المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خاتمة تشتمل على فائدة نفيسة - إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات

[ابن الوزير]

الفصل: ‌خاتمة تشتمل على فائدة نفيسة

المختصرات عُمُوم الْمُسلمين فيوهمون أَن ذَلِك من أَرْكَان الاسلام فلولا أَن هَذَا قد وَقع مِنْهُم مَا كَانَ الْعَاقِل يصدق بِوُقُوعِهِ مِمَّن هُوَ دونهم فنسأل الله تَعَالَى الْعَافِيَة

وَإِنَّمَا أوضحت هَذَا الْكَلَام أَيهَا السنى لتغتبط بِعلم الْقُرْآن والاثر ولتصونه عَن شوبه بأمثال هَذَا من بدع أهل الدَّعَاوَى للحذق فِي النّظر فقد صَارَت أَقْوَالهم فِي الركة أَمْثَالًا وعبرا لمن اعْتبر وَجَمِيع مَا يرد على هَذَا من الأسئلة وأجوبتها تقدم فِي الْمَسْأَلَة الأولى فِي إِثْبَات حِكْمَة الله تَعَالَى فَخذه إِن احتجت اليه وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين

‌خَاتِمَة تشْتَمل على فَائِدَة نفيسة

وَهِي أَن هَذِه الْمَسْأَلَة وأمثالها مِمَّا بالغت فِي نصرته مثل اثبات حِكْمَة الله تَعَالَى وتعظيم قدرته عز وجل من قبيل الثَّنَاء الْحسن بِحَيْثُ لَو قَدرنَا الْخَطَأ فِي شَيْء مِنْهَا مَا كَانَ يخَاف مِنْهُ الْكفْر وَالْعَذَاب قطعا وَأما أضدادها فانه يخَاف ذَلِك عِنْد تَقْدِير الْخَطَأ فِيهَا لاستلزامها مَا لَا يجوز على الله تَعَالَى من النَّقْص المضاد لاسمائه الْحسنى الَّتِي هِيَ جمع تَأْنِيث الاحسن من كل ثَنَاء لَا جمع تانيث الْحسن كَمَا مر تَقْرِيره فاعرض هَذِه الْفَائِدَة النفيسة على كل عقيدة لَك وَشد عَلَيْهَا يَديك فِي كل مَا لم يُعَارض الْمَعْلُوم ضَرُورَة من الدّين وَالله الْمُوفق وَالْهَادِي إِلَى الصَّوَاب

الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة أَن الله تَعَالَى لَا يعذب أَطْفَال الْمُشْركين بذنوب آبَائِهِم وَلَا بِغَيْر ذَنْب وَهَذِه من فروع اثبات الْحِكْمَة وَهِي أُخْت الَّتِي قبلهَا وَهُوَ مَذْهَب جَمَاهِير الاسلام بل لم يعرف فِيهِ خلاف بَين السّلف فانهم كَانُوا مُجْمِعِينَ على عدل الله تَعَالَى وحكمته فِي الْجُمْلَة والاجماع على ذَلِك يتقضي الْمَنْع من كل مَا يضاده وَمِمَّنْ صرح بِاخْتِيَار هَذَا البُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَالنَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وَقواهُ وَاحْتج عَلَيْهِ وَنسبه إِلَى الْمُحَقِّقين وَكَذَلِكَ اخْتَارَهُ عَليّ بن عبد الْكَافِي الشهير بالسبكي فِي كتاب جمعه فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وهما من عُيُون أَئِمَّة السّنة والطائفة الشَّافِعِيَّة وَكَذَلِكَ اخْتَار ذَلِك الْعَلامَة أَبُو

ص: 339

عمر بن عبد الْبر فِي كِتَابه التَّمْهِيد وَهُوَ من أَئِمَّة السّنة وَاخْتَارَهُ غير وَاحِد مِنْهُم دع عَنْك خصومهم فِي ذَلِك من الشِّيعَة والمعتزلة

وَاحْتج النَّوَوِيّ وَغَيره على ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} وَبِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه عَن سَمُرَة فِي حَدِيثه الطَّوِيل وَفِيه ذكر رُؤْيا النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله وفيهَا مَا لَفظه وَالشَّيْخ فِي أصل الشَّجَرَة ابراهيم عليه السلام وَالصبيان حوله أَوْلَاد قَالُوا يَا رَسُول الله وَأَوْلَاد الْمُشْركين قَالَ وَأَوْلَاد الْمُشْركين وَهَذَا نَص فِي مَوضِع النزاع من أصح كتب الاسلام عِنْد أَئِمَّة الحَدِيث وَأما كَونه رُؤْيا فَلَا يضر لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن رُؤْيا الْأَنْبِيَاء عليهم السلام وَحي وَحقّ وَلذَلِك عزم الْخَلِيل عليه السلام على ذبح وَلَده بِسَبَبِهَا وَهَذَا إِجْمَاع وَثَانِيهمَا أَن هَذَا السُّؤَال عَن أَوْلَاد الْمُشْركين وَجَوَابه كَانَ فِي الْيَقَظَة لَا فِي الرُّؤْيَا

وَقد أوضحت فِي العواصم أَنه لم يَصح فِي تَعْذِيب الْأَطْفَال بِغَيْر ذَنْب مِنْهُم حَدِيث قطّ وَلَا صَحَّ ذَلِك عَمَّن ينظر اليه من أَئِمَّة السّنة وَإِنَّمَا قَالَت طوائف مِنْهُم بأقوال مُحْتَملَة مِنْهَا أَن الله تَعَالَى يكمل عقول الصّبيان ويكلفهم فِي عَرصَة من عرصات يَوْم الْقِيَامَة بتكيلف يُنَاسب ذَلِك الْيَوْم مثل مَا روى أَنه يخرج لَهُم عنقًا من النَّار فيأمرهم بورودها فَمن كَانَ سعيدا فِي علم الله تَعَالَى لَو أدْرك الْعَمَل وردهَا فَكَانَت عَلَيْهِ بردا وَسلَامًا وَمن كَانَ شقيا فِي علم الله تَعَالَى لَو أدْرك الْعَمَل امْتنع وَعصى فَيَقُول الله تَعَالَى لَهُم عصيتموني الْيَوْم كَيفَ رُسُلِي لَو أتتكم أَو كَمَا ورد

وَسبب مصير من صَار مِنْهُم إِلَى هَذَا القَوْل أَحَادِيث كَثِيرَة وَردت بذلك مِنْهَا عَن أبي سعيد وَأنس ومعاذ والاسود بن سريع وَأبي هُرَيْرَة وثوبان وروى ذَلِك أَيْضا أَحْمد بن عِيسَى بن زيد بن عَليّ عليه السلام عَن جده زيد بن عَليّ ذكره صَاحب الْجَامِع الْكَافِي وَقَالَ السُّبْكِيّ فِي كِتَابه فِي ذَلِك أَن أَسَانِيد هَذِه الْأَحَادِيث صَالِحَة

قلت وفسروا بِهَذِهِ الاحاديث حَدِيث الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين وَهُوَ الَّذِي اتّفق على صِحَّته فِي الْبَاب وَسنة الله فِي إِقَامَة الْحجَج على خلقه

ص: 340

لَا تحيل هَذَا احالة قَاطِعَة كَمَا تحيل تَكْلِيف الْمحَال وَلَا حجَّة وَاضِحَة على أَن هَذِه الاحاديث مَوْضُوعَة يجوز الْجَزْم بتكذيبها وَقد قَالَ الله تَعَالَى {يَوْم يكْشف عَن سَاق وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} فَأثْبت تكليفا بذلك السُّجُود يَوْم الْقِيَامَة وَصَحَّ وتواتر أَن الْمَيِّت يمْتَحن فِي قَبره فِي الْمَسْأَلَة عَن الشَّهَادَتَيْنِ وَأَن الْمُؤمن يثبت فيقولهما وَالْكَافِر وَالْمُنَافِق يتلجلج أَو يَقُول لَا أَدْرِي

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث الْبَراء أَن قَوْله تَعَالَى {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} نزلت فِي ذَلِك وَكَذَلِكَ أجمع أهل السّنة على أَن للبرزخ حكما بَين حكم الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمِنْه أَن مُوسَى عليه السلام كَانَ يُصَلِّي فِي قَبره رَوَاهُ مُسلم وَمِنْه ضمة الْقَبْر وَنَحْوهَا فنكل علم تِلْكَ الاخبار إِلَى الله وَلَا نجوز على الله تَعَالَى ظلما لأحد من عباده وَلَا عَبَثا وَلَا لعبا وَلَا مُبَاحا لَا يسْتَحق عَلَيْهِ الثَّنَاء وَالْحَمْد وَإِنَّمَا نجوز عَلَيْهِ مَا يسْتَحق عَلَيْهِ الثَّنَاء وَالْحَمْد سَوَاء علمنَا وَجهه أم لَا وَكَذَلِكَ لَا نجوز عَلَيْهِ تَعْذِيب الْمَيِّت ببكاء أَهله عَلَيْهِ من غير حِكْمَة وَلَا ذَنْب وَلَا عوض لَكِن قد روى ذَلِك ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله وردته عَلَيْهِ عَائِشَة رضي الله عنها وَرَوَاهُ جمَاعَة من الصَّحَابَة رضي الله عنهم غير ابْن عمر فَاحْتمل تَأْوِيله على أحد وُجُوه

الْوَجْه الأول أَن يكون الْمَيِّت أوصى بذلك وعَلى ذَلِك حمله البُخَارِيّ وَغَيره لِأَن ذَلِك كَانَ عَادَتهم وَهِي قرينَة قَوِيَّة لهَذَا التَّأْوِيل

الْوَجْه الثَّانِي أَن يكون الْعَذَاب مُسْتَحقّا للْمَيت على ذنُوبه لما ثَبت فِي الصَّحِيح أَن من نُوقِشَ الْحساب عذب وَأَن أحدا لَا يدْخل الْجنَّة بِعَمَلِهِ وَإِنَّمَا يدخلهَا برحمة الله تَعَالَى وَإِن الْبَاء فِي قَوْله تَعَالَى {ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} بَاء السَّبَب لَا بَاء الثّمن جمعا بَين النُّصُوص وَهُوَ من حمل الْمُشْتَرك على أحد الحقيقتين بِالْحجَّةِ لَا من صرف الظَّاهِر إِلَى

ص: 341

الْمجَاز والعقول والفطرة ترجح ذَلِك فان سُبْحَانَ الله تملأ الْمِيزَان وَالله أكبر تملأ مَا بَين السَّمَاء والارض بل قد صحت النُّصُوص قُرْآنًا وَسنة أَن السَّيئَة بِمِثْلِهَا أَو يعْفُو الله عَنْهَا والوحسنة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف وَالله يُضَاعف لمن يَشَاء وَالصَّبْر وَالصَّوْم بِغَيْر حِسَاب

