الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُخَالفين وان كَانَ السَّبَب الْأَكْبَر الَّذِي أخبر عَنهُ علام الغيوب حَيْثُ يَقُول {لقد جئناكم بِالْحَقِّ وَلَكِن أَكْثَرَكُم للحق كَارِهُون} وتعرضوا لما لَا يُمكن من ايضاح المحارات الَّتِي لَا تتضح وَالسير فِي الطّرق الَّتِي لَا توصل وَالْوَزْن بِالْمَوَازِينِ الَّتِي لم ينزلها الله تَعَالَى وَلَا علمتها رسله وَلَا اجْتمعت عَلَيْهَا عقول الْعُقَلَاء وفطن الأذكياء وَمَا خرج عَن ذَلِك كُله فَمن أَيْن لَهُ الوضوح حَتَّى يكون لَهُ ميزَان يُمَيّز بِهِ الْحق من الْبَاطِل عِنْد الدقة والخفاء والإختلاف الشَّديد فَتَأمل ذَلِك بإنصاف
وأعجب من كل عَجِيب تَكْفِير بَعضهم لبَعض بِسَبَب الإختلاف فِي هَذِه المحارات الخالية من ذَلِك كُله وَقد قَالَ الله تَعَالَى بعد الْأَمر بوفاء الْكَيْل وَالْوَزْن {لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا} مَعَ وضوح الْوَفَاء فيهمَا وامكان الإحتياط فَكيف حَيْثُ يدق ويتعذر فِيهِ الإحتياط لَكِن قد يُمكن أَن لَا يسامحوا فِي ذَلِك من جِهَة أَن الضَّرُورَة بل الْحَاجة لم تدع إِلَيْهِ كالوزن هَذَا مَعَ مَا فِي التَّكْفِير للمخطئ فِي هَذِه الدقائق من الْمفْسدَة وَذَلِكَ عدم جسرة النَّاظر على الْمُخَالفَة لِأَنَّهَا صَارَت مثل الرِّدَّة من الدّين وَلَوْلَا ذَلِك لاتضح كثير من الدقائق فَإِن أَوَائِل أهل علم الْكَلَام لابد أَن يقصروا كَمَا هُوَ الْعَادة الدائمة فِي كل من ابْتَدَأَ مَا لم يسْبق إِلَيْهِ فَلَمَّا كفرُوا الْمُخَالف كتم بَعضهم الْمُخَالفَة وتكلف بَعضهم الْمُوَافقَة بالتأويل الْبعيد وَفَسَد الاكثرون وَقد ذكر نَحْو هَذَا فِي دَلَائِل اعجاز الْقُرْآن أَنه أسلوب مُبْتَدأ جَاءَ على الْكَمَال فَحرق الْعَادَات بذلك على أَن فِي علم الْكَلَام من الْخطر مَا لَا يتَعَرَّض لَهُ حَازِم بعد مَعْرفَته وَذَلِكَ مَا ذكره السَّيِّد الْمُؤَيد بِاللَّه صلى الله عليه وسلم فانه ذكر فِي أَوَاخِر كِتَابه مَا ذكره فِي الزِّيَادَات مَا لَفظه
فصل فِيمَا يجب على الْعَاميّ والمستفتي
قَالَ صلى الله عليه وسلم وَالْأولَى عِنْدِي ترك الْخَوْض فِيمَا لَا تمس الْحَاجة إِلَى مَعْرفَته من علم الْكَلَام لِأَن الصَّحِيح من الْمَذْهَب أَن الْجَهْل قَبِيح وَيجوز أَن يصيره إِلَى حَالَة يسْتَحق صَاحبهَا الخلود فِي النَّار وَهَذَا غير مَأْمُون لَو نظر فِي مَسْأَلَة من الْكَلَام
وَأَخْطَأ وَلَو لم يشْتَغل بهَا وَترك النّظر فِيهَا أَمن ذَلِك وَلَو أصَاب كَانَ مَا يسْتَحق من الثَّوَاب على الْإِصَابَة يَسِيرا والعاقل إِذا اخْتَار الحزم اخْتَار الاعراض عَنْهَا دون النّظر فِيهَا إِلَى آخر كَلَامه فِي ذَلِك وَأَرَادَ صلى الله عليه وسلم بِالْجَهْلِ الْقَبِيح الْجَهْل الاصطلاحي عِنْد أهل الْكَلَام وَهُوَ اعْتِقَاد الشَّيْء على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ لَا الْجَهْل اللّغَوِيّ الَّذِي هُوَ التَّوَقُّف فِي مَوْضِعه فَهُوَ الَّذِي أَمر بِهِ وَحكم بنجاة صَاحبه وَمن عُيُوب علم الْكَلَام تعرضهم لما لَا نفع فِي الْخَوْض فِيهِ مَعَ عدم الامان من الْمضرَّة فِيهِ كالخوض فِي الرّوح وَالنَّفس وانهما شَيْء وَاحِد أَو شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ فان أدلتهم فِي ذَلِك كُله ضَعِيفَة ظنية وَأحسن مَا يستدلون بِهِ فِي ذَلِك هُوَ التلازم وَلَيْسَ من الْأَدِلَّة القاطعة وَقد اخْتَار ابْن متويه وَالْحَاكِم مِنْهُم وَغَيرهمَا أَن الرّوح هُوَ النَّفس الْجَارِي بِفَتْح الْفَاء لأجل التلازم فوهموا وهما فَاحِشا فان الْجَنِين فِي بطن أمه لَا يتنفس بعد حَيَاته وَنفخ الرّوح فِيهِ بِالنَّصِّ والحس بل حَيَوَان المَاء لَا يتنفس فِيهِ وَلَو سلم لَهُم جَوَاز دوَام التلازم لم يكن حجَّة قَاطِعَة على اتِّحَاد النَّفس وَالروح فليحذر الْخَوْض فِي أَمْثَال ذَلِك لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَلما تقدم من كَلَام الْمُؤَيد بِاللَّه فِي ذَلِك وَقد وَافق الْمُؤَيد بِاللَّه على ذَلِك خلائق من أَئِمَّة العترة والامة كَمَا ذكره صَاحب الْجَامِع الْكَافِي عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور فِي كتاب الْجُمْلَة والالفة وَحكى الْحَاكِم المعتزلي فِي مُخْتَصر لَهُ جلي فِي معرفَة الله أَن جَعْفَر بن مُبشر وجعفر بن حَرْب من أَئِمَّة الْكَلَام رجعا عَن الْخَوْض فِي دقيقه وَقد بَالغ الْغَزالِيّ فِي احياء عُلُوم الدّين وَلَا حَاجَة إِلَى التَّطْوِيل بِذكر ذَلِك وَهُوَ مَعْرُوف فِي موَاضعه
