الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فِي تَفْسِير خلق الافعال (وَالِاخْتِلَاف فِي ذَلِك وَبَيَان الْأَحْوَط فِيهِ لطَالب السّنة)
اعْلَم أَنا قد بَينا فِيمَا تقدم أَن السّنة هِيَ مَا صَحَّ واشتهر واستفاض فِي عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه رضي الله عنهم وتابعيهم وبلغنا متواترا أَو مَشْهُورا من غير مُعَارضَة وَلَا شُبْهَة مثل الايمان بالاقدار لتواتره فِي الْأَخْبَار والْآثَار فَلَيْسَ خلق أَفعَال الْعباد من هَذَا وَلَا هُوَ قريب مِنْهُ فَلَا وَجه لكَونه من السّنة لِأَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حِين علم أَرْكَان الاسلام والايمان والاحسان لم يذكرهُ ثمَّ لم يَصح فِيهِ حَدِيث وَاحِد وَلَا أثر وَأما أَخذه من خَالق كل شَيْء فَهُوَ خلاف الِاحْتِيَاط فِي مَوَاضِع الْخطر حَيْثُ لَا ضَرُورَة وَهُوَ مثل أَخذ المعتزلي من ذَلِك أَن الْقُرْآن مَخْلُوق وأمثال هَذَا مِمَّا لَا يُحْصى ويوضح ذَلِك وُجُوه
الْوَجْه الأول إِن الْخلق لَفْظَة مُشْتَركَة وَأشهر مَعَانِيهَا التَّقْدِير وَلَا نزاع فِي ذَلِك والافعال مخلوقة بِهَذَا الْمَعْنى بِلَا نزاع كَمَا هُوَ قَول الامام الْجُوَيْنِيّ وَالشَّيْخ أبي إِسْحَاق واصحابهما من أهل السّنة بل هُوَ قَول الْمُعْتَزلَة والشيعة وَلم يذكر الْجَوْهَرِي فِي صحاحه لِلْخلقِ معنى فِيمَا نَحن فِيهِ إِلَّا التَّقْدِير وَكَذَلِكَ ابْن الْأَثِير فِي نِهَايَة الْغَرِيب فانه قَالَ أصل الْخلق التَّقْدِير ثمَّ فسر خلق الله الاشياء بعد أَن لم تكن وانه تَعَالَى يُسمى الْخَالِق بِاعْتِبَار تَقْدِير وجود الْأَشْيَاء مِنْهُ أَو بِاعْتِبَار الايجاد على وفْق التَّقْدِير هَذَا مَعَ توسعه فِي النَّقْل وَعدم تهمته بعصبية وَلَا جهل فانه نقل كِتَابه من سِتَّة عشر مصنفا لأئمة اللُّغَة وهم أَبُو عُبَيْدَة والمازني والاصمعي وَالقَاسِم بن سَلام وَابْن قُتَيْبَة وثعلب
وشمر بِهِ حَمْدَوَيْه والأنباري وَأحمد بن الْحسن الْكِنْدِيّ وَأَبُو عَمْرو الزَّاهِد والخطابي والهروي والأزهري والزمخشري والأصفهاني وَابْن الْجَوْزِيّ قَالَ وَغير هَؤُلَاءِ من أَئِمَّة اللُّغَة والنحو وَالْفِقْه وَلَكِن لَا معنى لتسمية الافعال مخلوقة بِهَذَا الْمَعْنى أَعنِي إِيجَاب اعْتِقَاد ذَلِك على كل مُسلم وإيهام اخْتِصَاص أهل السّنة بِهِ لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنه لَا ثَمَرَة لَهُ لَا خلافية وَلَا وفاقية وَإِنَّمَا هُوَ مثل تَسْمِيَتهَا مَعْلُومَة ومكتوبة وَثَانِيهمَا أَن عِبَارَات الْكتاب وَالسّنة هُنَا وَردت بِأَلْفَاظ بَيِّنَة الْمعَانِي غير مُشْتَركَة بَين مَا يَصح وَمَا لَا يَصح وَقد أَجمعت الامة على أَنه لَا تجوز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى والتبديل لألفاظ الْمَعْصُوم إِلَّا عِنْد الاسْتوَاء والمعلوم بِالْيَقِينِ حَتَّى لَا يجوز تَبْدِيل الْخَفي بالجلي وَلَا الْعَكْس وَلَا الظَّاهِر الظني بِالنَّصِّ الْقَاطِع وَلَا مَا لَا اشْتِرَاك فِيهِ بالمشترك وَلَا الْعَكْس
الْوَجْه الثَّانِي مَا تقدم الْآن من اعْتِبَار مَا تجب كراهيته وَيحرم الرضى بِهِ فِي دقائق هَذِه الْمَسْأَلَة ومضائقها فانه ميزَان حق ومعيار صدق وَأَنت إِذا اعتبرته هُنَا وضح لَك الصَّوَاب وانكشف لَك الارتياب فانه يجب الرضى بِخلق الله تَعَالَى الَّذِي هُوَ فعله بالاجماع فَلَو كَانَت الْمعاصِي من حَيْثُ هِيَ معاص خلقا لَهُ وفعلا وَجب الرضى بهَا وفَاقا لَكِن الرضى بهَا حرَام بالنصوص الجمة والاجماع الْمَعْلُوم من الْجَمِيع وَهَذَا وَجه وَاضح لَا غُبَار عَلَيْهِ وَلَا ريب فِيهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
الْوَجْه الثَّالِث إِن أهل السّنة كلهم قد وافقوا على أَن أفعالنا لَا تسمى مخلوقة من حَيْثُ نسبت الينا وَإِنَّمَا تسمى بذلك من حَيْثُ نسبت إِلَى الله تَعَالَى ففارقوا الجبرية فِي الْمعَانِي مُفَارقَة بعيدَة وقاربوهم فِي الْعبارَات مقاربة كَثِيرَة حَتَّى غلط عَلَيْهِم خصومهم بِسَبَب ذَلِك ونسبوهم إِلَى الْجَبْر فَيَنْبَغِي مِنْهُم وَمِمَّنْ ينصر مَذْهَبهم تجنب الْعبارَات الَّتِي توهم مَذْهَب الجبرية ليتم بذلك نزاهتهم مِنْهُ حَتَّى لَا يحْتَج عَلَيْهِم بِتِلْكَ الْعبارَات جبري وَلَا معتزلي وَلَا يغلط بِسَبَبِهَا عَامي وَلَا سني فقد وَقع بِسَبَبِهَا خبط كثير وَغلط فَاحش وَقد قَالَ الله تَعَالَى {لَا تَقولُوا رَاعنا وَقُولُوا انظرنا} لما وَقع فِي أحد اللَّفْظَيْنِ من الْمفْسدَة دون اللَّفْظ الآخر فلنتكلم مَعَ كل فرقة من فرقهم