فاذا تقرر ذَلِك جَازَ أَن يكون الْبكاء الْمحرم الْمُغْضب لله عز وجل سَببا لمؤآخذة الْمَيِّت بِمَا يسْتَحقّهُ من الْعقُوبَة على ذنُوبه الَّتِي قدمهَا وَنسب التعذيب إِلَى الْبكاء لهَذِهِ السَّبَبِيَّة مَعَ حسن تعذيبه لَو لم يبك عَلَيْهِ بذلك وَيكون هَذَا التعذيب والاخبار بِهِ زاجرا عَن الاصرار على سنة الْجَاهِلِيَّة المستحكمة فِي طباعهم المقوية للدواعي إِلَى إِظْهَار الْجزع وَلَطم الخدود وشق الْجُيُوب وَحلق الشُّعُور وَإِن لم يبكوا امتثالا لأمر الله عَفا الله عَن ميتهم وَترك تعذيبه الْمُسْتَحق بذنوبه مَعَ ثوابهم على امتثالهم وَيكون هَذَا الْعَفو والاخبار بِهِ دَاعيا ومرغبا ولطفا فِي فعل هَذِه الطَّاعَة

الْوَجْه الثَّالِث أَن يكون عَذَاب الْقَبْر مثل الآلام الدُّنْيَوِيَّة للعوض وَالِاعْتِبَار مثل مَا صَحَّ من ضمة اللَّحْد وَيكون مَعَ بكاء فَقَط وَإِن ترك الْبكاء لم يزدْ على ضمة اللَّحْد وَهَذَا أَشَارَ اليه الذَّهَبِيّ وَذكر أَن للبرزخ حكما بَين حكم الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأَنه لَيْسَ مثل الْحَال بعد اقرار أهل الْجنَّة فِي الْجنَّة وَأهل النَّار فِي النَّار وَالْحجّة فِي ذَلِك من الْكتاب وَالسّنة كَمَا مضى وَادّعى الاشعري أَنه اجماع أهل السّنة ذكره ابْن كثير فِي الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة وَالله أعلم

الْمَسْأَلَة السَّادِسَة فِي التحسين الْعقلِيّ وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {أَو لم يتفكروا فِي أنفسهم مَا خلق الله السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} وَتقدم طرف من ذَلِك فِي الْمَسْأَلَة الأولى فِي إِثْبَات حِكْمَة الله تَعَالَى ونزيد هُنَا فَنَقُول اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك اخْتِلَافا ظَاهره التباعد الْكثير وَمَعَ تَلْخِيص مَحل النزاع والتوسط يسهل الامر وَيقرب من الِاتِّفَاق فقد ذكر الرَّازِيّ وَغَيره من متكلمي الأشعرية أَنه لَا خلاف فِيهِ باعتبارات ثَلَاثَة

ص: 342

أَحدهَا بِاعْتِبَار الشَّهْوَة والنفرة وَثَانِيها بِاعْتِبَار جلب النَّفْع وَدفع الضّر وَثَالِثهَا بِاعْتِبَار صفة النَّقْص كالكذب وَالْجهل وَصفَة الْكَمَال كالصدق وَالْعلم وعنوا بِالْكَذِبِ الَّذِي لم تدع اليه ضَرُورَة وبالصدق الَّذِي لَيْسَ بضار

وَمن هُنَا لم يجوزوا وُقُوع الْكَذِب فِي كَلَام الله تَعَالَى لِأَنَّهُ صفة نقص قَالُوا وَإِنَّمَا الْخلاف فِي معرفَة الْعقل لوُجُوب اسْتِحْقَاق الذَّم فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَاب فِي الْآخِرَة على فعل صفة النَّقْص لَا جوزها من غير وجوب وَكَذَلِكَ معرفَة الْعقل لوُجُوب اسْتِحْقَاق الثَّنَاء فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَاب وَالثنَاء فِي الْآخِرَة على فعل صفة الْكَمَال لَا جَوَاز ذَلِك من غير وجوب وَلذَلِك حكى الزَّرْكَشِيّ فِي شَرحه لكتاب السُّبْكِيّ الْمُسَمّى جمع الْجَوَامِع أَن قوما توسطوا فَقَالُوا إِن الْقبْح وَاسْتِحْقَاق الذَّم عَلَيْهِ ثَابت بِالْعقلِ وَأما الْعقَاب فمتوقف على الشَّرْع قَالَ وَهُوَ الَّذِي ذكره أسعد بن عَليّ الزنجاني من أَصْحَابنَا الشَّافِعِيَّة وَأَبُو الْخطاب من الْحَنَابِلَة وذكرته الْحَنَفِيَّة وحكوه عَن أبي حنيفَة قَالَ وَهُوَ الْمَنْصُور لقُوته من حَيْثُ الْفطْرَة وآيات الْقُرْآن الْمجِيد وسلامته من الوهن والتناقض اه

وَقد تقدم فِي الْمَسْأَلَة الأولى أَن تَسْلِيم هَذَا الْقدر من التحسين الْعقلِيّ يُوجب الْمُوَافقَة على إِثْبَات الْحِكْمَة فِي أَفعَال الله تَعَالَى وَأَنه لَا فرق فِي التحسين بَين الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال وَقد ثَبت وقُوف الْأَقْوَال على الْحِكْمَة حَيْثُ وَجب الْقطع بِأَن الله تَعَالَى يخْتَار الصدْق على الْكَذِب فِي جَمِيع كَلَامه وَكتبه والموجب ذَلِك هُوَ بِعَيْنِه يُوجب مُرَاعَاة الْحِكْمَة فِي الْأَفْعَال وَهَذِه فَائِدَة مهمة وَحجَّة بَيِّنَة يَنْبَغِي التعويل عَلَيْهَا فِي دُعَاء من يُنكر الْحِكْمَة إِلَى الْحق وَالله الْهَادِي

وَقَول الزَّرْكَشِيّ أَن ذَلِك هُوَ الْمَنْصُور لموافقته الْفطْرَة وآيات الْقُرْآن الْمجِيد قَول صَحِيح وَأَرَادَ بآيَات الْقُرْآن الْمجِيد مَا ورد فِي ذَلِك مثل مَا قدمنَا من قَوْله تَعَالَى {أَو لم يتفكروا فِي أنفسهم} الْآيَة وَمثل قصَّة مُوسَى وَالْخضر عليهما السلام فانها صَرِيحَة فِي ذَلِك وَالْحجّة فِيهَا من وَجْهَيْن

ص: 343

أَحدهمَا أَن مُوسَى عليه السلام إِنَّمَا أنكر ذَلِك بالفطرة الْعَقْلِيَّة بِدَلِيل أَن الله تَعَالَى قد كَانَ أعلمهُ أَن الْخضر أعلم مِنْهُ والتفاضل إِنَّمَا هُوَ فِي الشرعيات ودقائق العقليات فَلَمَّا كَانَ مَا أنكرهُ مُوسَى من جليات العقليات حسب مُوسَى أَنه لَا مفاضلة فِيهَا إِذْ كَانَت مَعْرفَتهَا بالبصيرة مخلوقة مثل خلق الاسماع والابصار أَو حسب أَن تفضيله لم يكن فِي ذَلِك لِأَن مُوسَى لم يدع أَنه أعلم النَّاس بالعقليات وَالْحجّة من هَذَا الْوَجْه تحْتَمل النزاع الْبعيد

وَثَانِيهمَا وَهِي الْحجَّة القاطعة أَن الْخضر لم يحْتَج على مُوسَى بِمُجَرَّد وُرُود أَمر الله تَعَالَى بذلك وان الامر الشَّرْعِيّ هُوَ المحسن بذلك بِمُجَرَّدِهِ وَأَن تقبيح الْعُقُول لما يقبحه بَاطِل بل جعل الْجَواب الشافي عَن ذَلِك الرافع للريب عَن مُوسَى عليه السلام هُوَ بَيَان الْحِكْمَة الْخفية الْمُنَاسبَة لمقْتَضى الْعُقُول فِي الموازنة بَين المضار والمصالح وَتَقْدِيم مَا ثَبت من ذَلِك أَنه الرَّاجِح وتحسين المضار مَتى اشْتَمَلت على الْمصَالح الراجحة وَأَدت إِلَى الغايات الحميدة وَهَذَا عين مَسْأَلَتنَا وَمحل النزاع وَلَكِن الْعُقُول أقل وأجهل وَأدنى وأحقر من أَن تحيط بِجَمِيعِ حكم الله تَعَالَى وأسراره وغايات ارادته فِي قضاياه وأقداره فَلَا يُمكن الْجَزْم بقبح شَيْء معِين من أَفعَال الله تَعَالَى لِأَن أَفعاله سبحانه وتعالى وَاضِحَة الْحِكْمَة بَيِّنَة النَّفْع وَالصَّلَاح للمتفكرين فِي ذَلِك وَمَا كَانَ مِنْهَا متشابها وَهُوَ الْقَلِيل فَهُوَ مُحْتَمل للْحكم الْخفية وَلَيْسَ فِي أَفعاله سبحانه وتعالى مَا هُوَ مَعْلُوم الْقبْح للعقول بِالضَّرُورَةِ أَلْبَتَّة

وَبَيَان ذَلِك أَن الْمَعْلُوم قبحه بِالضَّرُورَةِ هِيَ المضار الَّتِي لَا نفع فِيهَا بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا فِيهَا احْتِمَال لذَلِك عَاجلا وَلَا آجلا أَلْبَتَّة وَكَيف يُمكن أَن تحيط الْعُقُول بذلك فِي شَيْء من أَفعَال الْحَكِيم الْعَلِيم وَهُوَ سبحانه وتعالى يَقُول {وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم وَعَسَى أَن تحبوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لكم وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ} وَقد صرح الزَّمَخْشَرِيّ بِهَذَا الْمَعْنى فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلقكُم فمنكم كَافِر ومنكم مُؤمن}

