الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فِي ذكر الادلة على ذَلِك
وَاعْلَم أَن هَذِه الْمَسْأَلَة الجليلة وَإِن كَانَت جلية فقد أحْوج أهل اللجاج والتمسك بالمتشابهات إِلَى التَّطْوِيل فِيهَا لما يتَفَرَّع عَنْهَا ويبتني عَلَيْهَا من الْقَوَاعِد وَقد بسطت الادلة عَلَيْهَا فِي العواصم وَلَكِن لابد من التَّبَرُّك بِذكر طرف صَالح غير الْمَشْهُور فِي علم الْكَلَام يدْفع الله بِهِ فِي نَحْو الْمُخَالفين
فَمن ذَلِك مَا ورد فِي تَعْلِيل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض كَقَوْلِه تَعَالَى {وَمَا خلقنَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين مَا خلقناهما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {أَو لم يتفكروا فِي أنفسهم مَا خلق الله السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأجل مُسَمّى} وَفِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة دلَالَة على أَن الفكرة الْعَقْلِيَّة الصَّحِيحَة تثمر الْمعرفَة بحكمة الله وَالْقطع على تَنْزِيه الله من الْعَبَث واللعب كَمَا أَن الادلة الشَّرْعِيَّة جَاءَت بذلك وَذَلِكَ وَاضح فِي قَوْله تَعَالَى {أَو لم يتفكروا فِي أنفسهم} فَهِيَ حجَّة على إِثْبَات التحسين الْعقلِيّ كَقَوْلِه {أم تَأْمُرهُمْ أحلامهم بِهَذَا} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاطِلا ذَلِك ظن الَّذين كفرُوا فويل للَّذين كفرُوا من النَّار} وَقَالَ {هُوَ الَّذِي جعل الشَّمْس ضِيَاء وَالْقَمَر نورا وَقدره منَازِل لِتَعْلَمُوا عدد السنين والحساب مَا خلق الله ذَلِك إِلَّا بِالْحَقِّ يفصل الْآيَات لقوم يعلمُونَ} إِلَى غير ذَلِك
وَبَوَّبَ البُخَارِيّ بَابا فِي ذَلِك فَقَالَ فِي التَّوْحِيد وَالرَّدّ على الْجَهْمِية
بَاب قَول الله عز وجل وَهُوَ الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ ثمَّ روى حَدِيث ابْن عَبَّاس كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَدْعُو من اللَّيْل وَذكر دعاءه وَفِيه أَنْت الْحق وقولك الْحق وَوَعدك الْحق وَالْجنَّة حق وَالنَّار حق والساعة حق وَذَلِكَ من البُخَارِيّ إِشَارَة إِلَى مَذْهَب أهل السّنة فِي إِثْبَات الْحِكْمَة
وَمن ذَلِك مَا ورد فِي تَعْلِيل الْعَذَاب بالاعمال والاستحقاق مثل {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} وَهُوَ أصرح وَأكْثر وَأشهر من أَن يذكر بل هُوَ من المعلومات من ضَرُورَة الدّين وَكَذَلِكَ جَاءَ صَرِيح التَّعْلِيل فِي الْأَحْكَام كَقَوْلِه تَعَالَى {من أجل ذَلِك كتبنَا على بني إِسْرَائِيل} الْآيَة وَقد ذكرت فِي العواصم فِي هَذِه أَكثر من مائَة آيَة من كتاب الله مِمَّا تقشعر الْجُلُود لمُخَالفَة آيَة وَاحِدَة مِنْهَا وَإِنَّمَا اقتصرت على مَا هُنَالك خوفًا من الاملال وَقد ذكر ابْن قيم الجوزية فِي الْجَواب الْكَافِي أَن فِي ذَلِك قدر ألف آيَة من كتاب الله ذكره فِي فَائِدَة الْعَمَل مَعَ الْقدر فِي تَرْتِيب الاشياء على الاسباب فِي حِكْمَة الله تَعَالَى