فَأَما إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق وَمن تَابعهمْ فقد وافقونا بِحَمْد الله تَعَالَى
وَأما الجبرية الْجَهْمِية فَلَيْسَ هم من فرق أهل السّنة على الْحَقِيقَة وَلَكِن نتكلم مَعَهم لنستقصي القَوْل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فَنَقُول لَهُم قَوْلكُم أَن فعل العَبْد مَخْلُوق لله تَعَالَى وَحده لَا يشركهُ العَبْد فِيهِ خلاف الضَّرُورَة الْعَقْلِيَّة والسمعية ويلزمكم على هَذَا أَن لَا تصح تَسْمِيَته فَاعِلا أَلْبَتَّة وَذَلِكَ يسْتَلْزم أَن لَا يكون مُطيعًا وَلَا عَاصِيا لِأَن كَونه مُطيعًا وعاصيا فرع على كَونه فَاعِلا والالزم أَن يكون الْيَهُود الممسوخون قردة مُطِيعِينَ بكونهم كَانُوا قردة هَذَا على جِهَة النَّافِلَة وَإِلَّا فالمختار عدم مناظرة من بلغ فِي الْجَهْل والعناد إِلَى هَذَا الْحَد
وَأما الاشعرية الَّذين قَالُوا أَن فعل العَبْد الَّذِي هُوَ كسب متميز من فعل الله الَّذِي هُوَ خلق فان الْحجَّة عَلَيْهِم وَاضِحَة وَذَلِكَ أَن الأَصْل الْمَعْلُوم أَن لَا يُضَاف إِلَى كل فَاعل إِلَّا مَا هُوَ أثر قدرته وَلما كَانَ أثر قدرَة الله تَعَالَى عِنْدهم هُوَ الذوات والأعيان وَأثر قدرَة العَبْد هُوَ الاحوال وَالْوُجُوه والاعتبارات لم يَصح وَلم يحسن أَن يُضَاف فعل العَبْد إِلَى الله وَلَا فعل الله إِلَى العَبْد لِأَنَّهُ من قبيل الْكَذِب الصَّرِيح الْمُتَّفق على تَحْرِيمه وَلَو جَازَ أَن يُضَاف فعل العَبْد الْقَبِيح إِلَى ربه الحميد الْمجِيد لجَاز أَن يُضَاف فعل الله تَعَالَى إِلَى عَبده فيسمى العَبْد خَالِقًا فَأَما تَسْمِيَة أَفعَال الْعباد مخلوقة حَقِيقَة فقد تعذروا واستحال على مَذْهَبهم وَأما تَسْمِيَتهَا مخلوقة مجَازًا فَهُوَ الَّذِي يُمكن أَن يَقع فِيهِ الْغَلَط أَو الغلاط وَالْحق أَنه مَمْنُوع وَدَلِيل مَنعه وُجُوه
أَولهَا أَن للمجاز شَرَائِط مَعْلُومَة عِنْد عُلَمَاء الْمعَانِي وَالْبَيَان من أوجبهَا الِاشْتِرَاك فِي أَمر جلي غير خَفِي يُوجب المقاربة أَو المشابهة بَين الْأَمريْنِ كاشتراك الشجاع والاسد فِي قُوَّة الْقلب والكريم وَالْبَحْر فِي كَثْرَة النَّفْع وَنَحْو ذَلِك وَلَا مُنَاسبَة بَين أَفعَال الرب السبوح القدوس الْحَكِيم الْعَلِيم وَبَين أَفعَال الشَّيَاطِين والسفلة والسفهاء وأخبث الْخلق
وَثَانِيها أَن جناب الْملك الْعَزِيز أرفع مرتبَة وَأبْعد قدرا من أَن يجوز لنا أَن نتصرف فِيهِ مثل هَذَا التَّصَرُّف من غير إِذن شرِيف
وَثَالِثهَا انا متفقون على أَن مثل هَذَا مَمْنُوع وَأَن هَذَا الْمقَام غير مُبَاح وَلَا مسكوت عَنهُ وَذَلِكَ من جِهَتَيْنِ الْجِهَة الأولى أَن الْبِدْعَة مَمْنُوعَة والجهة الثَّانِيَة أَن الله تَعَالَى لَا يُوصف إِلَّا بِمَا قد تحقق فِيهِ أَنه مدح وثناء دون مَا فِيهِ نقص أَو مَا لَيْسَ فِيهِ نقص وَلَا ثَنَاء
وَرَابِعهَا أَن هَذَا من قبيل اثبات اللُّغَة بِالنّظرِ الْعقلِيّ واللغة لَا تثبت إِلَّا بِالنَّقْلِ الصَّحِيح عَن أئمتها عِنْد الْجُمْهُور فِي الْحَقَائِق الوضعية وَعند طَائِفَة فِي الْحَقَائِق وَالْمجَاز مَعًا وَلم ينقلوا فِي ذَلِك شَيْئا وَهَذِه كتب اللُّغَة مَوْجُودَة وَقد ذكرت فِيمَا تقدم قَرِيبا أَن الْجَوْهَرِي لم يذكر فِي صحاحه لِلْخلقِ معنى إِلَّا التَّقْدِير أَعنِي فِي هَذَا الْمَعْنى الَّذِي نَحن فِيهِ وَإِن كَانَ قد ذكر مَعَاني أخر كالخلق بِمَعْنى الْكَذِب فَافْهَم هَذِه النُّكْتَة
وخامسها أَن أهل اللُّغَة وَلَو أَجَازُوا شَيْئا فِي أسمائنا وأحوالنا فان أَسمَاء الله تَعَالَى توقيفية وَلذَلِك لَا يُسمى عَاقِلا وَلَا فَاضلا وَلَا يجوز نَحْو ذَلِك لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا بالِاتِّفَاقِ مَعَ أَنَّهُمَا من أجل الاسماء وأحمدها وَأَشْرَفهَا فَكيف يُسمى خَالق القبائح وَالْفَوَاحِش والفضائح من غير إِذن سَمْعِي مِمَّن لَا يُجِيز عَلَيْهِ أَن يُوصف بِوَصْف لَا ذمّ فِيهِ وَلَا مدح وَمَا الملجئ إِلَى هَذَا والداعي اليه وَالله تَعَالَى هُوَ الْملك الْعَزِيز الَّذِي لَيْسَ لعبيده أَن يتصرفوا فِي أنفسهم إِلَّا باذنه فَكيف فِي صِفَاته وأسمائه