ص: 344

) وَمِثَال الْقَبِيح بِالضَّرُورَةِ الَّذِي لَا يجوز على الله بعثة الْكَذَّابين لما فِيهِ من الْفساد المتفاحش وَهُوَ عدم الثِّقَة بِكَلَام الله تَعَالَى وَكَلَام جَمِيع رسله عليهم السلام لَا فِي دين وَلَا فِي دنيا وَلَا فِي حد وَلَا فِي مُهِمّ وَلَا ترغيب وَلَا ترهيب وَهَذَا هدم للْمصَالح كلهَا وَالصَّلَاح أجمع وَلذَلِك كَانَ الله أصدق الْقَائِلين وَكَانَ من أبْغض الْخلق اليه الْملك الْكذَّاب لِأَن الَّذِي قد يهون قبح الْكَذِب فِي بعض الْمَوَاضِع ويعارض مَا فِيهِ من الْفساد هُوَ الضَّرُورَة الملجئة اليه كخوف المضار وَنَحْو ذَلِك والملوك أبعد النَّاس مِنْهَا لقدرتهم على دفع المضار وَإِن كَانَت قدرتهم قَاصِرَة فَكيف بِملك الْمُلُوك الَّذِي هُوَ على كل شَيْء قدير وَعَن كل شَيْء غَنِي وَإِنَّمَا يجوز عَلَيْهِ مَا تخفى فِيهِ الْحِكْمَة على الْخلق لقُصُور علومهم من الامور المحتملة مثل مَا سَأَلت عَنهُ الْمَلَائِكَة عليهم السلام من الْحِكْمَة فِي خلق آدم وَذريته لظنهم أَنهم كلهم أشرار لَا خير فِي أحد مِنْهُم وَالشَّر الْمَحْض الَّذِي لَا خير فِيهِ أَلْبَتَّة لَا عَاجلا وَلَا آجلا قَبِيح فِي الْعُقُول وَأما الشَّرّ الْمُشْتَمل على الْخَيْر والغايات الحميدة أَو المجوز فِيهِ شَيْء من ذَلِك فَلَا مجَال للعقول فِي الْقطع بقبحه وَلذَلِك أجَاب عَلَيْهِم بقوله تَعَالَى {إِنِّي أعلم مَا لَا تعلمُونَ} وَلم يقل إِنَّه يحسن مني كل مَا تستقبحون وكل مَا تستقبحه العارفون وَلَو كَانَت أَفعَال الله معطلة من الحكم لم يكن لذكر علمه وزيادته على علمهمْ معنى فِي هَذَا الْموضع لِأَن الْحِكْمَة على قَول الْخصم ممتنعة الامكان فِي حق الله تَعَالَى فَلم يتَعَلَّق بهَا علمه كَمَا لَا يتَعَلَّق بِرَبّ ثَان مشارك لَهُ فِي الربوبية وَمن ثمَّ أظهر الله تَعَالَى بعد ذَلِك فضل آدم بِعلم الاسماء وَلَو كَانَ كَمَا زَعَمُوا من تَعْطِيل أَفعاله من الحكم لفضله بِغَيْر سَبَب فَدلَّ على أَنه أَرَادَ بِبَيَان شَيْء من الْخَيْر الَّذِي أحَاط بِهِ علمه فِي خلق آدم عليه السلام وَذريته وَلم يحيطوا بِشَيْء من الْخَيْر فِي ذَلِك فَبين لَهُم أَن فِيهِ خيرا كثيرا وَبَان بذلك أَن الشَّرّ الْمَحْض لَا يكون من أَفعاله تَعَالَى بِخِلَاف الشَّرّ الْمُشْتَمل على الْخَيْر فَيكون فِيهَا وَيكون ذَلِك الْخَيْر هُوَ الْمَقْصُود وَهُوَ الْمُسَمّى تَأْوِيل المتشابة فِي لِسَان الشَّرْع وغرض الْغَرَض فِي لِسَان الْحُكَمَاء وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى لَهُم بعد ذَلِك إِنَّه يعلم غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَيعلم مَا لَا يعلمُونَ وَهَذَا يدل على مَا قيل أَن الْعَالم كُله كالشجرة وَأهل الْخَيْر من الْخلق هم ثَمَرَة تِلْكَ الشَّجَرَة وَيدل عَلَيْهِ

ص: 345

قَوْله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} أَي ليعبدني العابدون مِنْهُم على أحد التفاسير كَمَا قَرّرته بشواهده فِي العواصم

يُوضح ذَلِك حَدِيث الْخَلِيل عليه السلام وَفِيه نَهْيه عَن الدُّعَاء على من رَآهُ يَعْصِي الله وَفِيه ان الله تَعَالَى قَالَ لَهُ إِن قصر عَبدِي مني إِحْدَى ثَلَاث إِمَّا أَن يَتُوب إِلَيّ فأتوب عَلَيْهِ أَو يستغفرني فَأغْفِر لَهُ أَو أخرج من صلبه من يعبدني رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ ثمَّ الهيثمي فِي مجمع الزَّوَائِد وَهَذِه الاشارة مَعَ الْفطْرَة تَكْفِي بِحَسب هَذَا الْمُخْتَصر إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَتَقَدَّمت بَقِيَّة المباحث فِي الْمَسْأَلَة الأولى فِي إِثْبَات حِكْمَة الله تَعَالَى

الْمَسْأَلَة السَّابِعَة فِي الْوَعْد والوعيد والاسماء الدِّينِيَّة وَلَيْسَ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة تَكْفِير وَلَا تفسيق بِاتِّفَاق الْفَرِيقَيْنِ فِيمَا علمت إِلَّا مَا يَأْتِي ذكره فِي إِحْدَى صُورَتَيْنِ لَا يَقع فيهمَا أحد من أهل الْعلم وَالْخَيْر وهما التَّكْذِيب بعد التَّوَاتُر وتجويز الْخلف على الله تَعَالَى فِي الْوَعْد بِالْخَيرِ لِأَن الْفَرِيقَيْنِ متفقون على وجوب صدق الله تَعَالَى وَإِنَّمَا اخْتلفُوا عِنْد تعَارض بعض السّمع فِي كَيْفيَّة الْجمع بَين المتعارضات وَالتَّرْجِيح لبعضها على بعض فِيمَا يَصح فِيهِ التَّرْجِيح أَو الْوَقْف عِنْد عدم التَّمَكُّن من الْجمع وَالتَّرْجِيح وَقد صَحَّ بعض الِاخْتِلَاف بَين الْمَلَائِكَة عليهم السلام كَمَا دلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ لي من علم بالملإ الْأَعْلَى إِذْ يختصمون} كَمَا تقدم شواهده فِي مَسْأَلَة اثبات الْحِكْمَة وَورد فِي الحَدِيث الصَّحِيح اخْتِلَاف الْمَلَائِكَة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بِعَينهَا وَذَلِكَ حَيْثُ اخْتلفُوا فِي حكم النادم المُهَاجر بعد قتل مائَة نفس حَتَّى جَاءَهُم ملك فَحكم بَينهم فَكَانَت الاصابة لملائكة الرَّحْمَة وَللَّه الْحَمد والْمنَّة والْحَدِيث طَوِيل رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَلَا يَصح تأثيم أحد مِنْهُم بالاجماع لِأَن الَّذين أَرَادوا عَذَابه إِنَّمَا اشْتَدَّ غضبهم لله تَعَالَى وَالَّذين أَرَادوا نجاته إِنَّمَا رجوا لَهُ سَعَة رَحْمَة الله تَعَالَى فَكَذَلِك عُلَمَاء الاسلام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِنَّمَا خَافَ بَعضهم من مفاسد الامان وَخَافَ بَعضهم من مفاسد الْقنُوط وَمن مفْسدَة تَكْذِيب الْبُشْرَى ومفسدة ثِقَة الانسان بِنَفسِهِ وَحَوله وقوته وَعلمه وَنَحْو ذَلِك وَمن نظر بِعَين التَّحْقِيق وجد القَوْل الْحق الْوَارِد فِي السّنة خَالِيا من جَمِيع هَذِه الْمَفَاسِد

ص: 346

وَلَا شكّ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله مُبين لكتاب الله عز وجل أَمِين على تَأْوِيله وَأَن الْمرجع فِي بَيَان كتاب الله تَعَالَى إِلَى السّنة الصَّحِيحَة فَلَيْسَ فِي كتاب الله تَعَالَى من تفاصيل الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج وأمثالها إِلَّا الْيَسِير وَلَا شكّ أَن الِاسْتِثْنَاء من الْوَعْد والوعيد وَتَخْصِيص العمومات بالأدلة الْمُتَّصِلَة والمنفصلة مَقْبُول إِمَّا على جِهَة الْجمع وَلَا شكّ فِي جَوَازه وَصِحَّته وَحسنه والاجماع على ذَلِك وَكَثْرَة وُقُوعه من سلف الامة وَخَلفهَا بل لَا شكّ فِي تَقْدِيمه فِي الرُّتْبَة والبداية بذلك قبل التَّرْجِيح فان تعذر الْجمع فالترجيح فان وضح عمل بِهِ وَإِن لم يَتَّضِح وَجب الْوَقْف لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَلذَلِك اخْتَرْت الْوَقْف فِي حكم قَاتل الْمُؤمن بعد الانتصاف مِنْهُ للمظلوم وَالْقطع على أَنه فَاسق مَلْعُون وَاجِب قَتله والبراءة مِنْهُ وَالْقطع أَن جزاءه جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا كَمَا قَالَ الله تَعَالَى على مَا أَرَادَ وَإِنَّمَا وقفت فِي مَحل التَّعَارُض الَّذِي أوضحته فِي العواصم لَا على حسب مَا قيل فِي أَن الله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة هَل بَين جزاءه الَّذِي لَهُ أَن يَفْعَله إِن شَاءَ أَو بَين جزاءه الَّذِي تخير لَهُ فِي تنجيزه حِين لم يبْق إِلَّا حَقه بعد اسْتِيفَاء حق الْمَظْلُوم الْمَقْتُول وَالله سُبْحَانَهُ أعلم

فَمن رجح الْجمع بَين وَعِيد الْقَاتِل وَبَين قَوْله تَعَالَى {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} وَسَائِر آيَات الرَّجَاء وَأَحَادِيثه قَالَ بالاول وَمن رجح وَعِيد الْقَاتِل فِي هَذِه الْآيَة وَفِي الاحاديث المخصصة لقتل الْمُؤمن بِقطع الرَّجَاء كَمَا أوضحته فِي العواصم رجح وَعِيد الْقَاتِل وَمن تَعَارَضَت عَلَيْهِ وَلم ير فِي تَنْجِيز الِاعْتِقَاد مصلحَة وَلَا لَهُ مُوجبا وَلَا اليه ضَرُورَة رجح الْوَقْف وَالله عِنْد لِسَان كل قَائِل وَنِيَّته

وَلَا شكّ فِي تَرْجِيح النَّص الْخَاص على الْعُمُوم وتقديمه وَعَلِيهِ عمل عُلَمَاء الاسلام فِي أَدِلَّة الشَّرِيعَة وَمن لم يقدمهُ فِي بعض الْمَوَاضِع لم يُمكنهُ الْوَفَاء بذلك فِي كل مَوضِع واضطر إِلَى التحكم والتلون من غير حجَّة بَيِّنَة وَقد أجمع من يعْتد بِهِ من الْمُسلمين على تَخْصِيص الصَّغَائِر من آيَات الْوَعيد الْعَامَّة على جَمِيع الْمعاصِي مَتى كَانَ أهل الصَّغَائِر من الْمُسلمين وَلم يلْزم من ذَلِك خلف فِي آيَات الْوَعيد وَلَا كذب وَلَا تَكْذِيب لشَيْء مِنْهَا فَكَذَلِك

ص: 347

سَائِر مَا صَحَّ من أَحَادِيث الرَّجَاء لَيْسَ فِيهِ مناقضة لعمومات آيَات الْوَعيد وَلَا يسْتَلْزم تَجْوِيز الْخلف على الله تَعَالَى وَذَلِكَ بَاب وَاحِد وَلذَلِك اشتهرت أَحَادِيث الرَّجَاء فِي عصر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَلم ينكرها أحد بل رواتها أكابرهم وأئمتهم

