المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل إِذا عرفت مَا قدمت لَك بِمَا عَرفته فِي هَذَا الْمُخْتَصر - إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات

[ابن الوزير]

الفصل: ‌ ‌فصل إِذا عرفت مَا قدمت لَك بِمَا عَرفته فِي هَذَا الْمُخْتَصر

‌فصل

إِذا عرفت مَا قدمت لَك بِمَا عَرفته فِي هَذَا الْمُخْتَصر أَو بِهِ رُبمَا أرشدك إِلَى مطالعته مِمَّا هُوَ أبسط مِنْهُ فِي هَذَا الْمَعْنى مثل تَرْجِيح أساليب الْقُرْآن وتكملته فَاعْلَم أَن مُعظم ابتداع المبتدعين من أهل الاسلام رَاجع إِلَى هذَيْن الامرين الباطلين الْوَاضِح بطلانهما كَمَا تقدم وهما لزِيَادَة فِي الدّين وَالنَّقْص مِنْهُ ثمَّ يلْحق بهما التَّصَرُّف فِيهِ بالعبارات المبتدعة بعد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ بِأَمْر ثَالِث لِأَنَّهُ من الزِّيَادَة فِي الدّين لكنه تفرد بالْكلَام وَحده لطول القَوْل فِيهِ وَعظم الْمفْسدَة المتولدة عَنهُ

فَمن الزِّيَادَة فِي الدّين أَن يرفع المظنون فِي العقليات أَو الشرعيات إِلَى مرتبَة الْمَعْلُوم وَهَذَا حرَام بالاجماع وَإِنَّمَا يخْتَلف النَّاس فِي التفطن لأسبابه وَسَيَأْتِي ذكر أَسبَابه فِي آخر الْكَلَام فِي الزِّيَادَة فِي الدّين مقسوما موضحا فِي صور أَربع يَأْتِي بَيَانهَا بعون الله تَعَالَى

وَمن الزِّيَادَة فِي الدّين أَن يدْخل فِيهِ مَا لم يكن على عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أَصْحَابه رضي الله عنهم مثل القَوْل بِأَنَّهُ لَا مَوْجُود إِلَّا الله كَمَا هُوَ قَول الاتحادية وَأَنه لَا فَاعل وَلَا قَادر إِلَّا الله كَمَا هُوَ قَول الجبرية وأمثال ذَلِك من الغلو فِي الدّين وَإِنَّمَا وَردت الشَّرَائِع بتوحيد الله فِي الربوبية وَذَلِكَ بِلَا إِلَه إِلَّا الله لَهُ الاسماء الْحسنى وتوابع ذَلِك المنصوصة وَالْمجْمَع عَلَيْهَا كتوحيده بِالْعبَادَة وَمن ذَلِك القَوْل بِأَن الله تَعَالَى صفة لم ترد فِي كتاب الله وَلَا فِي سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَلَا هِيَ من أَسْمَائِهِ الْحسنى وَلَا من مفهوماتها ولوازمها وان معرفَة هَذِه الصّفة وَاجِبَة واختراع اسْم لَهَا وَهِي الصّفة الاخص عِنْد بعض الْمُعْتَزلَة ويسمونها صفة الْمُخَالفَة أَيْضا وانها المؤثرة فِي سَائِر صِفَات الْكَمَال الذاتية الاربع وَهِي كَونه حَيا قَدِيما عَالما قَادِرًا

ص: 100

وَبهَا تخَالف ذَات الله سَائِر الذوات وَقد كفى فِي رد ذَلِك أَبُو الْحُسَيْن وَأَصْحَابه كَمَا ذكره مُخْتَار فِي الْبَاب السَّادِس من خَاتِمَة أَبْوَاب الْعدْل من كِتَابه الْمُجْتَبى

وَمن ذَلِك اثبات أهل الِاتِّحَاد لمثل ذَلِك أَو نَحوه فانهم يفرقون بَين الله تَعَالَى وَبَين اسْمه الاحد فيجعلون الْأَحَد مؤثرا فِي الله الْوَاحِد وَفِي سَائِر أَسْمَائِهِ ويجعلون الْأَحَد سَابِقًا فِي رُتْبَة الْوُجُود على الله ويجعلون الله فِي الرُّتْبَة الثَّانِيَة والاحد فِي الأولى ويسمون الثَّانِيَة هم والفلاسفة باسماء مبتدعة مِنْهَا الحضرة العمائية والواحدية والأحدية وَمِنْهَا حَضْرَة الارتسام وَمِنْهَا مرتبَة الربوبية والألوهية وَمِنْهَا الْحَقِيقَة الانسانية الكمالية وَمِنْهَا مرتبَة الامكان كَمَا حَقَّقَهُ الفرغاني فِي شرح نظم السلوك وَكَثِيرًا مَا يكررون الْفرق بَين الحضرة الأحدية والحضرة الواحدية ويعنون بالأحدية الْوُجُود الْمُطلق وَهُوَ عِنْدهم الْحق الَّذِي لَا نعت لَهُ وَلَا وصف كَقَوْل الْمَلَاحِدَة سَوَاء فِي نفي أَسْمَائِهِ تَعَالَى لكِنهمْ يثبتون الاسماء الْحسنى للْوَاحِد لَا للأحد وَهَذَا يلْزمهُم قَول الثنوية لكِنهمْ يَعْتَذِرُونَ عَنهُ بِأَن الله وأسماءه الْحسنى كلهَا خيالية لَا حَقِيقَة لَهَا وَلَا لشَيْء بعْدهَا وَلَا وجود لَهَا فَكل مَا عدا الْوُجُود الْمُطلق عِنْدهم خيال كطيف الخيال فِي الأحلام من الْأَنْبِيَاء وَالْجنَّة وَالنَّار وَمن صَحَّ هَذَا مِنْهُ فَهُوَ كفر بَين وَجَهل فَاحش فانه لَا ثُبُوت للوجود الْمُطلق فِي الْخَارِج أَلْبَتَّة وَإِنَّمَا الْمَعْلُوم وجوده عقلا وَشرعا هُوَ مَا نفوا وجوده من الله الْوَاحِد الرب الَّذِي لَهُ الاسماء الْحسنى والمثل الْأَعْلَى وَمَا نفوه من حَقِيقَة وجود جَمِيع كتبه وَرُسُله وخلقه ومعاده فَالله الْمُسْتَعَان

وَمن ذَلِك مَا انْفَرَدت بِهِ الأشعرية من دوَام وصف الله تَعَالَى بالْكلَام وَوُجُود ذَلِك فِي الْقدَم والأبد وَجعله مثل صفة الْعلم لَا يجوز خلوه عَنهُ طرفَة عين وَقد أوضح الْجُوَيْنِيّ الْقدح فِي ذَلِك فِي مُقَدّمَة كِتَابه الْبُرْهَان فِي أصُول الْفِقْه كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقه فالشرع لم يرد إِلَّا بِأَن الله تَعَالَى مُتَكَلم وَأَنه كلم مُوسَى تكليما وَنَحْو ذَلِك وَمَا زَاد على هَذَا فبدعة فِي الدّين قد أدَّت إِلَى التَّفَرُّق الْمنْهِي عَنهُ وَإِلَى الزامات قبيحة كَمَا سَيَأْتِي

وَمن ذَلِك مَا اتّفقت عَلَيْهِ الاتحادية وَبَعض الْمُعْتَزلَة بل جمهورهم وَهُوَ

ص: 101

اثبات الذوات فِي الْقدَم وَالْأَزَلُ بل اثبات الْعَالم كُله فيهمَا وَدَعوى الْفرق بَين ثُبُوته فِي الْعَدَم ووجوده فِيهِ فانهم يَقُولُونَ هُوَ ثَابت غير مَوْجُود وَقد جود الرَّد عَلَيْهِم فِي ذَلِك صَاحبهمْ الشَّيْخ أَبُو الْحُسَيْن وَأَصْحَابه مثل مَحْمُود ان الملاحمي فِي كِتَابه الْفَائِق وَالشَّيْخ مُخْتَار فِي كِتَابه الْمُجْتَبى وكشفوا الغطاء عَن بطلَان ذَلِك وَكفوا الْمُؤْنَة وَمن نظر فِي كَلَامهم فِي ذَلِك مَا يلْزم مِنْهُ من الالزامات الصعبة الْفَاحِشَة تَيَقّن مضرَّة الزِّيَادَة فِي الدّين على مَا جَاءَ بِهِ سيد الْمُرْسلين

وَمِثَال النَّقْص من الدّين قَول من يَقُول ان الله تَعَالَى لَيْسَ برحمن وَلَا رَحِيم وَلَا حَلِيم بِاللَّامِ على الْحَقِيقَة بل على الْمجَاز وَقَول من يَقُول أَنه سُبْحَانَهُ لَيْسَ بِحَكِيم على الْحَقِيقَة بل بِمَعْنى مُحكم لمصنوعاته لَا أَن لَهُ فِي ذَلِك الاحكام حِكْمَة أصلا وَالْمَقْصُود معرفَة طَرِيق النجَاة بِأَمْر وَاضح وَلَا يخفى على من لَهُ أدنى عقل وتمييز من الْمُسلمين أَن نجاة أهل الاسلام فِي اتِّبَاع الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَلُزُوم مَا جَاءَ بِهِ من غير تصرف فِيهِ بِزِيَادَة وَلَا نُقْصَان وَلَا ابتداع عبارَة لم تكن وَسَوَاء كَانَت تِلْكَ الزِّيَادَة أَو النَّقْص حَقًا أَو بَاطِلا فان زِيَادَة الْحق المبتدع فِي الدّين قد يجر إِلَى الفضول وَالْبَاطِل ويوقع فِي التَّفَرُّق الْمحرم فِي كتاب الله تَعَالَى بل قد صَار ادخاله فِي الدّين والمراء فِيهِ بِدعَة من الْبدع الْمُحرمَة فالحزم فِي ترك هَذِه الْأُمُور كلهَا وَترك التعادي عَلَيْهَا وَفِي الْوَقْف فِي حكم من زَاد أَو نقص وَتَأْخِير الْفَصْل مَعَه إِلَى يَوْم الْفَصْل لِأَن غير ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى التَّفَرُّق الْمحرم بِنَصّ كتاب الله تَعَالَى إِلَّا من رد الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ من الدّين وَهُوَ يُعلمهُ وَنحن نعلم أَنه يُعلمهُ فانه كَافِر حَتَّى كَانَ الْمُكَلّفين وَلَا يجوز الْوَقْف فِي أمره مَعَ تَوَاتر ذَلِك عَنهُ وتحققه مِنْهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابه وَقد نزل قَوْله تَعَالَى {ألم يَأن للَّذين آمنُوا أَن تخشع قُلُوبهم لذكر الله وَمَا نزل من الْحق}

فِي رغبتهم إِلَى غير الْقُرْآن من مَحْض الْخَيْر كَيفَ بالرغبة فِيمَا لَا يُؤمن شَره كَيفَ مَا تحقق شَره وَفِي نَحْو ذَلِك حَدِيث معَاذ الَّذِي خرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة

ص: 102

وَذكر الشَّيْخ مُخْتَار فِي الْمُجْتَبى فِي الْمَسْأَلَة السَّادِسَة من خَاتِمَة أَبْوَاب الْعدْل مَا لَفظه اعْلَم أَن شُيُوخ الْمُعْتَزلَة إِلَى زمن الشَّيْخ أبي هَاشم لم ينصوا على اثبات الصِّفَات وَلَا على نَفيهَا إِلَى أَن صرح باثباتها أَبُو هَاشم وَصرح بنفيها أَبُو عَليّ وَأَبُو الْقَاسِم الْبَلْخِي والاخشيد وَأَبُو الْحُسَيْن قلت وَقد علم تَعْظِيم خَلفهم لسلفهم وَعلم أَن الِاقْتِدَاء بسلفهم خير من الِاقْتِدَاء بخلفهم بِالنَّصِّ فِي خير الْقُرُون ان ادعوا مِنْهُم أحدا وباقرارهم هَذَا لَو اجْتمع خَلفهم على أَمر وَأما مَعَ اخْتِلَاف خَلفهم واجتماع سلفهم على ترك الْخَوْض فِيمَا خَاضَ فِيهِ خَلفهم فَأدى خوضهم فِيهِ إِلَى الِاخْتِلَاف والتأثيم فَلَا يشك منصف أَن الِاقْتِدَاء بسلفهم أرجح فان نفاة الصِّفَات ألزموا المثبتين تركيب الذَّات وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ بل ألزموهم ذَلِك فِي مُجَرّد قَوْلهم أَن الْوُجُود غير الْمَوْجُود وَمن أثبت الصِّفَات ألزم النفاة تَعْطِيل الاسماء الْحسنى وَمُخَالفَة الاجماع فَلَزِمَ التَّمَسُّك بِمَا اعْتَرَفُوا بِأَن السّلف كَانُوا مُجْتَمعين عَلَيْهِ سلفهم وَسلف سَائِر الْفرق الاسلامية وَترك مَا اخْتلفُوا فِيهِ ويسعنا مَا وسع السّلف الصَّالح للاجماع على صَلَاحهمْ

فاذا عرفت هَذَا فِي الْجُمْلَة فلنعد إِلَى ذكر الدَّلِيل الثَّانِي على بطلَان هذَيْن الامرين المضلين للاكثرين وهما الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فِي الدّين ثمَّ نتبع ذَلِك زِيَادَة بَيَان فِي الْمَنْع من التَّصَرُّف فِي الْكتاب وَالسّنة بِدَعْوَى التَّعْبِير عَنْهُمَا وَترك عباراتهما فَنَقُول

أما الْأَمر الأول وَهُوَ الزِّيَادَة فِي الدّين فسببه تَجْوِيز خلو كتب الله تَعَالَى وَسنَن رسله الْكِرَام عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن بَيَان بعض مهمات الدّين اكْتِفَاء بدرك الْعُقُول لَهَا وَلَو بِالنّظرِ الدَّقِيق ليَكُون ثُبُوتهَا بعد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بطرِيق النّظر الْعقلِيّ هَذَا مَذْهَب أهل الْكَلَام وَمذهب أهل الْأَثر أَنه مَمْنُوع وَالدَّلِيل على مَنعه وُجُوه

الْوَجْه الأول قَوْله تَعَالَى {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} فاذا قُلْنَا بِوُجُوب مَا أوجبه

ص: 103

أهل الْكَلَام لزم أَنه بَقِي أهل الدّين وأوجبه من تَقْرِير الْقَوَاعِد الَّتِي يجب بهَا تَأْوِيل السّمع وَبَيَان التَّأْوِيل على التَّفْصِيل فِي آيَات الصِّفَات وَكثير من الاسماء الْحسنى كالرحمن الرَّحِيم الْحَكِيم وَمَا يُؤَدِّي إِلَى التَّفَرُّق الْمَنْصُوص على تَحْرِيمه لِأَنَّهُ خوض فِي دقائق يَسْتَحِيل اتِّفَاق الأذكياء عَلَيْهَا بالعادات المستمرة فانها استمرت العوائد على اخْتِلَاف الْعُقَلَاء مَتى خَاضُوا فِي نَحْو ذَلِك حَتَّى الطَّائِفَة الْوَاحِدَة وَلذَلِك كَانَت الْمُعْتَزلَة عشر فَوق وَأهل السّنة كَذَلِك أَو قَرِيبا مِنْهُ وَكَذَلِكَ سَائِر الْفرق حَتَّى قيل إِن الِاتِّفَاق فِي الضروريات فاذا كَانَ الِاتِّفَاق فِي الخفيات مُمْتَنعا كالافتراق فِي الضروريات وَقد ثَبت تَحْرِيم الِافْتِرَاق لزم من ذَلِك تَحْرِيم الْخَوْض فِي الخفيات مَا لم يدل على وُجُوبه دَلِيل صَحِيح

الْوَجْه الثَّانِي أَنه لَا نزاع أَنه لَا يجوز اثبات الْعُقُول لزِيَادَة فِي الشَّرِيعَة لَا يدكها الْعقل وَإِنَّمَا النزاع فِيمَا تُدْرِكهُ الْعُقُول مثل نفي الْوَلَد عَن الله تَعَالَى وَنفي الثَّانِي لَكِن السّمع دلّ على أَنه لَا يجوز خلو كتب الله تَعَالَى عَن بَيَان مثل ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى فِي نفي الْوَلَد عَنهُ جل جلاله {قل هاتوا برهانكم هَذَا ذكر من معي وَذكر من قبلي} وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي نفي الثَّانِي {قل أَرَأَيْتُم مَا تدعون من دون الله} إِلَى قَوْله تَعَالَى {ائْتُونِي بِكِتَاب من قبل هَذَا أَو أثارة من علم إِن كُنْتُم صَادِقين} فهاتان الْآيَتَانِ تدلان على أَنه لَا يجوز خلو كتب الله تَعَالَى وَسنَن أنبيائه عَن أَمر كَبِير من مهمات الدّين الْعَقْلِيَّة وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب إِلَّا لتبين لَهُم الَّذِي اخْتلفُوا فِيهِ وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ} فَثَبت أَن مَا خلت عَنهُ كتب الله تَعَالَى فَلَيْسَ من مهمات الدّين وَإِن زِيَادَته فِي الدّين مُحرمَة أَلا ترى أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حذر أمته من فتْنَة الرِّجَال وعظمها وَأخْبر عَن الْأَنْبِيَاء كلهم أَنهم حذروا أممهم مِنْهَا مَعَ أَن

ص: 104

بطلَان دَعْوَاهُ مَعْلُوم بِالْعقلِ لِأَنَّهُ يَدعِي الربوبية وَهُوَ بشر يحْتَاج إِلَى الْأكل وَالشرب وينام ويعجز ويجهل ويمرض ويبول ويتغوط وينكح دع عَنْك كَونه جسما مركبا من لحم وَدم وَعِظَام وَعصب فَلم يكلنا رَبنَا سبحانه وتعالى إِلَى معرفَة عقولنا بحدوث مَا كَانَ على هَذِه الصِّفَات واستحالة ربوبية الْحَادِث بل زَاد فِي الْبَيَان على لِسَان رَسُوله حَتَّى أبان لنا أَنه أَعور وَأَنه مَكْتُوب بَين عَيْنَيْهِ كَافِر يقرأه من يكْتب وَمن لَا يكْتب فَلَو كَانَ يجوز عَلَيْهِ الاهمال لَكَانَ ذَلِك أَحَق مَا يهمل لقَوْله فِي الاحاديث الصَّحِيحَة مَا خَفِي عَلَيْكُم من شَيْء فَلَا يخفى عَلَيْكُم إِن ربكُم لَيْسَ بأعور لِأَنَّهُ قد تقرر أَنه لَيْسَ كمثله شَيْء عقلا وسمعا فَيجب أَن لَا يكون بشرا كَامِلا فَكيف يكون بشرا نَاقِصا معيبا فَدلَّ الحَدِيث على تَأْكِيد مَا دلّ الْقُرْآن عَلَيْهِ فِي الْآيَتَيْنِ المتقدمتين

الْوَجْه الثَّالِث قَوْله {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} {لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} وَلَا معنى للارسال إِلَّا الْبَيَان وَإِلَّا لصَحَّ أَن يُرْسل الله تَعَالَى رَسُولا أبكم غير نَاطِق وَقد ورد الْقُرْآن بتقبيح ارسال الاعجمي إِلَى الْعَرَبِيّ لذَلِك فِي قَوْله تَعَالَى {أأعجمي وعربي} بل نَص الله تَعَالَى على أَنه أرسل كل رَسُول بِلِسَان قومه ليتم لَهُم الْبَيَان

وَقد أَجمعت الامة على أَنه لَا يجوز تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة فَكل مَا لم يبين من العقائد فِي عصر النُّبُوَّة فَلَا حَاجَة إِلَى اعْتِقَاده وَلَا الْخَوْض فِيهِ والجدال وَالْمرَاد سَوَاء كَانَ إِلَى مَعْرفَته سَبِيل أَو لَا وَسَوَاء كَانَ حَقًا أَو لَا وخصوصا مَتى أدّى الْخَوْض فِيهِ إِلَى التَّفَرُّق الْمنْهِي عَنهُ فَيكون فِي إِيجَابه إِيجَاب مَا لم ينص على وُجُوبه وان أدّى إِلَى الْمَنْصُوص على تَحْرِيمه وَهَذَا عين الْفساد

قَالَت الْخُصُوم الْعقل يَكْفِي بَيَانا فِي العقليات فَلَا يجب الْبَيَان فِيهَا من الشَّرْع

ص: 105

قلت إِن أردتم الجليات الَّتِي لَا يَقع فِي مثلهَا التَّنَازُع أَو لَا يحْتَاج فِي الدّين إِلَى مَعْرفَتهَا أَو لَا يحْتَاج البليد فِيهَا إِلَى تفهيم الذكي أَو الظنية الَّتِي لَا إِثْم فِيهَا على الْمُخطئ فَمُسلم وَلَا يضر تَسْلِيمه وَمن الْقسم الأول من هَذَا علم الْحساب وَإِن دق بعضه فان طرقه مَعْلُومَة الصِّحَّة عِنْد الْجَمِيع وَلذَلِك لم تمنع دقته من الْوِفَاق فِيهِ وَكَذَلِكَ كثير من علم الغربية والمعاني وَالْبَيَان والبلاغة وَإِن أردتم الْقسم الآخر وَهُوَ مَا يحْتَاج اليه فِي الدّين وَيكون مَفْرُوضًا على جَمِيع الْمُسلمين من الْخَاصَّة والعامة أَجْمَعِينَ وَيَقَع فِي مثله الخفاء والنزاع وَالِاخْتِلَاف الْكثير وَيَأْثَم الْمُخطئ فِيهِ وَلَا يسامح فَغير مُسلم لكم أَن مثل هَذَا يُوكل إِلَى عقول الْعُقَلَاء وتترك الرُّسُل بَيَانه لقَوْله تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} فَلم يكتف سُبْحَانَهُ بِحجَّة الْعقل حَتَّى ضم اليها حجَّة الرسَالَة مَعَ أَن مَعْرفَته سُبْحَانَهُ وَنفي الشُّرَكَاء عَنهُ من أوضح المعارف الْعَقْلِيَّة وَلذَلِك قَالَت الرُّسُل فِيمَا حكى الله عَنْهُم {أَفِي الله شكّ فاطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض}

وَقد مر بَيَان ذَلِك فِي مُقَدمَات هَذَا الْمُخْتَصر وَفِي هَذِه الْآيَة وَمَا فِي مَعْنَاهَا من السّمع حجَّة على أَن مَا لم يُبينهُ الله تَعَالَى سمعا لم يعذب الْمُخطئ فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى لَكِن يخْشَى على من خَاضَ فيا لم يُبينهُ الله أَن يعذب على الابتداع وَقد بَين الله تَحْرِيمه وَبَيَان تَحْرِيم ذَلِك فِي قَوْله {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم إِن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسؤولا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {هَا أَنْتُم هَؤُلَاءِ حاججتم فِيمَا لكم بِهِ علم فَلم تحاجون فِيمَا لَيْسَ لكم بِهِ علم وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ} فنسأل الله السَّلامَة

الْوَجْه الرَّابِع قَوْله تَعَالَى فِي وصف الْقُرْآن {تبيانا لكل شَيْء} وَقَوله سُبْحَانَهُ {مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء} وَلَا شكّ أَنه يدْخل

ص: 106

فِي ذَلِك بَيَان مهمات الدّين الاعتقادية وَإِن كَانَت عقلية وَيدخل فِيهِ مَا بنه النَّبِي صلى الله عليه وسلم لقَوْله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} وَلقَوْله تَعَالَى فِي خطاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} فَهَذَا بَيَان جملي وَمِنْه قَوْله صلى الله عليه وسلم (إِنِّي أُوتيت الْقُرْآن وَمثله مَعَه الحَدِيث)

وَمِمَّا يصلح الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي هَذَا الْمقَام قَوْله تَعَالَى {وَترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إِلَى كتابها} فلولا أَن كتابها هُوَ مَوضِع الْحجَّة عَلَيْهَا فِي أُمُور الدّين ومهماته مَا اخْتصَّ بِالدُّعَاءِ اليه وَنَحْوهَا قَوْله تَعَالَى {الله الَّذِي أنزل الْكتاب بِالْحَقِّ وَالْمِيزَان} فَجعل الْكتاب فِي بَيَان الدّين وَحفظه وتمييز الْحق من الْبَاطِل كالميزان فِي بَيَان الْحُقُوق الدُّنْيَوِيَّة وحفظها بل جعل الْحق مُخْتَصًّا بِهِ بِالنَّصِّ وَالْمِيزَان مَعْطُوفًا عَلَيْهِ بِالْمَفْهُومِ أَي وَالْمِيزَان بِالْحَقِّ وَقَالَ بعد الامر بوفاء الْكَيْل وَالْوَزْن {لَا تكلّف نفس إِلَّا وسعهَا} لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى الْمُعَامَلَة بِالْكَيْلِ وَالْوَزْن وَإِن وَقع التظالم الْخَفي فِي مقادير مَثَاقِيل الذَّر أَو أقل مِنْهُ وَلم يقل ذَلِك بعد الْأَمر بِلُزُوم كِتَابه وَاتِّبَاع رسله لِأَنَّهُ لَا حَاجَة وَلَا ضَرُورَة إِلَى الْبِدْعَة فِي الِاعْتِقَاد

وَأما الْفُرُوع العملية فَلَمَّا وَقعت الضَّرُورَة إِلَى الْخَوْض فِيهَا بالظنون لم يكن فِيهَا حرج بِالنَّصِّ والاجماع فَتَأمل ذَلِك فانه مُفِيد

وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} وَاتفقَ أهل الاسلام على أَن المُرَاد بِالرَّدِّ إِلَى الله وَرَسُوله الرَّد إِلَى كتاب الله وَسنة رَسُوله وَلَو لم يَكُونَا وافيين بِبَيَان مهمات الدّين مَا أَمرهم الله بِالرُّجُوعِ اليهما عِنْد الِاخْتِلَاف

الْوَجْه الْخَامِس فِي الدَّلِيل على مَنعه أَيْضا الاجماع على تحري الْبِدْعَة فِي الدّين وَمَا زَالَ الصَّحَابَة والتابعون لَهُم باحسان يحذرون من ذَلِك حَتَّى

ص: 107

ثمت النِّعْمَة وَقَامَت الْحجَّة بموافقة الْمُتَكَلِّمين والغلاة على ذَلِك فِي الْجُمْلَة حَتَّى رمى بعض الْمُتَكَلِّمين بَعْضًا بذلك عِنْد الضجر من الْخَوْض فِي تِلْكَ المباحث والشناعات فَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الْأمة خَاتِمَة أهل الاصول العجالي المعتزلي فِي آخر الرَّد على أَصْحَابه الْمُعْتَزلَة حَيْثُ حكمُوا بِثُبُوت الْعَالم قبل خلقه فِي الْعَدَم الْمَحْض والازل الَّذِي لَا أول لَهُ مَا لَفظه

إِن كل من سمع ذَلِك من الْعُقَلَاء قبل أَن يتلوث خاطره بالاعتقادات التقليدية فانه يقطع بِبُطْلَان هَذِه الْمذَاهب ويتعجب أَن يكون فِي الْوُجُود عَاقل تسمح نَفسه بِمثل هَذِه الاعتقادات ويلزمهم أَن يجوزوا فِيمَا نشاهده من هَذِه الْأَجْسَام والاعراض أَن تكون كلهَا مَعْدُومَة لِأَن الْوُجُود غير مدرك عِنْدهم وَإِلَّا لزم أَن يرى الله تَعَالَى لوُجُوده بل إِنَّمَا تنَاوله الادراك للصفة المقتضاة عِنْدهم وَهِي صفة التحيز وهيئة السوَاد وَالْبَيَاض فيهمَا غَايَة الامر أَن الجوهرية عِنْد بَعضهم تَقْتَضِي التحيز بِشَرْط الْوُجُود لَكِن التَّرْتِيب فِي أَن الْوُجُود لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيب فِي الْعلم كَمَا فِي صفة الْحَيَاة وَالْعلم فيلزمهم أَن يشكوا بعد هَذِه الْمُشَاهدَة فِي وجودهما وكل مَذْهَب يُؤَدِّي إِلَى هَذِه التمحلات والخصم مَعَ هَذَا يزْدَاد سفاهة ولجاجا فَالْوَاجِب على الْعَاقِل الفطن الاعراض عَنهُ والتمسك بقوله تَعَالَى {وَإِذا خاطبهم الجاهلون قَالُوا سَلاما} وَمن ذمّ من السّلف الْكَلَام والمتكلمين إِنَّمَا عنوا أَمْثَال هَؤُلَاءِ ظَاهرا وَالله الْمُوفق اه بِحُرُوفِهِ ذكره عَلامَة الْمُعْتَزلَة الشَّيْخ مُخْتَار بن مَحْمُود فِي كِتَابه الْمُجْتَبى عاضدا لَهُ ومنتصرا بِهِ فَهَذَا كَلَام الْمُتَكَلِّمين بَعضهم فِي بعض بل كَلَام الطَّائِفَة الْوَاحِدَة مِنْهُم بَعضهم فِي بعض وَفِيه الِاعْتِرَاف بذم الْبِدْعَة وَأَهْلهَا وصدور ذللك من السّلف الصَّالح فسبحان من أنطقهم بِالْحجَّةِ عَلَيْهِم كَمَا أنطق جُلُود الجاحدين يَوْم الْقِيَامَة بِمثل ذَلِك

وَلَا شكّ أَن إِيجَاب أَمر كَبِير يجب من أَجله التعسف فِي تَأْوِيل مَا لَا يُحْصى من آيَات كتاب الله وتقبيح ظواهره بل تقبيح ممادحه مثل الحكم بِأَن الرَّحْمَن اسْم ذمّ الله تَعَالَى فِي الظاهرالسابق إِلَى الافهام إِن لم يتَأَوَّل وان نَفْيه عَن الله مدح لَائِق بِجلَال الله من غير قرينَة وَالْقَوْل بتكفير من لم يعرف

ص: 108

هَذَا وَاسْتِحْلَال سفك دَمه وَوُجُوب دوَام عَذَابه فِي الْآخِرَة من غير أَن يجْرِي لذَلِك ذكر فِي زمن النُّبُوَّة وَالصَّحَابَة هُوَ من أعظم الْبدع وأفحشها وأنكرها

الْوَجْه السَّادِس الاحاديث الْوَارِدَة فِي النَّهْي عَن الْبِدْعَة وَلَا حَاجَة إِلَى سردها بِجَمِيعِ ألفاظها وأسانيدها مَعَ الاجماع على صِحَة هَذَا الْمَعْنى كَمَا مر فِي الْوَجْه الَّذِي قبله

الْوَجْه السَّابِع مَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا من قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (اتركوني مَا تركتكم فانما أهلك من كَانَ قبلكُمْ كَثْرَة مسائلهم وَاخْتِلَافهمْ على أَنْبِيَائهمْ) وَمَا فِي معنى ذَلِك مثل حَدِيث إِن الله حد حدودا فَلَا تعتدوها وَفرض فَرَائض فَلَا تضيعوها وَسكت عَن أَشْيَاء رَحْمَة لكم من غير بَيَان فَلَا تتعرضوا لَهَا وَفِي هَذَا الْمَعْنى أَحَادِيث جمة مجموعها يُفِيد الْعلم بِأَن الشَّرْع ورد بحصر الْوَاجِبَات والمحرمات وَأَن السُّؤَال عَمَّا لم يرد بِهِ حرَام حَتَّى ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص أَن من أعظم الْمُسلمين إِثْمًا فِي الْمُسلمين من سَأَلَ عَن شَيْء فَحرم من أجل مَسْأَلته وَلَقَد علمهمْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَيْفيَّة قَضَاء الْحَاجة وَفِي ذَلِك يَقُول السَّيِّد الامام يحيى بن مَنْصُور الهاروي المفضلي عليه السلام

(مَا باله حَتَّى السِّوَاك أبانه

وقواعد الاسلام لم تتقرر) فِي أَبْيَات لَهُ طَوِيلَة فِي تَقْرِير هَذَا الْمَعْنى وَقد كتبتها فِي تَرْجِيح أساليب الْقُرْآن هِيَ وأمثالها فان قيل هَذَا فِي غير العقائد

قُلْنَا العقائد أولى بذلك لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يَتَجَدَّد فِيهَا للخلف مَا لم يكن وَاجِبا على السّلف بِخِلَاف الْفُرُوع فقد تجدّد الْحَوَادِث وَيَقَع للمتأخر فِيهَا مَا لم يَقع للمتقدم

الْوَجْه الثَّامِن إِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا زَالَ يُوصي أمته بِالرُّجُوعِ إِلَى كتاب الله عِنْد الِاخْتِلَاف والتمسك بِهِ عِنْد الِافْتِرَاق وَكَانَ ذَلِك هُوَ

ص: 109

صيته عِنْد مَوته وَجَاء ذَلِك عَنهُ على كل لِسَان حَتَّى اعْترفت بِهِ المبتدعة كَمَا اعْترفت بورود النَّهْي عَن الْبدع وَصِحَّته وَللَّه الْحَمد والْمنَّة بل قد جَاءَ ذَلِك صَرِيحًا فِي كتاب الله تَعَالَى على أبلغ صِيغ التَّأْكِيد قَالَ الله عز وجل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا} إِلَى قَوْله {وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل الله وَإِلَى الرَّسُول رَأَيْت الْمُنَافِقين يصدون عَنْك صدودا} ويؤكده قَوْله تَعَالَى {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا}

وَلَا شكّ أَن الْقُرْآن الْعَظِيم أعظم مَا قضى بِهِ ودعا إِلَيْهِ ثمَّ سنته الَّتِي هِيَ تَفْسِير الْقُرْآن وَبَيَانه كَمَا أَجمعت عَلَيْهِ الْأمة فِي تفاصيل الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَسَائِر أَرْكَان الاسلام وَفِي الْمَوَارِيث وَغَيرهَا وَمن ذَلِك مَا جَاءَ فِيمَن لم يحكم بِمَا أنزل الله من الْآيَات الْكَرِيمَة فِي آيَة {فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} وَفِي آيَة {الظَّالِمُونَ} وَفِي آيَة {الْفَاسِقُونَ} وَقَوله تَعَالَى {إِن هَذَا الْقُرْآن يهدي للَّتِي هِيَ أقوم} وَقَوله {وَهَذَا كتاب أَنزَلْنَاهُ مبارك فَاتَّبعُوهُ وَاتَّقوا لَعَلَّكُمْ ترحمون} وَقَوله {وَلَقَد جئناهم بِكِتَاب فصلناه على علم هدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ} وَمَا أبلغ قَوْله فصلناه على علم وَأعظم موقعه عِنْد المتأملين لِأَن الْعُلُوم تقل وتتلاشى فِي جنب علم الله تَعَالَى بِمَا ينفع وَيصْلح من الْبَرَاهِين والأساليب وَمَا يضر وَيفْسد من ذَلِك بل قد جَاءَ فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَن علم الْخَلَائق فِي علم الله تَعَالَى كَمَا يَأْخُذهُ الطَّائِر من الْبَحْر بمنقاره وَمِمَّا جَاءَ فِي ذَلِك من طَرِيق أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب عليه السلام عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ فِي الْقُرْآن الْكَرِيم فِيهِ نبأ مَا قبلكُمْ وَخبر مَا بعدكم وَحكم

ص: 110

مَا بَيْنكُم من ابْتغى الْهدى من غَيره أضلّهُ الله إِلَى قَوْله من قَالَ بِهِ صدق وَمن حكم بِهِ عدل وَمن دعى اليه هدى إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم الحَدِيث بِطُولِهِ كَمَا تقدم

الْوَجْه التَّاسِع إِن الدّين قد جَاءَ بِهِ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَفرغ مِنْهُ بِهِ وَلم يبْق بعد تَصْدِيقه بِهِ بِدلَالَة المعجزات الباهرات إِلَّا اتِّبَاع الدّين الْمَعْلُوم الَّذِي جَاءَ بِهِ لَا استنباطه بدقيق النّظر كَمَا صنعت الفلاسفة الَّذين لم يتبعوا الرُّسُل وعَلى هَذَا درج السّلف وَلذَلِك قَالَ مَالك لمن جادله كلما جَاءَنَا رجل أجدل من رجل تركنَا لجدله مَا أنزل على مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وروى مَالك فِي الْمُوَطَّأ عَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه أَنه قَالَ (أَيهَا النَّاس قد سنت لكم السّنَن وفرضت لكم الْفَرَائِض وتركتم على السّنة الْوَاضِحَة لَيْلهَا كنهارها إِلَّا أَن تضلوا بِالنَّاسِ يَمِينا وَشمَالًا وروى ابْن مَاجَه نَحْو هَذَا مَرْفُوعا من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء يُوضحهُ أَنه لَو كَانَ الدّين مأخوذا من النّظر لَكنا قبل النّظر غير عَالمين مَا هُوَ دين الاسلام وَإِنَّمَا نخترعه نَحن وَهَذَا بَاطِل ضَرُورَة

يزِيدهُ وضوحا وَجْهَان أَحدهمَا الاحاديث الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة بل المتواترة فِي حصر أَرْكَان الاسلام والايمان والتنصيص عَلَيْهَا وتداول الصَّحَابَة فَمن بعدهمْ لَهَا يَرْوِيهَا سلفهم لخلفهم وخلفهم عَن سلفهم وَاضِحَة جَامِعَة لشرائط الاسلام والايمان واحترام أَهلهَا وَأَنه لَا يحل دم امْرِئ جمعهَا ودان بهَا وَفِي مَعْنَاهَا من كتاب الله تَعَالَى قَوْله تَعَالَى {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين حنفَاء ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة وَذَلِكَ دين الْقيمَة} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام وَمَا اخْتلف الَّذين أُوتُوا الْكتاب إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قل يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم أَلا نعْبد إِلَّا الله وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا وَلَا يتَّخذ بَعْضنَا بَعْضًا أَرْبَابًا من دون الله فَإِن توَلّوا فَقولُوا اشْهَدُوا بِأَنا مُسلمُونَ}

ص: 111

وَثَانِيهمَا اجماع الامة على تَكْفِير من خَالف الدّين الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ وَالْحكم بردته إِن كَانَ قد دخل فِيهِ قبل خُرُوجه مِنْهُ وَلَو كَانَ الدّين مستنبطا بِالنّظرِ لم يكن جاحده كَافِرًا فَثَبت أَن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم قد جَاءَ بِالدّينِ الْقيم تَاما كَامِلا وَأَنه لَيْسَ لأحد أَن يسْتَدرك عَلَيْهِ ويكمل لَهُ دينه من بعده

الْوَجْه الْعَاشِر إِن الله ذمّ التَّفَرُّق بعد مَجِيء الرُّسُل والكتب من قبلنَا وَلَوْلَا أَن فِي مَا جَاءَت بِهِ يُوجب الْوِفَاق مَا خص ذمهم بِتِلْكَ الْحَال قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا تفرق الَّذين أُوتُوا الْكتاب إِلَّا من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَيِّنَة} وَقبلهَا {حَتَّى تأتيهم الْبَيِّنَة رَسُول من الله يَتْلُو صحفا مطهرة فِيهَا كتب قيمَة} الْآيَات إِلَى {وَذَلِكَ دين الْقيمَة} ففسر الْبَيِّنَة بقوله رَسُول من الله إِلَى آخر الْآيَة وَقَالَ {وَمَا اخْتلف الَّذين أُوتُوا الْكتاب إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم} وَقَالَ {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا من بعد مَا جَاءَهُم الْبَينَات}

الْوَجْه الْحَادِي عشر وَهُوَ أعجبها أَن الْعُقُول بريئة أصح الْبَرَاءَة وأوضحها عَمَّا ادعوا عَلَيْهَا من معرفَة وجوب مَا لم يرد بِهِ كتاب من الله تَعَالَى وَمن معرفَة صِحَة مَا يُنَاقض الْآيَات القرآنية فانه قد وضح للمحققين من نظار الْعُقَلَاء وأذكيائهم أَنه لَا تعَارض بَين صَحِيح السّمع وصحيح الْعقل وَأَن أصل الْبدع كلهَا يُوهم التَّعَارُض بَينهمَا فِي صور أَربع الصُّورَة الأولى أَن جمَاعَة من المشتغلين بِعلم الْمَعْقُول لم يتقنوه فيتوهمون فِي بعض الْأُمُور أَنه صَحِيح فِي دَلِيل عَقْلِي توهموه قَاطعا وَلَيْسَ بقاطع وَفِي معرفَة الْقَاطِع وشروطه اخْتِلَاف بَين المنطقيين وَبَعض الْمُتَكَلِّمين

وَمن مَوَاضِع بَيَان ذَلِك مُقَدّمَة التَّمْهِيد للامام ي بن حَمْزَة عليه السلام وَسَبقه إِلَى ذَلِك الرَّازِيّ فِي مُقَدّمَة نِهَايَة الْعُقُول وَبسط أَكثر مِنْهُ فَمن أَرَادَ معرفَة صعوبة هَذَا القام وَقلة وجود رِجَاله فليطالع مَا ذكرته فِي هذَيْن الْكِتَابَيْنِ مطالعة شافية وَلَو بحث عَمَّا لم يعرف من ذَلِك

ص: 112

وَمن أشهر مَا لَهُم فِي ذَلِك خمس قَوَاعِد أَحدهَا أَن الجسمية أَمر ثبوتي مُشْتَرك بَين الْأَجْسَام زَائِد عَلَيْهَا وَثَانِيها تماثل الْأَجْسَام وجواهرها وَثَالِثهَا أَن كَون المتحيز فِي الْمَكَان أَمر ثبوتي زَائِد عَلَيْهِ لَا وصف عدمي وَسَوَاء كَانَ حَرَكَة أَو سكونا أَو اجتماعا أَو افتراقا ويسمونه دَلِيل الاكوان وَرَابِعهَا قِيَاس وَاجِب الْوُجُود عز وجل على مُمكن الْوُجُود فِي أَشْيَاء كَثِيرَة مثل قَول الْمَلَاحِدَة نفاة الاسماء الْحسنى أَن كَونه تَعَالَى على صفة دون أُخْرَى يَقْتَضِي أَن يجْرِي مجْرى الممكنات الحادثات الَّتِي تحْتَاج فِي مثل ذَلِك إِلَى تَخْصِيص مُخَصص وَقد أوضحت مَا أورد بَعضهم على بعض من الاشكالات الصعبة فِي ذَلِك فِي مَسْأَلَة الرُّؤْيَة من العواصم وَرُبمَا نقلته مُفردا فِي مَوْضِعه من هَذَا الْمُخْتَصر لينْظر فِيهِ من يفهمهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وخامسها أَن كل مَوْجُود فِي الْخَلَاء العدمي حَتَّى الظلمَة والنور فانه جسم أَو حَال فِيهِ مُحْتَاج اليه

وَخَالفهُم فِي الْقَاعِدَة الأولى أَكثر الْعُقَلَاء من الْمُسلمين وَغَيرهم على مَا نَقله ابْن تَيْمِية فَقَالُوا أَن الْمَاهِيّة الْمُشْتَركَة الْمَعْرُوفَة بالمجردات لَا وجود لَهَا أَلْبَتَّة إِلَّا فِي الاذهان وَلم يقم على وجودهَا برهَان فِي الْخَارِج كَمَا بسط فِي مَوْضِعه

وَخَالفهُم فِي الثَّانِيَة الرَّازِيّ وَالشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم الْبَلْخِي الكعبي وَأَصْحَابه معتزلة بَغْدَاد

وَخَالفهُم فِي الثَّالِث الشَّيْخ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ وَخلق كثير ذكرهم الشَّيْخ مُخْتَار المعتزلي فِي كِتَابه الْمُجْتَبى وَخَالف أهل الْقَاعِدَة الرَّابِعَة جُمْهُور أهل الاسلام

وَخَالفهُم فِي الْخَامِسَة أهل اللُّغَة وَأهل الْأَثر وَبَعض أهل الْكَلَام والمعقولات وَالسَّلَف الصَّالح من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ ظَاهرا لَا رِوَايَة ومستند الظُّهُور نقل أهل اللُّغَة وهم من أَهلهَا بِلَا ريب

وَخَالفهُم فِي الْقَوَاعِد الْخمس كلهَا جَمِيع أهل الْآثَار وسلفهم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ ظَاهرا مَعَ من ذكرنَا مَعَهم من ذَلِك من أهل المعقولات والمتكلمين كَمَا بسط فِي موَاضعه وَالْحَمْد لله

ص: 113

وَمِمَّا اخْتلفُوا فِيهِ هَل يجب بِنَاء الدَّلِيل على الضَّرُورَة فِيمَا انْتهى اليه النّظر أَو على سُكُون النَّفس فَعِنْدَ المنطقيين وَأبي الْحُسَيْن من الْمُعْتَزلَة وَأكْثر الْمُحَقِّقين أَنه لابد من الِانْتِهَاء إِلَى الضَّرُورَة وَإِلَّا أدّى إِلَى التسلسل أَو التحكم وَعند جُمْهُور الْمُعْتَزلَة أَنه يَكْفِي أَن يَنْتَهِي إِلَى سُكُون النَّفس وَيرد عَلَيْهِم سُكُون نفوس المبطلين ببواطلهم وَهَذَا مَا عَارض وَالْقَصْد بِذكرِهِ بَيَان أَن كَون الدَّلِيل الْعقلِيّ قَاطعا من الْمَوَاضِع الدقيقة الَّتِي اخْتلف فِيهَا أهل الدَّعْوَى للذكاء والكمال فِي التدقيق فَيجوز أَن يَقع الْخَطَأ على الْمُحَقق فِي مثل هَذَا وَيَنْبَغِي أَن يحذرهُ الْمنصف فان كثيرا من أهل الْعُقُول يقصر فِي هَذَا الْموضع فيظن فِي بعض العقليات أَن دَلِيله قَاطع وَلَيْسَ بقاطع فِي نفس الامر ثمَّ يُعَارضهُ السّمع فَيرى فِي نَفسه أَن التَّأْوِيل يتَطَرَّق إِلَى السّمع لاحْتِمَال اللَّفْظ اللّغَوِيّ لَهُ دون الادلة الْعَقْلِيَّة القاطعة فِي ظَنّه وزعمه أَنَّهَا قَاطِعَة وَلَا يدْرِي أَن قطعه بِأَنَّهَا قَاطِعَة قطع بِغَيْر تَقْرِير وَلَا هدى وَلَا كتاب مُنِير وانه مقَام صَعب خطير وَأَنه بطول النّظر والمراجعة فِيهِ جدير وَلَو لم يكن فِي ذَلِك عِبْرَة للمعتبرين إِلَّا مَا جرى لمُوسَى الكليم عَلَيْهِ أفضل الصَّلَوَات وَالتَّسْلِيم حَيْثُ قطع بِالنّظرِ الْعقلِيّ على قبح مَا فعله الْخضر عليه السلام فانكشف لَهُ خلاف مَا قطع عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ نوح عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام حَيْثُ قطع على أَن وَلَده من أَهله فَبَان لَهُ خلاف ذَلِك فاذا كَانَ هَذَا فِي حق أرفع الْبشر مرتبَة فَمن النَّاس بعدهمْ فليتفطن طَالب النجَاة لذَلِك وليحذر أَشد الحذر

وَقد أَشَارَ إِلَى ذَلِك ابْن عبد السَّلَام فِي قَوَاعِده فِي حُقُوق الْقُلُوب وَمَا يجب من معرفَة الله وَتَقْرِير الْعَامَّة على مَا علم أَنهم لم ينفكوا عَنهُ لدقة الْأَمر الْمَانِع مِمَّا هم عَلَيْهِ وصعوبة مَعْرفَته عَلَيْهِم وَذَلِكَ كغلاة الاشعرية فِي نفي حِكْمَة الله تَعَالَى وتقبيح اسْم الْحَكِيم فِي الظَّاهِر وَإِيجَاب تَأْوِيله بالمحكم لصنعه من غير حِكْمَة لَهُ فِي ذَلِك الاحكام وغلاة الْمُعْتَزلَة فِي نفي السَّمِيع الْبَصِير والمريد وتقبيحها فِي الظَّاهِر وَإِيجَاب تَأْوِيلهَا بالعليم لَا سواهُ وَذَلِكَ يضعف فِي مثل {يُرِيد الله بكم الْيُسْر} وَقَول الْخَلِيل لِأَبِيهِ {يَا أَبَت لم تعبد مَا لَا يسمع وَلَا يبصر وَلَا يُغني عَنْك شَيْئا}

ص: 114

وَكَذَلِكَ الْجَمِيع من الاشعرية والمعتزلة فِي نفي حَقِيقَة الرَّحْمَن الرَّحِيم وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا من الرؤوف والودود وأرحم الرَّاحِمِينَ وحكمهم بِأَنَّهَا أَسمَاء قبيحة الظَّوَاهِر فِي حق الله تَعَالَى وَأَنَّهَا لَا تلِيق بجلاله إِلَّا بصرفها عَن ظواهرها وتعطيلها عَن حقائقها إِلَى الْمجَاز الْمَحْض وَأَن نِسْبَة الرَّحْمَة إِلَى الله سُبْحَانَهُ كنسبة إِرَادَة الانقضاض إِلَى الْجِدَار والجناح إِلَى الذل وكل ذَلِك بِمُجَرَّد ظن أَن الدّلَالَة الْعَقْلِيَّة القاطعة دلّت على ذَلِك وَسَتَأْتِي الاشارة إِلَى تِلْكَ الْأَدِلَّة وَمَا يرد عَلَيْهَا على قَوَاعِد أَئِمَّة المعقولات على حسب هَذَا الْمُخْتَصر مَعَ الارشاد إِلَى مَوَاضِع الْبسط

فَأَما لَوَازِم رَحْمَة المخلوقين المستلزمة للنقص فَوَاجِب تَنْزِيه الله تَعَالَى عَنْهَا قطعا وفَاقا كلوازم علمهمْ وارادتهم وَنَحْو ذَلِك كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقه

وَمن مظان بطلَان ذَلِك النّظر فِي كَيْفيَّة بعض صِفَات الله تَعَالَى اللائقة بِهِ بل الْوَاجِبَة لَهُ على التَّفْصِيل الْمُؤَدِّي إِلَى الْقطع بِتَسْمِيَة تِلْكَ الصِّفَات مَعَاني وَإِلَى الْقطع بِالْفرقِ بَينهمَا وَإِلَى الْقطع بِأَن ذَات الله تَعَالَى لَا يَصح وجود الْمعَانِي فِيهَا ومجموع ذَلِك هُوَ الَّذِي اضْطر البهاشمة إِلَى أَنه تَعَالَى مُرِيد بارادة حَادِثَة لَا فِيهِ وَلَا فِي غَيره وَلَا يحْتَاج فِي خلقهَا إِلَى ارادة والحازم يوازن بَين الممتنعات فَيرد أَشدّهَا امتناعا فِي الْفطر وَلَعَلَّ وجود الْعرض لَا فِي مَحل بل لَا فِي الْعَالم وَلَا خَارجه وتأثيره لمن لم يُوجد فِيهِ أبعد مِمَّا فروا مِنْهُ

وَقد جود ابْن تَيْمِية وَغَيره من أَئِمَّة الْعلم الجامعين بَين التَّحْقِيق فِي هذَيْن العلمين الْعقلِيّ والسمعي الْكَلَام فِي ذَلِك وَفِي المختصرات من ذَلِك مَا يَكْفِي المقتصد وَأما من أَرَادَ الْغَايَة فِي الْبَحْث فَلَا تكفيه المختصرات وَلَا النّظر فِي كتب بعض الْخُصُوم بل يحْتَاج إِلَى النّظر فِي الْكتب البسيطة للمعتزلة والاشعرية ومتكلمي أهل السّنة وكتبهم أقل الْكتب وجودا

ص: 115

وَمن مشاهيرها منهاج السّنة النَّبَوِيَّة لِابْنِ تَيْمِية على مَا قيل وَلم أَقف عَلَيْهِ وَفِي هَذِه الصُّورَة يتَكَلَّف المتكلمون كلهم التأويلات الْبَعِيدَة تَارَة لما يُمكن تَأْوِيله لَو دلّ دَلِيل قَاطع على امْتنَاع ظَاهره وَلَكِن لَا قَاطع مُحَقّق إِلَّا مُجَرّد دَعْوَى وَتارَة لما لَا يُمكن تَأْوِيله إِلَّا بتعسف شابه تَأْوِيل القرامطة وَرُبمَا استلزم بعض التأويلات مُخَالفَة الضَّرُورَة الدِّينِيَّة وهم لَا يعلمُونَ وَلَا يُؤمن الْكفْر فِي هَذَا الْمقَام فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى وَأَحْكَام الْآخِرَة وَإِن لم نعلمهُ نَحن وتوقفنا لشُبْهَة التَّأْوِيل وَعدم علمنَا بعلمهم بِمَا أنكروه فانه لَا يُؤمن فِي حكم الله وَالله الْمُسْتَعَان

فسبب الِاخْتِلَاف فِي هَذِه الصُّورَة وَمَا يتركب عَلَيْهَا وَهُوَ مُعظم التَّأْوِيل هُوَ الِاخْتِلَاف فِي أَن الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة الْمُوجبَة للتأويل عِنْد المتأولين قَطْعِيَّة أم لَا أما من علم بطلَان الْقطع إِمَّا بِالْعقلِ أَو بِالسَّمْعِ الْقَاطِع أَو بهما مَعًا فَعَلَيهِ الْبَيَان لذَلِك فاذا سَطَعَ الْحق وَجب اتِّبَاعه من أَي الْجَانِبَيْنِ كَانَ

وَأما من لم يعلم ذَلِك لَكِن علم أَن أذكياء الْعُقَلَاء مَا زَالُوا يغلطون فِي اعْتِقَاد الْقطع فِي مثل هَذِه الدقائق وان خوضه فِيهَا أشبه شَيْء بركوب الْبَحْر عِنْد هيجه واضطرابه وان الْجَمِيع قد انْعَقَد اجماعهم على أَن مُخَالفَة الْعقل إِذا تجرد عَن السّمع لَيست بِكفْر وَلَا فسق وَإِن كَانَ فِيهَا مُخَالفَة ضَرُورَة الْعقل فان من اعْتقد فِي حَنْظَلَة مرّة أَنَّهَا حُلْو يكون قد خَالف ضَرُورَة الْعقل وَلَا يكفر بل وَلَا يفسق لقَوْل النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن كذبا عَليّ لَيْسَ ككذب على غَيْرِي أَنه من يكذب عَليّ يلج النَّار وَإِنَّمَا هَذَا كَاذِب على نَفسه وَلم يكذب على الله وَلَا رَسُوله فَكيف من قَالَ بِغَيْر الْحق فِي دقائق الْكَلَام متأولا

وَكَذَلِكَ انْعَقَد إِجْمَاعهم على أَن مُخَالفَة السّمع الضَّرُورِيّ كفر وَخُرُوج عَن الاسلام وَأَن ذَلِك لَا يُؤمن فِي القَوْل بِأَن الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَكِيم السَّمِيع الْبَصِير لَيست بأسماء مدح الله تَعَالَى بل أَسمَاء ذمّ قبيحة يجب تَأْوِيلهَا وتحذير عوام الْمُسلمين من الاغترار باطلاقها وَأَنَّهَا لَيست أَسمَاء حسنى لِأَن الْحسنى جمع الاحسن لَا جمع الْحسن وَهَذِه لم تدخل فِي الْحسن كَيفَ فِي أحسن الْحسن فان عَامَّة أهل الاثر رجحوا الِاعْتِقَاد الاسلم على الاعلم لِأَن الْمُتَكَلِّمين قد اعْتَرَفُوا بِأَن طَريقَة السّلف أسلم لَكِن ادعوا أَن طريقهم أعلم

ص: 116

وَوجه التَّرْجِيح عِنْدهم أَنهم علمُوا من كَثْرَة نُصُوص الْكتاب وَالسّنة فِي هَذِه الْأَسْمَاء أَنَّهَا على جِهَة التمدح كَمَا يَأْتِي فِي مَوْضِعه وَظُهُور ذَلِك فِي عصر النُّبُوَّة وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ من غير تحذير لأحد من الاغترار بظاهرها مَعَ اعْتِقَاد الْجَمِيع أَن الله لَيْسَ كمثله شَيْء فِي ذَاته وَلَا فِي صِفَاته يَقْتَضِي عَادَة الْعلم الضَّرُورِيّ بِأَنَّهَا أَسمَاء مدح وَأَنَّهَا من الاسماء الْحسنى الَّتِي لَا قبح فِيهَا وخافوا الْكفْر فِي مُخَالفَة هَذَا الْعلم

وَأما الادلة الْمُوجبَة للتأويل فَسَوف يَأْتِي الْبَيَان الْوَاضِح أَنَّهَا قد انْتَهَت إِلَى غَايَة الدقة ووردت عَلَيْهَا الشكوك الصعبة حَتَّى اخْتلف فِي صِحَّتهَا أَئِمَّة الْمَعْقُول فمخالفة الْحق فِيهَا على جِهَة التَّأْوِيل لَا يكون كفرا وَلَا فسقا على جَمِيع قَوَاعِد الْعُقَلَاء قَالُوا وَلَا شكّ أَن الْفَوْز بالامان من الْكفْر الْمُوجب الخلود فِي النَّار أرجح من الْفَوْز بالظفر بِالْحَقِّ فِي دقائق الْجَوَاهِر والاعراض كَمَا نَص عَلَيْهِ الْمُؤَيد بِاللَّه فِي الزِّيَادَات من أَئِمَّة العترة وَغَيره مِنْهُم عليهم السلام فَشد على هَذِه يَديك وَلَا تغفل النّظر فِيهَا

فان قلت فَمَا يعْتَقد أهل الاثر فِي رَحْمَة الله وَهل يجوزون أَنَّهَا رَحْمَة مثل رَحْمَة المخلوقين

قلت كلا فان رَحْمَة المخلوقين ممتزجة بجهلهم وعجزهم فيدخلها الْحَسْرَة والاسف والبكاء والاماني الْبَاطِلَة فتغلبهم فتصرفهم عَن الْعدْل وَالْحق وَقد أجمعنا على أَن الْعَلِيم الْقَدِير محكمان لَا يجب تأويلهما وَلَو قَالَ قَائِل أَنَّهُمَا فِي حق الله مثلهَا فِينَا لَكَانَ كَافِرًا بالاجماع فاذا وَجب نفي التَّشْبِيه فِي المحكمات بالاجماع فَكيف لَا ننفيه فِي غَيرهَا وَسَيَأْتِي إِيضَاح ذَلِك وَإِنَّمَا بسطت القَوْل هُنَا لِأَن أَكثر التَّأْوِيل يَدُور على هَذِه الصُّورَة

فان قيل تَقْدِيم الْعقل على السّمع أولى عِنْد التَّعَارُض لِأَن السّمع علم بِالْعقلِ فَهُوَ أَصله وَلَو بَطل الْعقل بَطل السّمع وَالْعقل مَعًا وَهَذِه من قَوَاعِد الْمُتَكَلِّمين

قُلْنَا قد اعْتَرَضَهُمْ فِي ذَلِك الْمُحَقِّقُونَ بِأَن الْعُلُوم يَسْتَحِيل تعارضها فِي الْعقل والسمع فتعارضها تَقْدِير محَال فانه لَو بَطل السّمع أَيْضا بعد أَن دلّ

ص: 117

الْعقل على صِحَّته لبطلا مَعًا أَيْضا لِأَن الْعقل قد كَانَ حكم بِصِحَّة السّمع وَأَنه لَا يبطل فحين بَطل السّمع علمنَا بِبُطْلَانِهِ بطلَان الاحكام الْعَقْلِيَّة وَمِمَّنْ ذكر ذَلِك ابْن تَيْمِية وَابْن دَقِيق الْعِيد وَالزَّرْكَشِيّ فِي شرح جمع الْجَوَامِع

الصُّورَة الثَّانِيَة أَن يتَيَقَّن الْمُتَكَلّم بعض الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة حَتَّى لَا يشك فِي صِحَّتهَا وَهِي كَذَلِك ثمَّ يعْتَقد لتَقْصِيره فِي علم السّمع أَن السّمع ورد بنقيض ذَلِك الْأَمر الْمَعْلُوم عِنْده فَيَقَع فِي الْكفْر الصَّرِيح كَابْن الراوندي وَسَائِر من صرح بِالرّدَّةِ لذَلِك وَمن هَؤُلَاءِ بعض الفلاسفة وَأكْثر البراهمة أَعنِي أَن بَعضهم كفر من هَذِه الْجِهَة وَبَعْضهمْ كفر من جِهَة أُخْرَى وَذَلِكَ أَن هَؤُلَاءِ اجْتمعت كلمتهم على أَن عَذَاب الْآخِرَة خَال عَن الْمصلحَة وَالْحكمَة وَأَن ذَلِك لَا يجوز على مُخْتَار عليم حَكِيم فَقَوْلهم أَن التعذيب لغير حِكْمَة لَا يجوز على الْمُخْتَار الْعَلِيم الْحَكِيم حق وصواب لكِنهمْ قصروا فِي علم السّمع فظنوا أَنه ورد بِأَن ذَلِك الْعَذَاب خَال عَن الْحِكْمَة وَدَعوى هَذَا على السّمع بَاطِلَة وَقد جود ابْن تَيْمِية غاليا فِي الرَّد عَلَيْهِم على التَّفْصِيل كَمَا هُوَ مَبْسُوط فِي حادي الارواح وَأَشَارَ إِلَى مثل قولة الْغَزالِيّ فِي الْمَقْصد الاسنى فِي شرح الرَّحْمَن الرَّحِيم مِنْهُ وَلم يُصَرح وَجعل ذَلِك من الاسرار الَّتِي لَا تفشى وَسَيَأْتِي طرف من ذَلِك وَبَيَان الْمُخْتَار مِنْهُ فِي مَسْأَلَة اثبات الْحِكْمَة قَرِيبا إِن شَاءَ الله تَعَالَى

الصُّورَة الثَّالِثَة قوم أَسْرفُوا فِي التَّقْصِير فِي علم السّمع تَارَة فِي طلب معرفَة نصوصه وَأَلْفَاظه وطرق صِحَّتهَا وَتارَة فِي مَعَانِيهَا وَتارَة فِي كَيْفيَّة الْجمع بَين المتعارض فيقدمون الْعُمُوم على الْخُصُوص والظواهر على النُّصُوص وَنَحْو ذَلِك حَتَّى ظنُّوا فِي بعض الْأُمُور أَن السّمع ورد بِهِ ورودا ضَرُورِيًّا أَو قَطْعِيا وَلم يرد بِهِ السّمع أصلا لَا ضَرُورَة وَلَا قطعا وَلَا ظنا ثمَّ عارضته أَدِلَّة كَثِيرَة جلية عقلية أَو سمعية أَو كِلَاهُمَا كالنواصب وَالرَّوَافِض وَكثير من الوعيدية والمبالغين فِي التَّكْفِير والتفسيق والتقنيط والتبري من كثير من أهل الاسلام والمبتدعة الَّذين لَهُم ذنُوب وهفوات لَا تخرج عَن الاسلام

وَمن ذَلِك خبط كثير من النَّاس فِي مَسْأَلَة الْقُرْآن وتكفير كل مِنْهُم لمن خَالفه بِغَيْر برهَان حَتَّى اعْتقد بعض الْمُحدثين قدم التِّلَاوَة وَجحد حُدُوث

ص: 118

صَوت التَّالِي مَعَ اعترافه بحدوث التَّالِي وحدوث لِسَانه ووجودهما قبل التِّلَاوَة وَقد قَالَ الْغَزالِيّ إِن هَذَا مَا درى مَا الْقَدِيم وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ أَن من عرف معنى هَذَا رَجَعَ عَنهُ وَإِنَّمَا كَانَت هفوة مِمَّن لم يتعقل هَذَا وَحَتَّى قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَليّ الجبائي أَن الله تَعَالَى يتَكَلَّم مَعَ التَّالِي وَأَن الصَّوْت كامن فِي الْحُرُوف فِي الْمَصَاحِف وكل ذَلِك لاعتقادهم أَن السّمع ورد بَان كَلَام الله هُوَ المسموع فِي المحاريب الْمَكْتُوب فِي الْمَصَاحِف وان مُنكر هَذَا كَافِر

وَمَا قَالُوهُ من أَن ذَلِك كَلَام الله فِي الْجُمْلَة حق وَلَكِن لابد من الْفرق بَين التِّلَاوَة والمتلو والحكاية والمحكى وَهُوَ فرق ضَرُورِيّ فان المتلو المحكي كَلَام الله بِغَيْر شكّ والتلاوة والحكاية فعل لنا مَقْدُور اخْتِيَاري بِغَيْر شكّ وَلَا شكّ أَن مَا هُوَ مَقْدُور لنا وَاقع باختيارنا غير المعجز الَّذِي لم يقدر عَلَيْهِ أحد فالشيخ أَبُو عَليّ خَافَ مَا خَافَ أهل الْأَثر فِي الْمرتبَة الأولى من الْكفْر فِي مُخَالفَة السّمع فتكلف مُخَالفَة الْمَعْقُول فِي كمون الصَّوْت فِي الْحُرُوف الْمَكْتُوبَة وَفِي احداث صَوت من الله مَعَ صَوت كل قَارِئ حَتَّى يكون السَّامع لكل قَارِئ سَامِعًا لكَلَام الله على الْحَقِيقَة كَمَا سَمعه مُوسَى عليه السلام كل هَذَا حَتَّى لَا يُخَالف الاجماع وَالنَّص حَيْثُ قَالَ الله تَعَالَى {فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله} فَأَي حرج على أهل الْأَثر إِذا تابعوا سَائِر السّمع وخالفوا من المعقولات مَا هُوَ أدق من الْمَعْقُول الَّذِي خَالفه أَبُو عَليّ فِي هَذِه الْمذَاهب الَّتِي لَوْلَا رَوَاهَا عَنهُ أَصْحَابه لعدت من تشنيع الاعداء عَلَيْهِ

وَأما أُولَئِكَ المحدثون فَلم يفرقُوا بَين إِنْكَار السّلف كَون الْقُرْآن مخلوقا وَبَين كَونه قَدِيما فظنوا مَا ظن أَبُو عَليّ من الاجماع من السّلف على قدمه وسوف يَأْتِي الْفرق بَينهمَا فِي بَابه وَأما الروافض والنواصب والخوارج وغلاة الوعيدية فظنوا أَن السّمع ورد بعقائدهم فجحدوا كل مَا خَالف ذَلِك مِمَّا لم يعلموه وتأولوا مَا علموه ففحش جهلهم حَيْثُ قدمُوا الاكاذيب الْمَعْلُوم عِنْد أهل السّمع بُطْلَانهَا على المتواترات وَهَؤُلَاء لَا دَوَاء لَهُم لِأَن اعْتِقَادهم تَقْلِيد مَحْض لاسلافهم وَهُوَ غير منكشف لَهُم إِلَّا بَان يشكوا فِيهِ ويقبلوا على تعلم السّمع وَقِرَاءَة كتب الرِّجَال والتواريخ والمساند حَتَّى

ص: 119

يَكُونُوا من أَئِمَّة السّمع وينكشف لَهُم جهل أسلافهم أَو عنادهم وهم غير ملتفتين إِلَى شَيْء من هَذَا بل هم فِي غَايَة الْعجب بعلمهم واتقانهم وَغَايَة السخرية بخصومهم فهم أفحش الاقسام الاربعة الْمَشْهُورَة وهم من الَّذين لَا يَدْرُونَ أَنهم لَا يَدْرُونَ

وَقد رَأَيْت لبَعض حذاق الباطنية فِي كتاب الْملَل والنحل الْقدح فِي الاخبار بذلك فانه لم يفرق بَين التَّوَاتُر الْحق وَدَعوى التَّوَاتُر فَقَالَ أما التَّمَسُّك بالاخبار فانه متعارض لِأَن كل طَائِفَة قد تَوَاتر لَهُم مَا هم عَلَيْهِ عَن أسلافهم الَّذين يثقون بهم وَلم يعلم الْمُغَفَّل أَن هَذَا مثل دَعْوَى الْيَهُود لقَوْل مُوسَى عليه السلام تمسكوا بالسبت أبدا وَدَعوى تَوَاتر ذَلِك عَنهُ وَأَنه لَا فرق بَين تِلْكَ الدَّعْوَى وَبَين مَا صَحَّ عَن نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أَنه لَا نَبِي بعدِي وَأَنه خَاتم الْأَنْبِيَاء وَكم بَين تَوَاتر صِفَات الْكَمَال فِي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وتواتر معجزاته وفضائله للعارفين وَبَين تلقي صبيان الْيَهُود لما يُعَارض ذَلِك كُله عَن آبَائِهِم الْقَوْم البهت وَهل يَقُول مميزان الامرين فِي التَّوَاتُر سَوَاء فجهال هَذِه الصُّورَة مثل صبيان الْيَهُود حِين نشؤا على ظن السوء برَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنه لَا دَوَاء لَهُم إِلَّا أَن يتْركُوا تَقْلِيد آبَائِهِم فِي ذَلِك الظَّن السيء ويطالعوا كتب الاسلام الَّتِي فِيهَا سيرته وأخلاقه ومعجزاته وَسَائِر مناقبه والتواتر مِمَّا لَا يُمكن تَعْرِيف الْجَاهِل بِهِ أَلْبَتَّة

وَلذَلِك يَقُول الْعلمَاء فِي ذَلِك أَنه مَعْلُوم لمن طالع كتب الاخبار وَإِلَّا فَكل مُبْطل مُعْتَقد لصِحَّة باطله وَلَوْلَا الْفرق بَين الاعتقادات الْبَاطِلَة والعلوم الصَّحِيحَة مَا تميز كفر من اسلام وَلَا شرك من تَوْحِيد وَلَا عَالم من جَاهِل فالعلم الْحق مَا جمع الْجَزْم والمطابقة والثبات عِنْد التشكيك فالظنون تَلْتَبِس بالعلوم الجازمة عِنْد كثير من الْعَامَّة والاعتقادات الْبَاطِلَة وَإِن كَانَت جازمة فِي نفوس أَهلهَا فَهِيَ غير مُطَابقَة فِي الْخَارِج واعتقادات عوام الْمُسلمين وَإِن كَانَت جازمة فِي نُفُوسهم مُطَابقَة للحق فانها لَا تثبت فِي نُفُوسهم عِنْد التشكيك وَالْعلم الْحق هُوَ مَا جمع هَذِه الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة وَالله سُبْحَانَهُ قد خص بالهداية لَهُ من علم مِنْهُ الْقبُول والانصاف والاهلية لذَلِك كَمَا قَالَ فِي إِبْرَاهِيم عليه السلام {وَكُنَّا بِهِ عَالمين} وَقَالَ معَاذ إِن الْعلم وَالْإِيمَان

ص: 120

مكانهما من طلبهما وجدهما فَاطْلُبُوا ذَلِك من حَيْثُ طلبه إِبْرَاهِيم حَيْثُ قَالَ {إِنِّي ذَاهِب إِلَى رَبِّي سيهدين} وَقد تقدم الارشاد إِلَى طَرِيق الظفر بِالْحَقِّ فِي هَذِه الْمُقدمَة من هَذَا الْمُخْتَصر

الصُّورَة الرَّابِعَة طَائِفَة من أهل السّمع أتقنوا علم السّمع وَعَلمُوا مِنْهُ بعض الْقَوَاعِد علما صَحِيحا وتواتر لَهُم مَا لم يتواتر لغَيرهم لشدَّة بحثهم وقطعهم أعمارهم فِي ذَلِك ثمَّ نازعهم فِي ذَلِك جمَاعَة من عُلَمَاء المعقولات الْمُقَصِّرِينَ فِي علم السّمع كبعض الْمُعْتَزلَة خُصُوصا الْمُتَأَخِّرين فِي نفي الشَّفَاعَة للموحدين وَنفي الرَّجَاء للمذنبين مِنْهُم وإيجابب خلودهم فِي النَّار مَعَ الْمُشْركين فَظن أُولَئِكَ الَّذين أتقنوا مَا علمُوا من السّمع أَن الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة هِيَ الْمُعَارضَة لما عرفوه من السّمع الْحق فِي ذَلِك لشُبْهَة أَن المعارضين لَهُم فِيهِ يدعونَ التَّحْقِيق فِي المعقولات فيعادون علم الْمَعْقُول وَمن خَاضَ فِيهِ حَتَّى من أهل السّنة وظنوا أَن الاصغاء اليه وَالنَّظَر فِيهِ يسْتَلْزم الْبِدْعَة من غير بُد وَلَو نظرُوا بِعَين التَّحْقِيق لعلموا أَن خصومهم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِنَّمَا أَتَوا من التَّقْصِير فِي علم السّمع وإقلال الْبَحْث عَنهُ وَمَا شابوا بِهِ جدا لَهُم من المعقولات فانما ادعوا فِيهِ على الْعقل مَا هُوَ بَرِيء مِنْهُ كَمَا يدعونَ على الْعقل تقبيح خطاب الله لنا بِالْعُمُومِ الْمَخْصُوص فِي العقائد من غير بَيَان مقترن بِهِ وَلم يعلمُوا أَنه يرد عَلَيْهِم هَذَا بِعَيْنِه فِي عمومات الْوَعْد كعمومات الْوَعيد فَلَو حرم تَخْصِيص الْوَعيد بالأدلة الْمُنْفَصِلَة عَنهُ لحرم تَخْصِيص الْوَعْد كَذَلِك بل أولى وَأَحْرَى وَحِينَئِذٍ يحصل بطلَان مقصودهم

فان قَالُوا فِي عمومات الْوَعْد يُمكن أَن تخصيصها قد كَانَ تقدمها وَعلم

قُلْنَا وَكَذَلِكَ يُمكن فِي عمومات الْوَعيد فان قَالُوا فِي تَخْصِيص الْوَعيد أَنه ظَنِّي قُلْنَا صَدقْتُمْ أَنه ظَنِّي عنْدكُمْ لَكِن قد علم غَيْركُمْ مَا لم تعلموه من تواتره كَمَا أوضحته فِي العواصم وَلَئِن سلمنَا أَنه ظَنِّي فان حكم الظني أَن لَا يقطع بصدقه وَلَا كذبه لَا أَنه يقطع يكذبهُ لِأَنَّهُ لَا طَرِيق إِلَى ذَلِك وَأَنْتُم لم تتوقفوا فِي صدقه بل قطعْتُمْ بكذبه وَهَذَا هُوَ الْقطع بِغَيْر تَقْدِير والخبط الَّذِي لَيْسَ من الْعلم الْعقلِيّ فِي قبيل وَلَا دبير

ص: 121

وَاعْلَم أَنه لَا يكَاد يسلم من هَذِه الاغلاط إِلَّا أحد رجلَيْنِ إِمَّا رجل ترك الْبِدْعَة كلهَا والتمذهب والتقاليد والاعتزاء إِلَى الْمذَاهب وَالْأَخْذ من التعصب بِنَصِيب وَبَقِي مَعَ الْكتاب وَالسّنة كَرجل نَشأ قبل حُدُوث الْمذَاهب وَلم يعبر عَن الْكتاب وَالسّنة بِعِبَارَة مِنْهُ مبتدعة واستعان الله وأنصف ووقف فِي مَوَاضِع التَّعَارُض والاشتباه وَلم يدع علم مَا لم يعلم وَلَا تكلّف مَا لَا يحسن وَهَذَا هُوَ مَسْلَك البُخَارِيّ وأئمة السّنة غَالِبا فِي تَرْجَمَة تصدير الْأَبْوَاب وَفِي العقائد بالآيت القرآنية والاخبار النَّبَوِيَّة كَمَا صنع فِي أَبْوَاب الْقدر وَكتاب التَّوْحِيد وَالرَّدّ على الْجَهْمِية وأبواب الْمَشِيئَة وَرجل أتقن العلمين الْعقلِيّ والسمعي وَكَانَ من أئمتهما مَعًا بِحَيْثُ يرجع اليه أئمتهما فِي وقائعهما ومشكلاتهما مَعَ حسن قصد وورع وانصاف وَنحر للحق فَهَذَا لَا تخلف عَنهُ هِدَايَة الله واعانته وَأما من عادى أحد هذَيْن العلمين وعادى أَهله وَلم يكن على الصّفة الأولى من لُزُوم مَا يعرف وَترك مَا لَا يعرف فانه لابد أَن تدخل عَلَيْهِ الْبدع والاغلاط والشناعات

وَمن أَنْوَاع الزِّيَادَة فِي الدّين الْكَذِب فِيهِ عمدا وَهَذَا الْفَنّ يضر من لم يكن من أَئِمَّة الحَدِيث وَالسير والتواريخ وَلَا يتَوَقَّف على نقدهم فِيهِ بِحَيْثُ لَا يفرق بَين مَا يتواتر عِنْد أهل التَّحْقِيق وَبَين مَا يزوره غَيرهم وَلَيْسَ لَهُ دَوَاء إِلَّا اتقان هَذَا الْفَنّ والرسوخ فِيهِ وَعدم الْمُعَارضَة لأَهله بِمُجَرَّد الدَّعَاوَى الفارغة وَهُوَ علم صَعب يحْتَاج إِلَى طول الْمدَّة وَمَعْرِفَة عُلُوم الحَدِيث وَعدم العجلة بِالدَّعْوَى وَإِن كَانَ جليا فِي مَعْنَاهُ فان الرسوخ فِيهِ بعيد عَن حُصُول الْعلم الضَّرُورِيّ بأحوال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأحوال السّلف بِحَيْثُ يعلم دينهم بِالضَّرُورَةِ مثل مَا يعلم مَذْهَب الْمُعْتَزلَة والأشعرية كَذَلِك يطول الْبَحْث فِي علم الْكَلَام وَيعلم مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَمَا لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَمَا يُمكن الْقدح فِيهِ من المنقولات الْمَشْهُورَة وَمَا لَا يُمكن من غير تَقْلِيد وَلَا أقل من معرفَة مثل عُلُوم الحَدِيث للْحَاكِم فِي ذَلِك وَهَذَا عِنْدِي هُوَ الْفَائِدَة الْعُظْمَى فِي الرسوخ فِي علم الحَدِيث وَلَيْسَ الْفَائِدَة الْعُظْمَى فِيهِ معرفَة أَحَادِيث الاحكام فِي فروع الْحَلَال وَالْحرَام كَمَا يظنّ ذَلِك من يقْتَصر على قِرَاءَة بعض المختصرات فِي ذَلِك ويكتفي بِهِ فِي هَذَا الْعلم الْجَلِيل ولأمر مَا كَانَ أَئِمَّة الحَدِيث الراسخون أَرْكَان الايمان

ص: 122

فِي الثُّبُوت عِنْد الْفِتَن والامتحان وَقد ذكرت أُمُور كَثِيرَة يقْدَح بهَا على الْمُحدثين وأئمة المنقولات وَقد ذكرتها وَالْجَوَاب عَنْهَا فِي المجلد الأول من العواصم واشتمل ذَلِك على فَوَائِد ومعارف مهمة يحْتَاج اليها من يهتم بالمعارف المنقولة وَللَّه الْحَمد وَهَذَا آخر مَا حصر من التحذير من الزِّيَادَة فِي الدّين وَالْكَلَام فِي بطلَان ذَلِك وتحريمه وَهُوَ الامر الأول

وَأما الْأَمر الثَّانِي وَهُوَ النَّقْص فِي الدّين برد النُّصُوص والظواهر ورد حقائقها إِلَى الْمجَاز من غير طَرِيق قَاطِعَة تدل على ثُبُوت الْمُوجب للتأويل إِلَّا مُجَرّد التَّقْلِيد لبَعض أهل الْكَلَام فِي قَوَاعِد لم يتفقوا عَلَيْهَا أَيْضا وأفحش ذَلِك وأشهره مَذْهَب القرامطة الباطنية فِي تَأْوِيل الاسماء الْحسنى كلهَا أَو نَفيهَا عَن الله على سَبِيل التَّنْزِيه لَهُ عَنْهَا وَتَحْقِيق التَّوْحِيد بذلك وَدَعوى أَن اطلاقها عَلَيْهِ يَقْتَضِي التَّشْبِيه وَقد غلوا فِي ذَلِك وبالغوا حَتَّى قَالُوا أَنه لَا يُقَال أَنه مَوْجُود وَلَا مَعْدُوم بل قَالُوا أَنه لَا يعبر عَنهُ بالحروف وَقد جعلُوا تَأْوِيلهَا أَن المُرَاد بهَا كلهَا أَمَام الزَّمَان عِنْدهم وَهُوَ عِنْدهم الْمُسَمّى الله وَالْمرَاد بِلَا إِلَه إِلَّا الله وَقد تَوَاتر هَذَا عَنْهُم وَأَنا مِمَّن وقف عَلَيْهِ فِيمَا لَا يُحْصى من كتبهمْ الَّتِي فِي أَيْديهم وخزائنهم ومعاقلهم الَّتِي دخلت عَلَيْهِم عنْوَة أَو فتحت بعد طول محاصرة وَأخذ بَعْضهَا عَلَيْهِم من بعض الطرقات وَقد هربوا بِهِ وَوجد بَعْضهَا فِي مَوَاضِع خُفْيَة قد أخفوه فِيهَا فَكَمَا أَن كل مُسلم يعلم أَن هَذَا كفر صَرِيح وَأَنه لَيْسَ من التَّأْوِيل الْمُسَمّى بِحَذْف الْمُضَاف الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى {واسأل الْقرْيَة الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعير الَّتِي أَقبلنَا فِيهَا} أَي أهل الْقرْيَة وَأهل العير وَإِنَّمَا علم هَذَا كل مُسلم تطول صحبته لأهل الاسلام وَسَمَاع أخبارهم والباطني النَّاشِئ بَين الباطنية لَا يعلم مثل هَذَا فَكَذَلِك الْمُحدث الَّذِي قد طَالَتْ مطالعته للآثار قد يعلم فِي تَأْوِيل بعض الْمُتَكَلِّمين مثل هَذَا الْعلم وَإِن كَانَ الْمُتَكَلّم لبعده عَن أَخْبَار الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وأحواله وأحوال السّلف قد بعد عَن علم الْمُحدث كَمَا بعد الباطني عَن علم الْمُسلم فالمتكلم يرى أَن التَّأْوِيل مُمكن بِالنّظرِ إِلَى وضع عُلَمَاء الْأَدَب فِي شُرُوط الْمجَاز وَذَلِكَ صَحِيح وَلَكِن مَعَ الْمُحدث

ص: 123

من الْعلم الضَّرُورِيّ بِأَن السّلف مَا تأولوا ذَلِك مثل مَا مَعَ الْمُتَكَلّم من الْعلم الضَّرُورِيّ بِأَن السّلف مَا تأولوا الاسماء الْحسنى بامام الزَّمَان وان كَانَ مجَاز الْحَذف الَّذِي تأولت بِهِ الباطنية صَحِيحا فِي اللُّغَة عِنْد الْجَمِيع لَكِن لَهُ مَوضِع مَخْصُوص وهم وضعوه فِي غير مَوْضِعه كَذَلِك الْمُتَكَلّم فِي بعض أَسمَاء الله الْحسنى كالسميع والبصير والحكيم والرحمن والرحيم فانها من الاسماء الْحسنى الْمَعْلُوم وُرُودهَا فِي كتاب الله على سَبِيل التمدح بهَا وَالثنَاء الْعَظِيم وَنَصّ الله تَعَالَى وَرَسُوله على أَنَّهَا ثَنَاء على الله تَعَالَى فِي حَدِيث قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي وَفِيه فاذا قَالَ الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ الله تَعَالَى أثنى عَليّ عَبدِي مَعَ تكريرها فِي عهد النُّبُوَّة وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لم يشْعر أحد مِنْهُم فِي تِلْكَ الاعصار كلهَا بتقبيح شَيْء من ظواهرها أَلا ترى أَن الرَّحْمَن الرَّحِيم ثابتان فِي السَّبع المثاني المعظمة متلوان فِي جَمِيع الصَّلَوَات الْخمس مجهور بهما فِي أَكْثَرهَا فِي محافل الْمُسلمين مُجْمِعِينَ على أَنَّهُمَا من أحسن الثَّنَاء على الله تَعَالَى وأجمله وأفضله متقربين إِلَى الله بمدحه بذلك مظهر من أَنه أحب الْحَمد اليه وَلذَلِك كرر تَكْرَارا كثيرا فِي كتاب الله سُبْحَانَهُ وَفِي بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم المكرر فِي أول كل سُورَة المتبرك بِهِ فِي أول كل عبَادَة وجمعا مَعًا ومرجعهما إِلَى معنى وَاحِد وَلم يجمع اسمان فِي معنى وَاحِد فِي مَوضِع وَاحِد قطّ كالغفار الغفور وَنَحْو ذَلِك بِخِلَاف الرَّحْمَن الرَّحِيم فَتَأمل ذَلِك فهما الْغرَّة والمقدمة فِي ممادح رب الْعِزَّة فِي خطب الْمُسلمين وجمعهم وجماعتهم وحوائجهم ومجامعهم ورسائلهم ومكاتباتهم وتصانيفهم وتصرفاتهم وكل أَمر ذِي بَال كَانَ مِنْهُم فِي مصادرهم ومواردهم وتضرعهم إِلَى رَبهم ودعائهم وَعند رقتهم وخضوعهم وجدهم واجتهادهم يلقنها سلف الْمُسلمين خَلفهم ويتلقنهما خَلفهم عَن سلفهم ويعلمهما الْآبَاء أَبْنَاءَهُم ويتعلمهما الابناء من آبَائِهِم ويتردد التشفي بذكرهما بَين أصاغرهم وأكابرهم وبدوهم وحضرهم وخاصتهم وعامتهم وذكرانهم وإناثهم وبلدائهم وأذكيائهم فَأَي مَعْلُوم من الدّين أبين من كَونهمَا من ممادح الله تَعَالَى وَأشهر وأوضح وَأظْهر وَأكْثر استفاضة وشهرة وتواترا وعظمت الشناعة فِي إِنْكَار حقيقتهما ومدحتهما حِين وَافق ذَلِك مَذْهَب القرامطة وَمذهب أسلافهم من الْمُشْركين فِي انكارهم الرَّحْمَن وَنَصّ الْقُرْآن على الرَّد عَلَيْهِم

ص: 124

فِي ذَلِك والصدع بِالْحَقِّ فِيهِ حَيْثُ حكى عَنْهُم قَوْلهم وَمَا الرَّحْمَن أنسجد لما تَأْمُرنَا فَقَالَ عز من قَائِل {الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش الرَّحْمَن فاسأل بِهِ خَبِيرا وَإِذا قيل لَهُم اسجدوا للرحمن قَالُوا وَمَا الرَّحْمَن أنسجد لما تَأْمُرنَا وَزَادَهُمْ نفورا} وَحَيْثُ قَالَ {وهم يكفرون بالرحمن قل هُوَ رَبِّي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} وَحَيْثُ قَالَ {وهم بِذكر الرَّحْمَن هم كافرون} وَعظم الله تَعَالَى هَذَا الِاسْم الشريف وَبَالغ فِي تَعْظِيمه حَيْثُ قَالَ {قل ادعوا الله أَو ادعوا الرَّحْمَن أيا مَا تدعوا فَلهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} وَقَالَ حاكيا عَن خِيَار عباده {هُوَ الرَّحْمَن آمنا بِهِ وَعَلِيهِ توكلنا} وَجَاءَت الصوادع القرآنية مادحة لله تَعَالَى بأعظم صِيغ المبالغات فِي هَذِه الصّفة الشَّرِيفَة الحميدة بِأَن الله عز وجل خير الرَّاحِمِينَ وأرحم الرَّاحِمِينَ وَكرر هَذِه الْمُبَالغَة فِي مَوَاضِع من كِتَابه الْكَرِيم الَّذِي قَالَ فِيهِ {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا لَعَلَّكُمْ تعقلون} وَجَاءَت فِي كَلَام مُوسَى وَأَيوب وَيَعْقُوب ويوسف عليهم السلام

وَكرر الله تَعَالَى التمدح بِالرَّحْمَةِ مرَارًا جمة أَكثر من خَمْسمِائَة مرّة من كِتَابه الْكَرِيم مِنْهَا باسمه الرَّحْمَن أَكثر من مائَة وَسِتِّينَ مرّة وباسمه الرَّحِيم أَكثر من مِائَتي مرّة وجمعهما للتَّأْكِيد مائَة وست عشرَة مرّة وأكد الرَّحِيم فَجَمعه مرَارًا مَعَ التواب ومرارا مَعَ الرؤوف والرأفة أَشد الرَّحْمَة ومرارا مَعَ الغفور وَهِي أَكثر عرفت مِنْهَا سَبْعَة وَسِتِّينَ موضعا وَأخْبر أَنه كتب على نَفسه الرَّحْمَة مرَّتَيْنِ وَأَنه لَا عَاصِم من أمره إِلَّا من رحم وَأَن من لم يرحمه يكن من الخاسرين وَلَا يزالون مُخْتَلفين إِلَّا من رحم وَإِن النَّفس لأمارة بالسوء إِلَّا مَا رحم وَأَنه ذُو رَحْمَة وَاسِعَة إِلَى غير ذَلِك من صِيغ المبالغات القاضية بِأَن ذَلِك من أحب الثَّنَاء والممادح والمحامد اليه عز وَجل

ص: 125

وبالغت الْمَلَائِكَة الْكِرَام فِي ممادح الرب سُبْحَانَهُ بذلك فأوردت أبلغ صِيغ المبالغات فَقَالَت {رَبنَا وسعت كل شَيْء رَحْمَة وعلما} ومدح الله ذَاته الْكَرِيمَة بِهَذِهِ الصِّيغَة البليغة فَقَالَ {ورحمتي وسعت كل شَيْء} وَفِي كتاب سُلَيْمَان عليه السلام الَّذِي حَكَاهُ الله عَنهُ فِي كِتَابه الْكَرِيم لشرفه الْعَظِيم {إِنَّه من سُلَيْمَان وَإنَّهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} وَحكى الله نَحْو ذَلِك فِي كِتَابه الْكَرِيم عَن إِبْرَاهِيم وَيَعْقُوب ومُوسَى وَأَيوب وَصَالح وَعِيسَى ابْن مَرْيَم عليهم السلام للدلالة على اتِّفَاق الْأَدْيَان النَّبَوِيَّة الأولى وَالْآخِرَة على مدح الله تَعَالَى بذلك وخاطب الْأَنْبِيَاء عليهم السلام بذلك الجفاة الاجلاف من الْمُشْركين وَنَحْوهم مِمَّن لَا يفهم دقائق الْكَلَام الصارفة إِلَى مَقَاصِد أَهله فَقَالَ الْخَلِيل عليه السلام فِي خطاب أَبِيه {يَا أَبَت لَا تعبد الشَّيْطَان إِن الشَّيْطَان كَانَ للرحمن عصيا يَا أَبَت إِنِّي أَخَاف أَن يمسك عَذَاب من الرَّحْمَن فَتكون للشَّيْطَان وليا} وَقَالَ هَارُون عليه السلام لعباد الْعجل مَا ذكره الله عَنهُ ومدحه بِهِ حَيْثُ قَالَ {وَلَقَد قَالَ لَهُم هَارُون من قبل يَا قوم إِنَّمَا فتنتم بِهِ وَإِن ربكُم الرَّحْمَن فَاتبعُوني} وَكتب ذَلِك سُلَيْمَان إِلَى بلقيس وقومها وَأمر الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْكَرِيم بالفرح برحمته والفرح بهَا فرع التَّصْدِيق بهَا فَقَالَ تَعَالَى {قل بِفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} وَفِي عطفها على فَضله دلَالَة على الْمُغَايرَة بَينهمَا وَذَلِكَ خلاف مَا يَقُول من تأولها

وَفِي الصِّحَاح من ذَلِك الْكثير الطّيب وَمَا لَا تتسع لَهُ هَذِه التَّذْكِرَة المختصرة مِنْهُ حَدِيث سلمَان وَأبي هُرَيْرَة وجندب وَابْن عَبَّاس وَعبادَة وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَابْن حيدة وخلاس وَالْحسن وَابْن سِيرِين فِي الْمِائَة الرَّحْمَة الَّتِي لله تَعَالَى وَإِنَّهَا وسعت الْخَلَائق مِنْهَا رَحْمَة وَاحِدَة وَأَن هَذِه الرَّحْمَة الَّتِي يتراحم بهَا الْخَلَائق وَالسِّبَاع وَالدَّوَاب الْبَريَّة والبحرية هِيَ

ص: 126

جُزْء من مائَة جُزْء من رَحْمَة الله وَظَهَرت محبَّة الله تَعَالَى للثناء عَلَيْهِ بِهَذِهِ الصّفة وَمَا يشتق لَهُ مِنْهَا من الاسماء الشَّرِيفَة حَتَّى كَانَ أحب الاسماء اليه عبد الله وَعبد الرَّحْمَن كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح فَكيف يُقَال أَن ظَاهرهَا نقص وذم وَكفر وتشبيه وَسَب للْملك الحميد الْمجِيد الَّذِي لَا أحد أحب اليه الْحَمد والمدح مِنْهُ وَلَا أعرف بِمَا يَلِيق بجلاله مِنْهُ ثمَّ من رسله وَلَا يُحْصى عَلَيْهِ ثَنَاء هُوَ كَمَا أثنى على نَفسه لأهليته لذَلِك وَلذَلِك مدح نَفسه وَعلمنَا مدحه ودعانا اليه وأثابنا عَلَيْهِ فَكيف يفْتَتح كتبه الْكَرِيمَة ويشحنها بِمَا ظَاهره السب والذم وَالْكفْر والتشبيه وَبِمَا نسبته اليه كنسبة الارادة إِلَى الْجِدَار والجناح إِلَى الذل بل أَشد بعدا من ذَلِك فان الْجِدَار لَا يذم بالارادة والذل لَا يذم بالجناح فَصَارَ لَا يُوجد لذَلِك مِثَال لِأَنَّهُ يسْتَلْزم اسْتِعَارَة اسْم الذَّم لارادة الْمَدْح كَمَا لَو مدحت بالظلم الْملك الْعَادِل وبالنقص الرجل الْكَامِل مجَازًا وَنَحْو ذَلِك

مِمَّا لَا يحسن فِي البلاغة بل لَا يَصح فِي اللُّغَة وَلَا يُوجد فِي كَلَام الْعَامَّة والعجم

وَقد أجمع الْمُسلمُونَ على حسن اطلاق الرَّحْمَة على الله من غير قرينَة تشعر بالتأويل وَلَا توقف على عبارَة التَّنْزِيل وَلَو كَانَ ظَاهرهَا الْقبْح والذم والانتقاص لله عز وجل لم يحسن ذَلِك من الْعباد وان ورد فِي كَلَام الله أقرّ فِي مَوْضِعه على قَوَاعِد عُلَمَاء الْكَلَام على أَن فطر الْعُقُول تعرف رَحْمَة الله تَعَالَى وسعة علمه وَكَمَال قدرته فان الْعلم بِضعْف الْعباد مَعَ تَمام الْقُدْرَة والممادح والمحامد وَعدم الْمعَارض يسْتَلْزم الرَّحْمَة عقلا أَيْضا فَهِيَ من المحكمات لامن المتشابهات على أَن الله سُبْحَانَهُ أعلم وَأحكم وَأجل وَأعظم وأعز فِي كبريائه عَن أَن يتَخَيَّر مَا ظَاهره الانتقاص والذم غرَّة شادخة لاسمائه الْحسنى مُقَدّمَة فِي مثاني كِتَابه الْعُظْمَى وَهُوَ الَّذِي بلغ كَلَامه أَعلَى دَرَجَات الاعجاز فِي البلاغة الَّتِي هِيَ الْبلُوغ إِلَى المُرَاد الْمَقْصُود بأوضح الْعبارَات وأجزلها وأبينها وأجملها

وَأَيْضًا فقد ثَبت أَن الرَّحْمَن مُخْتَصّ بِاللَّه تَعَالَى وَحده وَيحرم إِطْلَاقه على غَيره وَلَو كَانَت الرَّحْمَة لَهُ مجَازًا وَلغيره حَقِيقَة كَانَ الْعَكْس أوجب وَأولى وَمَا الْمَانِع للْمُسلمِ من اثباتها صفة حمد ومدح وثناء كَمَا علمنَا رَبنَا مَعَ نفي

ص: 127

صِفَات النَّقْص الْمُتَعَلّقَة برحمة المخلوقين عَنهُ تَعَالَى كَمَا أثبتنا لَهُ اسْم الْحَيّ الْعَلِيم الْخَبِير المريد مَعَ نفي نقائص المخلوقين فِي حياتهم المستمرة لجَوَاز التألم بأنواع الآلام ثمَّ للْمَوْت الَّذِي لابد مِنْهُ لجَمِيع الاحياء من الانام وَكَذَلِكَ ينزه سُبْحَانَهُ عَمَّا فِي علمهمْ النَّاقِص بِدُخُول الْكسْب وَالنَّظَر فِي مباديه وَالِاسْتِدْلَال والاضطرار فِي منتهاه الَّذِي يسْتَلْزم الجسمية وَالْبَيِّنَة الْمَخْصُوصَة والحدوث ويعرض لَهُ التَّغَيُّر وَالنِّسْيَان وَالْخَطَأ والشغل بِبَعْض المعلومات عَن بعض وَكَذَلِكَ تنزه ارادته عَمَّا فِي ارادتنا من استلزام الْحَاجة إِلَى جلب الْمَنَافِع وَدفع المضار وَنَحْو ذَلِك وَكَذَلِكَ كل صفة يُوصف بهَا الرب سُبْحَانَهُ ويوصف بهَا العَبْد وان الرب يُوصف بهَا على أتم الْوَصْف مُجَرّدَة عَن جَمِيع النقائص وَالْعَبْد يُوصف بهَا محفوفة بِالنَّقْصِ وَبِهَذَا فسر أهل السّنة نفي التَّشْبِيه وَلم يفسروه بِنَفْي الصِّفَات وتعطيلها كَمَا صنعت الباطنية الْمَلَاحِدَة

ويدلك على قبح تَأْوِيل هَذِه الاسماء الشَّرِيفَة فِي الْفطر كلهَا إِنَّك تَجِد المعتزلي يستقبح تَأْوِيل الاشعرية للحكيم غَايَة الاستقباح والاشعري يستقبح تَأْوِيل الْمُعْتَزلَة البغدادية للسميع الْبَصِير المريد غَايَة الاستقباح والسني يستقبح تَأْوِيل الْمُعْتَزلَة والاشعرية للرحمن الرَّحِيم الْحَكِيم غَايَة الاستقباح وَالْكل يستقبحون تَأْوِيل القرامطة لجَمِيع الاسماء الْحسنى غَايَة الاستقباح وَمَتى نظرت بِعَين الانصاف وَجَدتهمْ فِي ذَلِك كَمَا قيل

(وَعين الرِّضَا عَن كل عيب كليلة

وَلَكِن عين السخط تبدي المساويا)

وَكَذَلِكَ نجد كل وَاحِد مِنْهُم يلْزم الْمُنكر عَلَيْهِ مثل مَا ألزمهُ فان الْمُعْتَزلَة والاشعرية إِذا كفرُوا الباطني بانكار الاسماء الْحسنى وَالْجنَّة وَالنَّار يَقُول لَهُم الباطني لم أجحدها إِنَّمَا قلت هِيَ مجَاز مثل مَا انكم لم تجحدوا الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَكِيم وَإِنَّمَا قُلْتُمْ إِنَّهَا مجَاز وَكَيف كفاكم الْمجَاز فِي الايمان بالرحمن الرَّحِيم وهما أشهر الاسماء الْحسنى أَو من أشهرها وَلم يكفني فِي سائرها وَفِي الْجنَّة وَالنَّار مَعَ أَنَّهُمَا دون أَسمَاء الله بِكَثِير وَكم بَين الايمان بِاللَّه وبأسمائه والايمان بمخلوقاته فاذا كفاكم الايمان الْمجَازِي بأشهر الاسماء الْحسنى فَكيف لم يكفني مثله فِي الايمان بِالْجنَّةِ وَالنَّار والمعاد يُوضحهُ أَن الاجماع مُنْعَقد على كفر من قَالَ أَن الله يَأْمر بِالْفِسْقِ والمعاصي حَقِيقَة

ص: 128

وَقد قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ بذلك مجَازًا فِي تَفْسِيره {أمرنَا مُتْرَفِيهَا ففسقوا فِيهَا} وَلم يكفر بذلك وَكَذَلِكَ قَالَ بعض الاشعرية أَن الله تَعَالَى يحب الْمعاصِي مجَازًا وَلم يكفروه بذلك وَلَو قَالُوهُ حَقِيقَة كفرُوا فَدلَّ على أَن الايمان الْمجَازِي فِي مَوضِع الْحَقَائِق كلا شَيْء فَكَمَا لم يضرّهُ من آمن بالامر بالقبائح مجَازًا فَكَذَلِك لَا ينفع من آمن بالرحمن الرَّحِيم الْحَكِيم مجَازًا لأَنهم بِمَنْزِلَة الزَّمَخْشَرِيّ فِي إيمَانه بِأَمْر الله بِالْفِسْقِ مجَازًا مَعَ نَفْيه لذَلِك أَشد النَّفْي واعتقاده أَنه كَالْعدمِ يُوضحهُ أَنه لَا شكّ وَلَا خلاف فِي كفر من آمن بالنبوات مجَازًا ونفاها حَقِيقَة فأسماء الله الْحسنى الْمَعْلُوم تمدحه بهَا فِي جَمِيع كتبه أجل وَأعظم من جنته وناره وأنبيائه فَلَا يَكْفِي الايمان بِشَيْء مِنْهَا مجَازًا إِلَّا أَن يَصح فِي ذَلِك اجماع قَاطع وبرهان الله أقطع فِي بعض الْمَوَاضِع يُؤمن مَعَه من الْوُقُوع فِي الْبِدْعَة والفرقة الْمنْهِي عَنْهُمَا بالنصوص والاجماع وَكَذَلِكَ يَقُول بَعضهم لبَعض فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ كَمَا يَقُول لَهُم الباطني

وَكَذَلِكَ محبَّة الله تَعَالَى لأنبيائه وأوليائه الَّتِي هِيَ أعظم فضل الله الْعَظِيم عَلَيْهِم وأشرف مَا يرجونه من مواهبه الْعِظَام وَقد نَص الله تَعَالَى على ذَلِك فِي غير آيَة من كِتَابه الْكَرِيم كَقَوْلِه تَعَالَى {يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وَقَوله تَعَالَى {وَالله يحب الصابرين} وَكَذَلِكَ كَون الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين وأكبر من ذَلِك أَن الله تَعَالَى اتخذ ابراهيم صلى الله عَلَيْهِ وعَلى نَبينَا وَسلم خَلِيلًا بِالنَّصِّ القرآني وَاتخذ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم خَلِيلًا بِالنَّصِّ النَّبَوِيّ والحلة فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة أرفع مَرَاتِب الْمحبَّة وَلم تزل هَذِه النُّصُوص مقررة مُجَللَة معتقدة مَعَ تَنْزِيه الله تَعَالَى من نقائصها مثل تنزيهه من نقائص علم المخلوقين وارادتهم فِي الْعَلِيم المريد وَغَيرهمَا حَتَّى فَشَتْ الْبِدْعَة وَاجْتمعت كلمة الْمُعْتَزلَة والأشعرية على تقبيح نِسْبَة الرَّحْمَة والحلم والمحبة والخلة إِلَى الله تَعَالَى إِلَّا بِتَأْوِيل مُوجب لنفي هَذِه الْأَشْيَاء عَن الله بِغَيْر قرينَة وَمُوجب تَحْرِيم اطلاقها إِلَّا مَعَ الْقَرِينَة فَيجوز عِنْدهم أَن تَقول إِن الله غير رَحِيم وَلَا رَحْمَن وَلَا حَلِيم وَلَا يحب الْمُؤمنِينَ وَلَا الصابرين وَلَا المتطهرين

ص: 129

وَلَا اتخذ ابراهيم خَلِيلًا بِغَيْر قرينَة وَلَا تَأْوِيل كَمَا يجوز أَن تَقول فِي الْجِدَار أَنه لَيْسَ بمريد وَلَا يجوز ذَلِك الاثبات إِلَّا بالتأويل والقرينة الدَّالَّة عَلَيْهِ

وَالْمُسلم بالفطرة يُنكر هَذِه الْبدع وبالرسوخ فِي علم الحَدِيث يعلم بِالضَّرُورَةِ حدوثها وَأَن عصر النُّبُوَّة وَالصَّحَابَة بَرِيء مِنْهَا مثل مَا يعلم أَن الْمُعْتَزلَة أبرياء من مَذْهَب الأشعرية وَأَن الأشعرية أبرياء من مَذْهَب الْمُعْتَزلَة وَأَن النُّحَاة أبرياء من مَذْهَب الشعوبية وأمثال ذَلِك فَيجب تَقْرِير ذَلِك وَأَمْثَاله مِمَّا وصف الله تَعَالَى بِهِ ذَاته الْكَرِيمَة على جِهَة التمدح وَالْحَمْد وَالثنَاء وَسَيَأْتِي الْجَواب عَن سَبَب تخلف الرَّحْمَة لكثير من أهل الْبلَاء كَمَا يتَخَلَّف الْعَطاء عَن كثير من الْفُقَرَاء وَلَا يقْدَح ذَلِك فِي مدح الله بالجود وَالْكَرم حَقِيقَة باجماع الْمُسلمين لمعارضة الْحِكْمَة فِي الْمَوْضِعَيْنِ سَوَاء وَقد جود الْغَزالِيّ القَوْل فِي هَذَا الْمَعْنى فِي الْمَقْصد الامنى فَلَا حَاجَة إِلَى التَّطْوِيل بِنَقْل كَلَامه وموضعه مَعْرُوف

وَالدَّلِيل على أَنه لَا يجوز القَوْل بِأَن ظَاهر هَذِه الاسماء كفر وضلال وَأَن الصَّحَابَة وَالسَّلَف الصَّالح لم يفهموا ذَلِك أَو فَهموا وَلم يقومُوا بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِم من نصح الْمُسلمين وَبَيَان التَّأْوِيل الْحق لَهُم أَمْرَانِ الأول قَاطع ضَرُورِيّ وَهُوَ أَن الْعَادة توجب فِي كل مَا كَانَ كَذَلِك أَن يظْهر التحذير مِنْهُ من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَمن أَصْحَابه يتواتر أعظم مِمَّا حذروا من الدَّجَّال الْأَعْوَر الْكذَّاب وَلَا يجوز عَلَيْهِم مَعَ كَمَال عُقُولهمْ وأديانهم أَن يتْركُوا صبيانهم ونساءهم وعامتهم يسمعُونَ ذَلِك مَنْسُوبا إِلَى الله وَإِلَى كِتَابه وَرَسُوله وَظَاهره الْكفْر وهم سكُوت عَلَيْهِ مَعَ بلادة الْأَكْثَرين وَلَو تركُوا بَيَان ذَلِك ثِقَة بِنَظَر الْعُقُول الدَّقِيق لتركوا التحذير من فتْنَة الدَّجَّال فان بطلَان ربوبيته أجلى فِي الْعُقُول من ذَلِك أَلا ترى أَن الْمُتَكَلِّمين لما اعتقدوا قبح هَذِه الظَّوَاهِر تَوَاتر عَنْهُم التحذير عَنْهَا والتأويل لَهَا وصنفوا فِي ذَلِك وأيقظوا الغافلين وَعَلمُوا الْجَاهِلين وَكَفرُوا الْمُخَالفين وأشاعوا ذَلِك بَين الْمُسلمين بل بَين الْعَالمين فَكَانَ أَحَق مِنْهُم بذلك سيد الْمُرْسلين وقدماء السَّابِقين وأنصار الدّين الثَّانِي أَنه قد ثَبت فِي تَحْرِيم الزِّيَادَة فِي الدّين أَنه لَا يَصح سكُوت الشَّرْع عَن النَّص على مَا يحْتَاج اليه من مهمات الدّين

ص: 130

وَثَبت أَن الاسلام مُتبع لَا مخترع وَلذَلِك كفر من أنكر شَيْئا من أَرْكَانه لِأَنَّهَا مَعْلُومَة ضَرُورَة فَأولى وَأَحْرَى أَن لَا يَجِيء الشَّرْع بِالْبَاطِلِ منطوقا متكررا من غير تَنْبِيه على ذَلِك لَا سِيمَا إِذا كَانَ ذَلِك الَّذِي سموهُ بَاطِلا هُوَ الْمَعْرُوف فِي جَمِيع آيَات كتاب الله وَجَمِيع كتب الله وَلم يَأْتِ مَا يناقضه فِي كتاب الله حَتَّى يُنَبه على وجوب التَّأْوِيل وَالْجمع أَو يُوجب الْوَقْف بل لم يَأْتِ التَّصْرِيح بِالْحَقِّ الْمَحْض عِنْد كثير مِنْهُم قطّ فِي آيَة وَاحِدَة تكون هِيَ المحكمة وَيرد اليها جَمِيع الْمُتَشَابه فان الله ذكر أَنه نزل فِي كتاب آيَات محكمات ترد اليها المتشابهات وَلم يقل أَن جَمِيع كِتَابه متشابه فَأَيْنَ الْآيَة المحكمة الَّتِي دلّت على مَا يَقُولُونَ

وَقد اعْترف الرَّازِيّ فِي كِتَابه الاربعين وَهُوَ من أكبر خصوم أهل الْأَثر أَن جَمِيع الْكتب السماوية جَاءَت بذلك وَلم ينص الله تَعَالَى فِي آيَة وَاحِدَة على أَنه منزه من الْوَصْف بِالرَّحْمَةِ والحلم وَالْحكمَة وَأَنه لَيْسَ برحيم وَلَا رَحْمَن وَلَا حَلِيم وَلَا حَكِيم وَلَا سميع وَلَا بَصِير وَهَذَا خَلِيل الله تَعَالَى الَّذِي مدح نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بمتابعته يَقُول لِأَبِيهِ {يَا أَبَت لم تعبد مَا لَا يسمع وَلَا يبصر وَلَا يُغني عَنْك شَيْئا} إِلَى قَوْله {إِن الشَّيْطَان كَانَ للرحمن عصيا} فَكيف يحسن تَقْرِير الْخلاف فِي ذَلِك كُله بَين المعظمين من عُلَمَاء الاسلام من غير تحذير مِنْهُ وَلَا زجر عَنهُ وأمثال ذَلِك على مَا ادَّعَاهُ عُلَمَاء الاثر وَهُوَ كَذَلِك وَإِن لم يعْتَرف بِهِ وَهَذِه الْكتب السماوية مَوْجُودَة كلهَا

(وهبك تَقول هَذَا الصُّبْح ليل

أيعمى الْعَالمُونَ عَن الضياء)

فان قيل وُرُود الْمُتَشَابه فِي الْقُرْآن مَعْلُوم مجمع عَلَيْهِ ولابد أَن يكون ظَاهر الْمُتَشَابه بَاطِلا وَإِلَّا لما وَجب التَّأْوِيل فَمَا هَذَا التهويل

قُلْنَا أما وُرُوده فمعلوم لَا يُنكر وَأما تَفْسِيره بِمَا يُوجب أَن يكون ظَاهره بَاطِلا فَغير صَحِيح لقَوْل الراسخين فِي الْعلم آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا ولذم الله الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ بابتغاء تَأْوِيله وَقد تقدم هَذَا فَلَا نسلم قبح ظَاهره بل هُوَ مَحل النزاع بل نقُول هُوَ قِسْمَانِ

ص: 131

أَحدهمَا لَا ظَاهر لَهُ وَلَا يفهم مِنْهُ شَيْء فَلَا يضل بِهِ أحد وَذَلِكَ مثل حُرُوف التهجي فِي أَوَائِل السُّور على الصَّحِيح كَمَا تقدم فَحكمه الْوَقْف فِي مَعْنَاهُ وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرك الَّذِي تجرد عَن الْقَرَائِن فِي حق من لم يعرف قرينه مرجحة لَاحَدَّ مَعَانِيه وَمَا جري هَذَا المجرى وَقد تقدم الْوَجْه فِي جَوَاز وُرُود السّمع بِمثل هَذَا وَلَا يجوز الْقطع على خلوه عَن الْحِكْمَة لجَوَاز فهم الْبَعْض لَهُ وَلَو رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَحده أَو لجَوَاز أَن تكون الْحِكْمَة فِيهِ غير فهم مَعْنَاهُ وَلعدم الدَّلِيل الْقَاطِع على أَنا مخاطبون بِهَذَا الْجِنْس

النَّوْع الثَّانِي من الْمُتَشَابه مَا كَانَ لَهُ ظَاهر يسْبق إِلَى افهام أهل اللُّغَة وَلَكِن خفيت الْحِكْمَة فِيهِ على الْعُقُول مثل عدم الْعَفو عَن الْمُشْركين فِي الْآخِرَة وَعَمن شَاءَ الله من المذنبين مَعَ أَن الْعَفو أرجح وَأحب إِلَى الله تَعَالَى فِي جَمِيع كتبه وشرائعه وَأَحْكَامه وأوامره فَهَذَا نؤمن بِظَاهِرِهِ وَلَا نقُول أَن ظَاهره بَاطِل بل نقُول أَن الْحِكْمَة فِيهِ خُفْيَة وَلَو أَنا علمناها لعرفنا حسنه بل نقطع أَنا أَجْهَل من أَن نعلم جَمِيع حكم الله فِي جَمِيع أَحْكَامه وَلَو علمنَا الله تَعَالَى نصف مَا يُعلمهُ لجَاز أَن تكون الْحِكْمَة فِي هَذَا النّصْف الَّذِي لم يعلمناه كَيفَ وَقد صَحَّ أَن جَمِيع علم الْخَلَائق فِي علم الله مثل مَا يَأْخُذهُ الطَّائِر بمنقاره من الْبَحْر الْأَعْظَم

وَأما الْمجَاز الْمَعْلُوم أَنه مجَاز مثل {واخفض لَهما جنَاح الذل من الرَّحْمَة} {فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور} فَلَيْسَ من الْمُتَشَابه فان هَذَا يعرف مَعْنَاهُ جَمِيع أجلاف الْعَرَب وَلَا يَصح دُخُول اللّبْس وَالِاخْتِلَاف فِي مَعْنَاهُ وَلذَلِك لم يقل بِنَفْي عمى الابصار لِأَن معنى الْآيَة نفي عمي الْقُلُوب عَن الابصار وَأَن عمي الْقُلُوب هُوَ الْحَقِيقِيّ الْعَظِيم الْمضرَّة والابصار لَا تعمى عَنهُ إِنَّمَا تعمى الْقُلُوب وَكَذَلِكَ الْأَمر بخفض جنَاح الذل مَعْلُوم أَن المُرَاد بِهِ الخضوع للْوَالِدين واللطف بهما وَنَحْو ذَلِك وَكَذَلِكَ كلما وضحت فِيهِ احدى الْقَرَائِن المجازية الثَّلَاث

ص: 132

الْمَعْرُوفَة اللفظية والعقلية والعرفية وَلم تكن الْقَرِينَة خُفْيَة مُخْتَلفا فِيهَا كَمَا سيأتى بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى

وَقد تمّ الْكَلَام فِي بَيَان تَحْرِيم الزِّيَادَة فِي الدّين وَالنَّقْص مِنْهُ وقلما تدخل الْبِدْعَة على السّني من هذَيْن الامرين وَأكْثر مَا تدخل عَلَيْهِ من التَّصَرُّف فِي الْعبارَات وَهُوَ الامر الثَّالِث الَّذِي وعدت بِذكرِهِ مُفردا لِكَثْرَة مضرته وَإِن كَانَ فِي الْحَقِيقَة رَاجعا إِلَى الزِّيَادَة فِي الدّين فَأَقُول

الامر الثَّالِث التَّصَرُّف فِي عِبَارَات الْكتاب وَالسّنة وَالرِّوَايَة بِظَنّ الترادف فِي الْأَلْفَاظ واعتقاد الترادف من غير يَقِين وَقد تفاحش الْأَمر فِي ذَلِك وَنَصّ الْقُرْآن على النَّهْي عَن التَّفَرُّق فَوَجَبَ تَحْرِيم مَا أدّى اليه وَالِاخْتِلَاف فِي مَعَاني كتاب الله تَعَالَى وَرِوَايَة مَا قَالَ الله وَرَسُوله بِالْمَعْنَى قد أدّى ذَلِك إِلَى الْحَرَام الْمَنْصُوص وَلم يكن من الانصاف أَن نقُول الْحق مُتَعَيّن منحصر فِي عِبَارَات بعض فرق الاسلام دون بعض غير مَا ثَبت فِي إِجْمَاع الامة والعترة فَوَجَبَ أَن يعدل إِلَى أَمر عدل بَين الْجَمِيع فَتتْرك كل عبارَة مبتدعة من عِبَارَات فرق الاسلام كلهَا سَوَاء علمنَا بِالْعقلِ أَنَّهَا حق أَو بَاطِل لِأَنَّهُ لَا يجب الِاشْتِغَال بِكُل حق فقد نعلم من أُمُور الدُّنْيَا مَا لَا يُحْصى وَلَا تجب علينا مَعْرفَته وتعريفه مثل مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ التواريخ من حوادث الزَّمَان وعجائب أَخْبَار الْبلدَانِ بل مَا تضمن الْمَفَاسِد من الْحق حرم فَلذَلِك قد يكون من الْحق مَا هُوَ حرَام بالاجماع وَالنَّص كالغيبة والنميمة مَتى أردنَا بِالْحَقِّ مُجَرّد الصدْق والمطابقة فَلذَلِك لَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَال بِبَعْض الْعُلُوم وَغَيرهَا لمُجَرّد كَونهَا حَقًا حَتَّى يرد الشَّرْع بِالْأَمر بذلك ليعلم بِالشَّرْعِ أَنه حق مُتَضَمّن لمفسدة راجحة أَو مُسَاوِيَة وَالله أعلم وَكَذَلِكَ مَا كَانَ من أُمُور الدّين الَّتِي لم ينص فرض مَعْرفَتهَا فِي كتاب الله وَلَا السّنة الْمُتَّفق على صِحَّتهَا

فان قلت هَذَا صَحِيح مَتى ثَبت أَنه يجوز على الْعلمَاء والثقات الْخَطَأ فِي فهم الْمَعْنى أَو فِي التَّعْبِير عَمَّا فَهموا أَو فيهمَا مَعًا فَمَا الدَّلِيل على جَوَاز ذَلِك على الْعلمَاء حَيْثُ لم يَصح إِجْمَاعهم

قلت الدَّلِيل على ذَلِك أُمُور كَثِيرَة أذكر مِنْهَا مَا حضر وَالله الهادى

ص: 133

مِنْهَا أَنه ثَبت فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ (نضر الله أمرأ سمع مَقَالَتي فوعاها ثمَّ أَدَّاهَا كَمَا سَمعهَا فَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ) وَفِي رِوَايَة فَرب حَامِل فقه غير فَقِيه وَثَبت أَن الْفِتْنَة وَقعت بَين الصَّحَابَة مَا لَهَا سَبَب إِلَّا اخْتلَافهمْ فِي الْفَهم وَثَبت فِي الصَّحِيح أَن عدي بن حَاتِم الصَّحَابِيّ رضي الله عنه غلط فِي معنى قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود} وَجعل تَحت وسادته عِقَالَيْنِ أسود وأبيض فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّك لَعَرِيض الْقَفَا أَو عريض الوساد وَثَبت فِي الصَّحِيح أَن ابْن عمر رضي الله عنهما لما روى حَدِيث الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله قَالَت عَائِشَة مَا كذب وَلكنه وَهل أَي أَخطَأ فِي فهم مَا سمع

وَفِي الصَّحِيح عَنهُ أَيْضا أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَرَأَيْتكُم ليلتكم هَذِه فان على رَأس مائَة سنة مِنْهَا لَا يبْقى مِمَّن هُوَ الْيَوْم على ظهر الأَرْض أحدا) خرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَزَاد فِيهِ التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد قَالَ ابْن عمر فوهل النَّاس فِي مقَالَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِيمَا يتحدثونه من هَذِه الْأَحَادِيث يَعْنِي حسبوه أَرَادَ الْقِيَامَة وَفِي الْمُسْتَدْرك عَن عَليّ عليه السلام نَحْو هَذَا

وأوضح من هَذَا كُله أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم شَرط التعمد فَقَالَ (من كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار) وَهُوَ حَدِيث متواتر فلولا جَوَاز الْخَطَأ مَا كَانَ لذَلِك فَائِدَة وَثَبت أَيْضا أَن عمر رضي الله عنه شكّ فِي حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس لمثل ذَلِك بل شكّ فِي حَدِيث عمار بن يَاسر رضي الله عنه فِي التَّيَمُّم لخوف الْوَهم فان عمارا لَا يتهم بتعمد الْكَذِب وَلذَلِك أذن لَهُ فِي رِوَايَته مَعَ شكه فِي صِحَّته وَثَبت عَن عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه أَنه قَالَ (مَا عندنَا إِلَّا كتاب الله وَمَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة) أَو فهم أوتيه رجل فَدلَّ على التَّفَاوُت فِي الْفَهم وَيدل عَلَيْهِ من كتاب الله قَوْله سُبْحَانَهُ {ففهمناها سُلَيْمَان وكلا آتَيْنَا حكما وعلما}

يُوضح ذَلِك أَنه قد اشْتَدَّ اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي أَمريْن أَحدهمَا رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى حَيْثُ يستيقن الترادف والاستواء الْمُحَقق فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص والخفاء والجلاء وَأَن لَا تنقل اللَّفْظَة الْمُشْتَركَة إِلَى لَفْظَة غير مُشْتَركَة وَلَا

ص: 134

الْعَكْس وَلَا لَفْظَة لَهَا مجَاز إِلَى لَفْظَة لَا مجَاز لَهَا وَلَا الْعَكْس وَلَا يعبر بِالْحَقِيقَةِ عَن الْمجَاز وَلَا الْعَكْس وَلَا بالمنطوق عَن الْمَفْهُوم وَلَا الْعَكْس وَلَا بالمطابقة عَن التضمن وَلَا الِالْتِزَام وَلَا الْعَكْس وأمثال ذَلِك

فاذا اجْتمعت هَذِه الشَّرَائِط وَعلم اجتماعها فَهُوَ مَحل الِاخْتِلَاف الشَّديد فِي الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى فَمنهمْ من أجَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى للضَّرُورَة وَمِنْهُم من منعهَا خوفًا من الْمفْسدَة وَمِنْهُم من فصل فَقَالَ أَن كَانَ اللَّفْظ النَّبَوِيّ مَحْفُوظًا لم يجز سواهُ وَمِنْهُم من عكس وَقَالَ إِن كَانَ مَحْفُوظًا جَازَ لِأَن معنى اللَّفْظ الْمَحْفُوظ مَعْرُوف يتَمَكَّن من تبديله بِمثلِهِ وَمعنى اللَّفْظ المنسي غير مَعْرُوف إِلَى غير ذَلِك من الْأَقْوَال

وَلَوْلَا ضَرُورَة التَّرْجَمَة للعجم مَا شكّ منصف أَن الأولى منع هَذَا سدا للذريعة إِلَى تَحْرِيف الْمعَانِي النَّبَوِيَّة لِأَن كل أحد حسن الظَّن بِنَفسِهِ وَقد يظنّ بل يقطع أَن الْمَعْنى وَاحِد وَلَيْسَ كَذَلِك يُوضحهُ أَن الدَّلِيل على أَن الْمَعْنى وَاحِد لَيْسَ الا عدم الوجدان لِمَعْنى آخر لجَوَاز الِاشْتِرَاك أَو لتجوز وَهَذَا دَلِيل ظَنِّي وَالظَّن هُنَا غير مُفِيد

فَثَبت أَنه لَا يجوز إِلَّا للضَّرُورَة الْمجمع عَلَيْهَا كالترجمة للعجمي وَلذَلِك كَانَ بَيَان الْمَوْقُوف على الصَّحَابِيّ من الْمَرْفُوع إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَاجِبا وَلم يحل رفع الْمَوْقُوف الَّذِي لَا مجَال لِلْعَقْلِ فِي مَعْرفَته وَإِن جَازَ الْعَمَل بِهِ لحسن الظَّن بالصحابي فَلَا يحل رَفعه وَثَبت عَن ابْن مَسْعُود أَنه كَانَ إِذا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم استقبلته الرعدة وَقَالَ هَكَذَا إِن شَاءَ تَعَالَى أَو أَو ذكره الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمته من التَّذْكِرَة وسمى أَبُو بكر رضي الله عنه تَفْسِيره للكلالة رَأيا لأجل هَذَا رَوَاهُ الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيره وَغَيره وَإِلَّا فَمَا فَسرهَا إِلَّا بِمُقْتَضى اللُّغَة الْعَرَبيَّة

فان قلت لابد من الْعَمَل بِدلَالَة التضمن والالتزام فَكيف منعت مِنْهُمَا

قلت لم أمنع من الْعَمَل بهما فِي العمليات الظنيات وَإِنَّمَا منعت من أَمريْن أَحدهمَا تَبْدِيل الْمُطَابقَة بهما فَكَمَا أَنه لَا يجوز لَك أَن تَقول أَن الله حرم عِظَام الْخِنْزِير وشعره أَعنِي لَا يجوز أَن تنْسب ذَلِك إِلَى قَول الله وَنَصه

ص: 135

بِدلَالَة التضمن وَهِي أَن هَذِه الْأَشْيَاء بعض الْخِنْزِير الَّذِي حرمه الله تَعَالَى وَهُوَ مُتَضَمّن لَهَا وان كَانَ لَك أَن تذْهب إِلَى ذَلِك وتعمل فِيهِ بِمُقْتَضى مَا تضمنه على أَن الْمَنْصُوص من تَحْرِيمه هُوَ لَحْمه لَا جملَته وَثَانِيهمَا الْعَمَل بالتضمن والالتزام فِي الِاعْتِقَاد الْقَاطِع لِأَنَّهُمَا غير قاطعين وَلَا ضَرُورَة اليهما فِيهِ ولخوف الْفِتْنَة وَفتح أَبْوَاب الِاخْتِلَاف والتفرق الْمنْهِي عَنهُ

وَقد روى البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ حَدِيث ابْن عمرَان الْجونِي عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم اقرأوا الْقُرْآن مَا أئتلفت عَلَيْهِ قُلُوبكُمْ فاذا اختلفتم فَقومُوا عَنهُ وشواهده كَثِيرَة فَهَذَا فِي الْقُرْآن الْمَأْمُور بالاعتصام بِهِ كَيفَ بِمَا سواهُ

الامر الثَّانِي مِمَّا يدل على جَوَاز الْخَطَأ على أهل الْعلم فِي الْفَهم وَالتَّعْبِير أَنه اشْتَدَّ اخْتِلَاف فطنائهم وأذكيائهم فِي تَعْرِيف الامور الظَّاهِرَة بالحدود الجامعة الْمَانِعَة وَقد تسمى الْحَقَائِق فانه قد علم شدَّة اخْتلَافهمْ فِي ذَلِك وقدح بَعضهم على بعض وَعلم اجتهادهم فِي تحريرها وندور الْحَد الَّذِي لَا يعْتَرض مَعَ أَن كثيرا من الامور الَّتِي يتعرضون لحدها يكون جليا وَاضحا كَالْعلمِ وَالْخَبَر وَقد اشْتَدَّ الْخلاف فِي تحديدهما كَمَا ذكره ابْن الْحَاجِب فِي مُخْتَصر الْمُنْتَهى وشراح كِتَابه وَغَيرهم وَكَذَلِكَ يخْتَلف المتكلمون والنحاة وَالْفُقَهَاء فِي نَحْو ذَلِك فَثَبت أَن المعبرين عَن الْمعَانى كالرماة للاغراض يقل مِنْهُم الْمُصِيب وَمن يفوز من الاجادة بِنَصِيب

بل قد وضح فِي كتاب الله عز وجل اخْتِلَاف سُلَيْمَان وَدَاوُد عليهما السلام فِي الْفَهم كَمَا مضى وَنَصّ مُوسَى على أَن أَخَاهُ هَارُون أفْصح مِنْهُ لِسَانا فاذا ثَبت جَوَاز الْخَطَأ على الْعلمَاء فِي الْفَهم أَولا ثمَّ فِي التَّعْبِير عَمَّا فَهموا ثَانِيًا وَكَانُوا قد اخْتلفُوا فِي كثير من الْقُرْآن وَالسّنة وَعبر كل مِنْهُم بِعِبَارَة محدثة مبتدعة وَقد رأيناهم متباعدي الْفَهم والاجادة فِي التَّعْبِير عَن الجليات كَالْعلمِ وَالْخَبَر مَعَ جمع الخواطر على تَنْقِيح الْعبارَة فِي الْحُدُود وَحذف الفضلات وَاجْتنَاب الْمجَاز وَقصد صِحَة الْجمع لأوصاف الْمَحْدُود وَالْمَنْع من دُخُول غَيره فِيهِ والعناية التَّامَّة فِي تَحْرِير الْحَد على جَمِيع شَرَائِطه الْمَعْرُوفَة والحذر من قدح الاذكياء فِيهِ بِأَدْنَى أَمر يلمحه فطنهم الوقادة وقرائحهم النقادة فَمَعَ هَذَا الِاحْتِرَاز الْكثير وَقع الْخلَل الْكَبِير فِي

ص: 136

تَعْرِيف كثير من الجليات الَّتِي هِيَ أفعالنا كالخبر أَو صفاتنا الوجدانية كَالْعلمِ والوجود فَكيف إِذا وَقع التَّعْبِير عَن محارات الْعُقُول ومواقفها من أَحْكَام الْقدَم وَالْقَدِيم سُبْحَانَهُ ونعوت جَلَاله الاكبر الاعز الاعظم وَسَائِر مَا يتَعَلَّق بِهِ من الاسماء والاحكام ثمَّ سَائِر دقائق الْجَوَاهِر والاعراض وغوامض علم الْكَلَام وَمَا لم تعرف الْعُقُول مِنْهُ إِلَّا مُجَرّد الْعبارَات الرائعة والاشارات الغامضة فِي أسرار الاقدار وَالْحكم الْخفية وَتَأْويل المتشابهات الَّتِي تفرد الرب سُبْحَانَهُ بعلمها على الصَّحِيح وَالْجمع بَين المتعارضات والخوض فِي الممنوعات مثل كَلَامهم فِي الرّوح مَعَ توقف النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِيهِ ونزول الْقُرْآن بِمَا يَقْتَضِي الْكَفّ عَنهُ ورعا وأدبا وحياء من الله وَرَسُوله حَتَّى تجاسروا على تَأْوِيل الرّوح بِغَيْر دَلِيل

ومنتهى الامر أَن مَا قَالُوهُ مُحْتَمل فمجرد الِاحْتِمَال لَا يُبِيح الْمَمْنُوع من غير يَقِين مَعَ التساهل وَعدم الِاحْتِرَاز الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْحُدُود وَمَعَ اعْتِمَاد الْمجَاز والاستعارات والتورية والاشارات فِي كثير من الْمَوَاضِع على أَن الله تَعَالَى قد حكى فِي كِتَابه من زجر الْمَلَائِكَة عَن الْخَوْض فِي بعض ذَلِك مَا كَانَ فِيهِ كِفَايَة وعبرة حَيْثُ تعرضوا عليهم السلام لمعْرِفَة سر الْقدر فِي أَمر وَاحِد وَهُوَ خلق آدم وَذريته بقَوْلهمْ للْملك الْعَزِيز الْعَلِيم الْحَكِيم {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك ونقدس لَك} فقوبلوا من الْخطاب بِمَا لم يكن لَهُم فِي حِسَاب حَتَّى قيل لَهُم {إِن كُنْتُم صَادِقين} فِيمَا خاطبهم بِهِ رب الْعَالمين وَأمرهمْ أَن يَكُونُوا لآدَم ساجدين وَكَانَ إِبْلِيس بِسَبَب تكبره عَن ذَلِك من الْكَافرين وَهَذَا كُله بِسَبَب خوضهم فِي السِّرّ الْمَمْنُوع والامر المحجوب وَكَذَلِكَ مُوسَى الكليم عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالتَّسْلِيم وَهُوَ المقرب نجيا والوجيه عِنْد الله نصا جليا لما تعرض لما لَيْسَ من شَأْنه من علم السِّرّ الَّذِي هُوَ تَأْوِيل الْمُتَشَابه نزل إِلَى مقَام السَّائِل المحروم والمخطئ المكظوم وَقطع على خطا الْخضر عليهما السلام فِي مَوضِع كَانَ يجب عَلَيْهِ الْقطع فِيهِ بتصويبه لما تقدم من أَخْبَار الله تَعَالَى لَهُ بِأَنَّهُ أعلم مِنْهُ وسؤاله لقاءه وإجابته دَعوته

ص: 137

وتبليغه بِفضل الله إِلَى ذَلِك كل ذَلِك لما تعرض لسر التَّأْوِيل وَفِي مثل ذَلِك قيل

(وَإِن مقَاما حَار فِيهِ كليمه

وَلم يسْتَطع صبرا لخير العوالم)

(جدير بتحقيق عَظِيم وريبة

من الْوَهم عِنْد الْجَزْم من كل عَالم)

وَفِي الْبَيْت الثَّانِي تَنْبِيه للمتكلمين وَغَيرهم على مَا لم يزل الاكابر يقعون فِيهِ من دَعْوَى الْقطع واعتقاده من غير تَحْقِيق فان مُوسَى عليه السلام لَوْلَا اعْتقد الْقطع بخطإ الْخضر مَا أنكر عَلَيْهِ

وَكَذَلِكَ قطع كثير من عُلَمَاء الْكَلَام على صِحَة أدلتهم الْمُوجبَة لتأويل كَلَام علام الغيوب بل هم دون الكليم المقرب الْوَجِيه الْمَعْصُوم بمسافات لَا تدركها الخواطر وَنسبَة علم الله تَعَالَى إِلَى علم جَمِيع الْعَالمين كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيح مثل مَا أَخذه الطَّائِر من الْبَحْر الزاخر

وَمَا أحسن أدب الْبونِي فِي قَوْله علم الْخَلَائق فِي علم الله مثل لَا شَيْء فِي جنب مَا لَا نِهَايَة لَهُ وَالْقَصْد أَن من عرف مِنْهُ الْخَطَأ فِي الجليات فَكيف يكون حَاله مَتى خَاضَ فِي هَذِه الخفيات وَترك عِبَارَات الْحق الَّذِي نَص على أَنَّهَا لَا تبدل كَلِمَاته وانه لَا معقب لحكمه وان كِتَابه لَو كَانَ من عِنْد غَيره لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا وانه نور وشفاء وَهدى لَا ريب فِيهِ فَكيف تتْرك عِبَارَات هَذَا المعجز الباهر وتبدل بعبارات من لَا عصمَة لَهُ عَن الْخَطَأ بل عَن القبائح وَالْكفْر أعاذنا الله تَعَالَى مِنْهُ

وَلَقَد تفاحش جهل أَتبَاع الْمُتَكَلِّمين ومقلديهم وغلوا فِي الدَّعَاوَى غلوا لم يسبقهم اليه غلاة قدمائهم وسباق كبرائهم فَهَذَا أَبُو الْقَاسِم الْبَلْخِي الكعبي إِمَام الْمُعْتَزلَة يَقُول فِي حق الْعَامَّة هَنِيئًا لَهُم السَّلامَة هَنِيئًا لَهُم السَّلامَة ذكره فِي كِتَابه المقالات وَقد عد الْعَامَّة فرقة وحدهم فَأصَاب

وصنف مُحَمَّد بن مَنْصُور كتاب الْجُمْلَة والألفة فِي النَّهْي عَن تَكْفِير الْمُخْتَلِفين فِي أصُول الدّين وَهُوَ إِمَام التَّشَيُّع للعترة وَحَتَّى أَقْوَالهم وأفعالهم عليهم السلام على ذَلِك وَأَنه مَذْهَب من أدْرك من الْمُعْتَزلَة كالجعفرين

ص: 138

وَطول فِي ذَلِك ذكره صَاحب الْجَامِع الْكَافِي فِي آخر الْجُزْء السَّادِس وَهَذَا الْعَلامَة ابْن أبي الْحَدِيد المعتزلي مَعَ توغله فِي علم الْكَلَام يَقُول

(تاه الانام بأسرهم

فاليوم صاحي الْقَوْم عربد)

(وَالله مَا مُوسَى وَلَا

عِيسَى الْمَسِيح وَلَا مُحَمَّد)

(عرفُوا وَلَا جِبْرِيل وَهُوَ إِلَى مَحل الْقُدس يصعد)

(من كنه ذاتك غير أَنَّك وَاحِد فِي الذَّات سرمد)

(عرفُوا اضافات ونفيا والحقيقة لَيْسَ تُوجد)

(فليخسأ الْحُكَمَاء عَن

حرم لَهُ الاملاك لَهُ سجد)

(من أَنْت يَا رسطو وَمن

أفلاط مثلك يَا مبلد)

(وَمن ابْن سينا حَيْثُ قرر مَا هذيت بِهِ وشيد)

(هَل أَنْتُم إِلَّا الْفراش

رأى السراج وَقد توقد)

(فَدَنَا فَأحرق نَفسه

وَلَو اهْتَدَى رشدا لأبعد) وَفِي ذَلِك يَقُول أَيْضا

(فِيك يَا أغلوطة الْفِكر

تاه عَقْلِي وانقضى عمري)

(سَافَرت فِيك الْعُقُول فَمَا

ربحت الا عَنَّا السّفر)

(رجعت حسرى وَمَا وقفت

لَا على عين وَلَا أثر)

(فلحى الله الاولى زَعَمُوا

إِنَّك الْمَعْلُوم بِالنّظرِ)

(كذبُوا إِن الَّذِي زَعَمُوا

خَارج عَن قُوَّة الْبشر)

وَله فِي هَذَا الْمَعْنى أَشْيَاء بليغة كَثِيرَة ذكرهَا فِي شرح نهج البلاغة فِي شرح قَول أَمِير الْمُؤمنِينَ عليه السلام وَقد ذكر عجز الْعُقُول عَن معرفَة ذَات الرب جل جلاله فَقَالَ عليه السلام فِي ذَلِك امْتنع مِنْهَا بهَا واليها حاكمها قَالَ ابْن أبي الْحَدِيد وَهُوَ قَول لم تزل فضلاء الْعُقَلَاء مائلين اليه ومعولين عَلَيْهِ أَو كَمَا قَالَ

وَقد استكثرت من كَلَامه على قدر تركي الْبَسِيط فِي هَذَا الْمُخْتَصر لمعارضة أَصْحَابه الْمُعْتَزلَة بِكَلَامِهِ فانهم يعترفون بعلو مرتبته فيهم

ص: 139

فَأَما أهل السّنة وَمن ينْسب إِلَى نصرتهم من الْمُتَكَلِّمين فهم بذلك أشهر وَمِمَّا قَالَه الْفَخر الرَّازِيّ

(الْعلم للرحمن جل جلاله

وسواه فِي جهلاته يتغمغم)

(مَا للتراب وللعلوم وَإِنَّمَا

يسْعَى ليعلم أَنه لَا يعلم)

وَأنْشد الشهرستاني فِي ذَلِك فِي أول كِتَابه نِهَايَة الاقدام فِي علم الْكَلَام

(لقد طفت فِي تِلْكَ الْمعَاهد كلهَا

وسيرت طرفِي بَين تِلْكَ المعالم)

(فَلم أر إِلَّا وَاضِعا كف حائر

على ذقن أَو قارعا سنّ نادم)

وَصرح الْغَزالِيّ بذلك فِي الاحياء وصنف فِيهِ وَلابْن دَقِيق الْعِيد فِيهِ أَبْيَات جَيِّدَة مَعَ علو مرتبته فِي المعقولات والمنقولات

واشتهر عَن الْجُنَيْد نفع الله بِهِ على علو مرتبته انه كَانَ يَقُول مَا يعرف الله إِلَّا الله وجود الْغَزالِيّ تَفْسِير ذَلِك فِي مُقَدمَات الْمَقْصد الاسنى وجود ذَلِك أَيْضا الزَّرْكَشِيّ فِي شَرحه جمع الْجَوَامِع للسبكي ودع عَنْك هَؤُلَاءِ كلهم فقد كفانا كتاب الله تَعَالَى حَيْثُ يَقُول سُبْحَانَهُ {وَلَا يحيطون بِهِ علما} وَلَا أوضح من نَص الْقُرْآن إِذا أجِير من التَّأْوِيل بِغَيْر برهَان وَكَيف نتأول ذَلِك وَهَذَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله وَسلم وَهُوَ الْمُبين لكتاب الله الْوَاسِطَة المختارة بَين الله وَبَين عباد الله يَقُول فِي هَذَا الْمقَام سُبْحَانَكَ لَا أحصى ثَنَاء عَلَيْك أَنْت كَمَا أثنيت على نَفسك وَقَالَ فِي حَدِيث آخر تطاع رَبنَا فتشكر وتعصى فتغفر وتجيب الْمُضْطَر وَتكشف الضّر وَلَا يجزى بآلائك أحد وَلَا يبلغ مدحك قَائِل هَذَا وَهُوَ أفْصح وَأعلم من ترْجم عَن ممادح ربه سُبْحَانَهُ وَهُوَ المؤتى فِي ذَلِك لجوامع الْكَلم وحسناها وأنفسها عِنْد الله تَعَالَى وأسناها وَهُوَ الْمُخَاطب بقول الله تَعَالَى {وعلمك}

ص: 140

مَا لم تكن تعلم وَكَانَ فضل الله عَلَيْك عَظِيما) فاعترف عليه السلام بقصور عِبَارَته عَن بُلُوغ المرام فِي هَذَا الْمقَام فَكيف سَائِر الانام

(مرام شط مرمي الْوَصْف فِيهِ

فدون مداه بيد لَا تبيد)

فان قيل كَيفَ السَّبِيل إِلَى الْمَنْع من التَّعْبِير بِغَيْر عبارَة الْكتاب وَالسّنة وَقد وَقع التَّعْبِير فِي هَذَا الْكتاب وَغَيره بذلك قُلْنَا لم نمْنَع ذَلِك مُطلقًا إِنَّمَا منعنَا ذَلِك فِي مهمات الدّين الَّتِي وضحت فِيهَا عِبَارَات الْكتاب وَالسّنة ودلت الادلة على انها منحصرة كَمَا تقدم وَلم تلجيء اليها ضَرُورَة وَلَا اجْتمعت شَرَائِط الْيَقِين فِي مُطَابقَة الْعبارَات عَنْهَا

والنكتة فِي ذَلِك منع مَا يُؤَدِّي إِلَى الِاخْتِلَاف الْمحرم وتمييز مَا يجب قبُوله وَهُوَ عِبَارَات الْقُرْآن وَالسّنة عَمَّا لَا يجب قبُوله على الْجَمِيع وَهُوَ عِبَارَات من لَيْسَ بمعصوم وَلَيْسَ يُخَالف فِي حسن هَذَا الِاخْتِيَار مُمَيّز بعد فهم مَعْنَاهُ وَالْمَقْصُود بِهِ وَقد يجمع بَين عبارَة الْكتاب وَالسّنة وَعبارَة أهل المعقولات إِذا كَانَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا جليا لَا يُؤَدِّي إِلَى مفْسدَة وَلَا إِلَى اخْتِلَاف وَلَكِن ليَكُون الْجمع بَينهمَا أظهر فِي وضوح الْمَعْنى وتجليه لاهل الْعُلُوم المعقولات والمنقولات جَمِيعًا وآنس لَهُم حَيْثُ اجْتمعت عباراتهم على معنى متداول مُتَّفق عَلَيْهِ بَين أهل المعارف من أَئِمَّة الْفُنُون كلهَا كَمَا نذكرهُ فِي مَسْأَلَة الارادة من التَّعْبِير عَن حِكْمَة الله تَعَالَى فِي الْمُتَشَابه لغَرَض الْعرض تَارَة وبالمراد الأول تَارَة وبالخير الْمَحْض تَارَة وبالغايات الحميدة تَارَة وَتَأْويل الْمُتَشَابه والداعي وَالْحكمَة وداعي الْحِكْمَة وأمثال ذَلِك وَالله الْهَادِي

فَهَذَا الْكَلَام انسحب على من التهى عَن ترك عِبَارَات الْكتاب وَالسّنة وَتَوَلَّى من لم يعْصم للتعبير عَنْهُمَا وَمَا يجر ذَلِك من الْخَطَأ وتوسيع دَائِرَة الِاخْتِلَاف الْمحرم وان ذَلِك أدّى إِلَى غموض الْحق وخفائه وَزَاد الْحق غموضا وخفاء أَمْرَانِ

أَحدهمَا خوف العارفين مَعَ قلتهم من عُلَمَاء السوء وسلاطين الْجور وشياطين الْخلق مَعَ جَوَاز التقية عِنْد ذَلِك بِنَصّ الْقُرْآن واجماع أهل الاسلام وَمَا زَالَ الْخَوْف مَانِعا من اظهار الْحق وَلَا برح المحق عدوا لاكثر الْخلق

ص: 141

وَقد صَحَّ عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه أَنه قَالَ فِي ذَلِك الْعَصْر الأول حفظت من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين أما أَحدهمَا فبثثته فِي النَّاس وَأما الآخر فَلَو أبثه لقطع هَذَا البلعوم وَمَا زَالَ الْأَمر فِي ذَلِك يتفاحش وَقد صرح الْغَزالِيّ بذلك فِي خطْبَة الْمَقْصد الاسنى ولوح بمخالفته أَصْحَابه فِيهَا كَمَا صرح بذلك فِي شرح الرَّحْمَن الرَّحِيم فَأثْبت حِكْمَة الله وَرَحمته وجود الْكَلَام فِي ذَلِك وَظن أَنهم لَا يفهمون الْمُخَالفَة لَان شرح هذَيْن الاسمين لَيْسَ هُوَ مَوضِع هَذِه الْمَسْأَلَة وَلذَلِك طوى ذَلِك وَاضْرِبْ عَنهُ فِي مَوْضِعه وَهُوَ اسْم الضار كَمَا يعرف ذَلِك أذكياء النظار

وَأَشَارَ إِلَى التقية الْجُوَيْنِيّ فِي مُقَدمَات الْبُرْهَان فِي مَسْأَلَة قدم الْقُرْآن والرازي فِي كِتَابه الْمُسَمّى بالاربعين فِي أصُول الدّين فِي الْكَلَام على تَأْثِير الْوَصْف العدمي فِي دَلِيل الاكوان وَصرح بالمخالفة فِي ذَلِك فِي الْمَحْصُول فِي بَاب الْقيَاس لأَنهم يتسامحون فِي الْمُخَالفَة فِي الاصول الْفِقْهِيَّة دون الاصول الدِّينِيَّة وتراه يُشِير فِي نِهَايَة الْعُقُول الاشارة الْخفية الى مخالفتهم كَمَا صنع فِي دَلِيل الاكوان بعد الِاحْتِجَاج فِي تماثيل الاجسام على ان الجسمية أَمر مُشْتَرك حَيْثُ قَالَ وَفِي هَذَا الْكَلَام نظر لم يزدْ على هَذَا وَقد أَشَارَ الى انه رَاجع الى أَن مَا لَا دَلِيل عَلَيْهِ يجب نَفْيه وَقد بَالغ فِي بُطْلَانه كَمَا أوضحته فِي العواصم وَقد طول فِي مُقَدمَات النِّهَايَة فِي ابطال هَذِه الطَّرِيقَة فَتَأمل أَمْثَال ذَلِك مِنْهُ

وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ بَاب كَيفَ يقبض الْعلم وَكتب عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى أبي بكر بن حزم انْظُر مَا كَانَ من حَدِيث النَّبِي صلى الله عليه وسلم فأكتبه فانى أَخَاف دروس الْعلم وَذَهَاب الْعلمَاء وَلَا يقبل إِلَّا حَدِيث النَّبِي صلى الله عليه وسلم وليفشوا الْعلم وليجلسوا حَتَّى يعلم من لَا يعلم فان الْعلم لَا يهْلك حَتَّى يكون سرا وَأورد فِيهِ حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا ان الله لَا يقبض الْعلم انتزاعا ينتزعه من الْعباد وَإِنَّمَا يقبض الْعلم بِقَبض الْعلمَاء حَتَّى إِذا لم يبْق عَالما اتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا فسئلوا فأفتوا بِغَيْر علم فضلوا وأضلوا

قَالَ ابْن بطال معنى قَوْله ان الله لَا ينتزع الْعلم من الْعباد انه لَا يهب لَهُم الْعلم ثمَّ ينتزعه بعد أَن تفضل بِهِ عَلَيْهِم وانه يتعالى عَن ان يسترجع مَا وهب لَهُم من علمه الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى مَعْرفَته والايمان بِهِ وانما يكون قبض

ص: 142

الْعلم بتضييع الْعلم فَلَا يُوجد فِيمَن يبْقى من يخلف من مضى وَقد أنذر عليه الصلاة والسلام بِنَقص الْخَيْر كُله وَمَا ينْطق عَن الْهوى

وَثَانِيهمَا الِاعْتِمَاد على الْكِتَابَة فِي حفظ الْعلم فانه أدّى إِلَى كتم أهل الْعلم لكثير من مصونه فِي أول الْأَمر ثمَّ لمهمات الدّين فِي آخِره وَكَانَ الْعلم فِي أول الْأَمر يبْذل من أَهله لأَهله مشافهة وَلَو سرا وَذَلِكَ النَّقْص وَهُوَ مَحْفُوظ فِي الصُّدُور غير مبذول لأهل الشرور فِي السطور فَلَمَّا قل الْحِفْظ وَطَالَ الْأَمر وَكتب ليحفظ وتعذرت الصيانة وَخيف الْعدوان من أَعدَاء أهل الايمان كتم بَعضهم فَلم يظْهر علمه فازداد النَّقْص واتقي بَعضهم فَتكلم بالمعاريض الموهمة للباطل خوفًا على نَفسه ورمز بَعضهم فغلط عَلَيْهِ فِيمَا قَصده فِي رمزه فتفاحش الْجَهْل وَقد أوضحت كَثْرَة الْغَلَط فِيمَا أُرِيد بَيَانه كَيفَ لَا فِيمَا أُرِيد كِتْمَانه وَمَا لَا يجوز تَفْسِيره إِلَّا لمن علم من صَاحبه مُرَاده بِالنَّصِّ فَلَمَّا كثرت أَسبَاب غموض الْحق وَجب الرُّجُوع فِي أَصله الَّذِي ضمن الله حفظه حَيْثُ قَالَ {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} وان يَبْتَغِي من حَيْثُ ابتغاه خَلِيل الله عليه السلام حَيْثُ قَالَ {إِنِّي ذَاهِب إِلَى رَبِّي سيهدين} كَمَا نَص على ذَلِك معَاذ رضي الله عنه حَيْثُ قَالَ وَأوصى بِهِ عِنْد مَوته كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ معافى المناقب وَالْحَاكِم فِي الْفِتَن من الْمُسْتَدْرك وَصَححهُ على شَرط مُسلم وَهَذَا لَفظه مُخْتَصرا عَن زيد بن عُمَيْر أَنه كَانَ عِنْد معَاذ حِين احْتضرَ فَكَانَ يغشي عَلَيْهِ ثمَّ يفِيق حَتَّى غشي عَلَيْهِ غشية ظننا انه قد قبض فِيهَا ثمَّ أَفَاق وَأَنا مُقَابِله أبكى فَقَالَ مَا يبكيك قلت أبْكِي على الْعلم والحلم الَّذِي أسمع مِنْك يذهب قَالَ فَلَا تبك فان الْعلم والايمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما فابتغه حَيْثُ ابتغاه إِبْرَاهِيم عليه السلام فانه سَأَلَ الله وَهُوَ لَا يعلم وتلا {إِنِّي ذَاهِب إِلَى رَبِّي سيهدين} أه وَنَحْو ذَلِك مَا وهب الله من الْيَقِين والفوز الْعَظِيم لأهل الْكَهْف وَكَذَلِكَ السَّحَرَة الَّذين آمنُوا بمُوسَى من غير طول نظر وَقد غلل الله قبُول النَّصَارَى للحق بَان مِنْهُم قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ترى أَعينهم تفيض من الدمع مِمَّا عرفُوا من الْحق

ص: 143

فَمن أَرَادَ احياء هَذِه السّنة واتباعها خلع قيود عصبيات الْمذَاهب ورسوم عوائدهم وَترك التَّقْلِيد فِي تَكْفِير الْخُصُوم وَترك جَمِيع الْعبارَات المبتدعة وأخلص لله والتجأ اليه وتضرع وتورع وتذلل وتواضع واستأنف طلب الْعلم النافع من الله بِوَاسِطَة أهل الْوَرع والتواضع والانصاف من عُلَمَاء الطوائف كلهَا وَلم يقلدهم فِي دعاوي التَّفْسِير لكتاب الله تَعَالَى وصحيح السّنة حَيْثُ يَخْتَلِفُونَ حَتَّى ينظر بتفهم وانصاف أَيهمْ أقوى دَلِيلا وأوضح سَبِيلا مُؤمنا بِاللَّه موقنا بمعونته وهدايته وَصدق وعده حَيْثُ قَالَ سُبْحَانَهُ {وَمن يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه} وَحَيْثُ قَالَ على لِسَان رَسُوله صلى الله عليه وسلم وَمن أَتَانِي يمشي أَتَيْته أسعى وَمن تقرب إِلَيّ شبْرًا تقربت إِلَيْهِ ذِرَاعا وَمن تقرب إِلَيّ ذِرَاعا تقربت اليه باعا فاذا علمنَا على ذَلِك لوجه الله وتعاونا عَلَيْهِ لله وَبِاللَّهِ نَظرنَا فِي نُصُوص كتاب الله وصحيح سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فان وضح الْحق من غير دقة وغموض وَلَا تعَارض بَين النُّصُوص وَلم يجب التَّأْوِيل بامر بَين جلي مَأْمُون الْخطر باجماع أَو ضَرُورَة فَلَا معدل عَن كتاب الله وَسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله وان وَقع التَّعَارُض الْمُحَقق وسعنا الْوَقْف فِي ذَلِك ووكلنا علمه إِلَى الله تَعَالَى امتثالا لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وان كَانَ التَّعَارُض غير مُحَقّق وانما هُوَ اخْتِلَاف يُمكن فِيهِ الْجمع جرينا على الْقَوَاعِد الصَّحِيحَة الْمجمع عَلَيْهَا فِي الْجمع بَين المختلفات وَتَركنَا من حاد عَنْهَا بالمعاذير الْخفية

وَهَذِه الْقَوَاعِد هِيَ مثل تَقْدِيم النَّص على الظَّاهِر الْمُحْتَمل وَالْخَاص على الْعَام والمبين على الْمُجْمل والمعلوم على المظنون والمتواتر على الْآحَاد والناسخ على الْمَنْسُوخ وَالْمَشْهُور على الْغَرِيب وَالصَّحِيح على الضَّعِيف والمتفق على صِحَّته على الْمُخْتَلف فِي صِحَّته وَكَلَام أَئِمَّة كل فن على من خالفهم مِمَّن لَا يعرف ذَلِك الْفَنّ أَو يعرف مِنْهُ الْيَسِير وَلَا يعرف مَا عرفوه فان الْأَمر فِي ذَلِك كَمَا قيل لَيْسَ الْعَارِف كالبارع فِي الْمعرفَة وشتان مَا بَين لَيْلَة الْمزْدَلِفَة وَلَيْلَة عَرَفَة وَكَذَلِكَ نرْجِع فِي شُرُوط ذَلِك كُله إِلَى الْأَدِلَّة المقبولة

فان قيل لابد من تَفْسِير الْكتاب وَالسّنة بِغَيْر الفاظهما وَقد منعتم من

ص: 144

الْعبارَات المبتدعة قُلْنَا لم نمْنَع من ذَلِك مُطلقًا إِنَّمَا منعنَا مِنْهُ حَيْثُ يضر ويستغني عَنهُ بعبارات الْكتاب وَالسّنة الجليلة الَّتِي لَا تحْتَاج إِلَى تَفْسِير كَمَا تقدم وَأما التَّفْسِير فَمَا كَانَ من المعلومات بِالضَّرُورَةِ من أَرْكَان الاسلام واسماء الله تَعَالَى منعنَا تَفْسِيره لِأَنَّهُ جلي صَحِيح الْمَعْنى وَإِنَّمَا يفسره من يُرِيد تحريفه كالباطنية الْمَلَاحِدَة وَمَا لم يكن مَعْلُوما ودخلته الدقة والغموض فان دخله بعد ذَلِك الْخطر وَخَوف الاثم فِي الْخَطَأ مِمَّا يتَعَلَّق بالعقائد تركنَا الْعبارَات المبتدعة وسلكنا طَرِيق الْوَقْف وَالِاحْتِيَاط إِذْ لَا عمل يُوجب معرفَة مَعْنَاهُ الْمعِين وان لم يدْخل فِيهِ الْخطر عَملنَا فِيهِ بِالظَّنِّ الْمُعْتَبر الْمجمع على وجوب الْعلم بِهِ أَو جَوَازه وَالله الْهَادِي

ص: 145