وسادسها أَن هَذَا مَمْنُوع بالبرهان فَلَا يجوز التَّجَوُّز فِيهِ كَمَا لَا يجوز أَن يُسمى سبحانه وتعالى ظَالِما مجَازًا وَذَلِكَ الْبُرْهَان هُوَ إِخْبَار كتاب الله تَعَالَى الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه عَن حسن جَمِيع مخلوقات الله وَذَلِكَ قَوْله عز وجل {ذَلِك عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الْعَزِيز الرَّحِيم الَّذِي أحسن كل شَيْء خلقه وَبَدَأَ خلق الْإِنْسَان من طين} وَقَالَ تَعَالَى {فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ} فَكيف يُضَاف إِلَى الحميد الْمجِيد السبوح القدوس الَّذِي تمدح بِأَنَّهُ أحسن الْخَالِقِينَ وَأَنه أحسن كل شَيْء خلقه بِغَيْر إِذن مِنْهُ أَنه خَالق جَمِيع من فِي الْعَالم من كل كذب
وظلم وخبث وَكفر وفحش وَقد نَص تَعَالَى فِي كِتَابه الْكَرِيم على أَن أسماءه كلهَا حسنى وَالْحُسْنَى تَأْنِيث الاحسن وَالْحسن الرَّاجِع إِلَى الْحِكْمَة أنسب أولى بِكُل مخلوقات الله الْحَسَنَة من الْحسن الرَّاجِع إِلَى الصُّورَة فَمَا كَانَ من الصُّورَة الْحَسَنَة جمع الحسنين كَمَا قَالَ تَعَالَى {وصوركم فَأحْسن صوركُمْ} وَمَا لم يظْهر فِيهِ حسن الصُّورَة من الْحِجَارَة وَالتُّرَاب وَالْجِبَال لم يخل من حسن الْحِكْمَة وَالله سبحانه وتعالى أعلم
أَلا ترى أَن جَمِيع عِبَارَات الْكتاب وَالسّنة وَأهل اللُّغَة فِي الْجَاهِلِيَّة والاسلام وَالْمُسْلِمين من أهل السّنة والبدعة من الْعَامَّة والخاصة وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ بل والجبرية الْجَهْمِية المبتدعة كلهم عبروا عَن أَفعَال الْعباد بأسمائها الْخَاصَّة بهَا ويكسب الْعباد لَهَا وفعلهم واختيارهم دون خلق الله تَعَالَى لَهَا فيهم فَيَقُولُونَ إِذا زنى الزَّانِي مُخْتَارًا غير مكره وَجب عَلَيْهِ الْحَد وَكَذَلِكَ إِذا قتل وَجب عَلَيْهِ الْقصاص وَإِذا كفر وَجب جهاده وَنَحْو ذَلِك وَلَا يَقُول أحد مِنْهُم حَتَّى الجبرية الضلال إِذا خلق الله الزِّنَا فِي الزَّانِي جلد وَإِذا خلق الْقَتْل فِي الْقَاتِل قتل وَإِذا خلق الْكفْر فِي الْكَافِر حورب وَهَذِه كتبهمْ شاهدة بذلك وَلَو أَن أحدا قَالَ ذَلِك وحافظ عَلَيْهِ فَلم ينْطق بِمَعْصِيَة منسوبة إِلَى فاعلها وَبدل نِسْبَة الْمعاصِي إِلَى أَهلهَا بنسبتها إِلَى خلق الله تَعَالَى فِي أَهلهَا فِي جَمِيع كَلَامه أَو كثير مِنْهُ لَكَانَ ذَلِك من أوضح الْبدع وأشنع الشنع وَشر الْأُمُور المحدثات الْبَدَائِع
وَأما سَائِر من قَالَ أَن أَفعَال الْعباد مَقْدُور بَين قَادِرين من غير تَمْيِيز بِالذَّاتِ فَالْكَلَام مَعَهم مثل الْكَلَام مَعَ الاشعرية لأَنهم وَإِن لم يفرقُوا بَين فعل الرب عز وجل وَفعل العَبْد بِالذَّاتِ فانهم يفرقون بَينهمَا بالوجوه والاعتبارات وَذَلِكَ أَمر ضَرُورِيّ فانهم لابد أَن يَقُولُوا أَن العَبْد فعل الطَّاعَة على وَجه الذلة والخضوع والامتثال والتقرب وَالرَّغْبَة والرهبة وَإِن الله تَعَالَى منزه عَن جَمِيع هَذِه الْوُجُوه وَإِن الله تَعَالَى فعل ذَلِك الْفِعْل إِمَّا لغير عِلّة كَمَا هُوَ قَول بَعضهم وَإِمَّا على جِهَة الْحِكْمَة وَالرَّحْمَة وَالنعْمَة أَو على جِهَة الْحِكْمَة والابتلاء والامتحان فَثَبت بِهَذَا أَن فعل العَبْد مركب من أَمريْن اثْنَيْنِ أَحدهمَا من
الذَّات الَّتِي هِيَ مَقْدُور بَين قَادِرين وَثَانِيهمَا من تِلْكَ الْوُجُوه والاعتبارات الَّتِي يكفر من أجازها على الله سُبْحَانَهُ أَو سَمَّاهُ بهَا بالاجماع وَالله تَعَالَى مَا شَارك العَبْد إِلَّا فِي أجمل هذَيْن الامرين وأحمدهما فَكيف ينْسب اليه أخبثهما وشرهما وأقبحهما بِغَيْر إِذن مِنْهُ وهم إِنَّمَا فروا الْجَمِيع من قَول الجبرية لما يلْزم فِيهِ من نَحْو هَذِه الْأَشْيَاء فَيجب عَلَيْهِم أَن يتموا النزاهة عَن خبائث مَذْهَب الجبرية وَمَا يُقَارِبه ويضارعه مِمَّا لم ترد النُّصُوص الشَّرْعِيَّة بِوُجُوبِهِ على الْمُسلمين ودخوله فِي أَرْكَان الدّين