وَفِي العواصم من ذَلِك عَن عَليّ عليه السلام بضعَة عشر أثرا بل المخصصات للعمومات فِي ذَلِك قرآنية وعمومات الْوَعْد مَانِعَة قبل تَخْصِيص الْوَعيد من الْجَزْم على وُقُوع عُمُومه دون عُمُوم الْوَعْد على أَن الْخلف عِنْد جماعات كَثِيرَة لَا يكون إِلَّا عدم الْوَفَاء بالوعد بِالْخَيرِ وَأما الْوَعيد بِالشَّرِّ فقد اخْتلف فِي تَركه وَأَجْمعُوا على أَنه يُسمى عفوا كَمَا قَالَ كَعْب ابْن زُهَيْر

(أنبئت أَن رَسُول الله أوعدني

وَالْعَفو عِنْد رَسُول الله مأمول)

وَإِنَّمَا اخْتلفُوا مَعَ تَسْمِيَته عفوا هَل يُسمى خلفا أم لَا وَمن منع من ذَلِك منع صِحَة النَّقْل لَهُ لُغَة وَاحْتج على امْتِنَاعه بِأَنَّهُ لَا يَصح اجْتِمَاع اسْم مدح وَاسم ذمّ على مُسَمّى وَاحِد وَقد تقدم زِيَادَة فِي هَذَا فِي مَسْأَلَة الْحِكْمَة فَلْينْظر هُنَاكَ

وَيسْتَثْنى من هَذَا كل وَعِيد جعله الله تَعَالَى نصر للانبياء وَالْمُؤمنِينَ وَوَعدهمْ بِهِ فانه يكون حِينَئِذٍ وَعدا لَا يجوز خَلفه كَمَا قَالَ صَالح عليه السلام لِقَوْمِهِ {تمَتَّعُوا فِي داركم ثَلَاثَة أَيَّام ذَلِك وعد غير مَكْذُوب} وَلذَلِك سَمَّاهُ وَعدا

وَأما قصَّة يُونُس عليه السلام فقد تقدم الْكَلَام عَلَيْهَا فِي مَسْأَلَة الْحِكْمَة وَكَذَلِكَ اخْتلفُوا فِي قَوْله تَعَالَى {مَا يُبدل القَوْل لدي} هَل هِيَ خَاصَّة فِيمَن نزلت فِيهِ من الْكفَّار وَهل فِيهَا شَيْء من ذَلِك لقَوْله تَعَالَى {إِنَّا لننصر رسلنَا وَالَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم يقوم الأشهاد}

ص: 348

أم لَا فَمن قَالَ بعمومها لم ينظر إِلَى سَبَب نُزُولهَا فِي الْكفَّار وَجعلهَا كَقَوْلِه تَعَالَى {وتمت كلمة رَبك صدقا وعدلا لَا مبدل لكلماته وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} وَمن قصرهَا عَلَيْهِم نظر إِلَى الْجمع بَين هَاتين الْآيَتَيْنِ وَبَين قَوْله تَعَالَى {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة} وَقَوله تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} وخاصة إِذا جوز أَن نفي التبديل مُقَيّد بِيَوْم نقُول لِجَهَنَّم هَل امْتَلَأت وَأَنه ظرف لَهُ فَهَؤُلَاءِ فَهموا من مَجْمُوع الْآيَات أَن التبديل يَنْقَسِم إِلَى مَذْمُوم ومحمود فالمذموم مَا كَانَ من خير إِلَى شَرّ والمحمود مَا كَانَ من شَرّ إِلَى خير أَو من خير إِلَى خير أفضل مِنْهُ أَو مثله وَجعلُوا الْعَفو خيرا من الْعقُوبَة فِي حق الْمُسلمين لما ورد فِي الاحاديث فِي هَذَا بِعَيْنِه وَفِي من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا وأجمعت عَلَيْهِ الْأمة فِي من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا

وَيَنْبَغِي هُنَا تَحْقِيق النّظر فِي الْفرق بَين الْوَعيد وَالْخَبَر الْمَحْض عَن الْوَاقِع فِي الْمُسْتَقْبل وَذَلِكَ أَن الْوَعيد يحسن مِمَّن لَا يعلم الْغَيْب بِخِلَاف الْخَبَر الْمَحْض وَإِذا لم يَفْعَله لتوبة أَو رَحْمَة لم يعد فِي لُغَة الْعَرَب من الْكَذَّابين المذمومين فَكيف إِذا كَانَ إِنَّمَا بَين مُرَاده وَلم يرجع عَنهُ لِأَنَّهُ عِنْد هَؤُلَاءِ فِي خطاب المسخوطين خَاصَّة كَقَوْل يُوسُف {معَاذ الله أَن نَأْخُذ إِلَّا من وجدنَا متاعنا عِنْده إِنَّا إِذا لظالمون} وَلَو كَانَ لَهُ رَغْبَة فِي رحمتهم وإسعادهم وجد اليه السَّبِيل وَالله سُبْحَانَهُ أعلم وَأحكم

وَمن أَمْثِلَة ذَلِك الْحَالِف على أَن لَا يفعل مَا يسْتَحبّ فعله فان كَانَ لَهُ حِكْمَة مرجحة لتَركه وَهُوَ يخفيها كَانَ لَهُ فِي الْيَمين عذر وَإِن أحب أَن يفعل الْمُسْتَحبّ كَانَ لَهُ فِيهِ الْمخْرج وَللَّه تَعَالَى من ذَلِك كُله أجمله وَأحسنه وَأَكْثَره حمدا وثناء

وَقد ذكرت فِي العواصم من أَحَادِيث الرَّجَاء المبينة للمراد فِي عمومات الْوَعيد أَكثر من أَرْبَعمِائَة حَدِيث من دواوين الاسلام الْمَعْرُوفَة مَعَ مَا شهد لَهَا من الْآيَات القرآنية وَمن أعظمها بشرى حَدِيث معَاذ الْمُتَّفق عَلَيْهِ وَفِيه

ص: 349

أَنه قَالَ أَفلا أبشر النَّاس قَالَ دعهم يعملوا فَدلَّ على أَنه على ظَاهره وعَلى أَن جَانب الرَّجَاء مَكْتُوم للْمصْلحَة يُوضحهُ حَدِيث من مَاتَ لَهُ ثَلَاثَة لم تمسه النَّار قَالُوا وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ فقد كَانَ أوهمهم بِمَفْهُوم الْعدَد أَن الرَّجَاء يخْتَص بِالثَّلَاثَةِ وَلم يبدأهم بالبشرى بالاثنين لمصْلحَة التخويف وَمِنْه قَوْله فِي ذَلِك لم تسمه النَّار إِلَّا تَحِلَّة الْقسم فَدلَّ على أَن الْقدر الْوَاجِب الْمقسم عَلَيْهِ مُجَرّد الْوُرُود فِي حق الْمُسلمين وَللَّه الْحَمد

وَمن ذَلِك أَحَادِيث خُرُوج من دخل النَّار من الْمُوَحِّدين برحمة الله تَعَالَى ثمَّ بشفاعة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله وشفاعته من رَحْمَة الله تَعَالَى وَالَّذِي حضرني الْآن من الْأَحَادِيث المصرحة بخروجهم من النَّار أَحَادِيث كَثِيرَة جدا عَن أَكثر من عشْرين من كبار أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله من ذَلِك فِي عُلُوم آل مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَآله عَن عَليّ بن أبي طَالب عليه السلام فِي بَاب مَا يُقَال بعد الصَّلَاة وَفِي مُسْند أَحْمد عَن أبي بكر رضي الله عنه وَابْن عَبَّاس رضي الله عنهما وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ وَمُسلم عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَأنس بن مَالك وَأبي هُرَيْرَة وَفِي البُخَارِيّ وَحده عَن عمرَان بن حُصَيْن وَفِي صَحِيح مُسلم وَحده عَن ابْن مَسْعُود وَجَابِر بن عبد الله وَفِي مُسْتَدْرك الْحَاكِم عَن أبي مُوسَى عشرتهم عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله بذلك بِأَلْفَاظ صَرِيحَة ضَرُورِيَّة لَا تحْتَمل التَّأْوِيل

وَفِي مجمع الزَّوَائِد مثل ذَلِك عَن عشرَة من الصَّحَابَة غير هَؤُلَاءِ الَّذين ذكرتهم ذكرتهم فِي العواصم والتواتر يحصل بِهَذَا بل بِدُونِ ذَلِك وَلَا يشْتَرط فِي رِجَاله الْعَدَالَة كَيفَ وَقد اجْتمعَا غَالِبا وَمَا زَالُوا يروون ذَلِك فِي عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله وَبعده لَا يُنكره مُنكر وَلَا يزْجر عَنهُ أحد ثمَّ وافقهم جمَاعَة كَثِيرَة على هَذَا الْمَعْنى لَكِن بِغَيْر لفظ الْخُرُوج من النَّار وَذَلِكَ كثير جدا مِنْهُم من روى أَن الشَّفَاعَة نائلة من مَاتَ لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا كَعبد الله بن عمر بن الْخطاب وَأبي ذَر الْغِفَارِيّ وَعبد الله بن عَمْرو وعَوْف بن مَالك وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس ومعاذ وَأبي مُوسَى وَأنس وَأبي أَيُّوب وَأبي سعيد وَمِنْهُم من روى حَدِيث شَفَاعَتِي لأهل الْكَبَائِر من أمتِي كَمَا ثَبت ذَلِك من حَدِيث جَابر بن عبد الله

ص: 350

وَأنس بن مَالك وَابْن عَمْرو رَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك من حَدِيث جَعْفَر ابْن مُحَمَّد الصَّادِق عَن أَبِيه الباقر عَن جَابر وَفِي حَدِيث ابْن عمر حَرْب بن شُرَيْح وَثَّقَهُ جمَاعَة وَفِيه خلاف يسير ينجبر بالشواهد وروى عَنهُ نَحْو ذَلِك بِغَيْر لَفظه من طَرِيق النُّعْمَان بن قراد وَهُوَ ثِقَة رَوَاهُمَا الهيثمي فِي مجمعه وَلَفظ حَدِيث النُّعْمَان أَن شَفَاعَتِي لَيست للْمُؤْمِنين الْمُتَّقِينَ لَكِنَّهَا للمذنبين الخاطئين المتلوثين وروى الهيثمي نَحْو ذَلِك عَن أم سَلمَة وَعبد الله ابْن بسر وَأبي أُمَامَة وَمِنْهُم من روى أَن الله يفْدي كل مُسلم بِكَافِر كَمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي مُوسَى بأسانيد على شَرط الْجَمَاعَة