وَإِنِّي لما رَأَيْت طَرِيق النجَاة من علم الْكَلَام مِمَّا لَا يجْتَمع عَلَيْهَا أهل الْكَلَام دع غَيرهم ورأيتها ان كَانَت طَرِيقا صَحِيحَة فانها متوقفة وَلَا بُد على التَّحْقِيق فِيهِ والبحث العميق عَن الطَّائِفَة وخوافيه المودعة فِي علم اللَّطِيف الَّذِي تذكره ابْن متويه من مختصراته وجلياته وَمُلَخَّص الرَّازِيّ من موجزاته ومتوسطاته وأئمة أَهله أعي علم الْكَلَام فِي غَايَة المباعدة
والمنافاة حَتَّى أَن الشَّيْخ أَبَا الْحُسَيْن ذكر أَنه يَكْفِي فِي معرفَة بطلَان مَذَاهِب أَصْحَابه البهاشمة من الْمُعْتَزلَة مُجَرّد معرفَة مقاصدهم مَعَ أَنهم الْجَمِيع من أَئِمَّة الاعتزال هَذَا مَعَ وُقُوع كثير من أَئِمَّة الْكَلَام فِي الشَّك والحيرة
فَلَمَّا عرفت ذَلِك كُله علمت من غير شكّ صعوبة معرفَة طَرِيق النجَاة من هَذَا الْفَنّ على الاكثرين
وَقد ألهم الله تَعَالَى وَله الْحَمد وَالشُّكْر وَالثنَاء إِلَى أسهل طَرِيق وأخصره فِي علمي إِلَى الْيَقِين والنجاة ونصرة طَرِيق الصَّحَابَة وَالسَّلَف الَّتِي علم تقريرهم عَلَيْهَا بِالضَّرُورَةِ من الدّين وَهِي فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا وَإِنَّمَا عنيت فِي توضيحها وتجديدها بعد درسها ومداواة مَا قد وَقع من تَغْيِير المغيرين لَهَا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الحَدِيث فِي قَوْله صلى الله عليه وسلم (فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ) كَمَا تقدم
وَبَيَان ذَلِك أَنِّي تَأَمَّلت جَمِيع الِاخْتِلَاف الْوَاقِع بَين النَّاس من الْملَل الكفرية وَالْفرق الاسلامية فَإِذا هُوَ على كثرته وتشعبه يرجع فِي الْجُمْلَة إِلَى سَبْعَة أَشْيَاء مدركها بالفطرة قريب بعون الله تَعَالَى بل هِيَ فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا
أَولهَا اثبات الْعُلُوم الضرورية الَّتِي يبتني الاسلام على ثُبُوتهَا وَثَانِيها ثُبُوت الرب عز وجل وَثَالِثهَا توحيده سبحانه وتعالى وَرَابِعهَا كَمَاله بأسمائه الْحسنى وخامسها ثُبُوت النبوات وصحتها فِي الْجُمْلَة وسادسها الايمان بجميعهم وَعدم التَّفْرِيق بَينهم وسابعها ترك الابتداع فِي دينهم بِالزِّيَادَةِ على مَا جاؤا بِهِ وَالنَّقْص مِنْهُ فاذا تَأَمَّلت هَذِه الْأُمُور السَّبْعَة بالفطرة الأولى السليمة من التَّغْيِير بالعادات والطوارئ الْمُغيرَات لم تشك أَن الْخطر الْمخوف من عِقَاب الْآخِرَة مَأْمُون فِي جَمِيعهَا وَأما السِّتَّة الأولى فمجموعها هُوَ دين الاسلام الَّذِي فطر الله عباده على مَعْرفَته وَالْخلاف فِي كل وَاحِد مِنْهَا كفر يجمع عَلَيْهِ والأدلة عَلَيْهَا جلية وفاقية بَين الْمُسلمين وَلَا يُمكن وجود أحوط مِنْهَا وَلَا أولى وَأَحْرَى كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَمن أسلم فَأُولَئِك تحروا رشدا} وَأما السَّابِع وَهُوَ عدم الزِّيَادَة وَالنَّقْص فِي الدّين فَهُوَ
الْعِصْمَة من الْبدع المفرقة بَين الْمُسلمين وَهُوَ لَاحق بِمَا قبله فِي ثُبُوته فِي الْفطْرَة مَعَ اضطرار كَارِه الْبِدْعَة اليه لَكِن لَا يثبت فِيهِ التَّكْفِير غَالِبا كَمَا ياتي شَرحه فِي مَوْضِعه
وسر هَذَا الْكَلَام أَن الْعَذَاب الْأَكْبَر مخوف فِي الْمُخَالفَة لأحد هَذِه الْقَوَاعِد السَّبْعَة الجليلة وَالْعقل والسمع مجتمعان على حسن السَّعْي فِي دفع المضار المخوفة المجوزة التجويز لمستوى الطَّرفَيْنِ وَوُجُوب السَّعْي فِي دفع المضار الْمَطْلُوبَة وَوُجُوب السَّعْي فِي الِاحْتِيَاط فِي ذَلِك وَهَذَا مَعْلُوم فِي فطر الْعُقَلَاء وَمَعَ كَونه معقولا فقد ذكره الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْمُبين وَذكر الْعُقَلَاء بِهِ إِن كَانُوا عَنهُ غافلين فَقَالَ فِي ذَلِك رب الْعَالمين {قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله ثمَّ كَفرْتُمْ بِهِ من أضلّ مِمَّن هُوَ فِي شقَاق بعيد} وَقَالَ عز وجل فِي آيَة أُخْرَى {قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله وكفرتم بِهِ وَشهد شَاهد من بني إِسْرَائِيل على مثله فَآمن وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} وَقَالَ سُبْحَانَهُ حِكَايَة عَن خَلِيله إِبْرَاهِيم عليه السلام {وَكَيف أَخَاف مَا أشركتم وَلَا تخافون أَنكُمْ أشركتم بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ عَلَيْكُم سُلْطَانا فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن إِن كُنْتُم تعلمُونَ} {وَتلك حجتنا آتيناها إِبْرَاهِيم على قومه نرفع دَرَجَات من نشَاء إِن رَبك حَكِيم عليم} وَمِنْه مَا حَكَاهُ الله تَعَالَى عَن مُؤمن آل فِرْعَوْن من قَوْله {أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله وَقد جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ من ربكُم وَإِن يَك كَاذِبًا فَعَلَيهِ كذبه وَإِن يَك صَادِقا يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم} وَفِي مَعْنَاهُ قَوْله تَعَالَى أَيْضا {وَيَا قوم مَا لي أدعوكم إِلَى النجَاة وتدعونني إِلَى النَّار} الْآيَات وَهُوَ بَين فِي هَذَا الْمَعْنى لِأَن السَّلامَة متحققة فِي الايمان والخطر مَأْمُون فِيهِ والمهالك مخوفة فِي مُخَالفَته وَقد أحسن كل الاحسان فِي دُعَاء قومه وَلذَلِك حكى الله تَعَالَى حسن احتجاجه عَلَيْهِم فَيَنْبَغِي تَأمله وَالِانْتِفَاع بِهِ وَلذَلِك أتبع الله الْبُرْهَان بالتخويف بِالْمَوْتِ الضَّرُورِيّ