وَاعْلَم أَنه قد تقرر بالِاتِّفَاقِ أَن اسْم الْخلق لَا يُطلق على شَيْء كالتخليق قَالَ تَعَالَى فِي المضغة {مخلقة وَغير مخلقة} أَي مصورة وَغير مصورة وَلذَلِك قَالَ أهل السّنة أَن الْقُرْآن لَا يدْخل فِي قَوْله تَعَالَى {خَالق كل شَيْء} لقَوْله تَعَالَى (أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر) وهما شَيْئَانِ فَدلَّ على أَن قَوْله تَعَالَى {خَالق كل شَيْء} مَخْصُوص بِكُل شَيْء يُسمى مخلوقا وَأَن هَذِه الْآيَة فِي عَالم الْخلق دون عَالم الْأَمر فَثَبت أَنه لَا حجَّة لمن سمى الله خَالِقًا لمعاصي الْعباد فِي قَوْله تَعَالَى {خَالق كل شَيْء} حَتَّى يدل على أَنَّهَا تسمى مخلوقة فِي اللُّغَة وَكَيف وَقد اتفقنا على انها تسمى كسبا وَعَملا وفعلا لَا خلقا
أَلا ترى أَن من جعل العَبْد من أهل السّنة مؤثرا فِي الذَّات باعانة الله تَعَالَى لَا يُسَمِّيه خَالِقًا باعانة الله تَعَالَى مَا ذَلِك إِلَّا لِأَن هَذِه الذَّات هِيَ الأكوان وَكَونهَا ذَوَات غير صَحِيح فِي لُغَة الْعَرَب وَفِي النّظر الصَّحِيح عِنْد محققي أهل الْمَعْقُول وَتَسْمِيَة الأشعرية لَهَا خلقا لله تَعَالَى لم تصح لُغَة يُوضحهُ أَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيّ وَالشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق وَمن تابعهما من أهل السّنة لم يسموا العَبْد خَالِقًا مَعَ أَنهم يَقُولُونَ أَن قدرته هِيَ الَّتِي أثرت فِي ذَات فعله وَحدهَا بتمكين الله تَعَالَى ومشيئته تَعَالَى من غير زِيَادَة مُشَاركَة بَينه وَبَين قدرَة الله تَعَالَى فِي تِلْكَ الذَّات الَّتِي هِيَ فعله وَكَسبه
فَثَبت أَن الْمَعْنى أَن الله خَالق كل شَيْء مَخْلُوق أَي يُسمى مخلوقا
فِي لُغَة الْعَرَب الَّتِي نزل عَلَيْهَا الْقُرْآن وَلم يكن أحد مِنْهُم يَقُول خلقت قيَاما وَلَا كلَاما وَلَا صَلَاة وَلَا صياما وَنَحْو ذَلِك وَلذَلِك ورد الْوَعيد للمصورين المشبهين بِخلق الله تَعَالَى فَلَو كَانَت أفعالنا خلق الله تَعَالَى لم يحرم علينا التَّشْبِيه بِخلق الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ لعن الْوَاشِمَات الْمُغيرَات خلق الله تَعَالَى وَلَا شكّ فِي جَوَاز تغييرنا لكثير من أفعالنا وَوُجُوب ذَلِك فِي كثير مِنْهَا وَكَذَلِكَ قَالَ الله تَعَالَى بعد ذكر مخلوقاته من الاجسام وتصويرها وَسَائِر مَا لَا يقدر الْعباد عَلَيْهِ من الاعراض {هَذَا خلق الله فأروني مَاذَا خلق الَّذين من دونه} وَإِنَّمَا يعرف الْخلق فِي اللُّغَة لايجاد الاجسام وَيدل على مَا ذكرته مَا حَكَاهُ الله تَعَالَى وذم الشَّيْطَان بِهِ من قَوْله {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} فَدلَّ على أَن التَّغْيِير الَّذِي هُوَ فعلهم لَيْسَ هُوَ خلق الله تَعَالَى بل هُوَ مُغَاير لَهُ وَلذَلِك نَظَائِر كَثِيرَة ذكرتها فِي العواصم
وَقد احْتج البُخَارِيّ فِي جَامعه الصَّحِيح بِمثل هَذَا على أَن الْكَلَام لَا يُسمى مخلوقا فَقَالَ فِي بَاب قَول الله عز وجل {وَلَا تَنْفَع الشَّفَاعَة عِنْده إِلَّا لمن أذن لَهُ حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم} وَلم يقل مَاذَا خلق ربكُم ذكره فِي آخر كِتَابه الْجَامِع الصَّحِيح فِي الْبَاب الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ من أَبْوَاب الرَّد على الْجَهْمِية وَقَالَت البغدادية الْخلق اسْم يخْتَص الايجاد بِغَيْر مُبَاشرَة
فان قَالَ جَاهِل حجَّة الاشعرية على أَن أَعمالنَا مخلوقة أَنَّهَا ذَوَات لَا صِفَات وَلَا أَحْوَال وَلَا يقدر على شَيْء من الذوات إِلَّا الله تَعَالَى
فَالْجَوَاب من وُجُوه الأول أوضحها وَهُوَ أَنهم لَا يَقُولُونَ بذلك بل يَقُولُونَ أَن أفعالنا هِيَ الاحوال وَالْوُجُوه والاعتبارات الْمُتَعَلّقَة بِتِلْكَ الذوات وَذَلِكَ هُوَ معنى الْكسْب كَمَا تقدم
وَثَانِيها أَنهم منازعون فِي أَن الأكوان الَّتِي هِيَ الْحَرَكَة والسكون والاجتماع والافتراق ذَوَات بل هِيَ صِفَات أَو أَحْوَال كَمَا ذهبت اليه
الجماهير وَأهل التَّحْقِيق كَابْن تَيْمِية وَأَصْحَابه مِنْهُم وَأَبُو الْحُسَيْن وَأَصْحَابه من الْمُعْتَزلَة وَمن لَا يُحْصى كَثْرَة من سَائِر طوائف الشِّيعَة والمتكلمين وَثَالِثهَا أَنه لَا يسلم لَهُم أَنه لَا يقدر على شَيْء من الذوات إِلَّا الله تَعَالَى بل قد خالفهم فِي ذَلِك امامهم الْكَبِير أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ وَالشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق وأصحابهما فَقَالُوا أَنه يقدر على ذَلِك من أقدره الله تَعَالَى عَلَيْهِ ومكنه مِنْهُ وأراده لَهُ كَمَا تقدم