وَمن ذَلِك مَا ورد فِيمَن كَانَ آخر كَلَامه لَا أَله إِلَّا الله وَقد تقصاها الْحَافِظ ابْن حجر فِي تلخيصه فِي كتاب الْجَنَائِز ثمَّ مَا ورد فِي الرَّجَاء لأهل الْأَمْرَاض والفقر والمصائب وَفِي موت الاولاد والاصفياء وَفِي هَذَا النَّوْع وَحده عَن ثَمَانِيَة عشر صحابيا ثمَّ مَا جَاءَ فِي فَضَائِل الايمان والاسلام وَالْوُضُوء والصلوات وَالصَّدَََقَة والصلة وَالْجهَاد وَالشَّهَادَة والاذكار وَسَائِر الاعمال الصَّالِحَة مَعَ مَا شهد لذَلِك من سَعَة رَحْمَة الله تَعَالَى المنصوصة فِي الْكتاب وَالسّنة وَأَنَّهَا الْمُوجبَة دُخُول الْجنَّة لَا الْعَمَل فِي أَرْبَعَة عشر حَدِيثا وَيشْهد لَهَا أَن الله تَعَالَى سمى الْجنَّة فَضله فِي غير آيَة وَأَن الْمِائَة الرَّحْمَة أعدت ليَوْم الْقِيَامَة فِي عشرَة أَحَادِيث وَيشْهد لَهَا قَوْله تَعَالَى {كتب على نَفسه الرَّحْمَة ليجمعنكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا ريب فِيهِ} وَمَا دلّ على جَوَاز وُرُود ذَلِك من آيَات الْقُرْآن الْكَرِيم وَهِي أَنْوَاع كَثِيرَة

مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} وَهِي أبين آيَة فِي الْوَعْد والوعيد وَقد جودت الْكَلَام عَلَيْهَا فِي العواصم بِحَمْد الله تَعَالَى

ص: 351

وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى بعد ذكر الْمُتَّقِينَ والفراغ مِنْهُ {ونسوق الْمُجْرمين إِلَى جَهَنَّم وردا لَا يملكُونَ الشَّفَاعَة إِلَّا من اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا}

وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَمن يعْمل من الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن} فِي أَربع آيَات فانها أخص وَأبين من وصف الْمُؤمنِينَ بِعَمَل الصَّالِحَات إِذْ لَا يُمكن إحاطة الْوَاحِد مِنْهُم بهَا كلهَا كَمَا اعْترف بهَا الزَّمَخْشَرِيّ وَإِن الْمَعْنى فِي عَملهَا عمل بَعْضهَا فَأَما قَول الْكُوفِيّين إِن من قد تكون زَائِدَة فِي الاثبات فَلَا يقطع الرَّجَاء لَو سلم لِأَن الاكثر أَنَّهَا فِيهِ للتَّبْعِيض عِنْد الْجَمِيع وَمُجَرَّد تَجْوِيز أَنَّهَا للتَّبْعِيض يُوجب الرَّجَاء لَو كَانَ نَادرا كَيفَ وَهُوَ الْأَكْثَر إِذْ لَا يجوز الْقطع فِي مَوضِع الِاشْتِرَاك بِغَيْر قَاطع فَثَبت الرَّجَاء على كل تَقْدِير ويعضده الْوَعْد على الْوَاحِد مِنْهَا كَقَوْلِه تَعَالَى {وَمن يُوقَ شح نَفسه} و {إِن تقرضوا الله قرضا حسنا} مَعَ شَهَادَة السّنة لذَلِك مثل حَدِيث أَرْبَعِينَ خصْلَة وَحَدِيث اتَّقوا النَّار وَلَو بشق تَمْرَة وَقد بسط فِي العواصم

وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَاوَات وَالْأَرْض إِلَّا مَا شَاءَ رَبك إِن رَبك فعال لما يُرِيد} وَقد أوضحت هُنَالك وَفِي الاجادة أَن الِاسْتِثْنَاء من الشَّرّ للنقصان وَمن الْخَيْر للزِّيَادَة لقَوْله فِي أهل الْحسنى لَهُم الْحسنى وَزِيَادَة وَفِي آيَة {لَهُم مَا يشاؤون فِيهَا ولدينا مزِيد} وَفِي أُخْرَى {ويزيدهم من فَضله}

وَفِي دواوين الاسلام الصِّحَاح من غير طَرِيق يَقُول الله الْحَسَنَة بِعشْرَة أَمْثَالهَا أَو أَزِيد والسيئة بِمِثْلِهَا أَو أعفو رَوَاهُ ابْن عَبَّاس وَأَبُو سعيد وَأَبُو ذَر وَأَبُو رزين أربعتهم عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله وَلذَلِك قَالَ الله تَعَالَى بعد الِاسْتِثْنَاء من خُلُود أهل الْجنَّة {عَطاء غير مجذوذ} فَأَشَارَ إِلَى أَن الِاسْتِثْنَاء فِيهَا للزِّيَادَة كَمَا ثَبت فِي سَائِر الْآيَات وَالْأَحَادِيث وكما

ص: 352

قَالَ بعد ذكر ثَوَاب الْمُؤمنِينَ بِالْجنَّةِ {ورضوان من الله أكبر} وَيشْهد لذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَإِن يمسسك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يردك بِخَير فَلَا راد لفضله} وَلم يقل هُنَا إِلَّا هُوَ كَمَا قَالَ فِي كشف الضّر وَهَذَا من لطف هَذَا الْبَاب وأوضح مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {ليجزي الله الصَّادِقين بصدقهم ويعذب الْمُنَافِقين إِن شَاءَ أَو يَتُوب عَلَيْهِم إِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما} وَلم يقل ليجزي الصَّادِقين إِن شَاءَ كَمَا قَالَ فِي الْعَذَاب وَفِي سُورَة اللَّيْل تَخْصِيص الْحسنى وَهِي الْجنَّة بالوعد على التَّصْدِيق بهَا والوعيد على التَّكْذِيب بهَا وَفِي الصَّحِيح الْمُتَّفق على صِحَّته حَدِيث لم تمسه النَّار إِلَّا تَحِلَّة الْقسم وَفِيه مَأْخَذ قوي فِي معرفَة الْقدر الْمقسم عَلَيْهِ مِنْهُ وَالله أعلم

وَلِهَذَا شَوَاهِد فِي الْقُرْآن وَالسّنة يحصل بمجموعها قُوَّة كَثِيرَة وَمِمَّا قيل أَنه وَقع من ذَلِك قصَّة يُونُس لقَوْله تَعَالَى {إِلَّا قوم يُونُس} الْآيَة والوقوع فرع الصِّحَّة وأدل مِنْهَا فكم من مُمكن لم يَقع وَلَا يَقع ويستحيل فِيمَا وَقع أَن يكون غير مُمكن وَقد جود الْقُرْطُبِيّ الْكَلَام فِي قصتهم فِي تَذكرته وَقَالَ إِن تَوْبَة الله عَلَيْهِم مَحْض التفضل لأَنهم قد كَانُوا مضطرين إِلَيْهَا بمشاهدتهم الْعَذَاب الَّذِي وعدهم بِهِ يُونُس صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ وَالله سُبْحَانَهُ أعلم لَكِن يُعَارض مَا ذكره قصَّة فِرْعَوْن فانه لم يقبل إيمَانه حِينَئِذٍ بل قَالَ الله تَعَالَى لَهُ {آلآن وَقد عصيت قبل وَكنت من المفسدين}

وَالْحق أَن الله لَا يخلف الْوَعيد الا أَن يكون اسْتثْنى فِيهِ وَلَيْسَ كل من شَاهد الْعَذَاب اضْطر إِلَى الايمان لِأَنَّهُ قد يشك فِي أَنه عَذَاب من الله أَو من مصائب الدُّنْيَا كَمَا كَانَ من ابْن نوح فانه قَالَ بعد مُشَاهدَة الْغَرق الخارق والوعيد بِهِ {سآوي إِلَى جبل يعصمني من المَاء} فَدلَّ عَليّ

ص: 353

اخْتِلَاف أَحْوَال الْخلق فِي ذَلِك وَبعد فالاضطرار فعل الله تعالي بالِاتِّفَاقِ فَلَا يُنكر أَنه يَفْعَله لبَعض دون بعض

وَأَصَح التَّفْسِير تَفْسِير الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ ثمَّ بِالْحَدِيثِ فاذا اجْتمعَا وَكَثُرت الْأَحَادِيث وَصحت كَانَ ذَلِك نورا عَليّ نور يهدي الله لنوره من يَشَاء وكل ذَلِك رَجَاء مقرون بالخوف مَقْطُوع عَن الامان لجهل الْخَوَاتِم وَلقَوْله تعالي {لمن يَشَاء} بعد قَوْله {وَيغْفر مَا دون ذَلِك} وَلقَوْله فِي الصَّالِحين {وَالَّذين هم من عَذَاب رَبهم مشفقون إِن عَذَاب رَبهم غير مَأْمُون} وَفِي آيَة {إِن عَذَاب رَبك كَانَ محذورا} فَلَا يَقْتَضِي شَيْء من ذَلِك الاغراء وَالْفساد لِأَن الشَّفَاعَة إِنَّمَا هِيَ شَفَاعَة من النَّار بعد دُخُولهَا وَذَلِكَ من أعظم الصوارف عَن الْمعاصِي مَعَ مَا يَقع بِسَبَب الْمعاصِي فِي الدُّنْيَا والقبر وَيَوْم الْقِيَامَة من الْمُؤَاخَذَة عَليّ مَا شهِدت بِهِ الْآيَات وَالْأَخْبَار وكفي بقوله تعالي فِي مصائد الدُّنْيَا {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير} وَفِي قِرَاءَة {فبمَا كسبت أَيْدِيكُم}

وَقد ذكرت فِي العواصم فِي التخويف أَكثر من عشْرين آيَة من كتاب الله تعالي مِمَّا يخْتَص بعصاة الْمُسلمين وَذكرت هُنَالك أَيْضا حَدِيثا كثيرا فِي التحذير من مكر الله وشديد عِقَابه أعاذنا الله مِنْهُ وختمت بذلك الْكَلَام فِي الرَّجَاء كَيْلا يظنّ الْجُهَّال أَن الْمَقْصُود بالرجاء هُوَ الامان والتفريط وتضييع الاعمال واطراح التقوي وَقد جود الْكَلَام فِي هَذَا المعني الشَّيْخ الْعَلامَة الشهير بِابْن قيم الجوزية تلميذ شيخ الاسلام ابْن تَيْمِية فِي كِتَابه الْجَواب الْكَافِي فليطالع فانه مُفِيد جدا

وَالْجمع بَين الْخَوْف والرجاء سنة الله وَسنة رسله عليهم السلام وَسنة دين الاسلام والاولي للانسان تَغْلِيب الْخَوْف فِي حق نَفسه إِلَّا عِنْد اقتراب الاجل الاقتراب الْخَاص أَعنِي عِنْد ظُهُور امارات الْمَوْت فِي الْمَرَض الشَّديد