والمعاد إِلَيْهِ النظري فِي قَوْله تَعَالَى {كَيفَ تكفرون بِاللَّه وكنتم أَمْوَاتًا فأحياكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ ثمَّ إِلَيْهِ ترجعون} فان الْكفْر مَعَ مَجْمُوع هَذِه الْأُمُور أنكر الْكفْر وأفحشه فان الْبَرَاهِين تَكْفِي العارفين والمخاوف توقظ نيام الغافلين وتلين قساوة العاتين الماردين وَمَعَ ذَلِك تقوى دواعي العارفين وتقاوم وساوس الشَّيَاطِين وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وماذا عَلَيْهِم لَو آمنُوا بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} وَهَذَا الْقدر أَعنِي الدُّخُول فِي الاسلام على جِهَة الِاحْتِيَاط من غير علم بِصِحَّتِهِ بالأدلة يحصل أدنى مَرَاتِب الاسلام عِنْد كثير من عُلَمَاء الاسلام كمن لَا يكفر المقلدين لأهل الْحق وَمن يَقُول المعارف ضَرُورِيَّة وَغَيرهم وحجتهم على ذَلِك أُمُور مِنْهَا تَقْرِير النَّبِي صلى الله عليه وسلم للعامة وَقبُول الشَّهَادَة مِنْهُم وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {قَالَت الْأَعْرَاب آمنا قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا وَلما يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبكُمْ وَإِن تطيعوا الله وَرَسُوله لَا يلتكم من أَعمالكُم شَيْئا إِن الله غَفُور رَحِيم} وَآخر الْآيَة حجَّة حَسَنَة على ذَلِك وَمِنْهَا مَا صَحَّ واشتهر وتواتر فِي أَحَادِيث الشَّفَاعَة من تَقْرِير إِيمَان الْمَشْفُوع لَهُم بمثاقيل الذَّر وَأدنى أدنى أدنى من ذَلِك أَلا ترى أَنَّك تخَاف الْعَذَاب على الْمُخَالفَة فِي كل وَاحِد من هَذِه السَّبْعَة الْأُمُور وَلَا تخَاف الْعَذَاب بالْقَوْل بِوَاحِد مِنْهَا وَلَا تَجِد أحوط مِنْهَا وَلَا أنجى فَحِينَئِذٍ علمت بالفطرة علما قَرِيبا جليا تطمئِن بِهِ الْقُلُوب وتؤمن مَعَه من الْمخوف الْأَعْظَم إِنَّه لَا يُمكن أَن يُوجد أصح وَلَا أنجى من المخاوف من دين الاسلام ومتابعة مُحَمَّد أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام صلى الله عليه وسلم
فلاحظت فِي هَذَا الْمُخْتَصر هَذِه الْأُمُور السَّبْعَة وأشبعت الْكَلَام فِيهَا ونصرتها بجهدي وَغَايَة مَا فِي قدرتي من الْعبارَات الْوَاضِحَة وَضرب الْأَمْثَال الْبَيِّنَة ثمَّ الْآيَات والْآثَار وَإِن تَكَلَّمت فِي نصرتها من عِنْدِي متميزة بأنفسها غير ملتبسة بكلامي فَمَا أَخْطَأت فِيهِ من كَلَامي وخالفها فعلى كل مُسلم رده واجتنابه ومتابعتها دونه فانما قصدي نصرتها لَا مخالفتها
فَمَا أصبت فِيهِ فَمن الله سُبْحَانَهُ وَله فِيهِ الْمِنَّة وَالْحَمْد وَالشُّكْر وَالثنَاء وَمَا أَخْطَأت فِيهِ فالذنب مني وَعلي فِيهِ الْبَرَاءَة مِنْهُ وَالتَّوْبَة وَالِاسْتِغْفَار والتحذير وَأَشد الْكَرَاهَة لَا فرق بَين كَرَاهَة مَا صدر مني من الْبدع وَمَا صدر من غَيْرِي بل يجب أَن أكون أَشد كَرَاهِيَة لما صدر مني لِأَن الصَّادِر مني ذَنبي يضرني وأآخذ بِسَبَبِهِ وَالله تَعَالَى يسلمني من الْبدع والذنُوب وَيغْفر لي مَا أَخْطَأت فِيهِ إِنَّه وَاسع الْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل لَكِن المحامي عَن السّنة الذاب عَن حماها كالمجاهد فِي سَبِيل الله تَعَالَى يعد للْجِهَاد مَا اسْتَطَاعَ من الْآلَات وَالْعدة وَالْقُوَّة كَمَا قَالَ الله سُبْحَانَهُ {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة}
وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن جِبْرِيل عليه السلام كَانَ مَعَ حسان بن ثَابت يُؤَيّدهُ مَا نافح عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي أشعاره فَكَذَلِك من ذب عَن دينه وسنته من بعده إِيمَانًا بِهِ وحبا وَنصحا لَهُ ورجاء أَن يكون من الْخلف الصَّالح الَّذين قَالَ فيهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يحمل هَذَا الْعلم من كل خلف عَدو لَهُ ينفون عَنهُ تَحْرِيف الغالين وانتحال المبطلين وَالْجهَاد بِاللِّسَانِ أحد أَنْوَاع الْجِهَاد وسبله فِي الحَدِيث (أفضل الْجِهَاد كلمة حق عِنْد سُلْطَان جَائِر) وَقد أحسن من قَالَ فِي هَذَا الْمَعْنى شعرًا