إِذا تقرر هَذَا فلنكمل الْفَائِدَة بِمَا بَقِي لَهُم من الْأَدِلَّة الَّتِي يُمكن أَن يغتر بهَا أحد فَمن ذَلِك قَول الْخَلِيل عليه السلام فِي مجادلة عباد الاصنام وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَنهُ {قَالَ أتعبدون مَا تنحتون وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} وَقد احْتج بهَا أَبُو عبيد لَهُم وَأنكر عَلَيْهِ ابْن قُتَيْبَة كَمَا ذكره فِي مُشكل الْقُرْآن وَكِلَاهُمَا من أهل السّنة وَقَالَ ابْن كثير الشَّافِعِي فِي أول الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة فِي قصَّة إِبْرَاهِيم عليه السلام وَسَوَاء كَانَت مَا مَصْدَرِيَّة أَو بِمَعْنى الَّذِي فَمُقْتَضى الْكَلَام أَنكُمْ مخلوقون والاصنام مخلوقة فَكيف عبَادَة مَخْلُوق لمخلوق فَأَشَارَ إِلَى مِثَال الْخلاف وَلم يتَعَرَّض لترجيح
وَاعْلَم أَن من يتَأَمَّل هَذَا توهم أَن الْآيَة من النُّصُوص على خلق الافعال وَلذَلِك يستروح كثير من الْقَائِلين بذلك اليها ويستأنسون بهَا وَلَو أنصفوا مَا استحلوا ذَلِك فان القَوْل فِي تَفْسِير كتاب الله تَعَالَى بِغَيْر علم حرَام بِالنَّصِّ وَفِيه حديثان معروفان عَن ابْن عَبَّاس وجندب بن عبد الله وَلَا خلاف فِي أَن فِي الْآيَة اجمالا واشتراكا بِالنّظرِ إِلَى لَفْظَة مَا تَعْمَلُونَ فانها مُحْتَملَة أَن تكون بِمَعْنى الَّذِي تَعْمَلُونَ كَقَوْلِه تَعَالَى فِي سُورَة يس {ليأكلوا من ثمره وَمَا عملته أَيْديهم} فَجعل مَا عملته أَيْديهم مَأْكُولا وكل مَأْكُول مَخْلُوق لله وَحده لَا عمل للْعَبد فِيهِ ألبته وَقد سَمَّاهُ مَعْمُولا لأيديهم لمباشرتهم لَهُ وَأَن تكون مَصْدَرِيَّة بِمَعْنى وعملكم وَلما كَانَ ذَلِك كَذَلِك وَلم يحل أَن يتقول على الله تَعَالَى إِلَّا بِوَجْه صَحِيح وَإِلَّا وَجب الْوَقْف ورد ذَلِك إِلَى الله تَعَالَى لقَوْله {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} لَكِن هُنَا وُجُوه ترجح أَنَّهَا بِمَعْنى الَّذِي تَعْمَلُونَ وَهُوَ الاصنام الَّتِي خلقهَا الله تَعَالَى حِجَارَة وعملونا أصناما
فَهِيَ معمولة مصنوعة حَقِيقَة وَقد يُسمى الْمَعْمُول عملا مجَازًا وَحَقِيقَة عرفية وَلَا حَاجَة بِنَا إِلَى ذَلِك فكونها معمولة كَاف فِي ذَلِك
وأصل ذَلِك أَن فعل العَبْد يَنْقَسِم إِلَى مَا يكون لَازِما فِي مَحل الْقُدْرَة مثل حَرَكَة يَد الصَّانِع وَإِلَى مَا يتَعَدَّى إِلَى مخلوقات الله تَعَالَى مثل تَصْوِير الصَّانِع الَّذِي يبْقى أَثَره فِي الْحِجَارَة وَغَيرهَا وَهُوَ الَّذِي منع ثُمَامَة المعتزلي والمطرفية أَن تكون فعلا للْعَبد فالآية تحْتَمل بِالنّظرِ إِلَى لَفظهَا ثَلَاثَة أَشْيَاء أَحدهَا أَنه تَعَالَى خلق جَمِيع أَفعَال الْعباد على الْعُمُوم كَمَا قَالَ الْمُخَالف الثَّانِي أَنه خلق الاصنام الَّتِي هِيَ معمولات الْعباد ومصنوعاتهم لما فِيهَا من أثر تصويرهم وتشكيلهم
الثَّالِث أَنه خلق الاصنام الَّتِي فِيهَا عَمَلهم وتصويرهم وعَلى هَذَا الثَّالِث يكون التَّقْدِير وَمَا تَعْمَلُونَ فِيهِ وَالثَّانِي من هَذِه الِاحْتِمَالَات هُوَ الرَّاجِح لوجوه
الْوَجْه الأول أَن الله تَعَالَى سَاق الْآيَة فِي حجاج الْخَلِيل عليه السلام للْمُشْرِكين وَأورد حجَّته عَلَيْهِم فِي بطلَان ذَلِك وتقبيحه وَلَيْسَ فِي كَون أَفعَال الْعباد مخلوقة لله تَعَالَى حجَّة على ذَلِك من هَذِه الْجِهَة قطّ وَفِي كَون الاصنام مخلوقة لله تَعَالَى ذواتا وأعيانا معمولة للعباد نحتا وتصويرا أوضح برهَان على بطلَان ربوبيتها
الْوَجْه الثَّانِي أَن الله تَعَالَى نَص على هَذَا الْمَعْنى فِي غير هَذِه الْآيَة وَالْقُرْآن يُفَسر بعضه بَعْضًا وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْفرْقَان {وَاتَّخذُوا من دونه آلِهَة لَا يخلقون شَيْئا وهم يخلقون} وَقَالَ فِي سُورَة النَّحْل {وَالَّذين يدعونَ من دون الله لَا يخلقون شَيْئا وهم يخلقون}
الْوَجْه الثَّالِث أَنه قد ورد فِي حَدِيث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا يَقْتَضِي ذَلِك وَقد أجمع أهل التَّفْسِير وَمن يحْتَج بِهِ من الجماهير إِلَى الرُّجُوع إِلَى مثل ذَلِك فِي مثل هَذِه الْمَوَاضِع المجملة من كتاب الله تَعَالَى وَذَلِكَ مَا أخرجه الْحَاكِم أَو عبد الله فِي الْمُسْتَدْرك فِي أول كتاب الْبر مِنْهُ فَقَالَ أخبرنَا
أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله الزَّاهِد الاصبهاني أخبرنَا أَبُو إِسْمَاعِيل مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن يحيى بن مُحَمَّد الْمدنِي السجْزِي حَدثنِي أبي عَن عبيد بن يحيى عَن معَاذ بن رِفَاعَة بن رَافع الزرقي عَن أَبِيه رِفَاعَة ابْن رَافع وَكَانَ قد شهد بَدْرًا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه خرج وَابْن خَالَته معَاذ بن عفراء حَتَّى قدما مَكَّة فَلَمَّا هبطا من الثَّنية رَأيا رجلا تَحت الشَّجَرَة إِلَى قَوْله قُلْنَا من أَنْت قَالَ انزلوا فنزلنا فَقُلْنَا أَيْن الرجل الَّذِي يَدعِي وَيَقُول مَا يَقُول فَقَالَ أَنا فَقلت لَهُ فاعرض عَليّ فَعرض علينا الاسلام فَقَالَ من خلق السَّمَوَات وَالْجِبَال فَقُلْنَا الله فَقَالَ فَمن خَلقكُم قُلْنَا الله قَالَ فَمن عمل هَذِه الاصنام قُلْنَا نَحن قَالَ فالخالق أَحَق بِالْعبَادَة أم الْمَخْلُوق فَأنْتم عملتوها وَالله أَحَق أَن تَعْبُدُوهُ من شَيْء عملتموه قَالَ الْحَاكِم هَذَا حَدِيث صَحِيح الاسناد فسماها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مخلوقة لله ومعمولة للعباد حَيْثُ قَالَ إِن الْخَالِق أَحَق بِالْعبَادَة من الْمَخْلُوق وَقَالَ إِن الله أَحَق بِالْعبَادَة من شَيْء عملتموه فَنَاسَبَ حجَّة أَبِيه ابراهيم عليهما السلام وماثلها فَفرق بَين الْخلق وَالْعَمَل وَجعل الاصنام مخلوقة من حَيْثُ هِيَ من الْجبَال الَّتِي قد قرر عَلَيْهِم أَنَّهَا مخلوقة وَجعلهَا معمولة من حَيْثُ أَنَّهَا لَا تسمى أصناما إِلَّا بعد تصويرهم وتشكيلهم لَهَا
الْوَجْه الرَّابِع أَن الْمَعْنى إِذا كَانَ على مَا ذكرنَا حصل مِنْهُ تَنْبِيه الْمُشْركين على أَنهم مثل الاصنام فِي كَونهم مخلوقين وَلَيْسَ يَنْبَغِي أَن يكون العَبْد والرب من جنس وَاحِد لَا سِيمَا وَالْعَابِد مِنْهُمَا أشرف من المعبود بِالضَّرُورَةِ من جِهَتَيْنِ الْجِهَة الأولى أَنه حَيّ والصنم جماد وَالثَّانيَِة أَنه الَّذِي عمل صُورَة معبودة من الْأَصْنَام ونحته وشابه صورته بِخلق الله تَعَالَى وَهُوَ من هَذِه الْجِهَة يُسمى مَعْمُولا لَهُ ومصنوعا كَمَا يُقَال هَذَا السَّيْف صَنْعَة فلَان وَعَمله وَمَا أشبه ذَلِك من تصرف الصناع فِي خلق الله تَعَالَى فِي الحلى والاصباغ وَسَائِر المسببات وَهِي حقائق عرفية وَلم ينكرها إِلَّا ثُمَامَة والمطرفية على مَا تقدم بَيَانه
الْوَجْه الْخَامِس أَن قرينَة الْحَال وَصِيغَة الْبَيَان تَقْتَضِي أَن يكون قَوْله وَمَا تَعْمَلُونَ مُوَافقا فِي الْمَعْنى لقَوْله تَعَالَى {مَا تنحتون} فِي أَولهَا لِأَنَّهُ
صدر الْآيَة الْكَرِيمَة بانكار عبَادَة المنحوت ثمَّ أكد ذَلِك الانكار بِكَوْن الْعِبَادَة لَهُ وَقعت فِي حَال خلق الله لَهُ لكنه سَمَّاهُ فِي آخر الْآيَة مَعْمُولا وَفِي أَولهَا منحوتا لكَرَاهَة تَكْرِير الْأَلْفَاظ المتقاربة فِي بلاغة بلغاء الْعَرَب كَمَا خَالف اللَّفْظ فِي قَوْله {فأخرجنا من كَانَ فِيهَا من الْمُؤمنِينَ فَمَا وجدنَا فِيهَا غير بَيت من الْمُسلمين} مَعَ أَن الْمُسلمين فِي آخر الْكَلَام هم الْمُؤْمِنُونَ المذكورون فِي أَوله وَالَّذِي يدل على ذَلِك أَن الْوَاو حَالية فِي قَوْله تَعَالَى {وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} فَالْمَعْنى كَيفَ غفلتم عَن قبح عبادتكم لَهَا وَالْحَال هَذِه
وَأَنت إِذا نظرت فِي طباق الْكَلَام وسياقه لم يحسن قطّ أَن يكون الْمَعْمُول غير المنحوت وَوَجَب أَن يكون هُوَ إِيَّاه أما أَنه لَا يحسن فلَان الْجُمْلَة الحالية تَقْتَضِي شدَّة النكارة فِي مثل هَذَا الْموضع وَلنْ يَصح أَن تقتضيها إِلَّا بذلك كَمَا تَقول أتجفو زيدا وَهُوَ أَبوك فَلَا يجوز أَن يكون الْأَب غير زيد كَمَا لَا يجوز أَن تَقول أتجفو زيدا وَأَبُوك خَالِد حَيْثُ لَا يكون بَينهمَا مَا يُوجب زِيَادَة النكارة وَلَو كَانَ الْمَعْمُول غير المنحوت لم يكن الشّرك مَعَه أقبح إِذا كَانَ الْمَعْمُول هُوَ المنحوت كَانَ الشّرك مَعَه أقبح وَكَذَلِكَ يكون الشّرك أقبح مَعَ عدم خلق الْأَعْمَال بِخِلَاف الشّرك مَعَ خلق الاعمال فانه لَيْسَ بأقبح مِنْهُ مَعَ عدم خلقهَا بل يلْزم أَن لَا يقبح وَأما أَنه يجب أَن يكون الْمَعْمُول هُوَ المنحوت فَلَمَّا فِي ذَلِك من زِيَادَة قبح الشّرك لِأَنَّهُ لَا يخفي على عَاقل أَن أقبح الشّرك أَن يَجْعَل العَبْد الْمَخْلُوق شَرِيكا لرَبه الْخَالِق لَهُ وَذَلِكَ الشَّرِيك مَخْلُوق لرَبه باقرار العَبْد وَلَا سِيمَا وَذَلِكَ الشَّرِيك الْمَخْلُوق جماد مسخر للْعَبد مَصْنُوع لَهُ ينحته ويكسره ويشكله ويطمسه ويضعه وَيَرْفَعهُ ويدنيه ويقصيه ويتصرف أَنْوَاع التَّصَرُّف فِيهِ