وَمن ذَلِك قَول نوح عَلَيْهِ أفضل السَّلَام {إِن ابْني من أَهلِي وَإِن وَعدك الْحق وَأَنت أحكم الْحَاكِمين} فان لَفْظَة أحكم هُنَا مُبَالغَة فِي الْحِكْمَة الَّتِي هَذَا موضعهَا لما فِي كَلَامه من التلطف بتنزيه الله عَن الْخلف فِي الميعاد وَلَا يَصح أَن يكون أحكم هُنَا مُبَالغَة فِي الاحكام إِذْ لَا مُنَاسبَة لذَلِك بِهَذَا الْمقَام وَلذَلِك كَانَ الْجَواب على نوح عليه السلام بِأَنَّهُ عمل غير صَالح فبينت لَهُ الْحِكْمَة على التَّعْيِين لتقرير اعْتِقَاده الْجملِي لَهَا فكشف لَهُ بهَا أَن الْوَعْد سبق لَهُ مُتَعَلق بأَهْله الصَّالِحين وَقد روى أت الْوَجْه فِي اشْتِبَاه ذَلِك على نوح أَن ابْنه كَانَ منافقا وَكَانَ علم نفَاقه من علم الْغَيْب الَّذِي يخْتَص الله بِهِ وَلَو كَانَ عدم صَلَاحه بِأَمْر بَين لم يخف ذَلِك عَلَيْهِ وَهَذَا وَجه جيد وَالله أعلم وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {أم تَأْمُرهُمْ أحلامهم بِهَذَا أم هم قوم طاغون}
وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى حاكيا عَن الأشقياء {لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير} وَقَوله فِي غير آيَة {أَفلا تعقلون} {وَأَنْتُم تعلمُونَ} فانها وأمثالها تدل على معرفتهم بعقولهم قبح مَا هم عَلَيْهِ وبطلانه مَعًا إِذْ لَو عرفُوا بُطْلَانه بهَا دون قبحه لم تقم عَلَيْهِم الْحجَّة وَإِنَّمَا أرْسلت الرُّسُل لقطع عذرهمْ لكيلا يَقُولُوا مَا حكى الله تَعَالَى عَنْهُم وَذَلِكَ لزِيَادَة الاعذار لِأَنَّهُ لَا أحد أحب اليه الْعذر من الله تَعَالَى لَا لِأَنَّهُ لَا حجَّة عَلَيْهِم قبل الرُّسُل أصلا وَلذَلِك صَحَّ عِنْد أهل السّنة أَن تقوم حجَّة الله بالخلق الاول فِي عَالم الذَّر على مَا سَيَأْتِي بَيَانه وَذَلِكَ قبل الرُّسُل وَلم يَخْتَلِفُوا فِي صِحَّته وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي وُقُوعه
وَمن ذَلِك سُؤال الْمَلَائِكَة عَن وَجه الْحِكْمَة فِي خلق آدم وَذريته وَلَوْلَا اعْتِقَادهم للْقطع بالحكمة مَا استغربوا ذَلِك وَلَا سَأَلُوا عَنهُ وَلذَلِك كَانَ الْجَواب عَلَيْهِم بقوله تَعَالَى {إِنِّي أعلم مَا لَا تعلمُونَ} وَلم يقل اني يصدر مني مَا يفعل المفسدون وأوضح من هَذَا كُله مَا جرى بَين مُوسَى وَالْخضر عليهما السلام فانه مُنَاد نِدَاء صَرِيحًا على اشْتِمَال أَفعَال الله تَعَالَى على الْمصَالح والغايات المحمودة وَلَوْلَا اعتقادهما لذَلِك مَا استنكر مُوسَى وَلَا أجَاب الْخضر بِوُجُوه الْحِكْمَة الراجعة إِلَى الْمصَالح وَلَا قنع مُوسَى بذلك الْجَواب والخصم يعْتَقد أَن الْمفْسدَة الْبَيِّنَة الْفساد فِي الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة الخالية عَن الْحِكْمَة والمصلحة بَاطِنا وظاهرا جَائِزَة على اتعالى بل مُسَاوِيَة للْمصْلحَة الْبَيِّنَة الصّلاح بَاطِنا وظاهرا بل لَا يجوز أَن يُعلل شَيْء من أَفعاله بحكمة بل يجب الْقطع بخلوهاعن ذَلِك بل يجب الْقطع بِأَن ذَلِك هُوَ الأولى فِي ممادح الرب تَعَالَى حَتَّى صرخوا بِتَأْوِيل اسْمه الْحَكِيم بِمَعْنى الْمُحكم لخلق الْمَخْلُوقَات