(جاهدت فِيك بِقَوْلِي يَوْم يخْتَصم الْأَبْطَال
…
أذفات سَيفي يَوْم يمتصع)
(إِن اللِّسَان لوصال إِلَى طرق
…
فِي الْحق لَا تهتديها الذبل السرع)
وَقد ذكر الْغَزالِيّ فِي المنقذ من الضلال أَن الطالبين لليقين ثَلَاث طوائف مِنْهُم أهل الرياضة للقلوب بتصفيتها بالاقبال على الله تَعَالَى وَترك مَا عداهُ والتخلق بالأخلاق الْمجمع على حسنها من الزّهْد وَالصَّبْر والتوكل وَالرِّضَا وَالْعَفو وَوضع النَّفس قلت إِلَى سَائِر مَا ذَكرُوهُ من أَخْلَاقهم وأحوالهم ومقاماتهم فِي عوارف المعارف وَغَيره وَهَذَا لَا يُمكن اكتسابه بالتصنيف إِنَّمَا هُوَ بِالْعَمَلِ فَمن عمل على مُوَافقَة السّنة وَاجْتنَاب الْبِدْعَة
كَانَ هَذَا الْمُخْتَصر وَأَمْثَاله من بداياته الَّتِي تعينه على مقْصده وتوصله إِلَى مُرَاده لأَنهم أَجمعُوا على أَن الشَّرِيعَة لمعارفهم كاللبن للزبد وَمن لَا لبن لَهُ لَا زبد لَهُ وَهَذِه الْمُقدمَة للشريعة وتصفية الْقُلُوب المشبهين بِاللَّبنِ والزبد بِمَنْزِلَة الرّوح الَّذِي لولاها لما كَانَ الْحَيَوَان وَلَا الزّبد وَلَا اللَّبن وَلكنهَا حَاصِلَة فِي الِابْتِدَاء بالفطرة من الله سُبْحَانَهُ وَله الْحَمد فَمن كملت فِيهِ وسلمت من التَّغْيِير لم يحْتَج إِلَى شَيْء من هَذَا وان نظر فِيهِ قوي مَا هُوَ عَلَيْهِ من الْفطْرَة بِمَنْزِلَة السَّقْي لما يشرب بعروقه من الْبَحْر فانه لَا يحْتَاج السَّقْي فان سقِِي زَاده قُوَّة وريا والطائفة الثَّانِيَة مِمَّن ذكر الْغَزالِيّ أهل التَّعْلِيم من الامامية وَغَيرهم فانهم زَعَمُوا أَن الْعُقُول لَا تفي بالمعرفة من غير تَعْلِيم الامام الْمَعْصُوم وَلذَلِك تَجِد طالبي المعارف النظرية الْعَقْلِيَّة يتعلمون ذَلِك من شيوخهم وَلَا يُمكن بالتجارب أَن يسْتَقلّ أحدهم بنظره وعقله من غير شيخ ثمَّ يَأْتِي بِتِلْكَ القوانين المتقنة مجودة سَالِمَة من المطاعن وَعِنْدهم أَن هَذَا من التجريبات الضروريات وَقد جود الْغَزالِيّ الرَّد عَلَيْهِم فِي المنقذ من الضلال وَكفى وشفى ثمَّ قَالَ وعَلى تَسْلِيم مَا ذَكرُوهُ فَنحْن نلتزمه وَلَا يضرنا لَكِن امامنا الْمَعْصُوم هُوَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَمَوته لَا يضرنا كَمَا أَن غيبَة امامهم لَا تضر عِنْدهم بل حَالنَا أولى فان امامنا الْمَعْصُوم مَاتَ صلى الله عليه وسلم بعد كَمَال التَّعْلِيم وامامهم غَابَ عَنْهُم قبل ذَلِك وَفِي هَذَا الْمُخْتَصر من التَّعْلِيم النَّبَوِيّ الصَّحِيح الْمُتَوَاتر وَالصَّحِيح الْمَشْهُور مَا لَا يُوجد فِي أَمْثَاله والطائفة الثَّالِثَة أهل النّظر وَقد جمعت فِي هَذَا الْمُخْتَصر صفوة أنظارهم وخلاصة أدلتهم ونقاوتها وقصدت تقويتها ورسوخ الْيَقِين فِيهَا بِجمع شواهدها وبراهينها الجلية الْقَرِيبَة الغاسلة لأدران الشكوك والريبة النَّازِلَة من أهل الايمان بِمَنْزِلَة المَاء القراح من العطشان الْمَشْهُورَة بَين أهل الْبَيْت الطيبين وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَسَائِر السّلف الصَّالِحين الَّتِي لَا يجر الْخَوْض فِيهَا إِلَى شَيْء من الْبِدْعَة وَلَا المخاطرة فِي الدّين وَلَا يُمكن أَن يكون فِيهَا شَيْء غَيره أحوط مِنْهُ فِي علمي وَالله الْمُسْتَعَان والمستغاث وَالْهَادِي سُبْحَانَهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل
وَاعْلَم أَنِّي بنيت هَذَا الْمُخْتَصر على بَيَان الْحق وَتَقْرِيره فِي هَذِه الْأُمُور السَّبْعَة لَا سواهَا وَمَا زَاد على ذَلِك من مواهب الله وعوارفه ومعارفه
وبدائع لطائفه فَلَيْسَ بمقصود لي الْكَلَام عَلَيْهِ وَلَا أَعتب على من خالفني فِي شَيْء مِنْهُ وَلَا يعاب التَّقْصِير فِيهِ فان التَّطْوِيل فِي الْأُمُور الْعَارِضَة يخرج عَن الْمَقْصُود كَمَا ذَلِك مَعْرُوف
وَإِنَّمَا قصرت الاهتمام على هَذِه الامور السَّبْعَة لِأَنَّهَا الْفطْرَة الَّتِي فطر الله النَّاس عَلَيْهَا كَمَا تطابق عَلَيْهِ الْقُرْآن وَالسّنة وَفِي ذَلِك دلَالَة على أَنَّهَا تَكْفِي الْعَاميّ كَمَا ذهب إِلَيْهِ أهل المعارف مَا لم تعرض لَهُ شُبْهَة قادحة فيتمكن من حلهَا على طَرِيق السّلف الْقَرِيبَة الجلية كَمَا نذكرهُ فِي هَذَا الْمُخْتَصر مَعَ الدُّعَاء واللجأ إِلَى الله تَعَالَى وَمَا أقرب نفع هَذَا مَعَ خلق الله الْقُلُوب على الْفطْرَة وَكَثْرَة مواد هدايته كَمَا ذكره فِي آيَة النُّور وَقَالَ الله تَعَالَى {إِن علينا للهدى} فأكد ذَلِك بمؤكدين اثْنَيْنِ كَمَا تَقول أَن زيدا لقائم وَقَالَ {وعَلى الله قصد السَّبِيل} هَذَا لِلْخلقِ عُمُوما وَلِلْمُؤْمنِينَ خُصُوصا {وَمن يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه} إِلَى غير ذَلِك وَإِنَّمَا يُؤْتى أَكثر الْخلق من كفرهم بآيَات الله الْبَيِّنَة وبطلبهم غَيرهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {سل بني إِسْرَائِيل كم آتَيْنَاهُم من آيَة بَيِّنَة وَمن يُبدل نعْمَة الله من بعد مَا جَاءَتْهُ فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب} فليحذر ذَلِك كل الحذر من عدم القنوع بِمَا قنع بِهِ السّلف من حجج الله تَعَالَى وياله من تخويف شَدِيد ووعيد عَظِيم