ص: 354

وَإِلَّا فالموت قريب غير بعيد وَذَلِكَ لما صَحَّ أَن الله تعالي يَقُول أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي فليظن بِي مَا شَاءَ وَلِهَذَا الحَدِيث لم يكن تَقْدِيم عمومات الْوَعيد أولي من تَقْدِيم خُصُوص آيَات الرَّجَاء وَأَحَادِيثه مَعَ مَا عضد هَذَا الحَدِيث من نَحْو قَول الْمَلَائِكَة عليهم السلام للخليل عليه السلام {فَلَا تكن من القانطين} وَقَوله فِي جوابهم {وَمن يقنط من رَحْمَة ربه إِلَّا الضالون} مَعَ مَا ورد فِي كتاب الله تعالي من شَوَاهِد ذَلِك كَقَوْلِه تعالي {يحذر الْآخِرَة ويرجو رَحْمَة ربه قل هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ} هَذِه الْآيَة تَفْسِير قَوْله {إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء} لِأَنَّهُ قصر الخشية عَلَيْهِم حَيْثُ علمُوا الدَّار الْآخِرَة دون الْكَافرين كَمَا دلّ عَلَيْهِ أول الْآيَة وَلم يقصرهم عَليّ الخشية دون الرَّجَاء كَمَا دلّ عَلَيْهِ وَصفهم برجاء رَحْمَة الله تعالي فِي غير آيَة وَقَوله تعالي {لقد كَانَ لكم فيهم أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر} وَقَوله تعالي {أُولَئِكَ يرجون رَحْمَة الله وَالله غَفُور رَحِيم} وَقَوله تعالي {يرجون تِجَارَة لن تبور} وَقَوله تعالي {مَا لكم لَا ترجون لله وقارا} وَقَوله تَعَالَى {وَالَّذِي أطمع أَن يغْفر لي خطيئتي يَوْم الدّين} وَقَوله تعالي {وَمَا لنا لَا نؤمن بِاللَّه وَمَا جَاءَنَا من الْحق ونطمع أَن يدخلنا رَبنَا مَعَ الْقَوْم الصَّالِحين} إِلَيّ {بِمَا قَالُوا} وَقَوله تَعَالَى {وادعوه خوفًا وَطَمَعًا إِن رَحْمَة الله قريب من الْمُحْسِنِينَ} فأكد الطمع بقوله إِن رحمت الله قريب من الْمُحْسِنِينَ وهم المخلصون لإيمانهم من النِّفَاق كَمَا قرر فِي مَوْضِعه وَقَوله تَعَالَى {ويدعوننا رغبا ورهبا وَكَانُوا لنا خاشعين} فأكد الرهب بِذكر الْخُشُوع فَبين أَنه الْمَقْصُود لَا الْقنُوط

ص: 355

وَقَول الْخَلِيل عليه السلام {وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم} وَقَول عيسي عليه السلام {وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} وَفِي الْخَوْف أَكثر من ذَلِك كَقَوْلِه {وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان} وَقَوله تعالي {ذَلِك لمن خشِي ربه} وَقَوله تَعَالَى {إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء} وَقَوله تعالي فِي الْمَلَائِكَة {يخَافُونَ رَبهم من فَوْقهم} وَقَوله تَعَالَى فِي الصَّالِحين {إِن عَذَاب رَبهم غير مَأْمُون} وَقَوله تَعَالَى {وَفِي نسختها هدى وَرَحْمَة للَّذين هم لرَبهم يرهبون} وَقَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله وَالله إِنِّي لأخشاكم لله وأمثال ذَلِك مِمَّا يطول ذكره

وَالْجمع بَين الرَّجَاء وَالْخَوْف من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يَرْجُو حِين يذكر صِفَات ربه وَيخَاف حِين يذكر صِفَات نَفسه لقَوْله تَعَالَى {من خشِي الرَّحْمَن} فَسَماهُ بالرحمن فِي حَال خَوفه وَثَانِيهمَا أَن يخَاف على نَفسه ويرجو لغيره وَتَأمل قَول الْخَلِيل عليه السلام فِي خَوفه على نَفسه {وَالَّذِي أطمع أَن يغْفر لي خطيئتي يَوْم الدّين} وَلم يقل وَالَّذِي يغْفر لي كَمَا قَالَ {وَالَّذِي هُوَ يطعمني ويسقين وَإِذا مَرضت فَهُوَ يشفين} وَكَذَا قَوْله {عَسى أَلا أكون بِدُعَاء رَبِّي شقيا} وَقَالَ عليه السلام فِي حق غَيره {وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم} فَانْظُر مَا أَشد خَوفه على نَفسه وأوسع رَجَاءَهُ لغيره وَهَذَا عكس مَا عَلَيْهِ الاكثرون وَالله الْمُسْتَعَان

فان قيل هَذَا الْكتاب مَبْنِيّ على الِاحْتِيَاط وَمذهب الوعيدية أحوط فَكيف لم تلتزمه فِي هَذِه الْمَسْأَلَة

فَالْجَوَاب أَن الِاحْتِيَاط بَاقٍ مَعَ الرَّجَاء وَالْخَوْف لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن الْمفْسدَة إِنَّمَا هِيَ فِي الْأمان لَكِن من لم يتَأَمَّل لم يفرق بَين الامان والرجاء وَالْفرق بَينهمَا وَاضح وَلذَلِك قيل من رجا خَافَ وَمن خَافَ رجا وَمن قديم مَا قلت فِي هَذَا المعني هَذِه الأبيات

ص: 356

(عذلي عابوا رجائي

عذلي جاروا وتاهوا)

(كَيفَ لَا أَرْجُو الَّذِي لَا

يغْفر الذَّنب سواهُ)

(جَاءَ فِي الْقُرْآن مَنْصُوصا

وكل قد رَوَاهُ)

(وَهُوَ أعلي رتب الْمجد

بِعَفْو هُوَ مَا هُوَ)

(قصر الْمَدْح عَلَيْهِ

فانظروا ذَا الْمَدْح مَا هُوَ)

(هُوَ حق أَو محَال

أَو صَحِيح أَو سواهُ)

(لَا وَمن لَا يغْفر الذَّنب

وَإِن جلّ سواهُ)

(إِنَّه للحق صدقا

وصدوق من رَوَاهُ)

(وَسَعِيد من تلقا

بِصدق ورجاه)

(وظلوم من يُسَمِّيه

مني خَابَ مناه)

(الاماني رده الْحق

اجْتِهَادًا بهواه)

(أَو يري أهدي من

الْقُرْآن نهجا مَا رَآهُ)

(ويري الْبَاطِل فِي

مَفْهُومه مهما تلاه)

(غير أَن الله للْعَبد

بخوف ابتلاه)

(لصلاح فِيهِ لَا يُغني عَن الْخَوْف سواهُ)

(نحمد الله عَليّ الْخَوْف

فمولانا قَضَاهُ)

(لَو محا الْخَوْف رجائي

لمحا الْخَوْف قَضَاهُ)

(من رجا خَافَ من الله

وَمن خَافَ رجاه)

(وَلذَا اخْتصَّ أولو الْعلم

وَمن قد اصطفاه)

(بمزيد الْخَوْف لله

مَعَ وعد رِضَاهُ)

(لَو رجا الْكَافِر أوخاف

وَقَاه وَكَفاهُ)

(ذَا رجائي فِيهِ وَإِلَّا

رَجَاء زور لَا أرَاهُ)

(فاعرف الارجاء تعلم

أَن رجواه سَوَاء)

وَثَانِيهمَا أَن الِاحْتِيَاط إِنَّمَا هُوَ بِالْعَمَلِ الصَّالح فان الْعَمَل الصَّالح هُوَ مَوضِع الِاحْتِيَاط فاما مُجَرّد الِاعْتِقَاد فَلَا يُمكن أَن يكون أحد الاعتقادين

ص: 357

أحوط هَهُنَا لِأَنَّهُ من قبيل التَّصْدِيق وَهُوَ وَاجِب فِي الْمَوْضِعَيْنِ بل هُوَ فِي الرَّجَاء أوجب اجماعا وَإِنَّمَا يُمكن اعْتِقَاد الاصح وَلذَلِك اخْتلفت الْمَلَائِكَة عليهم السلام وَكَانَ الصَّوَاب مَعَ من رجا مِنْهُم كَمَا تقدم فِي أول هَذِه الْمَسْأَلَة

وَيدل عَليّ ذَلِك وُجُوه

الْوَجْه الأول أَن الْمُقْتَضِي للرجاء تَقْدِيم الْخَاص على الْعَام عِنْد تعَارض السّمع فِي ذَلِك وَذَلِكَ وَاجِب وَلَا يُمكن أَن يكون ترك الْوَاجِب أحوط لِأَن تَركه حرَام وارتكاب الْحَرَام يُنَاقض الِاحْتِيَاط وينافيه فَلم يُمكن الِاحْتِيَاط إِلَّا فِي الْعَمَل فان زَعَمُوا ان الْعُمُوم فِي مسَائِل الِاعْتِقَاد قَطْعِيّ فَلَا يجوز تَخْصِيصه فَالْجَوَاب من وُجُوه أَولهَا أَنه يلْزمهُم مثله فِي عمومات الْوَعْد بالمغفرة كَقَوْلِه تَعَالَى {يغْفر لمن يَشَاء} وَقَوله تَعَالَى {إِن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم وَيغْفر لكم} وَقَوله تَعَالَى (وَمن يعْمل من الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن) فِي ثَلَاث آيَات وَقَوله تَعَالَى {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا} وَقَوله تَعَالَى {أعدت للْكَافِرِينَ} وَفِي الْجنَّة {أعدت للَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرُسُله} وَغير ذَلِك مِمَّا يطول ذكره وَتقدم بعضه بل الْمُحَافظَة على الصدْق فِي الْوَعْد أوجب لِأَن الْخلف فِيهِ قَبِيح ضَرُورَة وإجماعا وَفِي الْوَعيد لَا ضَرُورَة فِيهِ وَلَا إِجْمَاع وَثَانِيها ان المخصصات قواطع كَقَوْلِه تَعَالَى {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} وَقَوله تَعَالَى {أعدت للْكَافِرِينَ} وَقَوله {أَن الْعَذَاب على من كذب وَتَوَلَّى} وَقَوله {لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} وَغير ذَلِك وَقد بسطت الردود على مطاعن الْمُخَالف فِي الِاحْتِجَاج بهَا وغايتها ظواهر مثل عموماتهم فان وَجب الْجَزْم على مَا يفهم من عموماتهم لعِلَّة وَجب الْجَزْم على ظواهر هَذِه لتِلْك الْعلَّة بِعَينهَا بل الْبعد عَن الْخلف فِي الْوَعْد أوجب لما تقدم وَإِن جَازَ حمل هَذِه على غير ظَاهرهَا لدَلِيل مُنْفَصِل جَازَ فِي عمومات الْوَعيد مثل

ص: 358

ذَلِك وَكَانَت هَذِه هِيَ الادلة الْمُنْفَصِلَة وَإِن لم يسلمُوا أَنَّهَا قَاطِعَة كَانَت مُعَارضَة توجب الْوَقْف وَأَحَادِيث الشَّفَاعَة المصرحة بِخُرُوج الْمُوَحِّدين من النَّار قَاطِعَة فِي مَعْنَاهَا بالاجماع وَهِي قَاطِعَة فِي ألفاظها كَمَا أوضحناه فِيمَا تقدم لورودها عَن عشْرين صحابيا أَو تزيد فِي الصِّحَاح وَالسّنَن وَالْمَسَانِيد وَأما شواهدها بِغَيْر لَفظهَا فقاربت خَمْسمِائَة حَدِيث فِيهَا كثير من طَرِيق أهل الْبَيْت عليهم السلام كَمَا مضى وَرَابِعهَا أَنه لَا يُمكن الْقطع على تَكْذِيب رواتها خَاصَّة وَمِنْهُم جمَاعَة من أهل الْبَيْت عليهم السلام وَمَتى لم يُمكن حصل التجويز وَمَتى حصل وَجب قبُول الثِّقَة وخامسها أَن الْمُخَالف وَافق على قبُول الْآحَاد فِي مثل ذَلِك حَيْثُ يَحْتَاجهُ كَمَا قبلوا اسْتثِْنَاء الدّين من الْمَغْفِرَة للشهيد وَهِي قرآنية واستثناء عَليّ عليه السلام من قَوْله تَعَالَى {فَإِن لم تَفعلُوا} فِي آيَة النَّجْوَى وَغير ذَلِك وسادسها أَنهم أهل الدَّعْوَى وَالْحجّة عَلَيْهِم وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِم إِلَّا ظواهر مُعَارضَة بأمثالها وَفِي الْموضع الثَّانِي من الْفَصْل الثَّالِث من الْجَوْهَرَة فِي أَقسَام الْخُصُوص أَنه لَا وَجه للْمَنْع من تَخْصِيص الاخبار مَعَ الْقَرَائِن والاحتجاج على الْجَوَاز بِالْعقلِ والسمع

قلت وَمن الْأَدِلَّة قَوْله تَعَالَى فِي ريح عَاد {مَا تذر من شَيْء أَتَت عَلَيْهِ إِلَّا جعلته كالرميم} وَقَوله تَعَالَى فِيهَا {تدمر كل شَيْء بِأَمْر رَبهَا} مَعَ قَوْله تَعَالَى {فَأَصْبحُوا لَا يرى إِلَّا مساكنهم} فَخص مساكنهم

وَقَالَ فِي سُورَة الْقَمَر {إِلَّا آل لوط نجيناهم بِسحر} وَخص امْرَأَته من هَذَا الْعُمُوم فِي الْحجر والنمل خُصُوصا مُنْفَصِلا وأمثال ذَلِك كثير

وَأما الاشعار الْجملِي بِأَن هَذَا الْعُمُوم مَخْصُوص فَلَو كَانَ لوَجَبَ أَن ينْقل عَادَة لِكَثْرَة العمومات الْمَخْصُوصَة فَلَمَّا لم ينْقل أَلْبَتَّة علم بالعوائد أَنه لم يكن فَلم يبْق إِلَّا أَن كَثْرَة وُقُوع التَّخْصِيص بعد الْعُمُوم فِي اللُّغَة وَالشَّرْع تنزل منزلَة الاشعار بِأَن صِيغَة الْعُمُوم ظنية لَا يجوز استناد الِاعْتِقَاد الْقَاطِع

ص: 359

اليها وَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَة الْقَرِينَة الصارفة عَن الْقطع كَمَا فهمت ذَلِك الصَّحَابَة على مَا شرح مطولا فِي العواصم لذَلِك جعلُوا الاسباب فِي كثير من الْمَوَاضِع قَرَائِن قَاصِرَة للْعُمُوم بل لأجل هَذِه الْكَثْرَة فِي تَخْصِيصه قَالَ المرتضى الموسوي أَنه مُشْتَرك بَين الْعُمُوم وَالْخُصُوص وَمَتى لم يجد الوعيدي شِفَاء فِي هَذِه الادلة فَلْينْظر فِي عمومات الْوَعْد الَّتِي هِيَ أوجب صدقا من عمومات الْوَعيد وَكَيف أجتزئ فِيهَا باليسير من هَذَا وَلم يجتزأ مِنْهُ بِشَيْء فِي حق خَصمه فَيعرف طبيعة العصبية الْغَالِبَة فَرُبمَا خفيت على الْمنصف حَتَّى يَتَأَمَّلهَا حق التَّأَمُّل وَالله الْهَادِي وَفِي الْموضع الرَّابِع فِي وَقت بَيَان الْخطاب من الْفَصْل الثَّانِي فِي الْكَلَام فِي الْمُجْمل والمبين من الْجَوْهَرَة أَيْضا أَن ذَلِك يَعْنِي تَجْوِيز تَخْصِيص الاخبار يُؤَدِّي إِلَى الاغراء بالقبيح وَاعْتَرضهُ القَاضِي فِي تَعْلِيقه بِمَا حَاصله أَن الْجَزْم فِي مَوضِع الظَّن خطأ من الْمُكَلف وَقع مِنْهُ بِاخْتِيَارِهِ الْقَبِيح وَلَا ملجئ اليه وَإِن كَانَ يَكْفِيهِ اعْتِقَاد أَن ظَاهر ذَلِك الْعُمُوم حَقِيقَة لَا مجَاز مَا لم يرد مُخَصص مَعَ اعْتِقَاده أَيْضا لاحْتِمَال الْعُمُوم حِين ورد للتخصيص كَمَا هُوَ مُقْتَضى اللُّغَة الَّتِي نزل علها الْقُرْآن وكما هُوَ معتقده فِي عمومات الْوَعْد وَقد بسط هَذَا بسطا شافيا فِي العواصم فِي مِقْدَار مُجَلد كَبِير لمن أحب التَّوَسُّع فِي معرفَة مَا ورد فِي هَذِه الْمَسْأَلَة

الْوَجْه الثَّانِي من الأَصْل أَن الْمُرَجح لَهُ الِاحْتِرَاز من تَجْوِيز الْخلف على الله تَعَالَى فِي الْوَعْد بِالْخَيرِ لِأَنَّهُ مُتَّفق على الْمَنْع مِنْهُ عقلا وَشرعا وإجماعا من الامة الاسلامية وَسَائِر الْملَل والرجح للوعيد الْمُحَافظَة على الصدْق فِي الْوَعيد بالعقوبة وَقد تقدم مَا فِيهِ من الْخلاف وَالِاحْتِمَال والتعارض فِي الْأَدِلَّة وَأَنه قد يُسمى عفوا لَا خلفا وَأَنه من التبديل إِلَى مَا هُوَ خير وَنَحْو ذَلِك مَعَ أَنه قد اقْترن بِهِ مَا يمْنَع أَن يكون خلفا وفَاقا من شَرط الْمَشِيئَة وَمن الْفِدَاء لكل مُسلم بِكَافِر وَنَحْو ذَلِك وَلَا شكّ فِي تَرْجِيح الأول على الثَّانِي لِأَن من تعمد القَوْل بتجويز الْخلف على الله فِي الْوَعْد بِالْخَيرِ فقد كفر بالاجماع وَالْخَطَأ فِيمَا عمده كفر بالاجماع أَشد قبحا والاحتراز مِنْهُ أوجب عقلا وسمعا وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم}

ص: 360

) وَقَالَ {فبشر عباد الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه} وَلَا شكّ أَن تَغْلِيب جَانب الرَّحْمَة وَمَا يُنَاسِبهَا أَكثر ثَنَاء على الله تَعَالَى وَلذَلِك كتبهَا على نَفسه وتمدح بهَا وَكثر اسماءه المشتقة مِنْهَا ومدح العافين والكاظمين كَمَا يَجِيء فِي الْوَجْه السَّابِع إِن شَاءَ الله تَعَالَى

الْوَجْه الثَّالِث أَنه قد ورد الْوَعيد الشَّديد على سوء الظَّن بِاللَّه تَعَالَى وعَلى عدم قبُول الْبُشْرَى كَمَا تقدم قَرِيبا فِي نهي الْمَلَائِكَة للخليل عليه السلام عَن الْقنُوط وَفِي جَوَابه عَلَيْهِم وَقَالَ الله تَعَالَى فِي ذَلِك {وَالَّذين كفرُوا بآيَات الله ولقائه أُولَئِكَ يئسوا من رَحْمَتي وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب أَلِيم} فَخص الْكَافرين باليأس من رَحمته وتوعدهم عَلَيْهِ بأليم عِقَابه وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّه لَا ييأس من روح الله إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ} وَقَالَ {إِنَّا كُنَّا من قبل نَدْعُوهُ إِنَّه هُوَ الْبر الرَّحِيم} بِفَتْح أَنه وَهِي قِرَاءَة وَبِذَلِك وَردت السّنة الصَّحِيحَة المفسرة لِلْقُرْآنِ فصح عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله أَنه قَالَ (يَقُول الله عز وجل أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي فليظن بِي مَا شَاءَ) وَحَدِيث الْأَمر بِقبُول الْبُشْرَى وَفِيه أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله قَالَ لأعرابي أبشر فَقَالَ قد أكثرت عَليّ من أبشر فَأقبل على بعض أَصْحَابه وَقَالَ إِن هَذَا رد الْبُشْرَى فَأَقْبَلَا أَنْتُمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَفِي الْمُسْتَدْرك ومسند أَحْمد من حَدِيث عِكْرِمَة بن عمار عَن صمضم بن جوسي اليمامي عَن أبي هُرَيْرَة سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله يَقُول كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل رجلَانِ كَانَ أَحدهمَا مُجْتَهدا فِي الْعِبَادَة وَكَانَ الآخر مُسْرِفًا على نَفسه وَكَانَا متآخيين فَكَانَ الْمُجْتَهد لَا يزَال يرى الآخر على ذَنْب فَيَقُول يَا هَذَا أقصر فَيَقُول خَلِّنِي وربي أبعثت عَليّ رقيبا قَالَ إِلَى أَن رَآهُ يَوْمًا على ذَنْب استعظمه فَقَالَ لَهُ وَيحك أقصر فَقَالَ خَلِّنِي وربي أبعثت عَليّ رقيبا فَقَالَ وَالله لَا يغْفر لَك فَبعث الله اليهما ملكا فَقبض أرواحهما فاجتمعا عِنْده فَقَالَ للمذنب اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجنَّة برحمتي

ص: 361

وَقَالَ للْآخر أَكنت بِي عَالما أَكنت على مَا فِي يَدي قَادِرًا اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّار قَالَ فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ لتكلم بِكَلِمَة أذهبت دُنْيَاهُ وآخرته اه وَيشْهد لَهُ أَحَادِيث ذمّ التألي على الله تَعَالَى وَالنَّهْي عَن ذَلِك كَمَا ذكره ابْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة ويعضده الحَدِيث الصَّحِيح صدفة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته

وَقد جمعت فِي هَذَا الْمَعْنى مصنفا مُفردا سميته قبُول الْبُشْرَى وَشرط الِاحْتِيَاط أَن لَا يكون فِيهِ مَخَافَة وَفِي الْقنُوط واليأس من رَحْمَة الله تَعَالَى وتقنيط النَّاس مِنْهَا مَعَ نَصه على أَنَّهَا كَالْعلمِ فِي سعتها أعظم مَخَافَة فَامْتنعَ أَن يكون ذَلِك وَمَا يستلزمه أَو شَيْء مِنْهُ أَو يُقَارِبه هُوَ الاحوط خُصُوصا وَقد يَنْتَهِي ذَلِك إِلَى الْكفْر فِي صُورَتَيْنِ أَحدهمَا أَن يرد ذَلِك أحد بعد التَّوَاتُر لَهُ ومعرفته بتواتره عنادا لخصمه وَيقرب مِنْهُ من يكذب مَعَ تجويزه أَنه صدر من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله فانه لَا يُؤمن مَعَ صِحَّته أَن يكون كفرا على اعْتِبَار الِانْتِهَاء كمن يستخف بمصحف وَقد أخبر أَنه مصحف وَهُوَ يجوز صدق من أخبرهُ وَلِأَن فِيهِ مضارعة للاستهانة بِأَمْر النُّبُوَّة حِين أقدم على التَّكْذِيب من غير ملجئ اليه مَعَ تَجْوِيز أَنه كَلَام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله وَلذَلِك حرم تَكْذِيب مَا يجوز صدقه من أَخْبَار أهل الْكتاب لَكِن لَا يقطع أَنه كفر لَا مَكَان أَن يكون الْحق اعْتِبَار الِابْتِدَاء دون الِانْتِهَاء أَو يسامح فِيهِ لعدم تحَققه

الْوَجْه الرَّابِع أَنه لَو اعْتبر الِاحْتِيَاط على مَا توهمه السَّائِل لَكَانَ الاحوط هُوَ مَذْهَب الْخَوَارِج من الوعيدية لأَنهم يجْعَلُونَ الصَّغَائِر المتعمدة كَبَائِر ويجعلون جَمِيع الْمعاصِي كفرا إِلَّا لسهو وَنَحْوه وَبِه فسروا الصَّغَائِر وَبَعْضهمْ يسْتَثْنى من ذَلِك مَا فِيهِ حد لِأَن الْكفْر لَا يجب مَعَه حد لَكِن الْأَدِلَّة قَامَت على بطلَان قَوْلهم والنصوص تَوَاتَرَتْ بمروقهم والامر بِقَتْلِهِم فصح أَن الْأَحْوَط اتِّبَاع الْبَرَاهِين الصَّحِيحَة دون مُجَرّد التَّشْدِيد

ص: 362

أَحَادِيث الرَّجَاء فِي كتب أهل الْبَيْت وَجَمِيع فرق الاسلام كَمَا تقدم وَاخْتلفت الْمَلَائِكَة فِيهَا وَكَانَ الْحق فِيهَا مَعَ مَلَائِكَة الرَّحْمَة كَمَا مُضِيّ

الْوَجْه السَّادِس أَن الرَّجَاء شرع للْمصْلحَة الدِّينِيَّة لَا للمفسدة وَمَا شرع للْمصْلحَة الدِّينِيَّة لم يكن تَركه أحوط وَتلك الْمصلحَة هِيَ قُوَّة دُعَاء الرَّغْبَة الممدوح فِي قَوْله تَعَالَى {ويدعوننا رغبا ورهبا} وتضعيف مفْسدَة الْقنُوط المذموم بِالنَّصِّ والاجماع وَعدم الْكبر على العصاة المذموم بِالنَّصِّ فِي تَفْسِير الْكبر والتخلق بأعدل الاخلاق وأدلها على الانصاف وَهُوَ تَغْلِيب الرَّجَاء على الْخَوْف فِي حق الْغَيْر وتغليب الْخَوْف على الرَّجَاء فِي حق النَّفس وَهَذَا هُوَ مُعظم الْمصلحَة فِيهِ وَإِنَّمَا يلْزم الْفساد لَو عكسنا ذَلِك وجعلناه وَسِيلَة إِلَيّ الْمعاصِي وَأما مَعَ إِثْبَات الْخَوْف وترجيحه فِي حق النَّفس فَهُوَ سَبَب الصّلاح للأخلاق والاعمال وَسنة الانبياء والأولياء

بَيَان ذَلِك أَن الْخَلِيل عليه السلام جادل عَن قوم لوط على جِهَة الرَّجَاء لفضل الله وَرَحمته لَعَلَّه يمهلهم حَتَّى يتوبوا اليه أَو غير ذَلِك مِمَّا كَانَ يسوغ وَيحْتَمل فِي شَرِيعَته عليه السلام فمدحه الله تَعَالَى بذلك وَقَالَ فِي ذَلِك {إِن إِبْرَاهِيم لحليم أَواه منيب} مَعَ خَوفه على نَفسه كَمَا تقدم حَيْثُ قَالَ {وَالَّذِي أطمع أَن يغْفر لي خطيئتي يَوْم الدّين} وَلم يقل وَالَّذِي يغْفر لي وَكَذَلِكَ قَالَ {عَسى أَلا أكون بِدُعَاء رَبِّي شقيا} وكذالك قَالَ عِيسَى عليه السلام فِيمَن أشرك بِعبَادة عِيسَى {إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} وَقَالَ إِبْرَاهِيم عليه السلام أَيْضا {وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم} فَدلَّ على أَن سَعَة الرَّجَاء لِلْخلقِ مَعَ التجويز لَا تخَالف الاحوط وَأَنه لَا ذمّ فِيهِ وَلَا شُبْهَة لِأَنَّهُ لَا أبعد من الذَّم والشبهة من مثل خَلِيل الله وروحه عليهما السلام وَلذَلِك قَالَ عَليّ عليه السلام الْفَقِيه كل الْفَقِيه من لم يقنط النَّاس من رَحْمَة الله وَلم يؤمنهم مكر الله تَعَالَى

الْوَجْه السَّابِع إِن الرَّجَاء مقتضي اسماء الله تَعَالَى وممادحة الغالية السَّابِقَة الْمَكْتُوبَة الْوَاجِبَة أَسمَاء الرَّحْمَة المحكمة وَالْفضل الْعَظِيم الَّتِي هِيَ

ص: 363

أم الْكتاب وَالْمَقْصُود الأول باجماع الْحُكَمَاء وَالسَّلَف الصَّالح كَمَا تقدم فِي إِثْبَات حِكْمَة الله تَعَالَى وَإِن الْخَبَر هُوَ المُرَاد لذاته وَالْمرَاد الأول كَمَا بسط فِي أَوَاخِر حادي الْأَرْوَاح فَينْظر فِيهِ فانه من أنفس المصنفات فِي ذَلِك وَالْخَوْف إِنَّمَا وَجب لأمر عَارض وَهُوَ خوف فَسَاد العَبْد وَغَلَبَة هَوَاهُ عَلَيْهِ فَجعل وازعا لَهُ عَنهُ أَو صارفا وَلذَلِك كره عِنْد أَمَان الْمعْصِيَة عِنْد النزع وترقب لِقَاء الله تَعَالَى وَقَالَ صلى الله عليه وسلم وَآله لَا يموتن أحدكُم إِلَّا وَهُوَ يحسن الظَّن بربه فعلى قدر الْخَوْف من الْوُقُوع فِي الْمعاصِي يحسن تَقْوِيَة الْخَوْف من الْعَذَاب وَلَا شكّ فِي غَلَبَة الْهوى للابتلاء فَيجب تَقْوِيَة الْخَوْف واللجأ إِلَيّ الله تَعَالَى فِي ذَلِك وَهُوَ نعم الْمعِين

ثمَّ إِن هَذِه الْمَسْأَلَة مِمَّا لَا تجب مَعْرفَتهَا على كل مُكَلّف لَكِن من عرف الْحق فِيمَا لَا يجب لم يحل لَهُ جَحده وَلَا يَصح أَن يُسمى جَحده احْتِيَاطًا وَإِن كَانَ قد سوغ كتمه فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فِي بعض الْمَوَاضِع حَيْثُ يخَاف مِنْهُ مفْسدَة كَمَا ورد فِي بعض الاخبار وَلَا يجوز أَن يُقَال أَنه مفْسدَة مُطلقًا لِأَن ذَلِك يكون ردا على الله تَعَالَى وعَلى رَسُوله صلى الله عليه وسلم وَآله وَقد سَمعه أَصْحَابه والتابعون من أَصْحَابه وَلم يفسدوا بِهِ بل قد بشر بِالْجنَّةِ مِنْهُم جمَاعَة بِأَسْمَائِهِمْ فَلم يفسدوا بذلك فَمن فسد فبسوء اخْتِيَاره ونسبته لفساده إِلَيّ بشرى الله وَرَسُوله وحسني أَسْمَائِهِ جِنَايَة أعظم من جِنَايَته وَذَلِكَ بِمَنْزِلَة من يَقُول من الْخَوَارِج إِن اثبات الصَّغَائِر مفْسدَة أَو يمنزلة من يَقُول إِن قبُول التَّوْبَة مفْسدَة

فان قيل إِن الرَّجَاء يُؤَدِّي إِلَيّ تَجْوِيز أَن الايمان قَول بِلَا عمل وَأَن الْجنَّة ترجى بِغَيْر اسْتِحْقَاق لَهَا بِالْعَمَلِ ولاول مَذْمُوم عِنْد الْجُمْهُور وَالثَّانِي خلاف النَّص فِي قَوْله تَعَالَى {ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ}

فَالْجَوَاب أَن هَذَا غلط فَاحش لِأَن القَوْل من الاعمال نصا وإجماعا إِذْ لَا خلاف مُعْتَبر إِن النَّار لَا تدخل بِغَيْر عمل ونصوص الْقُرْآن فِي ذَلِك لَا تحصى وَإِن الشّرك بالْقَوْل عمل مُوجب لعذاب النَّار فَمن قَالَ بذلك كَيفَ يَسْتَطِيع ان يُنكر أَن يكون التَّوْحِيد عملا مثل مَا ان الشّرك عمل هَذَا مَعَ مَا ورد فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَن لَا إِلَه إِلَّا الله أفضل الْعَمَل وأجمعت

ص: 364

الامة على ذَلِك حَيْثُ يَمُوت من قَالَهَا عقيب قَوْلهَا وعَلى أَنه لَا يرد عَلَيْهِ هَذَا السُّؤَال بل هُوَ مَعْلُوم ضَرُورَة من دين الْإِسْلَام وَأما قَول الْقَائِل أَن الْجنَّة لَا تدخل أَلا بِالِاسْتِحْقَاقِ بِالْعَمَلِ بِالنَّصِّ فَهَذَا كَلَام من لم يعرف النَّص لِأَن شَرطه عدم الِاشْتِرَاك والاشتراك فِي معنى الْبَاء مَعْلُوم فقد تكون للثّمن وللسبب وَهُوَ أولى هُنَا للْحَدِيث الْمُتَوَاتر ولتسمية الْجنَّة فضل الله فِي كثير من الْآيَات كَمَا بَين فِي مَوْضِعه فَالْخِلَاف إِذا فِي كَيْفيَّة الْجمع بَين الْآيَات وَنَحْوهَا

ص: 365