرة

- ‌49 - من لا يعتبر رضاه لفسخ عقدٍ أوحَلهِ لا يعتبر علمه به

- ‌50 - كل من سبق إلى مباحٍ فهو أحق به

- ‌51 - اليمين في جانب أقوى المتداعيين

- ‌52 - الأمر بعد الحظر يفيد ما أفاده قبل الحظر

- ‌53 - يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء

- ‌54 - تستعمل القرعة في تمييز المستحِقِّ

- ‌55 - إذا اجتمع مبيح وحاظر غُلِّبَ جانب الحاظر

- ‌56 - إذا تعذر معرفة صاحب الحق نزل منزلة المعدوم

- ‌57 - من تعجل حقه أو ما أبيح له قبل وقته على وجه محرم عوقب بحرمانه

- ‌58 - تقدم اليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزين، واليسرى فيما عداه

- ‌59 - يثبت تبعًا وضمنًا ما لا يثبت استقلالاً وقصدًا

- ‌60 - من سقطت عنه العقوبة لفوات شرط أو لوجود مانعٍ ضوعف عليه الغرم

- ‌61 - من اجتهد وبذل ما في وسعه فلا ضمان عليه وكتب له تمام سعيه

- ‌62 - الأصل أن نفي الشيء يحمل على نفي الوجود إن أمكن، وإلا فنفي الصحة وإلا فنفي الكمال

الفصل: ‌46، 47 - الأصل في العبادات الحظر والتوقيف والأصل في العادات الحل والإباحة

القاعدة الخامسة: (الغاية لا تبرر الوسيلة إلا بدليل) : أي أن سلامة المقصد لا يعطي الوسيلة المحرمة شرعية وجوازًا، إلا إذا دل الدليل على ذلك، فلا يجوز للإنسان أن يحتج بشرعية الوسيلة المحرمة بمجرد سلامة مقصدها، وذلك كرجل ينظر للنساء الأجانب ويقول: أنا أنظر لهن حتى أتفكر في خلق الله كما أمرني ربي بذلك، فنقول: نعم غايتك سليمة فإن التفكر في مخلوقات الله لتدلك على الله تعالى من المقاصد السليمة المشروعة لكن أنت اتخذت لذلك وسيلة محرمة، ومجرد سلامة مقصدك لا يعطي هذه الوسيلة حكمًا جديدًا بإباحتها؛ لأن الغاية لا تبرر الوسيلة، فإذًا لابد من النظر حينئذٍ في سلامة المقاصد وشرعية الوسائل، لكن إذا دل الدليل الشرعي الصحيح على إباحة الحرام من أجل سلامة الغاية فهذا يكون مخصوصًا لوحده فقط من حكم هذه القاعدة كالكذب لإصلاح ذات البين والكذب لإنقاذ النفس المعصومة من الهلكة، وكذب الرجل على أهله والكذب في الحرب، كما في الأدلة فهنا جاز الكذب مع أنه حرام لتحقيق هذه المقاصد، فالمقاصد هنا بررت الوسائل وهذا على خلاف الأصل، ولكن بعض أهل العلم حمل لفظ الكذب هنا على التعريض لا حقيقة الكذب، والتعريض يجوز مع الحاجة إليه، فعلى هذا فهذه الفروع لا إشكال فيها، والمقصود أن هذه القواعد تدخل تحت قاعدة الوسائل لها أحكام المقاصد، والله تعالى أعلم.

القاعدة السادسة والأربعون، والسابعة والأربعون

‌46، 47 - الأصل في العبادات الحظر والتوقيف والأصل في العادات الحل والإباحة

(1)

وهذان أصلان عظيمان كل العظمة، مهمان كل الأهمية.

(1) هذه القاعده تدخل في القاعدة الخامسة عشر السابقة، وفي القاعدة الثلاثون السابقة، فلو جمعت الثلاث في قاعدة واحده.

ص: 23

فأما الأصل الأول: فهو خاص بباب العبادات، وذلك لأنه من المتقرر عند أهل السنة والجماعة أن العقول لا تستقل بإدراك المشروع على وجه التفصيل ولذلك احتاجت البشرية إلى إرسال الرسل وإنزال الكتب، حتى يعرفوا الناس بشرائعهم العقدية والعملية على وجه التفصيل فبعث الله الرسل وأنزل الكتب، فأولهم نوح – عليه الصلاة والسلام – وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي ختم الله به الرسالة وأكمل به النعمة وأبان به المحجة الواضحة، ولولا الله ثم الرسل لما عرفت البشرية ما يجوز التعبد به لله وما لا يجوز على التفصيل أبدًا، ولتخبطت في ظلمات الجهل والضلالة ولذلك امتن الله على البشرية بأنه بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، إذا علم هذا فليعلم أن الشريعة لا تتلقى إلا من قبل هذا الرسول، فلا يجوز التعبد لله إلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لأحدٍ أن يخترع من عند نفسه قولاً أو فعلاً ويقول هذا عبادة، فالعبادة معناها على الدليل الشرعي ولا تدخل للعقل في تأسيسها أبدًا فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، فمن ادعى أن في فعل أو قولٍ أنه عبادة طالبناه بالدليل المثبت لها، فلا تتلقى العبادات إلا من قبل الشارع فقط، وبذلك تعلم حقيقة العبادة وحقيقة البدعة، فالبدعة هي اختراع شيء يعتقد أنه يقرب إلى الله تعالى ولا دليل عليه (1) ، وبه تعلم أن باب العبادات باب ضيق موقوف على ثبوت الدليل فقط لا على الأهواء والعقول، ولا على الأذواق ولا على التقليد المقيت، أو الاستحسان القبيح، ولا على التحسين والتقبيح وإنما مبناها على الدليل الشرعي الصحيح، وأهل السنة بتقرير ذلك فإنهم يقفلون باب البدعة ويسدونه سدًا محكماً، فما ظهرت البدع إلا بالغفلة عن هذا الأصل العظيم، ولابد أن

(1) لو قيل " التعبد لله بما لم يشرعه " ليشمل اختراع العبادة من أساسها وتغير صفتها.

ص: 24

أنبه على أمرٍ مهم جدًا وهو أن بعض البدع التي يفعلها المبتدعة قد تكون أصولها ثابتة بالكتاب والسنة ولكن اخترع المبتدعة فيها قيدًا أو شرطًا أو صفة جديدة لم يدل عليها الدليل فإذا أنكرت عليهم ذلك احتجوا عليك بالأدلة التي تثبت أصل العبادة كالأذكار الجماعية مثلاً فإنك إذا قلت لهم: هذه بدعة. قالوا لك: أو لا تقرأ قول الله: {والذاكرين الله كثيراً والذاكرات} وقوله: {اذكروا الله ذكرًا كثيرًا} ونحوها من الآيات الدالة على شرعية أصل الذكر، فإذا قالوا لك ذلك فقل لهم: إن العبادة قد تكون مشروعة بأصلها ممنوعة بوصفها، أي إن هذا الوصف الجديد يحتاج إلى دليل جديد ولا يكتفى فيه بمجرد الأدلة المثبتة لأصله، فالأدلة التي تثبت أصل العبادة شيء، وفعلها على وصفٍ معين شيء آخر، فلابد من دليل زائد يثبت هذا الوصف بعينه؛ لأن أصل العبادة توقيفي وكذلك كيفيتها وشروطها توقيفية كما تقدم لنا في بعض القواعد وذلك مثل قولنا إن دليل التحريم لا يستفاد منه النجاسة؛ لأن التحريم شيء والنجاسة شيء آخر، بل لابد من دليل آخر يدل على النجاسة ولا يكتفى بمجرد دليل التحريم فكذلك هنا فقولنا: الذكر الجماعي بدعة لا نعني به من حيث كونه ذكرًا إذا كانت ألفاظه لا محذور فيها وإنما نعني أن فعله بهذه الصفة هو البدعة وقس على ذلك، فعليك التفريق بين أدلة مشروعية الشيء وأدلة إيقاعها على صفةٍ معينة، فهذا من ناحية الأصل الأول.

ص: 25

وأما الأصل الثاني: فهو في العادات فالباب فيها مفتوح - ولله الحمد - وهو خاضع لأعراف الناس، فكل عادة انتشرت بين الناس وتعارفوا عليها من فعلٍ أو قولٍ أو أكل أو شرب أو غيرها من الملبوسات والمفروشات ونحوها، فالأصل فيها الحل والإباحة لكن هذه الإباحة مقيدة بما إذا لم تخالف هذه العادة دليلاً شرعيًا فإن خالفت الدليل فهي عادة محرمة يجب إنكارها، أما إذا لم تخالف دليلاً فالأصل التوسعة على الناس، فلا يجوز لأحدٍ كائنٍ من كان أن يضيق على الناس فيما اعتادوه وتعارفوا عليه إلا بدليل، وأنت ترى اختلاف الناس من قطرٍ إلى قطرٍ، بل إن من قواعد الشريعة أن العادة محكمة، أي تؤخذ الأحكام الشرعية بناءً على العادات المتقررة عندهم، كما مضى في بعض القواعد طرف من ذلك فلا يجوز لأحدٍ أن ينكر على أحدٍ ما اعتاده إلا إذا خالف الدليل الشرعي، فهذان الأصلان العظيمان يدخلان في جميع جوانب حياة الإنسان؛ لأنه متقلب في عادة أو في عبادة، فالعبادات بابها توقيفي إلا بدليل والعادات بابها مفتوح إلا بدليل ولله الحمد والمنة، وإليك بعض الفروع على هذين الأصلين ليتضح لك مدى تأثيرهما في المسائل الفقهية:

فمنها: الأذكار الجماعية بمختلف أنواعها كلها من البدع باعتبار صفاتها، بل وأحيانًا باعتبار ألفاظها أيضًا؛ لأنهم يعتقدون أنها عبادة لكن ليس عليها دليل، والأصل في العبادات التوقيف إلا بدليل.

ومنها: الطواف حول القبور، بل وجميع ما يفعله عباد القبور عندها من إسراجها، والبناء عليها، والنذر لها، والسجود عليها، والأخذ من ترابها والتبرك بها، والذبح عندها وغير ذلك، كل ذلك من البدع المفضية إلى تعظيمها ثم إلى اتخاذها أوثانًا تعبد من دون الله، وفاعلوها يعتقدون أنها عبادات ولم يأتوا عليها بدليل شرعي، فهي إذًا بدع وبعضها شرك أكبر؛ لأن العبادات توقيفية على الدليل الصحيح.

ص: 26

ومنها: أن بعض الناس إذا فرغ من الصلاة المكتوبة، فإنه يسجد سجدة واحدة ثم يرفع رأسه، وهذه السجدة بدعة؛ لأنه يعتقد أنها عبادة، والعبادات توقيفية على الدليل، ولم يأت الدليل الصحيح بشرعية هذه السجدة. وبعضهم يقول عند قول الإمام:(إياك نعبد وإياك نستعين) استعنا بالله، وهذا القول قول لا غبار عليه من ناحية لفظه، فإن المسلم مأمور بالاستعانة بالله وحده، لكن تخصيص قوله في هذا الوقت خاصة هو البدعة لعدم الدليل، وهذا من جملة العبادات المشروعة بأصلها الممنوعة بوصفها.

ومنها: التعبد لله بالتسبيح بالسبحة، لا دليل عليه فهو من جملة البدع؛ ولأن في التسبيح بها مشابهة للمبتدعة من الصوفية وغيرهم.

ومنها: جملة الصلوات المخترعة، كالألفية، والرغائب، وصلاة التسابيح، وغيرها كثيرة جدًا كلها من جملة البدع لعدم ثبوت الدليل الشرعي الصحيح بمشروعيتها، والعبادات مبناها على التوقيف.

والجامع في ذلك أن تخصيص زمانٍ من الأزمنة، أو مكان من الأمكنة بفعلٍ أو قولٍ يفعل فيه دون غيره فإنه يحتاج إلى دليل شرعي صحيح، وإلا فهو بدعة؛ لأن الأصل في العبادة الحظر والتوقيف.

ومنها: إن من العادات عندنا أن لبس الغترة والثوب من التجمل والتزين، وكشف الرأس عند غيرنا من التجمل أيضًا، وكل ذلك سائغ لا ينكر؛ لأنه من باب العادات ولم تخالف دليلاً شرعيًا.

ومنها: أن من العادة عندنا في ليلة الزواج أو قبله إنارة البيت بالمصابيح الكثيرة إعلانًا وإظهارًا للفرح والسرور، وهذا لا بأس به بل هو من إعلان النكاح المأمور به شرعاً إذا لم يكن فيه إسراف ولا يطلب الدليل على جوازه؛ لأنه من جملة العادات (1) .

ومنها: لبس العقال عندنا من جملة العادات التي لم تخالف الدليل الشرعي، فالأصل فيه الحل والإباحة، والتضييق على الناس في مثل هذا مجانب للصواب.

(1) بل هو من إعلان النكاح المأمور به شرعاً إذا لم يكن فيه إسراف.

ص: 27

والفروع كثيرة جدًا، وإنما الواجب عليك أن تفرق بين باب العبادات وبين باب العادات، فتمنع كل ما لم يأت الدليل بجواز التعبد به، وتبيح كل عادةٍ لم تخالف دليلاً صحيحًا. فإن قلت: وهل تعرف عادةً عندنا تخالف الدليل حتى نحذر منها؟

فالجواب: نعرف الكثير من ذلك، ولو ذهبنا نعددها لطال بنا المقام، لكن لا بأس بذكر بعضها من باب الإشارة:

فمما انتشر عندنا عادة الاجتماع في العزاء في بيت الميت أو أحد أقاربه، وتخصيص وقت للعزاء، وصنع أهل الميت الطعام للضيوف، وعادة التحاكم إلى السلوم والأعراف القبلية والترافع إلى ما يسمون بالعارفين ويتركون المحاكم الشرعية، وعادة مصافحة الأقارب لقريباتهم من النساء كابنة العم وابنة الخال، أو زوجة الأخ والخلوة بها، وعادة الحجر على القريبة ومنعها من الزواج إلا به، ولو خالفت أو خالف وليها وزوجها بغيره حصلت الكوارث وسفك الدماء، وعادة لبس البراقع التي يحصل بها من الفتنة أعظم من كشف الوجه وغيرها كثير جدًا، وبفهمك لهذين الأصلين فإنه يسهل عليك التمييز بين العبادة والبدعة، وبين العادة الجائزة والعادة الممنوعة. والله الموفق والهادي.

ص: 28