لَا سواهُ لَا أَن لَهُ فِي ذَلِك الْأَحْكَام حِكْمَة أَلْبَتَّة وَلَو كَانَ كَذَلِك لم يَقع مِنْهُ الاحكام لِأَنَّهُ لَا يكون أولى بِهِ من عَدمه وَإِن لم يكن أولى بِهِ فَلَا وَلَا أَكثر وقوعا فِي مخلوقاته بل لَو كَانَ كَذَلِك لارتفع التحسين والتقبيح فِي الشَّرْع وَلم يكن الامر بالشَّيْء أولى من النَّهْي عَنهُ وَلَا الْعَكْس لِأَن الْمُمكن لَا يتَرَجَّح وجوده على عَدمه إِلَّا بمرجح وَلَا مُرَجّح فِي ذَلِك كُله إِلَّا دَاعِي الْحِكْمَة وَالْعلم بِفضل بعض الْأُمُور على بعض
ثمَّ إِنَّا قد علمنَا أَن الشَّيْطَان مُحكم لأسباب فَسَاده ووسواسه أَشد الاحكام مَعَ أَنه فِي غَايَة الْقبْح لخلوه عَن الْحِكْمَة وَكَذَلِكَ الْمُشْركُونَ أحكموا حربهم وسبهم للأنبياء وَقَالُوا فِي ذَلِك القصائد المحكمة وَإِنَّمَا قبح ذَلِك كُله وسخف قَائِله لِخُرُوجِهِ عَن الْحِكْمَة فَكيف يرد اسْم الْحَكِيم إِلَى مثل ذَلِك
وَقد نقل تَفْسِير الْحَكِيم بالمحكم من لم يفهم هَذِه الغائلة من شرَّاح الاسماء الْحسنى حَتَّى نَقله الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيره ومصنف سلَاح الْمُؤمن وَأما ابْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة فَنقل التفسيرين مَعًا وَأما الْغَزالِيّ فِي الْمَقْصد الْأَسْنَى فانه اتَّقى فِيهِ من الْمُخَالفين بِغَيْر شكّ لِأَنَّهُ صرح بمخالفتهم فِي شرح الرَّحْمَن الرَّحِيم لكنه تلطف فِي إخفاء الْمُخَالفَة على الْأَكْثَرين بِكَوْنِهِ جعلهَا فِي الْموضع الَّذِي لم يشْتَهر فِيهِ الْخلاف بَينهم وَبَين خصومهم وَهُوَ تَعْظِيم رَحْمَة الله تَعَالَى وسعتها وَقد أَشَارَ إِلَى مُخَالفَة الْأَكْثَرين للحق فِي خطْبَة هَذَا الْكتاب بل صرح بذلك وَأَيْضًا فَيلْزم أَن لَا يكون الْجُود وَنَحْوه أولى بِاللَّه من أضدادها وَأَيْضًا كل مَقْدُور مُمكن الْوُجُود والبقاء على الْعَدَم وَلَا يتَرَجَّح أحد الممكنين إِلَّا بمرجح وَلَا مُرَجّح إِلَّا الدعي وَأَيْضًا فَيلْزم أَن لَا يحْتَاج الْمُتَشَابه إِلَى تَأْوِيل
وَمن ذَلِك أَنه يتَعَذَّر على من نفى حِكْمَة الله تَعَالَى أَن يقطع على صدقه سُبْحَانَهُ وَصدق رسله الْكِرَام عليهم السلام كَمَا تقدّمت الاشارة اليه وَهَذَا مَبْسُوط فِي كتب الْكَلَام وَلَا يَصح لَهُم عَنهُ جَوَاب إِلَّا مَا يلْزمهُم مَعَه ثُبُوت الْحِكْمَة فِي الافعال والاقوال مَعًا كَمَا تقدم
وَمن ذَلِك أَنهم إِنَّمَا أَن يحسنوا نفي الْحِكْمَة بِغَيْر حجَّة أَو لَا يحسنوه إِلَّا بِحجَّة إِن حسنوه بِغَيْر حجَّة أكذبهم قَوْله تَعَالَى {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} وَإِن لم يحسنوه إِلَّا بِحجَّة اعْتَرَفُوا بالتحسين الْعقلِيّ
وَمن ذَلِك أَنهم اعْتَرَفُوا بِأَن الْعقل يعرف الْحق من الْبَاطِل فَيُقَال لَهُم فاذا تقرر ذَلِك فالمعلوم فِي الْفطر تَرْجِيح الْحق على الْبَاطِل وَقد اجْتَمَعنَا فِي الاقوال على تَرْجِيح الصدْق على الْكَذِب بِخُصُوصِهِ وَالصَّوَاب تَرْجِيح الْحق على الْبَاطِل بِعُمُومِهِ فِي الافعال كالأقوال وَالله يحب الانصاف