الْوَجْه السَّادِس أَن الْآيَة الْكَرِيمَة نزلت فِي خلق الْمَفْعُول بِهِ الْمُنْفَصِل عَن مَحل قدرَة العَبْد لَا فِي الْفِعْل نَفسه لقَوْله تَعَالَى {ليأكلوا من ثمره وَمَا عملته أَيْديهم} وَلَا خلاف بَين الْمُعْتَزلَة والأشعرية أَنه مَخْلُوق لله تَعَالَى وَكَذَلِكَ صَنْعَة المداد وَسَائِر الاصباغ والمسببات مثل ازهاق الْأَرْوَاح
بالجراح والتغريق وَالتَّحْرِيق وَمثل السحر وآثاره وَلذَلِك احْتج الشهرستاني وَغَيره بِهَذِهِ الصُّورَة على الْمُعْتَزلَة حِين أَنْكَرُوا مَقْدُورًا بَين قَادِرين مَعَ اخْتِلَاف الْوُجُوه على أَنه لَا يَصح عَنْهُم انكار مثل ذَلِك وَمَعَ نزُول الْآيَة فِي هَذَا بالاجماع كَمَا ذكره ابْن كثير بل كَمَا هُوَ مَعْلُوم فَلَا وَجه للْقطع بتعديتها بل لَا يَصح ظُهُور ذَلِك على جِهَة الظَّن لما فِي عُمُوم مَا من الْخلاف وَلما فِي تَعديَة الْعُمُوم على غير مَا نزل فِيهِ من ذَلِك وَلما فِي خلاف ذَلِك من المرجحات وَلذَلِك وَأَمْثَاله لم تكن الْآيَة نصا وَلَا ظَاهرا بَين الظُّهُور فِي هَذِه الْمَسْأَلَة
الْوَجْه السَّابِع أَن النَّص على أَن أَعْمَالهم مخلوقة لله تَعَالَى يُنَافِي توبيخهم عَلَيْهَا والاستنكار الشَّديد لصدورها عَنْهُم لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون ورد على مثل الشهرستاني والباقلاني من أَئِمَّة الأشعرية الَّذِي عرفُوا الْكَلَام فِي اللَّطِيف واعتقدوا صِحَة مَقْدُور بَين قَادِرين وَأَن أَفعَال الْعباد لَا تنْسب اليهم وحدهم لنُقْصَان قدرتهم عَن الِاسْتِقْلَال وَلَا إِلَى الله وَحده لكَمَال حجَّته عَلَيْهِم وقدسه عَن نقائصهم فَهَؤُلَاءِ لَو ورد عَلَيْهِم النَّص على خلق الاعمال لم يشكل عَلَيْهِم ظَاهره وَلَكِن يكون ذكره فِي هَذَا الْموضع غير مُنَاسِب للبلاغة لِأَن الْكَلَام البليغ لابد أَن يُنَاسب مُقْتَضى الْحَال وَمُقْتَضى الْحَال هُنَا زِيَادَة التقبيح والتوبيخ وَهُوَ لَا يزِيد على هَذَا التَّقْدِير وَلَكِن هَذَا التَّقْدِير مَعْلُوم الْبطلَان عِنْد الْجَمِيع واما أَن يكون الْخطاب بِهَذَا النَّص على خلق الاعمال ورد على أَجْهَل الْعَوام الطغام الَّذين عبدُوا لشدَّة غباوتهم الاصنام فانهم إِذا خوطبوا بِأَن أَعْمَالهم مخلوقة لله تَعَالَى لَا يسْبق إِلَى أفهامهم إِلَّا أَنه سبحانه وتعالى مُسْتَقل بهَا غير مشارك فِيهَا وَحِينَئِذٍ ينقص ذَلِك التقبيح أَو يبطل أَو يتناقض الْكَلَام وينفتح بَاب الِاعْتِرَاض على الْخَلِيل عليه السلام حِينَئِذٍ لاعدائه وَيرْفَع الشَّيْطَان رَأسه إِلَى الهامهم الزام الِاحْتِجَاج على الرُّسُل بِالْقدرِ وافحامهم بذلك كَمَا حكى الله تَعَالَى ذَلِك عَنْهُم فِي غير آيَة وكل عَاقل يُرِيد افحام خَصمه أَو ارشاده لَا يُورد عِنْد جداله أعظم شبه الْخصم فِي حَال الصولة عَلَيْهِ بِالْحجَّةِ القاطعة فَلم يكن الْخَلِيل عليه السلام يلقنهم فِي هَذِه الْحَال أعظم شبههم الَّتِي ضل بهَا كثير من الْمُسلمين بعد الاسلام ودق النّظر عَن جوابها على كثير من الْعلمَاء الاعلام مَعَ مَا أُوتِيَ الْخَلِيل
عَلَيْهِ السَّلَام من حسن الْعبارَة وإيضاح الْحجَّة أَلا ترى إِلَى قَوْله عليه السلام فِيمَا حكى عَنهُ من حجاجهم فِي سُورَة العنكبوت {إِنَّمَا تَعْبدُونَ من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا} كَيفَ عقب بطلَان مَا هم عَلَيْهِ مَا يدل على سوء اختيارهم فِي اخْتلَافهمْ الافك افتراء من عِنْد أنفسهم فَهَذَا هُوَ الْمُنَاسب لحَال المناظرة أَلا ترَاهُ لَا يصلح أَن يَقُول عوض قَوْله وتخلقون افكا وَالله الَّذِي خلق هَذَا الافك فِيكُم وأراده مِنْكُم لِأَنَّهُ يكون بذلك كالمعتذر لَهُم فِي حَال النكير عَلَيْهِم فَيكون مناقضا لقصده فَكَذَلِك لَو جعلنَا الْخلق بِمَعْنى انشاء الْعين فِي قَوْله {وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} وَالْقُرْآن يُفَسر بعضه بَعْضًا كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {كتابا متشابها} أَي يشبه بعضه