ثمَّ اعْلَم أَن هَذَا الْمُخْتَصر لَا يصلح إِلَّا لمن وضع لَهُ كَمَا أَن الدَّوَاء الْخَاص بألم خَاص لَا يصلح لكل ألم وَلَا لكل أَلِيم فَمن كَانَ يحْتَاج الْبسط إِلَّا الحوافل الْكِبَار من مصنفات المصنفين من أذكياء النظار وَقد يكون فِي هَذَا الْمُخْتَصر الاشارة إِلَى تِلْكَ الْكتب الحافلة والتنبيه عَلَيْهَا لمن يحْتَاج إِلَى ذَلِك وَالدَّال على الْخَيْر كفاعله وَلَكِن لكل مقَام مقَال وَلكُل مجَال رجال والكتب البسيطة فِي علم اللَّطِيف لَا تصلح لمن يخَاف عَلَيْهِ من السبه كَمَا أَن السباحة فِي لجج الْبحار لَا تصلح إِلَّا لأهل الرياضة التَّامَّة فِي ذَلِك بعد طول
التجارب وَأَرْجُو إِن شَاءَ الله تَعَالَى أَن لَا يَخْلُو هَذَا الْمُخْتَصر من أحد الْمعَانِي الثَّمَانِية الَّتِي تصنف لَهَا الْعلمَاء بل من كل وَاحِد مِنْهَا وَهِي اختراع مَعْدُوم أَو جمع مفترق أَو تَكْمِيل نَاقص أَو تَفْصِيل مُجمل أَو تَهْذِيب مطول أَو تَرْتِيب مخلط أَو تعْيين مُبْهَم أَو تَبْيِين خطأ كَذَا عدهَا أَبُو حَيَّان وَتمكن الزِّيَادَة فِيهَا
وَإِنَّمَا جمعت هَذَا الْمُخْتَصر الْمُبَارك إِن شَاءَ الله تَعَالَى لمن صنفت لَهُم التصانيف وعنيت بهدايتهم الْعلمَاء وهم من جمع خَمْسَة أَوْصَاف معظمها الاخلاص والفهم والانصاف وَرَابِعهَا وَهُوَ أقلهَا وجودا فِي هَذِه الاعصار الْحِرْص على معرفَة الْحق من أَقْوَال الْمُخْتَلِفين وَشدَّة الدَّاعِي إِلَى ذَلِك الْحَامِل على الصَّبْر والطلب كثيرا وبذل الْجهد فِي النّظر على الانصاف ومفارقة العوائد وَطلب الاوابد فان الْحق فِي مثل هَذِه الاعصار قَلما يعرفهُ إِلَّا وَاحِدًا بعد وَاحِد وَإِذا عظم الْمَطْلُوب قل المساعد فان الْبدع قد كثرت وَكَثُرت الدعاة اليها والتعويل عَلَيْهَا وطالب الْحق الْيَوْم شَبيه بطلابه فِي أَيَّام الفترة وهم سلمَان الْفَارِسِي وَزيد بن عَمْرو بن نفَيْل وأضرابهما رحمهمَا الله تَعَالَى فانهم قدوة الطَّالِب للحق وَفِيهِمْ لَهُ أعظم أُسْوَة فانهم لما حرصوا على الْحق وبذلوا الْجهد فِي طلبه بَلغهُمْ الله إِلَيْهِ وأوقفهم عَلَيْهِ وفازوا من بَين العوالم الجمة فكم أدْرك الْحق طَالبه فِي زمن الفترة وَكم عمي عَنهُ الْمَطْلُوب لَهُ فِي زمن النُّبُوَّة فَاعْتبر بذلك واقتد بأولئك فان الْحق مَا زَالَ مصونا عَزِيزًا نفيسا كَرِيمًا لَا ينَال مَعَ الاضراب عَن طلبه وَعدم التشوف والتشوق إِلَى سَببه وَلَا يهجم على المبطلين المعرضين وَلَا يفاجئ أشباه الانعام الغافلين وَلَو كَانَ كَذَلِك مَا كَانَ على وَجه الأَرْض مُبْطل وَلَا جَاهِل وَلَا بطال وَلَا غافل وَقد أخبر الله تَعَالَى أَن ذَرْء جَهَنَّم هم الغافلون فانا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون مَا أعظم الْمُصَاب بالغفلة والمغتر بطول المهلة
وَمن أعجب الْعَجَائِب دَعْوَى المقلدين للمعارف وَدَعوى المتعصبين للانصاف وأمارة ذَلِك أَنَّك تَجِد العوالم الْكَثِيرَة فِي لطائف المعارف الْمُخْتَلف فِيهَا على رَأْي رجل وَاحِد من القدماء فِي الامصار العديدة والاعصار المديدة
فَلَو كَانُوا فِي ترك التَّقْلِيد كالأوائل لاشتد اخْتلَافهمْ فِي الدقائق وَلم يتفقوا على كثرتهم وَطول أزمانهم وتباعد بلدانهم وَاخْتِلَاف فطنهم كَمَا قَضَت بذلك العوائد الْعَقْلِيَّة الدائمة وَلَو كَانَ الْجَامِع لفرقتهم مَعَ كثرتهم هُوَ الْوُقُوف على الْحَقَائِق فِي تِلْكَ الدقائق لكانوا أَكثر من مشايخهم الاقدمين علما وتحقيقا وانصافا وتجويدا لَكِن الْمَعْلُوم خلاف ذَلِك فاياك أَن تسلك هَذِه المسالك فان نشأة الانسان على مَا عَلَيْهِ أهل شارعه وبلده وجيرانه وأترابه صَنِيع أسقط النَّاس همة وأدناهم مرتبَة فَلم يعجز عَن ذَلِك صبيان النَّصَارَى وَالْيَهُود وَلَا ربات القدود والنهود المستغرقات فِي تمهيد المهود وَهَذِه هَذِه فأعطها حَقّهَا وَانْظُر لنَفسك وانج بهَا وطالع قصَّة سلمَان الْفَارِسِي وَأَضْرَابه وَانْظُر كَيفَ كَانَ صبرهم واعرف قدر مَا أَنْت طَالب فانك طَالب لأعلى الْمَرَاتِب قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا قدرُوا الله حق قدره} وَقَالَ فِي الْأُخْرَى {وسعى لَهَا سعيها} وَقَالَ {خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة واذْكُرُوا مَا فِيهِ} وَلَيْسَ فِي الْوُجُود بأسره أعز وَلَا أفضل من الْإِيمَان بِاللَّه وَكتبه وَرُسُله ومتابعتهم وَمَعْرِفَة مَا جاؤا بِهِ فَلَا تطلب ذَلِك أَهْون الطّلب فَإِنِّي أرى الْأَكْثَرين لَا يرضون بِالْغبنِ وَالنَّقْص فِي بيع بعض السّلع وَأرى طَالب الأرباح الدُّنْيَوِيَّة يطْلبهَا أَشد الطّلب من أبعد الأقطار بأشق الْأَسْفَار وَأما طَالب الكيمياء والسيمياء فَإِنَّهُ يبْذل فِي طلبهما مَا دون الرّوح بل يرتكب بعض الأخطار والمتالف الْكِبَار مَعَ أدنى تَجْوِيز للسلامة بل عدم التجويز أَيْضا عِنْد ملكة هَوَاهُ لَهُ وَغَلَبَة ظَنّه بِأَنَّهُ يدْرك مَا أَرَادَ ويبلغ مَا قَصده ويصل إِلَى مَا إِلَيْهِ سعى وَلكم من منفق غضارة عمره ونضارة شبابه وَأَبَان أَيَّامه فِي ذَلِك
وَإِنَّمَا طولت القَوْل فِي هَذَا لِأَنِّي علمت بالتجربة الضرورية فِي نَفسِي وغيري أَن أَكثر جهل الْحَقَائِق إِنَّمَا سَببه عدم الاهتمام بتعرفها على الْإِنْصَاف لَا عدم الْفَهم فَإِن الله وَله الْحَمد قد أكمل الْحجَّة بالتمكين من الْفَهم وَإِنَّمَا أَتَى الْأَكْثَر من التَّقْصِير فِي الإهتمام أَلا ترى أَن المهتمين بمقاصد المنطقيين
والمتكلمين يفهمونها وَإِن دقَّتْ مَعَ الصَّبْر وَطول الطّلب فَكيف لَا يفهم طَالب الْحق مَقَاصِد الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وَالسَّلَف الصَّالِحين مَعَ الاهتمام بذلك وبذل الْجهد فِي طلبه وَحسن الْقَصْد ولطف أرْحم الرَّاحِمِينَ لمن هُوَ كَذَلِك بالنصوص والاتفاق وَلَا يَنْبَغِي أَن يصغي إِلَى من يصده عَن كتب الله وَمَا أنزل فِيهَا من الْهدى والنور رَحْمَة للْمُؤْمِنين ونعمة على الشَّاكِرِينَ
وليحذر كل الحذر من زخرفتهم للعبارات فِي ذَلِك وترغيبهم بأنواع المرغبات فِي تِلْكَ المسالك وليعتبر فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى لرَسُوله الْمَعْصُوم صلى الله عليه وسلم {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَك عَن الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك لتفتري علينا غَيره وَإِذا لاتخذوك خَلِيلًا وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاك لقد كدت تركن إِلَيْهِم شَيْئا قَلِيلا إِذا لأذقناك ضعف الْحَيَاة وَضعف الْمَمَات ثمَّ لَا تَجِد لَك علينا نَصِيرًا} ويالها من موعظة موقظة لمن كَانَ لَهُ قلب أَو ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى ولتعرف أهل الزيغ بذلك وَأهل الْحق بحلافه فَإِنَّهُم كَمَا وَصفهم رَبهم عز وجل فِي قَوْله {وَيرى الَّذين أُوتُوا الْعلم الَّذِي أنزل إِلَيْك من رَبك هُوَ الْحق وَيهْدِي إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد} وَلَا يَنْبَغِي أَن يستوحش الظافر بِالْحَقِّ من كَثْرَة الْمُخَالفين لَهُ كَمَا لَا يستوحش الزَّاهِد من كَثْرَة الراغبين وَلَا المتقي من كَثْرَة العاصين وَلَا الذاكر من كثر الغافلين بل يَنْبَغِي مِنْهُ أَن يستعظم الْمِنَّة باختصاصه بذلك مَعَ كَثْرَة الْجَاهِلين لَهُ الغافلين عَنهُ وليوطن نَفسه على ذَلِك فقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ (إِن هَذَا الدّين بدا غَرِيبا وَسَيَعُودُ غَرِيبا كَمَا بَدَأَ فطوبى للغرباء) رَوَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود وَقَالَ هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه وَعبد الله بن أَحْمد من حَدِيث أنس وروى البُخَارِيّ نَحوه بِغَيْر لَفظه من حَدِيث ابْن عمر وَعَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ أفضل السَّلَام عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ (طلب الْحق غربَة) رَوَاهُ الْحَافِظ الْأنْصَارِيّ فِي أول كِتَابه منَازِل السائرين إِلَى الله من حَدِيث جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق عَن أَبِيه عَن جده وَقَالَ هَذَا حَدِيث
غَرِيب لم أكتبه عَالِيا إِلَّا من رِوَايَة عَلان وَلذَلِك شَوَاهِد قَوِيَّة عَن تِسْعَة من الصَّحَابَة ذكرهَا الهيثمي فِي مجمع الزَّوَائِد فنسأل الله أَن يرحم غربتنا فِي الْحق وَيهْدِي ضالنا وَلَا يردنا من أَبْوَاب رجائه ودعائه وَطَلَبه محرومين إِنَّه مُجيب الداعين وهادي المهتدين وأرحم الرَّاحِمِينَ
فَإِن قيل قد دلّ السّمع كتابا وَسنة على أَن دين الاسلام هُوَ الْفطْرَة المخلوقة وَطلب ذَلِك هُوَ تَحْصِيل الْحَاصِل فَمَا هَذَا التهويل
قلت لِأَنَّهُ قد اشْتَدَّ تغييرها وصلاحها بعد شدَّة التَّغْيِير عسير فَهِيَ كالعافية والتغيير كالأمراض الَّتِي اخترنا أَسبَابهَا فاشتدت وتمكنت حَتَّى عسر علاجها وَهَذَا الْمُخْتَصر وَأَمْثَاله كأدوية تَنْفَع من لم يستحكم عَلَيْهِ التَّغْيِير دون من استحكم عَلَيْهِ وَلَا يحتاجها الْمعَافى وَيدل على ذَلِك حَدِيث حزَام بن حَكِيم ابْن حزَام عَن أَبِيه وَعَمه أَن الْعِبَادَة فِي صدر الاسلام أفضل من الْعلم وَأَن الْعلم فِي آخر الْأَمر أفضل من الْعِبَادَة كَمَا سَيَأْتِي قُوَّة اسنادها وموافقتها فِي الْمَعْنى للنَّظَر الْعقلِيّ ياتيان فِي بَيَان فضل الْعلم النافع وخامسها وَهُوَ اصعبها الْمُشَاركَة فِي الْعلم أَو فِي التَّمْيِيز والفهم لأهل الطَّبَقَة الْوُسْطَى وَمن يقاربهم فِي الْمنزلَة حَتَّى يتَمَكَّن بذلك من مَعْرفَته مِقْدَار مَا يقف فِي هَذَا الْمُخْتَصر من الْفَوَائِد من غير تَقْلِيد فيرغب فِيهِ أَو يزهد حِين يقيس على مَا يألف ويعهد لِأَنَّهُ لَا يعرف مِقْدَار الشَّيْء إِلَّا ذُو بَصِيرَة يعرف أَن لَهُ أجناسا كَثِيرَة فيقيسها إِلَيْهِ أَو يقيسه إِلَيْهَا فيفضلها عَلَيْهِ ويفضله عَلَيْهَا وذكي الْقلب يتَمَكَّن من ذَلِك وَإِن لم يسْلك تِلْكَ المسالك لَكِن بِكَثْرَة الْمَسْأَلَة لأهل المعارف والمقايسة بَين المصنفات لعارف عَارِف وَإِلَّا كَانَ الْوَاقِف عَلَيْهِ مثل من لَا يعرف الْجَوَاهِر الثمينة والفصوص النفيسة يجد فصا عَظِيم الْمِقْدَار فيضيعه أَو يَبِيعهُ بِثمن نزر فقد بيع يُوسُف الصّديق بذلك حِين لم يُوقف لَهُ على قدر فَإِن عرضت لطَالب الْحق محنة لم يتطير بِطَلَب الْحق فَيكون من الَّذين يعْبدُونَ الله على حرف وليثق بِقرب الْفرج ويتوكل على الله كَمَا قَالَ تَعَالَى {فتوكل على الله إِنَّك على الْحق الْمُبين} وَعلم وأيقن أَن الله مَعَ الصابرين وَمَعَ الصَّادِقين
وَأَن الله نَاصِر من ينصره وذاكر من يذكرهُ وَأَن سر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي هَذِه الْأُمُور عَائِد على متبعيه وَنَصره شَامِل لناصريه وَلم أقصد بِهَذَا الْمُخْتَصر هِدَايَة أهل الْيَقِين التَّام من الْأَوْلِيَاء الْكِرَام أهل الْكَمَال فِي المعارف من الْعلمَاء الاعلام وَلَا هِدَايَة أَئِمَّة الْكفْر المعاندين لأهل الاسلام أما أهل الْكَمَال فِي الْعلم الَّذين بلغُوا مرتبَة الامامة الْكُبْرَى فِي علمي الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول وَأهل الْيَقِين التَّام من الْأَوْلِيَاء الْكِرَام نفع الله بهم فَإِن مهْدي هَذَا الْمُخْتَصر إِلَى معارفهم كمهدي الحشف إِلَى هجرأ ونجران بل كمهدي الحضيض إِلَى أهل الدّرّ والعقيان وَإِن كَانَ قد ينزل عِنْد بَعضهم منزلَة فَاكِهَة الْبَادِيَة الطرية الْبَريَّة الَّتِي هِيَ من العلاجات الحضرية بريه فَإِنَّهَا قد تعجب أهل الْحَاضِرَة وَإِن كَانَت عَمَّا لديهم فِي النفاسة قَاصِرَة وَأما أَئِمَّة الْكفْر والسفه والتعلق بمذاهب الفلسفة فهم كمن استحكم الدَّاء عَلَيْهِ فَلَا تَنْفَعهُ الْأَدْوِيَة النافعة فالداعي لَهُم إِلَى حق حقائق الْإِيمَان وَإِن جَاءَ بأعظم برهَان فِي الْيَأْس مِنْهُم وَعدم الطمع فيهم كالداعي للعميان إِلَى النُّور وللأموات إِلَى الْخُرُوج من الْقُبُور وَكَيف الطمع فِي هِدَايَة قوم قد أَقَامَ رَبهم عَلَيْهِم الْحجَّة مرَارًا أَولهَا بخلقهم على الْفطْرَة وَثَانِيها بطول المهلة وَثَالِثهَا ببعثه الرُّسُل بالمعجزات الباهرة والآيات الظَّاهِرَة إِلَى غير ذَلِك من تَجْدِيد الدَّلَائِل بِخلق الْمَخْلُوقَات الْمشَاهد حدوثها من الْغَمَام والأمطار وَالْحَيَوَان وَالْأَشْجَار فجحدوا الْجَمِيع وَكَفرُوا الْكفْر الفظيع مَعَ إِيمَانهم بأبطل البواطل الَّتِي لَا يتَصَوَّر الْإِيمَان بِمِثْلِهَا من عَاقل حَتَّى قَالَ الله تَعَالَى فيهم {وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى وحشرنا عَلَيْهِم كل شَيْء قبلا مَا كَانُوا ليؤمنوا إِلَّا أَن يَشَاء الله} وَقَالَ تَعَالَى فيهم {قتل الْإِنْسَان مَا أكفره} الْآيَات وَقَالَ تَعَالَى {فَبِأَي حَدِيث بعده يُؤمنُونَ} ثمَّ أخبر عَنْهُم علام الغيوب أَنهم يجادلون فِي الْقِيَامَة بعد بَعثهمْ وعلمهم الضَّرُورِيّ بِصِحَّة الربوبية فيجحدون الْحق حَتَّى تشهد عَلَيْهِم جُلُودهمْ ثمَّ يَقُولُونَ بعد ذَلِك لم شهدتم علينا وَلذَلِك لم نؤمر
بِإِقَامَة الْحجَّة عَلَيْهِم لِأَن الله قد أَقَامَهَا وَإِنَّمَا أمرنَا بجهادهم ودعائهم قبل قبل الْجِهَاد على خلاف فِي الدُّعَاء قبل الْجِهَاد مَوْضِعه كتب الْفِقْه الفرعية وَلَا قصدت بِهَذَا الْمُخْتَصر تفهيم من لَيْسَ يفهم فَأَكُون كمستولد الْعَقِيم أَو مقوم ظلّ مَا لَيْسَ بِمُسْتَقِيم وَكَيف يقوم الظل وَالْعود أَعْوَج وَإِنَّمَا قصدت نفع الأوساط وامتثال أَمر الله تَعَالَى فقد أَمر الله تَعَالَى بالمعاونة على الْبر وَالتَّقوى وَصَحَّ التَّرْغِيب فِي الدُّعَاء إِلَى الْحق وَالْخَيْر وَإِن الدَّاعِي إِلَى ذَلِك يُؤْتى مثل أجور من اتبعهُ وَمن أَحْيَا نفسا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا وَإِن من أَمر بالصلاح ابْتِغَاء مرضات الله وَإِن لم يطع فَسَوف يؤتيه الله أجرا عَظِيما وَفِي حَدِيث أنس عَنهُ صلى الله عليه وسلم (مَا من رجل ينعش بِلِسَانِهِ حَقًا يعْمل بِهِ إِلَّا جرى عَلَيْهِ أجره إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ وفاه الله ثَوَابه يَوْم الْقِيَامَة) رَوَاهُ أَحْمد وَسَنَده جيد وَهُوَ من مُسْند أنس من جَامع المسانيد بل قد أنزل الله سبحانه وتعالى سُورَة الْعَصْر وَقصر السَّلامَة من الخسر على الَّذين آمنُوا وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ وَمن أحسن قولا مِمَّن دَعَا إِلَى الله وَعمل صَالحا وَقَالَ إِنَّنِي من الْمُسلمين ثمَّ إِنِّي غير مُدع للعصمة من الْخَطَأ والمناقضة وَلَا أَدعِي ذَلِك من هُوَ أجل مني وأكمل وَأعلم وَأفهم من جَمِيع الْعلمَاء بل الْعُقَلَاء وَقد قَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآن الْكَرِيم {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فَدلَّ على لُزُوم ذَلِك لما كَانَ من عِنْد غير الله فَمن وجد خطأ فلينبه عَلَيْهِ مأجورا وَالْقَصْد المعاونة على الْخَيْر وفْق الله الْجَمِيع على مَا يحب ويرضى
وَاعْلَم أَنِّي رَأَيْت المصنفين فِي علم العقيدة الدِّينِيَّة قد سلكوا مَسْلَك سَبِيل مصنفي كتب الْمذَاهب الَّتِي ينتصر فِيهَا المُصَنّف لمَذْهَب وَاحِد فِي الْقوي والضعيف والدقيق والجلي وَلم يسْلك أحد مِنْهُم مَسْلَك مصنفي كتب الْإِسْلَام الَّتِي تذكر فِيهَا مَذَاهِب أهل الْملَّة الإسلامية وَيُقَوِّي فِيهَا مَا قوته الدَّلَائِل البرهانية سَوَاء كَانَ لقريب أَو بعيد أَو صديق أَو بغيض وَكتب العقائد أَحَق بسلوك هَذَا المسلك من كتب الْفُرُوع فَأَما كَون الْحق فِيهَا
مَعَ وَاحِد فَصَحِيح وَلَكِن لَا يسْتَلْزم أَن يكون الصَّوَاب فِي جَمِيع الْمَوَاضِع المتفرقة قد اجْتمع لبَعض الْفرق إِلَّا مَا حصل فِيهِ أحد الاجماعات القاطعة من الْأَئِمَّة والعترة فَيجب التَّرْجِيح لَهُ والنصرة فاستخرت الله تَعَالَى وقصدت احياء هَذِه السّنة الْميتَة الَّتِي هِيَ ترك العصبية
وَلذَلِك سميته إِيثَار الْحق على الْخلق جعله الله اسْما مُوَافقا لمسماه ولفظا مطابقا لمعناه وجدير أَن يكون فِيهِ مَا يسْتَدرك عَليّ فَإِن كل أسلوب ابتدئ لَا يكمل إِلَّا بمعاونة جمَاعَة وتتابعهم عَلَيْهِ وتكميل الْمُتَأَخر لما أهمل الْمُتَقَدّم وَلذَلِك كَانَت أَوَائِل كل علم وأسلوب قَليلَة أَو نَاقِصَة فليبسط الْعذر الْوَاقِف على مَا يسْتَدرك فِيهِ لما كَانَ أسلوبا غَرِيبا بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِه الازمنة الْمُتَأَخِّرَة
وَاعْلَم أَنه لَيْسَ بِصَرْف الاكثرين عَن هَذِه الطَّرِيقَة إِلَّا أحد أُمُور أَولهَا عدم الْحِرْص وَقُوَّة الدَّاعِي إِلَى هَذَا كَمَا تقدم مَبْسُوطا قَرِيبا فِي الْوَصْف الرَّابِع من صِفَات من تصنف لَهُم التصانيف وَثَانِيها الْخَوْف من شَرّ الأشرار مَعَ الترخيص فِي التقية باجماع الْأمة فقد أثنى الله على مُؤمن آل فِرْعَوْن مَعَ كتم إيمَانه وَسميت بِهِ سُورَة الْمُؤمن وَصَحَّ أَمر عمار بن يَاسر بذلك وَتَقْرِيره عَلَيْهِ وَنزلت فِيهِ {إِلَّا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان} وَقد قيل من عرف الْخلق جدير أَن يتحامى وَلَكِن من عرف الْحق فعسير أَن يتعامى وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله وَثَالِثهَا خوف الشذوذ من الجماهير والإنفراد من الْمَشَاهِير وَهَذَا يحْتَاج إِلَى نظر فَإِن كَانَ جُمْهُور السّلف القدماء مَعَ القَوْل الشاذ الْمُتَأَخر فَلَا يبالى بذلك الشذوذ فقد شهِدت الْأَخْبَار الجمة الصَّحِيحَة بِأَن الدّين سيعود غَرِيبا كَمَا بَدَأَ وَكَذَلِكَ كَانَ الْحق فِي أَوَاخِر أهل الْكتاب فِي شذوذ من الصَّالِحين كَمَا شهد بذلك حَدِيث سلمَان الْفَارِسِي حَتَّى قَالَت طَائِفَة إِن إِجْمَاع الْمُتَأَخِّرين لَيْسَ بِحجَّة وَإِنَّمَا الْحجَّة إِجْمَاع الصَّحَابَة لما ورد فِي الْأَحَادِيث من ذمّ أهل الْمُتَأَخر حَكَاهُ ابْن جرير الطَّبَرِيّ وَإِن كَانَت الشُّهْرَة لِلْقَوْلِ فِي الْمُتَأَخِّرين وَهُوَ لَا يعرف عَن أحد من السّلف أَو يذكر شذوذ عَن بَعضهم فهده عَن الْبدع وَإِيَّاهَا