بَعْضًا فِي مَعَانِيه وَأَحْكَامه فَهَذِهِ الْوُجُوه ترجح أَن مَا تَعْمَلُونَ بِمَعْنى لذِي تَعْمَلُونَ على أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن تجْعَل الْأَصْنَام هِيَ المعمولة لِأَنَّهَا لَا تسمى أصناما الا بعد عَمَلهم أَو على أَن تجْعَل مَعْمُولا فِيهَا وَلَوْلَا مَا شهد لذَلِك من الْقُرْآن وَالسّنة والمرجحات الضرورية مَا رضيت أَن أَتكَلّم فِي كتاب الله تَعَالَى بِغَيْر علم وأقصى مَا فِي الْبَاب أَن يكون الَّذِي ذكرته مُحْتملا غير رَاجِح فَكيف يجوز الْقطع بِأَنَّهُ غير مُرَاد الله تَعَالَى وَالْقطع على أَن نقيضه هُوَ المُرَاد والاحتجاج بذلك على مَسْأَلَة كبرى قَطْعِيَّة من مهمات مسَائِل الِاعْتِقَاد الَّتِي أوقعت الْفرْقَة بَين الْمُسلمين والعداوة وَالله تَعَالَى يوفق الْجَمِيع إِلَى مَا أمرنَا بِهِ رَبنَا سبحانه وتعالى من الِاجْتِمَاع ويعصمنا عَمَّا نَهَانَا عَنهُ من التَّفَرُّق وَلنْ يُوجد إِلَى ذَلِك سَبِيل أوضح من ترك مَا لم يَتَّضِح وَالرُّجُوع إِلَى مَا استبان من الْكتاب وَالسّنة والتقديم لَهُ على مَا وَقع فِيهِ الِاحْتِمَال وَالِاخْتِلَاف وَالله عِنْد لِسَان كل قَائِل وَنِيَّته وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل
وَقد أوضحت فِي العواصم بَقِيَّة المباحث وَبطلَان دَعْوَى الاجماع على خلق الْأَعْمَال إِلَّا بِمَعْنى التَّقْدِير وَسبق الْقَضَاء وجفوف الاقلام كَمَا قد ورد فِي كتاب الله تَعَالَى وَعَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم واتفقت الامة المرحومة المعصومة على صِحَة مَعْنَاهُ أَنه لَا يَقْتَضِي افحام الرُّسُل وَلَا يُنَاقض كَمَال
حجَّة الْحَكِيم الْعَلِيم على مَا عَصَاهُ من عباده وَذكر ذَلِك كُله هُنَا يخرجنا عَن قصد الِاخْتِصَار بالمرة
وَلَا نزاع فِي أَن الْأَفْعَال مخلوقة بِمَعْنى مقدرَة وَأما بِغَيْر ذَلِك الْمَعْنى فان سلمنَا أَن ذنوبنا تسمى مخلوقة لله تَعَالَى فِي اللُّغَة بِغَيْر ذَلِك الْمَعْنى مَعَ صدورها منا باختيارنا على وَجه تقوم الْحجَّة بِهِ علينا فَلَا وَجه لادخال ذَلِك فِي مسَائِل الِاعْتِقَاد وأركان الاسلام وواجبات الايمان وَلَا حجَّة على ذَلِك وَلَا شُبْهَة وَلَا حرج على من لم يُؤمن بذلك لجهله بِهِ فَلَيْسَ كل حق يجب أَن يدْخل ذَلِك من وجود الموجودات وَعدم المعدومات وَقد علمنَا نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ديننَا كَمَا علمه ربه عز وجل وَحصر لنا أَرْكَان الاسلام وَعلمنَا الايمان والاحسان فَمَا عد فِيهِ خلق الافعال وَإِنَّمَا عد فِيهِ سبق الاقدار كَمَا تَوَاتر فِي الاخبار وَلذَلِك لم يذكرهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ كَمَا ذكر الْقدر وَغَيره فِي أواخره ثمَّ انْظُر مَعَ تَسْلِيم نفي الْجَبْر وَتَسْلِيم قيام الْحجَّة لله تَعَالَى بِخلق الْقُدْرَة وتمكين الْمُكَلّفين أَي ثَمَرَة تبقي لاعتقاد أَن الْأَفْعَال مخلوقة وَإِنَّمَا حَافظ على ذَلِك فِي الأَصْل من يَقُول بالجبر ثمَّ ظن كثير من أهل الْكَلَام والْحَدِيث بعد ذَلِك أَنه من لَوَازِم عقائد السّنة فقالوه مَعَ نفي الْجَبْر وَلذَلِك ذكر ابْن الْحَاجِب فِي مُخْتَصر الْمُنْتَهى أَن الْأَشْعَرِيّ ألزم من قَوْله بذلك القَوْل بتكليف مَا لَا يُطَاق وَفِي كَلَامه هَذَا دلَالَة على أَن القَوْل مِمَّا يخْتَص بالأشعري وَحده فِي أول الْأَمر وَالله أعلم
وعَلى تَسْلِيم ذَلِك كُله فاعتقاد أَنَّهَا مخلوقة بِمَعْنى مقدرَة يَكْفِي وَهُوَ صَحِيح بالاجماع كَمَا تقدم وَفِيه الحيطة والعصمة عَن تعديه إِلَى مواقع الْخلاف ومظان الْبِدْعَة وَلَكِن يعبر عَنْهَا بِأَنَّهَا مقدرَة لِأَنَّهَا صَرِيح عبارَة الْكتاب وَالسّنة وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَلَا يعبر عَنْهَا بِأَنَّهَا مخلوقة لِأَنَّهَا توهم خلاف الصَّوَاب وَلِأَنَّهَا عبارَة الجبرية وَأهل الْكَلَام الْمُتَأَخِّرين عَن عصر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ وَلِأَنَّهَا مُخْتَلف فِيهَا وَقد نهينَا عَن الِاخْتِلَاف واختياره مَعَ التَّمَكُّن من تَركه وَقد نهى الله تَعَالَى عَن قَوْلهم رَاعنا وَأمر أَن يَقُولُوا مَكَانَهُ انظرنا لمصْلحَة يسيرَة كَيفَ مَا نَحن فِيهِ وَالله الْهَادِي وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَسلم