المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في ذكر من يقول بالرجاء ومن يقول بالارجاء والفرق بينهما - إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات

[ابن الوزير]

الفصل: ‌فصل في ذكر من يقول بالرجاء ومن يقول بالارجاء والفرق بينهما

‌فصل فِي ذكر من يَقُول بالرجاء وَمن يَقُول بالارجاء وَالْفرق بَينهمَا

ثمَّ إِن القَوْل بالرجاء مَشْهُور فِي كل مَذْهَب ذكره الْحَاكِم فِي شرح الْعُيُون عَن جمَاعَة من الْمُعْتَزلَة وَذكر أَن المعتزلي لَيْسَ هُوَ الَّذِي لَا يَقُول بذلك وَنسب مَا يَقْتَضِي ذَلِك إِلَى زيد بن عَليّ عليه السلام فِي تَرْجَمَة لَهُ غير تَرْجَمته المبسوطة وَتقدم شهرة ذَلِك أَو تواتره عَن عَليّ عليه السلام لروايته عَنهُ من بضعَة عشر طَرِيقا

وَفِي تذكرة القَاضِي شرف الدّين الْحسن بن مُحَمَّد النَّحْوِيّ عَن زيد بن عَليّ مَا يدل على ذَلِك وَهُوَ قَوْله بِالصَّلَاةِ على الْفَاسِق وَفِي اللمع فِي الصَّلَاة على الملتبس حَاله إِن الْمُصَلِّي عَلَيْهِ يَقُول فِي الدُّعَاء لَهُ اللَّهُمَّ إِن كَانَ محسنا فزده إحسانا وَإِن كَانَ مسيئا فَأَنت أولى بِالْعَفو عَنهُ وَهَذَا تَجْوِيز للعفو عَنهُ بل تَحْسِين لَهُ وترجيح لَا يُوَافق قَول الوعيدية بل هُوَ عين الرَّجَاء وَلذَلِك اعْتَرَضَهُ بعض الوعيدية الْمُتَأَخِّرين وَفِي التَّذْكِرَة أَيْضا أَن الارجاء لَيْسَ بِكفْر وَلَا فسق ذكره حَيْثُ ذكر أَن المبتدع بِمَا لَا يتَضَمَّن الْكفْر وَالْفِسْق مَقْبُول الشَّهَادَة وَمثل ذَلِك بالارجاء مَعَ أَن الارجاء غير الرَّجَاء فان الارجاء عِنْد أهل السّنة مَذْمُوم وَإِن لم يَصح فِي ذمه حَدِيث

وَقَالَ الشَّيْخ مُخْتَار المعتزلي فِي كِتَابه الْمُجْتَبى فِي الْكَلَام فِي التَّكْفِير فِي الْمَسْأَلَة السَّابِعَة مَا لَفظه لم تكفر شُيُوخنَا المرجئة لأَنهم يوافقونهم فِي جَمِيع قَوَاعِد الاسلام لكِنهمْ قَالُوا عني الله بآيَات الْوَعيد الْكَفَرَة دون بعض الفسقة أَو التخويف دون التَّحْقِيق وَإِن ذَلِك لَيْسَ بِكفْر اه وَذكر نَحْو ذَلِك الْحَاكِم فِي شرح الْعُيُون وَذكره نَحوه القَاضِي عبد الله بن حسن الدواري فِي

ص: 366

تَعْلِيقه على الْخُلَاصَة وَقيل فِي تَوْجِيه ذَلِك أَن مَعْنَاهُ أَنه لَا خلاف أَن الْوَعيد مَشْرُوط لَكِن عِنْد الوعيدية أَنه مَشْرُوط بِعَدَمِ التَّوْبَة من الْمعاصِي لَا سَوَاء وَعند أهل السّنة بِعَدَمِ التَّوْبَة أَو عدم الْعَفو وَعند المرجئة بِعَدَمِ الاسلام وَلَا قَائِل مِنْهُم بتجويز الْكَذِب أَلا ترى أَن عُلَمَاء التَّفْسِير وعلماء الاسلام قد يَخْتَلِفُونَ فِي بعض مَا أخبر الله عَنهُ أَنه يَفْعَله لاختلافهم فِي توقف ذَلِك الْخَبَر على شَرط مُنْفَصِل كَمَا اخْتلفُوا فِي انزال الْمَائِدَة مَعَ قَوْله تَعَالَى {إِنِّي منزلهَا عَلَيْكُم} من غير تَجْوِيز كذب على الله تَعَالَى كَمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ كتب التَّفْسِير وَالله تَعَالَى أعلم بل قد وعد الله الداعين بالاجابة فِي كِتَابه ووردت السّنة بِشُرُوط فِي ذَلِك مِنْهَا أَن لَا يعجل الدَّاعِي وَيَقُول قد دَعَوْت فَلم أجب وَنَحْو ذَلِك

وَكَذَلِكَ أَجمعُوا على أَن الْوَعْد يتَوَقَّف على شَرط فِي كثير كوعد من أقْرض الله قرضا حسنا بالمغفرة والمضاعفة فانه لابد فِيهِ من شَرط الْمَوْت على الاسلام اجماعا فَلذَلِك لم يكن القَوْل بتوقيف الْوَعيد على شَرط مُنْفَصِل كفرا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نِسْبَة قَبِيح إِلَى الله تَعَالَى

وَيدل على قَول أهل السّنة أَن الْوَعيد مَشْرُوط بِعَدَمِ التَّوْبَة وَعدم الْعَفو جَمِيعًا قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير} وَهِي أخص من قَوْله تَعَالَى {من يعْمل سوءا يجز بِهِ} وَأبين فَيجب تقييدها بِعَدَمِ الْعَفو مثل تقييدها بِعَدَمِ التَّوْبَة سَوَاء وخاصة مَعَ مَا ورد بتفسيرها بذلك من حَدِيث عَليّ عليه السلام وَفِي تَفْسِير من يعْمل سوءا يجز بِهِ من حَدِيث أبي بكر رضي الله عنه وَمَا صَحَّ وتواتر من قَول الله تَعَالَى الْحَسَنَة بِعشْرَة أَمْثَالهَا أَو أَزِيد والسيئة بِمِثْلِهَا أَو أعفو وَالله أعلم

وَمِمَّنْ روى عَنهُ الارجاء من الْمُعْتَزلَة فِي كتب الْمُعْتَزلَة مُحَمَّد بن شبيب وغيلان الدِّمَشْقِي رَأس الاعتزال ومويس بن عمرَان وَأَبُو شمر وَصَالح قبه وَالرَّقَاشِيُّ واسْمه الْفضل بن عِيسَى والصالحي واسْمه صَالح بن عَمْرو والخالدي وَغَيرهم ذكرهم القَاضِي فِي تَعْلِيق الْخُلَاصَة وَزَاد الشهرستاني

ص: 367

مَعَ هَؤُلَاءِ من الْمُعْتَزلَة بشار بن عتاب المريسي والغياثي وَقَالَ القَاضِي فِي تعدادهم وَمن الْفُقَهَاء الْقَائِلين بِالْعَدْلِ سعيد بن جُبَير وَحَمَّاد بن سُلَيْمَان وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَأَبُو الْقَاسِم البستي من أَصْحَاب الْمُؤَيد بِاللَّه وَهُوَ مَذْهَب الامام الدَّاعِي إِلَى الله تَعَالَى من أَئِمَّة الزيدية ذهب اليه وَاعْترض عَلَيْهِ بِهِ

وَرَوَاهُ عَنهُ السَّيِّد صَلَاح ابْن الْجلَال رَحمَه الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ غير الامام الدَّاعِي من الزيدية مثل الْفَقِيه مُحَمَّد بن حسن السودي الصَّالح وَالسَّيِّد الْعَلامَة دَاوُد بن يحيى والفقيه الْعَلامَة عَليّ بن عبد الله بن أبي الْخَيْر وَغَيرهم مِمَّن عاصرته وأدركته

وَفِي الْجَامِع الْكَافِي على مَذْهَب الزيدية عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَنه قَالَ الْمُؤمن المذنب لله تَعَالَى فِيهِ الْمَشِيئَة إِن غفر لَهُ فبفضله وَإِن عذبه فبعدله قلت فَهَذَا رَجَاء لَا ارجاء والرجاء مَذْهَب أهل السّنة وَالسَّلَف وَفِي كتب الرِّجَال نِسْبَة الارجاء المذموم إِلَى جمَاعَة من رجال البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا من الثِّقَات الرفعاء مِنْهُم ذَر بن عبد الله الْهَمدَانِي أَبُو عَمْرو التَّابِعِيّ حَدِيثه فِي كتب الْجَمَاعَة كلهم وَقَالَ أَحْمد هُوَ أول من تكلم فِي الارجاء وَأَيوب بن عَائِذ الطَّائِي حَدِيثه خَ م ت د وَسَالم بن عجلَان الافطس فِي (خَ د س ق) وَكَانَ دَاعِيَة إِلَى الارجاء وشبابة بن سوار أَبُو عَمْرو الْمَدِينِيّ وَكَانَ دَاعِيَة وَقيل أَنه رَجَعَ عَنهُ وَابْن عبد الرَّحْمَن أَبُو يحيى الْحمانِي الْكُوفِي حَدِيثه عِنْد خَ م ت ق وَكَانَ دَاعِيَة إِلَى ذَلِك وَعُثْمَان بن غياث الرَّاسِبِي الْبَصْرِيّ فِي خَ م د س وَعَمْرو بن ذَر الهمذاني الْكُوفِي من كبار الزهاد والحافظ وَكَانَ رَأْسا فِي الارجاء حَدِيثه فِي خَ ت د س وَعَمْرو بن مرّة الْجملِي أحد الاثبات من كبار التَّابِعين حَدِيثه عِنْد الْجَمَاعَة كلهم وابراهيم بن طهْمَان الْخُرَاسَانِي أحد الائمة حَدِيثه عِنْدهم وَقيل رَجَعَ وَمُحَمّد بن خازم أَبُو مُعَاوِيَة الضَّرِير أثبت أَصْحَاب الاعمش حَدِيثه عِنْدهم وورقاء بن عَمْرو الْكُوفِي الْيَشْكُرِي حَدِيثه عِنْدهم وَيحيى بن صَالح الوحاظي الْحِمصِي حَدِيثه عِنْد خَ م ت د ق وَعبد الْعَزِيز بن أبي رواد الْحِمصِي خرج لَهُ الاربعة وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ فَهَؤُلَاءِ مِمَّن ذكره ابْن حجر فِي مُقَدّمَة شرح البُخَارِيّ والذهبي فِي الْمِيزَان فَكيف لَو تتبع سَائِر الروَاة من كتب الرِّجَال الحافلة فَلَقَد ذكر الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمَة هِشَام ابْن

ص: 368

حسان من الْمِيزَان على هدبة بن خَالِد أحد رجال البُخَارِيّ وَمُسلم أَنه يَقُول عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج على جلالته أَنه يرى الارجاء دع عَنْك الرَّجَاء بل ذكر الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمَة الْفضل بن دُكَيْن عَن ابْن معِين أَن الْفضل إِذا قَالَ فِي رجل كَانَ مرجئا فانه صَاحب سنة لَا بَأْس بِهِ وَإِذا أثنى على رجل أَنه جيد فَهُوَ شيعي قَالَ الذَّهَبِيّ هَذَا القَوْل من يحيى يدل على أَنه كَانَ مائلا إِلَى الارجاء وَهُوَ خير من الْقدر بِكَثِير

قلت وَهُوَ يحْتَمل ان ابْن معِين يَعْنِي أَن الْفضل كَانَ يُسَمِّي الرَّجَاء ارجاء تحاملا على أهل السّنة أَو عدم معرفَة بِالْفرقِ بَينهمَا كَمَا هُوَ عمل كثير من الْمُتَأَخِّرين بل هَذَا الِاحْتِمَال أقوى والالزم أَن يكون ابْن معِين يعْتَقد أَن الارجاء مَذْهَب أهل السّنة كلهم وَهَذَا بَاطِل بِالضَّرُورَةِ فقد رد كل وَاحِد من أهل دواوين الاسلام السِّتَّة على المرجئة فِي كتبهمْ الْمَشْهُورَة

وَأما أول من تكلم فِيهِ فَقيل ذَر بن عبد الله كَمَا تقدم عَن أَحْمد وَقيل الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة كَمَا فِي الْملَل والنحل وَفِي تَهْذِيب الْمزي وَفِي غَيرهمَا وَفِي البُخَارِيّ وَمُسلم عَن ابْن مَسْعُود مَا يَقْتَضِي أَنه تكلم فِيهِ فان فيهمَا عَنهُ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله كلمة وَقلت الثَّانِيَة قَالَ من مَاتَ يُشْرك بِاللَّه دخل النَّار وَقلت من مَاتَ لَا يشر بِاللَّه دخل الْجنَّة وَفِي رِوَايَة فيهمَا أَنه يرفع ذَلِك إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله ذكرهمَا ابْن الْأَثِير فِي جَامعه وَنسب ذَلِك الشهرستاني إِلَى سعيد بن جُبَير وَجَمَاعَة غير من ذكرت هُنَا وَالله أعلم من يَصح عَنهُ الارجاء وَمن غلط عَلَيْهِ فِي تَسْمِيَة الرَّجَاء ارجاء فان الرَّجَاء هُوَ القَوْل بَان الله تَعَالَى لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء على الاجمال فِي المغفور لَهُم لَا فِي المغفور كَمَا أوضحته فِي العواصم وجودت الْكَلَام على هَذِه الْآيَة فِي أَكثر من كراس كَبِير

وَأما الارجاء فَهُوَ القَوْل بِأَن الله تَعَالَى يغْفر مَا دون ذَلِك لأهل التَّوْحِيد قطعا وحملوا وحملوا الْأَحْمَال على أَنه جَاءَ لاخراج مغْفرَة الْكَبَائِر الَّتِي دون الشّرك للْمُشْرِكين فانه لَو لم يجمل ذَلِك بِالشّرطِ الْمَذْكُور لزم ذَلِك وَزَعَمُوا أَن بَيَان ذَلِك ورد فِي السّنة وَأَن الْخَوْف صَحِيح وَلَكِن زَعَمُوا أَنه لسوء الخاتمة

ص: 369

وَخَوف الْمَوْت على غير الاسلام وَهَذَا القَوْل الَّذِي قَالُوهُ اسراف فِي القَوْل وَيخَاف مِنْهُ أَن يُقَوي جَانب الامان كَمَا أَن قَول الوعيدية يخَاف مِنْهُ أَن يُقَوي جَانب الْقنُوط وَخير الْأُمُور أوساطها وَالَّذِي جَاءَ فِي السّنة مِمَّا يَقْتَضِي مَذْهَب الارجاء معَارض بِأَحَادِيث الشَّفَاعَة وفيهَا التَّصْرِيح بِدُخُول عصاة الْمُوَحِّدين النَّار ثمَّ بخروجهم مِنْهَا بالشفاعة وَالْجمع بَينهَا وَبَين تِلْكَ الْأَحَادِيث مَذْكُور فِي العواصم فقد جَاءَت هَذِه الْمَسْأَلَة فِيهِ فِي مُجَلد ونسأل الله تَعَالَى أوفر حَظّ وَنصِيب من خَوفه ورجائه وطاعته وفضله الْعَظِيم وَرَحمته الواسعة السَّابِقَة الْغَالِبَة الَّتِي كتبهَا على نَفسه أَنه هُوَ الغفور الرَّحِيم

الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة فِي الْوَلَاء والبراء والتكفير والتفسيق وَمَا يتَعَلَّق بذلك على طَرِيق الِاخْتِصَار قَالَ الله تَعَالَى {لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم أَو إخْوَانهمْ أَو عشيرتهم أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وأيدهم بِروح مِنْهُ ويدخلهم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ أُولَئِكَ حزب الله أَلا إِن حزب الله هم المفلحون} وَهِي من قَوَاعِد هَذَا الْبَاب والدواعي إِلَى الْمُحَافظَة عَلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى {ترى كثيرا مِنْهُم يتولون الَّذين كفرُوا لبئس مَا قدمت لَهُم أنفسهم أَن سخط الله عَلَيْهِم وَفِي الْعَذَاب هم خَالدُونَ} وَصَحَّ بِلَا خلاف حَدِيث الْمَرْء مَعَ من أحب وشواهده وطرقه كَثِيرَة

وَفِي سنَن أبي دَاوُد من حَدِيث أبي ذَر مَرْفُوعا أفضل الاعمال الْحبّ فِي الله تَعَالَى والبغض فِي الله تَعَالَى وللحاكم من حَدِيث عَائِشَة مَرْفُوعا الشّرك فِي هَذِه الامة أخْفى من دَبِيب النَّمْل وَأَدْنَاهُ أَن يحب على شَيْء من الْحور وَيبغض على شَيْء من الْعدْل وَهل الدّين إِلَّا الْحبّ والبغض رَوَاهُ الْحَاكِم فِي تَفْسِير آل عمرَان من الْمُسْتَدْرك وَقَالَ صَحِيح الاسناد وَفِي مُسْند الْبَراء من مُسْند أَحْمد حَدثنَا اسماعيل هُوَ ابْن ابراهيم بن علية قَالَ حَدثنَا لَيْث عَن عَمْرو بن مرّة عَن مُعَاوِيَة بن سُوَيْد بن مقرن عَن الْبَراء ابْن عَازِب قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْد النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله فَقَالَ أَي عرى الاسلام

ص: 370

أوثق قَالُوا الصَّلَاة قَالَ حَسَنَة وَمَا هِيَ بهَا قَالُوا الزَّكَاة قَالَ حَسَنَة وَمَا هِيَ بهَا قَالُوا صِيَام رَمَضَان قَالَ حسن وَمَا هُوَ بِهِ قَالُوا الْحَج قَالَ حسن وَمَا هُوَ بِهِ قَالُوا الْجِهَاد قَالَ حسن وَمَا هُوَ بِهِ قَالَ إِن أوثق عرى الاسلام أَن تحب فِي الله وَتبْغض فِي الله عز وجل

وَفِي هَذَا فروع مفيدة الاول أَن هَذَا كُله فِي الْحبّ الَّذِي هُوَ فِي الْقلب وخالصة لأجل الدّين وَذَلِكَ للْمُؤْمِنين الْمُتَّقِينَ بالاجماع وللمسلمين الْمُوَحِّدين إِذا كَانَ لأجل اسلامهم وتوحيدهم عِنْد أهل السّنة كَمَا يَأْتِي وَأما الْمُخَالفَة والمنافعة وبذل الْمَعْرُوف وكظم الغيظ وَحسن الْخلق واكرام الضَّيْف وَنَحْو ذَلِك فَيُسْتَحَب بذله لجَمِيع الْخلق إِلَّا مَا كَانَ يَقْتَضِي مفْسدَة كالذلة فَلَا يبْذل لِلْعَدو فِي حَال الْحَرْب كَمَا اشارت اليه الْآيَة {لَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين لم يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّين} كَمَا يَأْتِي وَأما التقية فَتجوز للخائف من الظَّالِمين القادرين وَأما الْفرق بَين مَا يجوز من المنافعة والمداهنة وَمَا لَا يجوز من الرِّيَاء فَمَا كَانَ من بذل المَال وَالْمَنَافِع فَهُوَ جَائِز وَهُوَ المنافعة وَرُبمَا عبر عَنهُ بالمداهنة والمداراة والمخالفة وَمَا كَانَ من أَمر الدّين فَهُوَ الرباء الْحَرَام وَيَأْتِي مَا يدل على ذَلِك فِي الْأَدِلَّة الْمَذْكُورَة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة

وَمن كَلَام الامام الدَّاعِي إِلَى الله تَعَالَى يحيى بن المحسن عليه السلام فِي الرسَالَة المخرسة لأهل الْمدرسَة لَا يجوز أَن تكون الْمُوَالَاة هِيَ الْمُتَابَعَة فِيمَا يُمكن التَّأْوِيل فِيهِ لِأَن كثيرا من أهل الْبَيْت عليهم السلام قد عرف بمتابعة الظلمَة لوجه يُوجب ذَلِك فَتَوَلّى النَّاصِر الْكثير مِنْهُم وَصلى بهم الْجُمُعَة جَعْفَر الصَّادِق وَصلى الْحسن السبط على جنائزهم وَأقَام عَليّ بن مُوسَى الرِّضَا مَعَ الْمَأْمُون وَكثر جماعته وَتزَوج ابْنه مُحَمَّد ابْنة الْمَأْمُون وَغير ذَلِك وَالْوَجْه فِيهِ أَن الْفِعْل لَا ظَاهر لَهُ فتأويله مُمكن وَذكر الامام الْمهْدي مُحَمَّد بن المطهر عليهما السلام أَن الْمُوَالَاة الْمُحرمَة بالاجماع هِيَ مُوالَاة الْكَافِر لكفره والعاصي لمعصيته وَنَحْو ذَلِك

قلت وَهُوَ كَلَام صَحِيح وَالْحجّة على صِحَة الْخلاف فِيمَا عدا ذَلِك

ص: 371

أَشْيَاء كَثِيرَة مِنْهَا قَوْله تَعَالَى فِي الْوَالِدين الْمُشْركين بِاللَّه {وصاحبهما فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا} وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {لَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين لم يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّين وَلم يخرجوكم من دِيَاركُمْ أَن تبروهم وتقسطوا إِلَيْهِم إِن الله يحب المقسطين إِنَّمَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدّين وأخرجوكم من دِيَاركُمْ وظاهروا على إخراجكم أَن تولوهم وَمن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} وَفِي الحَدِيث أَنَّهَا نزلت فِي قتيلة أم أَسمَاء بعد آيَات التَّحْرِيم رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار والواحدي وتأخرهما وَاضح فِي سِيَاق الْآيَات وقرينة الْحَال مَعَ هَذَا الحَدِيث وَمَعَ حَدِيث ابْن عمر الْآتِي وَلَو لم يَصح تَأَخّر ذَلِك فِي هذَيْن الْحَدِيثين وَغَيرهمَا فالخاص مقدم على الْعَام عِنْد جهل التَّارِيخ عِنْد الْجُمْهُور وَرجحه ابْن رشيد فِي نهايته بالنصوصية على مَا هُوَ خَاص فِيهِ وَيدل عَلَيْهِ مَا ثَبت فِي الْقُرْآن وَالسّنة الصَّحِيحَة الْمُتَّفق عَلَيْهَا من حَدِيث عَليّ عليه السلام فِي قصَّة حَاطِب على مَا ذكره الله تَعَالَى فِي أول سُورَة الممتحنة وَذكره أهل الحَدِيث وَأهل التَّفْسِير جَمِيعًا فان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله قبل عذره بالخوف على أَهله فِي مَكَّة والتقية بِمَا لَا يضر فِي ظَنّه

فان قيل الْقُرْآن دَال على أَنه قد أذْنب لقَوْله {وَمن يَفْعَله مِنْكُم فقد ضل سَوَاء السَّبِيل} فَكيف يقبل مَا جَاءَ من قبُول عذره

قلت إِنَّمَا قبل عذره فِي بَقَائِهِ على الايمان وَعدم مُوالَاة الْمُشْركين لشركهم وَلذَلِك خاطبه الله بالايمان فَقَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} والعموم نَص فِي سَببه فاتفق الْقُرْآن والْحَدِيث وَأما ذَنبه فانه لَا يحل مثل مَا فعله لأحد من الْجَيْش إِلَّا باذن أَمِيرهمْ لقَوْله تَعَالَى {وَإِذا جَاءَهُم أَمر من الْأَمْن أَو الْخَوْف أذاعوا بِهِ} الْآيَة وَلِأَن تَحْرِيم مثل ذَلِك بِغَيْر إِذن الْأَمِير إِجْمَاع وَمَعَ إِذْنه يجوز فقد أذن فِي أَكثر من ذَلِك لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله حِيلَة فِي حفظ المَال فَلَو كَانَ مثل ذَلِك مُوالَاة لم يَأْذَن فِيهِ صلى الله عليه وسلم وَآله فَدلَّ

ص: 372

على أَن ذَنْب حَاطِب هُوَ الكتم لما فِيهِ من الْخِيَانَة لأنفس الْفِعْل لَو تجرد من الكتم والخيانة وَالله أعلم

وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم} وَقَوله تَعَالَى {فَإِن عصوك فَقل إِنِّي بَرِيء مِمَّا تَعْمَلُونَ} فَأمره بِالْبَرَاءَةِ من عَمَلهم الْقَبِيح لَا مِنْهُم وَكَذَلِكَ تَبرأ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله مِمَّا فعل خَالِد بن الْوَلِيد وَلم يبرأ مِنْهُ بل لم يعزله من امارته وَلِأَن الله تَعَالَى علل تَحْرِيم الاسْتِغْفَار للْمُشْرِكين بقوله {من بعد مَا تبين لَهُم أَنهم أَصْحَاب الْجَحِيم} فَكل ذَنْب يسْتَغْفر أَو نَحْو ذَلِك فِيهِ لم تلْزم لذنب الشّرك فِي ذَلِك حَتَّى احْتج بهَا بَعضهم على جَوَاز الاسْتِغْفَار للْمُشْرِكين قبل أَن يموتوا على الشّرك وتأولوا عَلَيْهِ حَدِيث اللَّهُمَّ اغْفِر لقومي فانهم كَانُوا جاهلين وَهُوَ فِي خَ م وحديثا آخر لعَلي عليه السلام فِي تَأْوِيل اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم عليه السلام لِأَبِيهِ كَذَلِك رَوَاهُ أَحْمد وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن من أزواجكم وَأَوْلَادكُمْ عدوا لكم فاحذروهم وَإِن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فَإِن الله غَفُور رَحِيم} عَن ابْن عَبَّاس هم الَّذين مَنعهم أهلهم عَن الْهِجْرَة لما هَاجرُوا وَرَأَوا النَّاس قد فقهوا هموا أَن يعاقبوا أَهْليهمْ الَّذين منعوهم وَمن قَالَ كَانُوا مُشْرِكين فَلَيْسَ بِشَيْء لِأَنَّهَا مَدَنِيَّة وَقد كَانَ حرم نِكَاح الكوافر وَفِيه نظر وَيدل عَلَيْهِ مَا تقدم فِي حَدِيث الْحبّ على شَيْء من الْجور والبغض على شَيْء من الْعدْل وَيدل عَلَيْهِ جَوَاز نِكَاح الفاسقة بِغَيْر الزِّنَا وفَاقا وَنِكَاح الْكِتَابِيَّة عِنْد الْجُمْهُور وَظَاهر الْقُرْآن يدل عَلَيْهِ وَفعل الصَّحَابَة وَمِنْه امْرَأَة نوح وَامْرَأَة لوط وَقَوله للْكفَّار {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هن أطهر لكم}

وَمن هَا هُنَا أجَاز المشددون فِي الْوَلَاء والبراء أَن يحب العَاصِي لخصلة خير فِيهِ وَلَو كَافِرًا كَأبي طَالب فِي أحد الْقَوْلَيْنِ وعَلى الآخر حب النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله لَهُ قبل إِسْلَامه وَهُوَ مَذْهَب الْهَادَوِيَّة وَيدل لَهُم فِي الْمُسلم حَدِيث شَارِب الْخمر الَّذِي نهى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله عَن سبه بعد حَده وَقَالَ (لَا تعينُوا

ص: 373

الشَّيْطَان على أخيكم أما أَنه يحب الله وَرَسُوله رَوَاهُ البُخَارِيّ وَكَذَلِكَ حَدِيث ضَمْضَم عَن أبي هُرَيْرَة فِي المتآخيين الْمُجْتَهد فِي الْعِبَادَة والمسرف على نَفسه كَمَا تقدم فِي الْمَسْأَلَة السَّابِعَة بل يدل عَلَيْهِ فِي حق أهل الاسلام قَوْله تَعَالَى {وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه وَحده} فَجعل الايمان بِاللَّه وَحده غَايَة يَنْقَطِع عِنْدهَا وجوب الْعَدَاوَة والبغضاء وَمِنْه اسْتِئْذَانه صلى الله عليه وسلم وَآله فِي زِيَارَة قَبْرِي وَالِديهِ وزيارته لَهما وشفاعة إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ فان الْبَاعِث على تخصيصهم بذلك هُوَ الْحبّ للرحامة وَمِنْه {فَلَا تذْهب نَفسك عَلَيْهِم حسرات} {فلعلك باخع نَفسك} لشدَّة شفقته ورفقه وَمن ذَلِك حَدِيث ابْن عمر رضي الله عنه قَالَ كُنَّا نمسك عَن الاسْتِغْفَار لأهل الْكَبَائِر حَتَّى سمعنَا {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} قَالَ يَعْنِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله اني ادخرت دَعْوَتِي شَفَاعَة لأهل الْكَبَائِر من أمتِي فأمسكنا عَن كثير مِمَّا كَانَ فِي أَنْفُسنَا ثمَّ نطقنا بعد ورجونا رَوَاهُ فِي مجمع الزَّوَائِد فِي موضِعين من خمس طرق أَحدهَا صَحِيح وَله شَاهد عَن ابْن مَسْعُود بل أَحَادِيث الشَّفَاعَة المتواترة تشهد لَهُ وَالله أعلم

فِيهِ وَفِي آيَة الممتحنة فَائِدَة نفيسة هِيَ أَن ذَلِك آخر الامرين إِن روى مَا يُعَارض هَذِه الْأَدِلَّة وَقد ذكرت فِي العواصم أَدِلَّة كَثِيرَة على تَأَخّر ذَلِك فِي أول مَسْأَلَة الْوَعْد والوعيد وَهِي مفيدة جدا ثمَّ وجدته قد ذكره النَّوَوِيّ وَقواهُ فِي شرح مُسلم ويعضده مَا نَص عَلَيْهِ من الْعَفو عَمَّن فر يَوْم أحد وَمن حَدِيث أهل الافك إِلَّا الَّذِي تولى كبره مِنْهُم لِأَنَّهُ عبد الله بن أبي بن سلول وَهُوَ مُنَافِق وَمِنْه حَدِيث مسطح ونزول الْآيَة فِيهِ وَمِنْه تَحْرِيم المشاحنة والمهاجرة بل جعلهَا كالشرك فِي منع الْمَغْفِرَة للمتهاجرين حَتَّى يصطلحا كَمَا صَحَّ ذَلِك من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَله شَوَاهِد كثير عَن أبي بكر وعَوْف بن مَالك وَعبد الله بن عمر ومعاذ وَأبي ثَعْلَبَة وَأُسَامَة وَابْن مَسْعُود وَجَابِر ذكرهَا الهيثمي فِي مجمع الزَّوَائِد فِي شَحْنَاء الرجل على أَخِيه والاخ يُطلق على الْمُسلم لقَوْله تَعَالَى {فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي} إِلَى قَوْله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة فأصلحوا بَين أخويكم} فَسمى الْبَاغِي أَخا وَلقَوْل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله فِي الْمَحْدُود

ص: 374

فِي الْخمر لَا تعينُوا الشَّيْطَان على أخيكم كَمَا تقدم وَلِأَن الْعَمَل بذلك فِي أَحَادِيث الشحناء وَحُقُوق الْمُسلم على الْمُسلم هُوَ الْأَظْهر والأحوط مَا لم يؤد إِلَى الْفساد فِي الدّين والتهوين لمعاصي رب الْعَالمين وَيخرج من هَذَا أهل النِّفَاق بالنصوص والاجماع فَلذَلِك قَالَ أهل السّنة تجب كَرَاهَة ذَنْب المذنب العَاصِي وَلَا تجب كَرَاهَة الْمُسلم نَفسه بل يجب لاسلامه قلت حبا لَا يُوقع فِي مَعْصِيّة وَلَا يُؤَدِّي إِلَى مفْسدَة وَيكرهُ ذَنبه وَهُوَ قَول أَحْمد بن عِيسَى من أهل الْبَيْت ذكر مَعْنَاهُ عَنهُ صَاحب الْجَامِع الْكَافِي فِي ولَايَة عَليّ عَلَيْهِ أفضل السَّلَام

الْفَرْع الثَّانِي أَن يسير الِاخْتِلَاف لَا يُوجب التعادي بَين الْمُؤمنِينَ وَهُوَ مَا وَقع فِي غير المعلومات القطعية من الدّين الَّتِي دلّ الدَّلِيل على تَكْفِير من خَالف فِيهَا والاصل فِي الامور الْمُخْتَلف فِيهَا هُوَ عدم الْعلم الضَّرُورِيّ الَّذِي يكفر الْمُخَالف فِيهِ حَتَّى يدل الدَّلِيل على ذَلِك وَفِي إِثْبَات مسَائِل قَطْعِيَّة شَرْعِيَّة لَا ظنية وَلَا ضَرُورِيَّة خلاف وَالصَّحِيح أَنه لَا وَاسِطَة بَينهمَا مِثْلَمَا أَنه لَا وَاسِطَة بَين التَّوَاتُر وَالظَّن فِي الاخبار وفَاقا وعَلى هَذَا نقل التَّكْفِير والتأثيم وَالَّذِي يدل على أَنه مَعْفُو عَن يسير الِاخْتِلَاف وُجُوه

أَحدهَا أَنه وَقع بَين الْمَلَائِكَة عليهم السلام قَالَ تَعَالَى {مَا كَانَ لي من علم بالملإ الْأَعْلَى إِذْ يختصمون} وَفِي حَدِيث البُخَارِيّ وَمُسلم عَن الْخُدْرِيّ فِي حَدِيث الْقَاتِل مائَة نفس أَنَّهَا اختصمت فِيهِ مَلَائِكَة الرَّحْمَة وملائكة الْعَذَاب حَتَّى أرسل الله ملكا يحكم بَينهم

وَثَانِيها ثَبت فِي كتاب الله تَعَالَى حِكَايَة الِاخْتِلَاف بَين مُوسَى وَالْخضر وَبَين مُوسَى وَهَارُون وَبَين دَاوُد وَسليمَان وَهُوَ صَرِيح مَا نَحن فِيهِ لِأَن اخْتِلَافهمَا فِي حَادِثَة وَاحِدَة فِي وَقت وَاحِد فِي شَرِيعَة وَاحِدَة

وَثَالِثهَا مَا رَوَاهُ ابْن مَسْعُود قَالَ سَمِعت رجلا قَرَأَ آيَة وَسمعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله يقْرَأ خلَافهَا فَأَخْبَرته فَعرفت فِي وَجهه الْكَرَاهَة فَقَالَ {كلاكما محسن وَلَا تختلفوا فان من قبلكُمْ اخْتلفُوا فهلكوا

ص: 375

رَوَاهُ البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ وَعَن عمر بن الْخطاب مثله فِي قَضيته مَعَ هِشَام بن حَكِيم رَوَاهُ الْجَمَاعَة كلهم وَلِهَذَا الْمَعْنى طرق جمة تَقْتَضِي تواتره ذكرتها فِي العواصم وَفِي خَ م س عَن جُنْدُب مَرْفُوعا اقرأوا الْقُرْآن مَا ائتلفت عَلَيْهِ قُلُوبكُمْ فاذا اختلفتم فَقومُوا عَنهُ فَهَذَا الْخلاف الَّذِي نهى عَنهُ وحذر مِنْهُ الْهَلَاك هُوَ التعادي فَأَما الِاخْتِلَاف بِغَيْر تُعَاد فقد أقرهم عَلَيْهِ أَلا ترَاهُ قَالَ لِابْنِ مَسْعُود كلاكما محسن حِين أخبرهُ باختلافهما فِي الْقِرَاءَة ثمَّ حذرهم من الِاخْتِلَاف بعد الحكم باحسانهما فِي ذَلِك الِاخْتِلَاف فالاختلاف المحذر مِنْهُ غير الِاخْتِلَاف المحسن بِهِ مِنْهُمَا فالمحذر مِنْهُ التباغض والتعادي والتكاذب الْمُؤَدِّي إِلَى فَسَاد ذَات الْبَين وَضعف الاسلام وَظُهُور أعدائه على أَهله والمحسن هُوَ عمل كل أحد بِمَا علم مَعَ عدم المعاداة لمُخَالفَة والطعن عَلَيْهِ وعَلى ذَلِك درج السّلف الصَّالح من أهل الْبَيْت وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وصنف مُحَمَّد بن مَنْصُور فِي هَذَا كتاب الحملة والالفة وَحكى فِيهِ عَن قدماء الْمُعْتَزلَة التوالي مَعَ الِاخْتِلَاف فِي بعض العقائد بل حكى ذَلِك عَن قدماء العترة أَيْضا وَقد نقلت كَلَامه فِي ذَلِك بِحُرُوفِهِ إِلَى مَسْأَلَة الْقُرْآن من العواصم

الْفَرْع الثَّالِث فِي التَّكْفِير والتفسيق بالتأويل لِأَنَّهُ لَا يُفِيد إِلَّا الظَّن وَفِي التَّكْفِير بالتأويل أَرْبَعَة أَقْوَال الأول أَنه لَا كفر بالتأويل الثَّانِي أَنه يكفر بِهِ وَلَكِن لَا تجْرِي عَلَيْهِم أَحْكَام الْكفَّار فِي الدُّنْيَا الثَّالِث أَن أَمرهم إِلَى الامام فِي الاحكام الرَّابِع أَنه كالكفر بالتصريح فَيكون قِتَالهمْ إِلَى آحَاد النَّاس على الصَّحِيح فِي الْكفَّار بالتصريح وَاخْتلف فِي كفار التَّأْوِيل من هم على أَرْبَعَة أَقْوَال أَيْضا الأول أَنهم من أهل الْقبْلَة الثَّانِي من ذهب إِلَى مَذْهَب وَهُوَ فِيهِ مُخطئ بِشُبْهَة يعلم بُطْلَانهَا دلَالَة من الدّين والصريح بِخِلَافِهِ الثَّالِث من ذهب إِلَى الْخَطَأ بِشُبْهَة والصريح بِخِلَافِهِ الرَّابِع من ورد فِيهِ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله أَنه كَافِر والصريح بِخِلَافِهِ

وَاعْلَم أَن أصل الْكفْر هُوَ التَّكْذِيب الْمُتَعَمد لشَيْء من كتب الله تَعَالَى الْمَعْلُومَة أَو لأحد من رسله عليهم السلام أَو لشَيْء مِمَّا جاؤوا بِهِ إِذا كَانَ ذَلِك الْأَمر المكذب بِهِ مَعْلُوما بِالضَّرُورَةِ من الدّين وَلَا خلاف أَن هَذَا الْقدر

ص: 376

كفر وَمن صدر عَنهُ فَهُوَ كَافِر إِذا كَانَ مُكَلّفا مُخْتَارًا غير مختل الْعقل وَلَا مكره وَكَذَلِكَ لَا خلاف فِي كفر من جحد ذَلِك الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ للْجَمِيع وتستر باسم التَّأْوِيل فِيمَا لَا يُمكن تَأْوِيله كالملاحدة فِي تَأْوِيل جَمِيع الْأَسْمَاء الْحسنى بل جَمِيع الْقُرْآن والشرائع والمعاد الأخروي من الْبَعْث وَالْقِيَامَة وَالْجنَّة وَالنَّار وَإِنَّمَا يَقع الاشكال فِي تَكْفِير من قَامَ بأركان الاسلام الْخَمْسَة الْمَنْصُوص على اسلام من قَامَ بهَا إِذا خَالف الْمَعْلُوم ضَرُورَة للْبَعْض أَو للاكثر لَا الْمَعْلُوم لَهُ وَتَأْويل وَعلمنَا من قَرَائِن أَحْوَاله أَنه مَا قصد التَّكْذِيب أَو الْتبس ذَلِك علينا فِي حَقه وَأظْهر التدين والتصديق بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاء والكتب الربانية مَعَ الْخَطَأ الْفَاحِش فِي الِاعْتِقَاد ومضادة الادلة الجلية عقلا وسمعا وَلَكِن لم يبلغ مرتبَة الزَّنَادِقَة الْمُقدمَة وَهَؤُلَاء كالمجبرة الخلص المعروفين بالجهمية عِنْد الْمُحَقِّقين وَكَذَلِكَ المجسمة المشبهة فِي الذَّات التَّشْبِيه الْمجمع على أَنه تَشْبِيه احْتِرَازًا عَمَّا لَا نقص فِيهِ مجمع على أَنه نقص مَعَ اثبات كَمَال الربوبية وخواصها وَجَمِيع صِفَات الْكَمَال وَإِلَّا كَانَ كفرا صَرِيحًا مجمعا عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّة على كلا التفسيرين فان القدران فسر بِعلم الْغَيْب السَّابِق فهم من نَفَاهُ ونفيه كفر بالاجماع وَإِن فسر بالجبر وَنفى الِاخْتِيَار عَن الْعباد وَنفى التَّمْكِين لَهُم فهم من أثْبته كَمَا تقدم بَيَانه فَهَؤُلَاءِ المشبهة والمجبرة مَعًا اخْتلف عُلَمَاء الاسلام فِي تكفيرهم بعد إِجْمَاعهم على تقبيح عقائدهم وانكارها فَذكر الامام يحيى فِي التَّمْهِيد أنههم غير كفار وَاحْتج على ذَلِك وجود القَوْل فِيهِ وَذكر الشَّيْخ مُخْتَار فِي كِتَابه الْمُجْتَبى عَن الشَّيْخ أبي الْحُسَيْن من رُؤُوس الْمُعْتَزلَة وَعَن الرَّازِيّ من رُؤُوس الأشعرية أَنَّهُمَا مَعًا لم يكفراهم قَالَ لِأَن حجَّة من كفرهم الْقيَاس على الْمُشْركين المصرحين وهما قد قدحا فِي صِحَة هَذَا الْقيَاس دع عَنْك كَونه قَطْعِيا وَذَلِكَ الْقدح هُوَ بِوُجُود الْفَارِق الَّذِي يمْنَع مثله من صِحَة الْقيَاس وَهُوَ إِيمَان هَؤُلَاءِ بِجَمِيعِ كتب الله تَعَالَى وَجَمِيع رسله بأعيانهم وأسمائهم إِلَّا من جهلوه وَإِنَّمَا يخالفون حِين يدعونَ عدم الْعلم ثمَّ ظهر عَلَيْهِم مَا يصدق من ذَلِك من اقامة أَرْكَان الاسلام وَتحمل المشاق الْعَظِيمَة بِسَبَب تَصْدِيق الْأَنْبِيَاء عليهم السلام وَلِأَن الْقيَاس عِنْد الْمُحَقِّقين من عُلَمَاء المعقولات لَا يكون قَاطعا لِأَن الْأَمريْنِ إِن اسْتَويَا فِي جَمِيع الْوُجُوه لم يكن قِيَاسا وَإِن وجد بَينهمَا فَارق جَازَ أَن

ص: 377

يكون مؤثرا فِي عدم استوائهما فِي الحكم وَلم يقم دَلِيل قَاطع على أَنه وصف ملغى لَا تَأْثِير لَهُ وَبَيَان ذَلِك أَنهم قَالُوا أَن المبتدعة حِين غلطوا فِي صِفَات الله تَعَالَى فقد عبدُوا غير الله فَيكون قِيَاسا على الْمُشْركين فان بَعضهم عبد الرب الَّذِي يشبه الْعباد وهم المشبهة وَبَعْضهمْ عبد الرب الَّذِي يجبرهم وهم الْمُجبرَة وَنَحْو ذَلِك

وَالْجَوَاب أَنهم عبدُوا الرب الَّذِي خلق الْخلق وغلطهم فِي بعض صِفَاته لَا يخرجهم عَن عِبَادَته ويصيرهم كمن يُعِيد الاصنام لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن عُلَمَاء الْكَلَام يَخْتَلِفُونَ فِي كثير من الصِّفَات كالمدرك وَالْوَصْف الْأَخَص والمريد بل كالسميع والبصير وَلم يلْزم بَعضهم بَعْضًا ذَلِك وَلَو كَانَ حَقًا لَزِمَهُم وَثَانِيهمَا أَن من شهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَغلط فِي بعض صِفَات جسده أَو نسبه لم يكفر قطعا فَدلَّ على أَن من غلط فِي وصف شَيْء لم يكن مثل جاحده وَرُبمَا قَالُوا إِن ذَلِك نقص لَهُ فَيكون كفرا قِيَاسا على من تعمد انتقاصه بِمَا هُوَ نقص بالاجماع قُلْنَا الْخَطَأ فَارق مُؤثر شرعا كالاكراه وَالنِّسْيَان كَمَا سَيَأْتِي وَمن اعْتقد حسن الْقَبِيح وأضافه اليه لحسنه عِنْده لَا لقبحه لَا يكون كمن عكس وَدَلِيله اخْتلَافهمْ فِي الاعراض وَفِي الْوَجْه فِيهَا من غير تَكْفِير وَبَعْضهمْ يلْزمه نِسْبَة الظُّلم اليه وَبَعْضهمْ يلْزمه نِسْبَة الْعَبَث اليه عز وجل عَن ذَلِك وَقد جود الرَّد عَلَيْهِم صَاحبهمْ الشَّيْخ مُخْتَار فِي الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة من التَّكْفِير من كِتَابه الْمُجْتَبى وَفِيمَا قبلهَا وَبعدهَا فليطالع فِيهِ وَقد نقلته بألفاظه أَو معظمه إِلَى موَاضعه من العواصم

قلت وَأما بَقِيَّة أدلتهم السمعية فَلَا تَخْلُو من الظَّن فِي مَعَانِيهَا إِن لم تكن ظنية اللَّفْظ وَالْمعْنَى مَعًا كَمَا يعرف ذَلِك النقاد من أهل الْأُصُول الْفِقْه لِأَنَّهَا إِمَّا عمومات وظواهر وَمَعْنَاهَا ظَنِّي وَإِن كَانَت ألفاظها قرآنية مَعْلُومَة وَلها أَو لأكثرها أَسبَاب نزلت عَلَيْهَا تدل على أَنَّهَا نزلت فِي الْمُشْركين المصرحين وتعديتها عَن أَسبَابهَا ظنية مُخْتَلف فِيهَا أَو نُصُوص جلية لَكِن ثُبُوتهَا ظَنِّي لَا ضَرُورِيّ ثمَّ لَا تَخْلُو بعد ذَلِك مِمَّا يعارضها أَو يكون أظهر فِي الْمَعْنى مِنْهَا من الْأَحَادِيث الدَّالَّة على اسلام أهل الشَّهَادَتَيْنِ أَو الِاكْتِفَاء بهما حَتَّى فِي أَحَادِيث فتْنَة الْقَبْر مَعَ كثرتها وصحتها وتلقيها بِالْقبُولِ واتفاق الْفرق على

ص: 378

رِوَايَتهَا وَقد ذكرت مِنْهَا كثيرا فِي آخر العواصم فِي أَحَادِيث الرَّجَاء وَلَوْلَا خوف الاطالة لذكرتها هُنَا وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي من آمن بِاللَّه وَرُسُله كَقَوْلِه تَعَالَى فِي الْجنَّة {أعدت للَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرُسُله ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} ونظائرها مِمَّا ذكرته فِي العواصم وَمثل قَوْله تَعَالَى {فَمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بِاللَّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لَا انفصام لَهَا} وَمثل أَحَادِيث الشَّفَاعَة وَقد تقدّمت الاشارة إِلَى تَوَاتر معنى ذَلِك فِي مَسْأَلَة الْوَعْد والوعيد فِي هَذَا الْمُخْتَصر وبسطتها فِي العواصم فقاربت خَمْسمِائَة حَدِيث مَعَ مَا فِي الْقُرْآن الْعَظِيم مِمَّا يُغني عَنْهَا لَو لم ترد

وَيشْهد لَهَا بعد وُرُودهَا على مَا قدرته فِي العواصم فِي الْكَلَام على قَوْله تَعَالَى {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} فهم الصَّحَابَة للبشرى فِيهَا وفرحهم بهَا وَإِقْرَار المتأولين لَهَا بِرِوَايَة ذَلِك عَنْهُم وَذَلِكَ يدل على عدم تَأْوِيلهَا وَمِنْهُم عَليّ عليه السلام وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر رضي الله عنهم وَقد جودت الْكَلَام عَلَيْهَا هُنَالك بِحَمْد الله وَحسن هدايته وتوفيقه

وَمن ذَلِك مَا جَاءَ فِيمَن أَقَامَ الاركان الْخَمْسَة وَنَحْو هَذِه الْأُمُور وَهِي أَنْوَاع كَثِيرَة جدا مَعْنَاهَا متواتر ضَرُورِيّ معَارض لما يفهم مِنْهُ تَكْفِير المبتدعة من هَذِه الْأُمُور وَمن أقبح التَّكْفِير مَا كَانَ مِنْهُ مُسْتَند إِلَى وَجه يُنكره الْمُخَالف من أهل الْمَذْهَب مثل تَكْفِير أبي الْحُسَيْن وَأَصْحَابه بِنَفْي علم الْغَيْب وهم ينكرونه وتكفير الاشعرية بالجبر الْخَالِص الَّذِي هُوَ قَول الْجَهْمِية الجبرية وهم ينكرونه وَالله تَعَالَى يَقُول {وَلَا تَقولُوا لمن ألْقى إِلَيْكُم السَّلَام لست مُؤمنا}

وَمن الْعجب أَن الْخُصُوم من البهاشمة وَغَيرهم لم يساعدوا على تَكْفِير النَّصَارَى الَّذِي قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة وَمن قَالَ بقَوْلهمْ مَعَ نَص الْقُرْآن على كفرهم إِلَّا بِشَرْط أَن يعتقدوا ذَلِك مَعَ القَوْل وعارضوا هَذِه الْآيَة الظَّاهِرَة بِعُمُوم مَفْهُوم قَوْله {وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا} كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه وَضَعفه مَعَ وضوح الْآيَة الْكَرِيمَة فِي الْكفْر بالْقَوْل عضدها حديثان

ص: 379

صَحِيحَانِ كَمَا احْتج بهما الامام الْمَنْصُور بِاللَّه عليه السلام حَدِيث ع عَن ثَابت بن الضَّحَّاك من حلف بِملَّة غير الاسلام كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ وَحَدِيث مس دق على شَرط م عَن بُرَيْدَة من حلف قَالَ إِنِّي بَرِيء من الاسلام فان كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ وَإِن كَانَ صَادِقا فَلَنْ يرجع إِلَى الاسلام سالما وَعَن أنس سمع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله رجلا يَقُول أَنا إِذا يَهُودِيّ فَقَالَ وَجَبت وَعَن ابْن عمر قَالَ صلى الله عليه وسلم وَآله من حلف بِغَيْر الله فقد كفر وأشرك وَفِي مجمع الزَّوَائِد لذَلِك شَوَاهِد وَفِي النَّسَائِيّ عَن سعد أَنه حلف وَهُوَ قريب عهد بالجالية فَقَالَ وَاللات والعزى فَقَالَ لَهُ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله مَا نرَاك إِلَّا قد كفرت فَسَأَلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله فَأمره أَن يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله ثَلَاث مَرَّات ثمَّ لَا يعود إِلَى ذَلِك وَهَذَا أَمر بتجديد الاسلام ثمَّ لم يرْضوا بِجَمِيعِ مَا ذكرنَا مُعَارضا لما استنبطوه فَتَأمل ذَلِك وعَلى هَذَا لَا يكون شَيْء من الافعال والاقوال كفرا إِلَّا مَعَ الِاعْتِقَاد حَتَّى قتل الْأَنْبِيَاء والاعتقاد من السرائر المحجوبة فَلَا يتَحَقَّق كفر كَافِر قطّ إِلَّا بِالنَّصِّ الْخَاص فِي شخص شخص وَلَا يدل حَرْب الانبياء على ذَلِك لاحْتِمَال أَن يكون على الظَّاهِر كَقَوْلِه فَمن حكمت لَهُ بِمَال أَخِيه فانما أقطع لَهُ قِطْعَة من النَّار

وَمَعَ نَكَارَة هَذَا فالملجئ اليه عُمُوم مَفْهُوم ظَنِّي ضَعِيف يَأْتِي وَقد مر اخْتِيَار الامام يحيى وَأبي الْحُسَيْن والرازي فِي ذَلِك وَنكل وَهُوَ قَول الطَّبَق الادهم من السّلف وعلماء الاسلام وَأهل الاثار كَمَا رَوَاهُ السَّيِّد أَبُو عبد الله الحسني فِي كِتَابه الْجَامِع الْكَافِي عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور الْكُوفِي عَن سلف أهل الْبَيْت عليهم السلام وَغَيرهم وصنف فِيهِ كتاب الْجُمْلَة والالفة وَهُوَ قَول الامام السَّيِّد الْمُؤَيد بِاللَّه فِي الجبرية نَص عَلَيْهِ فِي آخر كتاب الزِّيَادَات

وَمذهب السّلف الصَّالح فِي ذَلِك هُوَ الْمُخْتَار مَعَ أَمريْن أَحدهمَا الْقطع بقبح الْبِدْعَة والانكار لَهَا والانكار على أَهلهَا وَثَانِيهمَا عدم الانكار على من كفر كثيرا مِنْهُم فانا لَا نقطع بِعَدَمِ كفر بَعضهم مِمَّن فحشت بدعته بل نقف فِي ذَلِك وَلكُل علمه وَالْحكم فِيهِ إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَذَلِكَ لوجوه

الْوَجْه الأول خوف الْخَطَأ الْعَظِيم فِي ذَلِك فقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

ص: 380

وَآله تَعْظِيم ذَلِك بل تَوَاتر ذَلِك لأهل الْبَحْث عَن طرق الحَدِيث حَتَّى تَوَاتر أَنه كفر روى ذَلِك عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله أَبُو ذَر وَأَبُو هُرَيْرَة وَعبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عمر بن الْخطاب وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ خمستهم عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله مَعَ كَثْرَة الطّرق عَنْهُم من غير مَا لحديثهم من الشواهد الجمة بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة مثل مَا ورد فِي الْخَوَارِج وَالرَّوَافِض وَهَذَا بَيَان طرف يسير على جِهَة الِاخْتِصَار الْكثير فَنَقُول

أما حَدِيث أبي ذَر فَرَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَلَفظه وَمن دَعَا رجلا بالْكفْر أَو قَالَ عَدو الله وَلَيْسَ كَذَلِك إِلَّا حَار عَلَيْهِ أَي رَجَعَ وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَرَوَاهُ البُخَارِيّ وَلَفظه إِذا قَالَ الْمُسلم لِأَخِيهِ كَافِر فقد بَاء بهَا أَحدهمَا وَأما حَدِيث ابْن عمر فَرَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث حسن صَحِيح وَلَفظه مثل لفظ حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَأما حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود فَرَوَاهُ الهيثمي فِي كِتَابه مجمع الزَّوَائِد وَلَفظه مَا من مُسلمين إِلَّا وَبَينهمَا ستر من الله فاذا قَالَ أَحدهمَا لصَاحبه هجرا هتك الله ستره وَإِذا قَالَ يَا كَافِر فقد كفر أَحدهمَا قَالَ الهيثمي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَالْبَزَّار بِاخْتِصَار من حَدِيث يزِيد بن أبي زِيَاد وَحَدِيثه حسن وَرِجَاله ثِقَات قلت يزِيد هَذَا أحد عُلَمَاء الْكُوفَة الْمَشَاهِير وَهُوَ من رجال السّنَن الاربعة وَمِمَّنْ قواه شُعْبَة على تعنته فِي الرِّجَال وَبَالغ حَتَّى قَالَ لَا يُبَالِي إِذا سمع الحَدِيث مِنْهُ أَلا سَمعه من سواهُ وَقَالَ ابْن فُضَيْل هُوَ من أَئِمَّة الشِّيعَة الْكِبَار وَأما حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فِي ذَلِك فَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه وَذكره الْحَافِظ ابْن حجر فِي كِتَابه التَّلْخِيص الْخَبِير وَسَيَأْتِي حَدِيث عَن ابْن عمر مَرْفُوع نَحْو هَذَا وَلَكِن بِغَيْر هَذَا اللَّفْظ قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وروى أَبُو عوَانَة حَدِيث ابْن عمر الْمُتَقَدّم فَقَالَ إِن كَانَ كَمَا قَالَ والاباء بالْكفْر وَفِي رِوَايَة فقد وَجب الْكفْر على أَحدهمَا اه

وَأما شَوَاهِد هَذِه الاحاديث الْخَمْسَة بِغَيْر لَفظهَا فكثيرة متواترة مِنْهَا أَحَادِيث مروق الْخَوَارِج من الاسلام وَكَانَ دينهم الَّذِي اختصوا بِهِ من بَين الداخلين فِي الْفِتَن هُوَ تَكْفِير بعض الْمُسلمين بِمَا حسبوه كفرا فوردت الاحاديث بمروقهم بذلك وتواترت وَهِي فِي دواوين الاسلام السِّتَّة عَن عَليّ

ص: 381

عَلَيْهِ السَّلَام وَسَهل بن سعد وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَابْن عمر ابْن الْخطاب وَأبي ذَر وَرَافِع بن عَمْرو الْغِفَارِيّ وَجَابِر بن عبد الله الانصاري وَابْن مَسْعُود وَأبي برزه الاسلمي وَأبي أُمَامَة وَفِي حَدِيثه مَرْفُوعا كَانُوا مُسلمين كفَّارًا واسناده حسن وَرَوَاهَا غير هَؤُلَاءِ بِمَا هُوَ مَعْرُوف فِي مجمع الزَّوَائِد وَكتب الاسلام من المسانيد والتواريخ وَغَيرهَا

وَمِنْهَا أَحَادِيث كفر الروافض وَقد رويت من طرق كَثِيرَة على غرابتها وخلو دواوين الاسلام السِّتَّة مِنْهَا فرويت عَن عَليّ عليه السلام وَفَاطِمَة وَالْحسن عليهما السلام وَابْن عَبَّاس وَأم سَلمَة رضي الله عنهما وروى الامام الْهَادِي عليه السلام مِنْهَا حَدِيث الْحسن عليه السلام فِي كتاب الْأَحْكَام فِي كتاب الطَّلَاق مِنْهُ فِي بَاب من طلق ثَلَاثًا وَقد ذكر الامامية فَقَالَ مَا لَفظه وَفِيهِمْ مَا حَدثنِي أبي وَعمي مُحَمَّد وَالْحسن عَن أَبِيهِم الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن جده عَن ابراهيم بن الْحسن عَن أَبِيه عَن جده الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم السَّلَام عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله أَنه قَالَ (يَا عَليّ يكون فِي آخر الزَّمَان قوم لَهُم نبز يعْرفُونَ بِهِ يُقَال لَهُم الرافضة فان أدركتهم فاقتلهم قَتلهمْ الله تَعَالَى فانهم مشركون اه بِحُرُوفِهِ وَلَا أعلم فِي الاحكام اسنادا مُتَّصِلا مسلسلا بِأَهْل الْبَيْت عليهم السلام سواهُ الا أَن يكون مُرْسلا أَو مَقْطُوعًا أَو مدخلًا فِيهِ غَيرهم من الروَاة

وَقد أَحْبَبْت سِيَاق هَذَا الاسناد الشريف لهَذَا الْمَتْن لجلالة رُوَاته واختصرت أَسَانِيد سَائِر الاحاديث فَأَما حَدِيث عَليّ عليه السلام بِمثل ذَلِك فَرَوَاهُ الهيثمي فِي مجمع الزَّوَائِد وَعبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل فِي زَوَائِد الْمسند وَالْبَزَّار فِي مُسْنده وَابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه تلبيس إِبْلِيس من طَرِيق أبي حباب الْكَلْبِيّ عَن أبي سُلَيْمَان الْهَمدَانِي عَن عَليّ عليه السلام والذهبي فِي كِتَابه ميزَان

ص: 382

الِاعْتِدَال فِي نقد الرِّجَال من طَرِيق أُخْرَى فِي تَرْجَمَة كثير بن إِسْمَاعِيل النو وَلَكِن لَفظه فِي الْمِيزَان يكون بعدِي قوم من أمتِي يسمون الرافضة يرفضون الاسلام وَأما حَدِيث فَاطِمَة بنت مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَآله فَرَوَاهُ الهيثمي فِي مجمع الزَّوَائِد وَأَبُو يعلى وَصَاحب الْفُصُول السَّبْعَة وَالْعِشْرين فِي فَضَائِل أَمِير الْمُؤمنِينَ عليه السلام فِي الْفَصْل الْحَادِي وَالْعِشْرين مِنْهُ والذهبي فِي موضِعين من كِتَابه الْمِيزَان

أَحدهمَا فِي تَرْجَمَة تليد بن عبد الرَّحْمَن سُلَيْمَان الْكُوفِي الشيعي وَثَانِيهمَا فِي تَرْجَمَة أبي الْجَارُود زِيَاد بن الْمُنْذر الشيعي وَقَالَ الهيثمي رُوَاته ثِقَات وَلَفظ رِوَايَة تليد فِي الْمِيزَان نظر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله إِلَى عَليّ عليه السلام فَقَالَ هَذَا فِي الْجنَّة وَإِن من شيعته قوما يلفظون الاسلام لَهُم نبز يسمون الرافضة من لَقِيَهُمْ فليقتلهم فانهم مشركون وَلَفظ أبي الْجَارُود أما أَنَّك يَا ابْن أبي طَالب وشيعتك فِي الْجنَّة وَسَيَجِيءُ أَقوام ينتحلون حبك يُقَال لَهُم الرافضة فان لقيتهم فاقتلهم فانهم مشركون وَأما ابْن عَبَّاس فَمِنْهُ حديثان أما أَحدهمَا فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ والهيثمي وَقَالَ اسناده حسن وَأما الحَدِيث الثَّانِي فَرَوَاهُ أَبُو يعلي وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ والهيثمي وَقَالَ فِي بعض رِجَاله خلاف قلت وَمثل ذَلِك ينجبر بحَديثه الآخر بل بِجَمِيعِ أَحَادِيث هَذَا الْبَاب وَأما حَدِيث أم سَلمَة فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ والهيثمي من طَرِيق الْفضل ابْن غَانِم وَفِي تَرْجَمَة أبي بكر بن عَيَّاش من الْمِيزَان أَن هَارُون الرشيد سَأَلَهُ عَن صِحَة هَذَا الحَدِيث وَذَلِكَ دَلِيل شهرته فَهَذِهِ شَوَاهِد جميلَة لِأَن مُعظم ذنُوب الْخَوَارِج وَالرَّوَافِض هُوَ التَّكْفِير

وَأما الشواهد التفصيلية فكثيرة جدا وَهِي أَنْوَاع مُخْتَلفَة مِنْهَا حَدِيث ثَابت بن الضَّحَّاك مَرْفُوعا وَفِيه من قذف مُؤمنا بِكفْر فَهُوَ كقاتله قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي جَامع المسانيد خرجاه فِي الصَّحِيحَيْنِ قلت وَهُوَ طرف من حَدِيثه الطَّوِيل فيهمَا الَّذِي فِيهِ من حلف بِملَّة غير الاسلام وَغير ذَلِك

ص: 383

وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حسن صَحِيح فَهُوَ يشْهد للتغليظ فِي تَكْفِير الْمُؤمن وَأَنه أغْلظ من السباب الْمُطلق لِأَنَّهُ قد ثَبت أَن سبابه فسوق وقتاله كفر وَالْقَتْل أعظم من الْقِتَال وَمِنْهَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا الْمُؤمن أكْرم على الله من بعض مَلَائكَته رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن وَهُوَ يسْتَلْزم ذَلِك لِأَن من كفر ملكا كفر وَمن الشواهد على ذَلِك أَحَادِيث المستبين مَا قَالَا فعلى البادئ مِنْهُمَا فِيهِ عِنْد مُسلم وَغَيره عَن أبي هُرَيْرَة وَأَحَادِيث التحذير من فتن يصبح الرجل فِيهَا مُؤمنا ويمسي كَافِرًا ويمسي مُؤمنا وَيُصْبِح كَافِرًا وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك من حَدِيث الاعمش عَن زيد بن وهب عَن ابْن مَسْعُود يرفعهُ لَو أَن رجلَيْنِ دخلا فِي الاسلام فاهتجرا كَانَ أَحدهمَا خَارِجا عَن الاسلام حَتَّى يرجع الظَّالِم وَقَالَ صَحِيح على شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم فَهَذَا فِي المهاجرة مَحْمُول على الْخُرُوج عَن الاسلام الْكَامِل فاذا كَانَ مُجَرّد المهاجرة يبلغ هَذَا الْحَد فِي التغليط لم يستبعد أَن يكون التَّكْفِير كفرا على الْحَقِيقَة

وَلِحَدِيث ابْن مَسْعُود شَوَاهِد متواترة فِي تَغْلِيظ تَحْرِيم المهاجرة وَإِنَّهَا فرنت بالشرك فِي الْمَنْع من الْعَفو عَن صَاحبهَا دون سَائِر الْكَبَائِر من ذنُوب أهل الاسلام فَفِي الْمُوَطَّأ لمَالِك ومسند أَحْمد من ثَلَاث طرق وَفِي سنَن أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله تعرض الاعمال فِي كل خَمِيس واثنين فَيغْفر الله عز وجل فِي ذَلِك الْيَوْم لكل امْرِئ لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا إِلَّا امْرأ كَانَت بَينه وَبَين أَخِيه شَحْنَاء فَيَقُول اتْرُكُوا هذَيْن حَتَّى يصطلحا وَفِي رِوَايَة إِلَّا المتهاجرين وَعَن جَابر عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله تعرض الاعمال يَوْم الِاثْنَيْنِ وَيَوْم الْخَمِيس فَمن مُسْتَغْفِر فَيغْفر لَهُ وَمن تائب فيتاب عَلَيْهِ وَترد أهل الْفَضَائِل وضغائنهم رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الاوسط والهيثمي وَقَالَ رِجَاله ثِقَات وَعَن ابْن مَسْعُود وَأُسَامَة بن زيد عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله نَحْو ذَلِك رَوَاهُمَا الطَّبَرَانِيّ والهيثمي وَعَن أبي أَيُّوب الانصاري نَحْو ذَلِك رَوَاهُ الهيثمي وَيَأْتِي حَدِيث ابْن مَسْعُود فِي ذَلِك فِي الْوَجْه السَّابِع وَفِيه فأولهما فيأ يكون سبقه بالفيء كَفَّارَة لَهُ وَإِن مَاتَا على صرامهما لم يدخلا الْجنَّة جَمِيعًا رَوَاهُ أَحْمد باسناد صَحِيح وَعَن أبي بكر الصّديق رضي الله عنه إِذا كَانَ لَيْلَة النّصْف من شعْبَان غفر الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ إِلَّا مَا كَانَ من

ص: 384

مُشْرك أَو مُشَاحِن لِأَخِيهِ رَوَاهُ الْبَزَّار والهيثمي وَعَن أبي هُرَيْرَة مثله وَعَن عَوْف بن مَالك مثله وَعَن معَاذ مثله وَرِجَاله ثِقَات وَعَن أبي ثَعْلَبه الْخُشَنِي نَحوه وَعَن عبد الله بن عمر نَحوه فَهَذِهِ بضعَة عشر حَدِيثا فِي ذَلِك وَفِي تَحْرِيم المهاجرة فَوق ثَلَاث نَحْو ذَلِك وَلَكِن اسْتثْنى فِيهَا مَا دون الثَّلَاث رَحْمَة للْمُسلمين لما فِي الطباع من قُوَّة الداعية إِلَى ذَلِك فِي بعض الْأَحْوَال وَذَلِكَ عِنْد الْغَفْلَة من هَذَا الْوَعيد الشَّديد بِعَدَمِ الْعَفو عَن هَذَا الذَّنب بِخُصُوصِهِ حِين يعفي عَن سَائِر الذُّنُوب وَذَلِكَ لِأَن من عدل الله تَعَالَى ولطيف جَزَائِهِ يَوْم الدّين أَن يُعَامل كل عَامل على حسب اخْتِيَاره واعتقاده ومذهبه فَلَمَّا كَانَ المُهَاجر المشاحن قد اخْتَار ترك الْعَفو عَن أَخِيه مذهبا لَهُ وَحكم بحسنه جوزي بذلك جَزَاء وفَاقا كَمَا يشْهد لَهُ قَوْله تَعَالَى {وَلَا يَأْتَلِ أولُوا الْفضل مِنْكُم وَالسعَة أَن يؤتوا أولي الْقُرْبَى} الْآيَة فِي قصَّة أبي بكر مَعَ مسطح ونظائر ذَلِك كَثِيرَة وصحيحة نسْأَل الله الْعَافِيَة من ذَلِك وَفِي سنَن أبي دَاوُد باسناد صَحِيح هجر الْمُسلم سنة كسفك دَمه وَسَيَأْتِي فِي الْوَجْه السَّابِع مَا يُنَاسب هَذَا من الْحَث على اصلاح ذَات الْبَين وَتَسْمِيَة التَّفَرُّق والتباغض الحالقة للدّين

وَفِي مَجْمُوع ذَلِك مَا يشْهد لصِحَّة التَّغْلِيظ فِي تَكْفِير الْمُؤمن وإخراجه من الاسلام مَعَ شَهَادَته بِالتَّوْحِيدِ والنبوات وخاصة مَعَ قِيَامه بأركان الْإِسْلَام وتجنبه للكبائر وَظُهُور أَمَارَات صدقه فِي تَصْدِيقه لأجل غلطة فِي بِدعَة لَعَلَّ الْكفْر لَهُ لَا يسلم من مثلهَا أَو قريب مِنْهَا فان الْعِصْمَة مُرْتَفعَة وَحسن ظن الانسان بِنَفسِهِ لَا يسْتَلْزم السَّلامَة من ذَلِك عقلا وَلَا شرعا بل الْغَالِب على أهل الْبدع شدَّة الْعجب بنفوسهم وَالِاسْتِحْسَان لبدعتهم وَرُبمَا كَانَ أجر ذَلِك عُقُوبَة على مَا اختاروه أول مرّة من ذَلِك كَمَا حكى الله تَعَالَى ذَلِك فِي قَوْله {وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل بكفرهم} وَهِي من عجائب الْعُقُوبَات الربانية والمحذرات من المؤخذات الْخفية {ومكروا ومكر الله وَالله خير الماكرين}

وَقد كثرت الْآثَار فِي أَن اعجاب الْمَرْء بِنَفسِهِ من المهلكات كَمَا فِي

ص: 385

حَدِيث أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي عِنْد دت وَعَن ابْن عمر مَرْفُوعا ثَلَاث مهلكات شح مُطَاع وَهوى مُتبع وَإِعْجَاب الْمَرْء بِنَفسِهِ وَعَن أنس وَابْن عَبَّاس وَابْن أبي أوفى كلهم عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله مثل ذَلِك رَوَاهَا الهيثمي فِي مجمعه وَدَلِيل الْعقُوبَة فِي ذَلِك انك ترى أهل الضلال أَشد عجبا وتيها وتهليكا للنَّاس واستحقارا لَهُم نسْأَل الله الْعَفو والمعافاة من ذَلِك كُله

وَفِي ذَلِك حَدِيث حُذَيْفَة الصَّحِيح عِنْد مُسلم الْمَشْهُور عَنهُ صلى الله عليه وسلم وَآله أَنه قَالَ (تعرض الْفِتَن على الْقُلُوب كالحصير عودا عودا فَأَي قلب أشربها نكت فِيهِ نُكْتَة سَوْدَاء وَأي قلب أنكرها نكت فِيهِ نُكْتَة بَيْضَاء حَتَّى يصير على قلبين أَبيض مثل الصَّفَا فَلَا تضره فننة مَا دَامَت السَّمَوَات والارض وَالْآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لَا يعرف مَعْرُوفا وَلَا يُنكر مُنْكرا إِلَّا مَا أشْرب من هَوَاهُ فَيَنْبَغِي من كل حَازِم لَبِيب إيقاظ خاطره والحذر الْعَظِيم عَن الامور الَّتِي تَوَاتَرَتْ النُّصُوص من الصِّحَاح وتواترت بِأَنَّهَا كفر وَخُرُوج عَن الاسلام أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا لم يحصل دَلِيل قَاطع على أَنه متأول من إِجْمَاع صَحِيح أَو نَص معَارض لذَلِك صَحِيح وَذَلِكَ مثل مَا قدمنَا من تَكْفِير من يجوز أَنه مُسلم بِمُجَرَّد الالزامات والتمحلات الَّتِي مَتى سلمت عارضها مثلهَا أَو أقوى مِنْهَا كَمَا تقدم

فان قيل أَلَيْسَ قد ذهب كثير من الْعلمَاء إِلَى أَنه لَا يكفر من كفر مُسلما على الاطلاق

فَالْجَوَاب أَن ذَلِك صَحِيح وَلَكِن لَا حجَّة فِيهِ توجب تَقْدِيمه على النُّصُوص حَيْثُ لم يكن تَأْوِيلهَا إِجْمَاعًا فقد حكى الْخلاف فِي ذَلِك الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي شرح الْعُمْدَة حَيْثُ شرح حَدِيث أبي ذَر الْمُقدم ذكره فِي كتاب اللّعان فَقَالَ وَهَذَا وَعِيد عَظِيم لمن يكفر أحدا من الْمُسلمين وَلَيْسَ كَذَلِك وَهِي ورطة عَظِيمَة وَقع فِيهَا خلق من الْمُتَكَلِّمين وَمن المنسوبين إِلَى السّنة وَأهل الحَدِيث وخرق حجاب الهيبة فِي ذَلِك جمَاعَة من الحشوية وَقد اخْتلف النَّاس فِي التَّكْفِير وَسَببه حَتَّى صنف فِيهِ مُفردا إِلَى قَوْله وَالْحق أَنه لَا يكفر أحد من أهل الْقبْلَة إِلَّا بانكار متواتر فانه حِينَئِذٍ يكون مُكَذبا للشَّرْع وَلَيْسَ مُخَالفَة القواطع مأخذا للتكفير وَعبر بعض أهل الاصول عَن هَذَا بِمَا مَعْنَاهُ

ص: 386

أَن من أنكر طَرِيق اثبات الشَّرْع لم يكفر كمن أنكر الاجماع وَمن أنكر الشَّرْع بعد الِاعْتِرَاف بطريقه كفر لِأَنَّهُ مكذب قَالَ وَقد نقل عَن بعض الْمُتَكَلِّمين أَنه قَالَ لَا أكفر إِلَّا من كفرني وَرُبمَا خفى سَبَب هَذَا القَوْل على بعض النَّاس وَحمله على غير محمله الصَّحِيح وَالَّذِي يَنْبَغِي أَن يحمل عَلَيْهِ أَنه قد لمح هَذَا الحَدِيث الَّذِي قتضي أَن من دَعَا رجلا بالْكفْر وَلَيْسَ كَذَلِك رَجَعَ عَلَيْهِ الْكفْر وَكَذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم وَآله (من قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِر فقد بَاء بهَا أَحدهمَا وَكَأن هَذَا الْمُتَكَلّم يَقُول هَذَا الحَدِيث دلّ على أَنه يحصل الْكفْر لأحد الشخصين فاذا كفرني بعض النَّاس فالكفر وَاقع بأحدنا وَأَنا قَاطع بِأَنِّي لست بِكَافِر فالكفر رَاجع اليه اه وَفِيه مَا ترى من تَقْرِير الْخلاف فِي الْأَخْذ بظواهر النُّصُوص مِمَّا يُؤمن الْمُكَفّر لغيره أَن يُخطئ فِي نظره فِي طَرِيق التَّكْفِير كَمَا ذَلِك عَادَة الفطناء والأذكياء أَعنِي الْخَطَأ فِي مثل هَذِه المزالق وَلَو كَانَ خطأ الأذكياء فِي ذَلِك نَادرا وَأَنت مِنْهُم لم تأمن أَن تقع فِي ذَلِك النَّار كَيفَ وخطأهم فِيهِ كثير غَالب وَأَنت على غير يَقِين بأنك مِنْهُم فَأَما دفع الْكفْر بِأَنَّهُ حَدِيث أحادي فانه غرور من وُجُوه

الأول أَنا قد بَينا من طرقه مَا يدل على أَنه متواتر عِنْد أهل الِاطِّلَاع والمعلوم لَا يكون ظنيا لجهل الْجَاهِلين لَهُ

الثَّانِي أَن غرضنا الِاحْتِرَاز على الاسلام مِمَّا تجوز صِحَّته فِي علم الله تَعَالَى وَحَدِيث الْوَاحِد وَإِن لم تعلم صِحَّته فقد يكون صَحِيحا وَنحن لَا نعمل وَالصَّحِيح جَوَاز كفر لَا دَلِيل عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَعْرُوف فِي موَاضعه

الثَّالِث أَن الْفَقِيه حميدا فِي الْعُمْدَة جوز الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الْوَاحِد فِي التَّكْفِير من غير اعْتِقَاد وَذكر أَنه مَذْهَب الْمَنْصُور بِاللَّه والمحققين وَاحْتج بِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله هم بالغزو لخَبر الْوَلِيد بن عقبَة فَنزلت الْآيَة فَامْتنعَ لفسقه لَا لِأَنَّهُ خبر وَاحِد وَالله سُبْحَانَهُ أعلم

ويحتج لَهُم بِقبُول الشَّهَادَة على الرِّدَّة وَالْكفْر وَالْحُدُود فِي الْفسق ثمَّ من العبر الْكِبَار فِي ذَلِك أَن الْجُمْهُور لم يكفروا من كفر الْمُسلم متأولا فِي تكفيره غير متعمد مَعَ أَن هَذِه الْأَحَادِيث الْكَثِيرَة تَقْتَضِي ذَلِك والنصوص

ص: 387

أصح طرق التَّكْفِير فاذا تورع الْجُمْهُور من تَكْفِير من اقْتَضَت النُّصُوص كفره فَكيف لَا يكون الْوَرع أَشد من تَكْفِير من لم يرد فِي كفره نَص وَاحِد فَاعْتبر تورع الْجُمْهُور هُنَا وَتعلم الْوَرع مِنْهُم فِي ذَلِك

فان قيل لم تورعوا هُنَا مَعَ هَذِه النُّصُوص الصَّحِيحَة المتواترة لصريحة

قلت لوجوه

أَحدهَا مَا رُوِيَ عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب عليه السلام من عدم تَكْفِير الْخَوَارِج مَعَ بغضهم لَهُ وبغضه نفاق بل مَعَ تكفيرهم لَهُ عليه السلام وَهُوَ سيد الْمُسلمين وَإِمَام الْمُتَّقِينَ وَأبْعد الْخلق أَجْمَعِينَ عَمَّا افتراه من ذَلِك كذبة المارقين وَقد ذكر الْفَقِيه حميد فِي كِتَابه عُمْدَة المسترشدين أَن ذَلِك هُوَ الْمَشْهُور عَنهُ عليه السلام وروى هُوَ أَنه عليه السلام لما سُئِلَ عَن كفرهم قَالَ من الْكفْر فروا وَلما سُئِلَ عَن إِيمَانهم قَالَ لَو كَانُوا مُؤمنين مَا حاربناهم قيل فَمَا هم قَالَ اخواننا بالْأَمْس بغوا علينا فحاربناهم حَتَّى يفيئوا إِلَى أَمر الله قَالَ الْفَقِيه حميد وَهَذَا تَصْرِيح بِالْمَنْعِ من كفرهم وأقرته الصَّحَابَة

قلت وَمن هَهُنَا ادّعى هُوَ والخطابي وَابْن جرير قبلهمَا الاجماع على عدم تكفيرهم وَكَأن النَّاس تابعوه عليه السلام فِي ذَلِك لشهرته وَعدم مُنَازعَة الصَّحَابَة وَلَا بَعضهم لَهُ عليه السلام كَمَا احْتج بِهِ الْفَقِيه حميد على أَنه إِجْمَاع قَالَ وَلِأَن من كفر إِمَامًا وحاربه لم يكفر اه كَلَامه

وَقد روى ابْن بطال فِي شرح البُخَارِيّ كَلَام ابْن جرير ودعواه الاجماع على ذَلِك فِي الْكَلَام على الْخَوَارِج وَكَانَ فِي ابْن جرير تشيع وموالاة ذكره الذَّهَبِيّ فِي الْمِيزَان فِي الذب عَنهُ فَقَالَ إِن ذَلِك مَرْوِيّ عَن عَليّ عليه السلام من طرق وَذكر نَحْو مَا تقدم وَزَاد فِي رِوَايَته قيل لَهُ عليه السلام فمنافقون فَقَالَ لَو كَانُوا منافقين لم يذكرُوا الله إِلَّا قَلِيلا ثمَّ قَالَ روى وَكِيع عَن مسعر عَن عَامر بن شَقِيق عَن أبي وَائِل عَن عَليّ عليه السلام أَنه قَالَ لم نُقَاتِل أهل النَّهر وان على الشّرك اه وَمرَاده على الْكفْر بِالْقَرِينَةِ كَحَدِيث

ص: 388

جَابر مَرْفُوعا بَين العَبْد وَبَين الشّرك ترك الصَّلَاة رَوَاهُ مُسلم بِهَذَا اللَّفْظ وَكَذَا ذكره عَنهُ ابْن الْأَثِير فِي جَامعه وَقَبله الْحميدِي فِي جمعه بَين الصَّحِيحَيْنِ

يُوضحهُ أَن ترك الْخَوَارِج للشرك الَّذِي هُوَ عبَادَة الاصنام وَعبادَة المخلوقين كَانَ مَعْلُوما بِالضَّرُورَةِ فَلم يكن ليخبر بذلك وَإِنَّمَا خرج كَلَامه مخرج حَدِيث جَابر ومخرج حَدِيث ابْن عَبَّاس حَيْثُ قَالَ إِنَّه رأى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله يُصَلِّي إِلَيّ غير جِدَار أَي غير ستْرَة وَهَذَا هُوَ النَّوْع المسمي بالخاص يُرَاد بِهِ الْعَام وَمِنْه {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} أَي لَا تؤذهما بذلك وَلَا بِغَيْرِهِ ونظائره كَثِيرَة وَيُقَوِّي صِحَة ذَلِك عَنهُ عليه السلام أَنه رد على أهل النهروان أَمْوَالهم قَالَ ابْن حجر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طرق فانضمت هَذِه الطّرق إِلَى تِلْكَ الطّرق الَّتِي ذكرهَا ابْن بطال وَأَشَارَ اليها الْفَقِيه حميد

وَثَانِيها مَا أَشَارَ اليه البُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَترْجم عَلَيْهِ من أَن ذَلِك فِيمَا إِذا كفر أَخَاهُ مُتَعَمدا غير متأول محتجا بِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله لم يكفر عمر فِي قَوْله لحاطب أَنه مُنَافِق وَلَا معَاذًا فِي قَوْله للَّذي خرج من الصَّلَاة حِين طول معَاذ أَنه مُنَافِق وأمثال ذَلِك مَعَ التَّأْوِيل كَثِيره شهيرة وَأَشَارَ الْفَقِيه حميد فِي عُمْدَة المسترشدين إِلَيّ اخْتِيَار هَذَا وَصرح الْغَزالِيّ فِي الْمُسْتَصْفى بِاخْتِيَارِهِ وَطول الْكَلَام فِيهِ وَوَجهه وجوده وَلَوْلَا خوف الاطالة الْكَثِيرَة لنقلته

وَهَذِه فَائِدَة جَيِّدَة تمنع من الْقطع بتكفير من أَخطَأ فِي التَّكْفِير متأولا فانا لَو كفرنا بذلك لكفرنا الجم الْغَفِير فَالْحَمْد لله على التَّوْفِيق لترك ذَلِك والنجاة مِنْهُ والبعد عَنهُ على أَنه يرد عَلَيْهِم أَن الاستحلال بالتأويل قد يكون أَشد من التعمد مَعَ الِاعْتِرَاف بِالتَّحْرِيمِ وَذَلِكَ حَيْثُ يكون المستحل بالتأويل مَعْلُوم التَّحْرِيم بِالضَّرُورَةِ كَتَرْكِ الصَّلَاة فان من تَركهَا متأولا كفرناه بالاجماع وَإِن كَانَ عَامِدًا معترفا فَفِيهِ الْخلاف فَكَانَ التَّأْوِيل هُنَا أَشد تَحْرِيمًا فَلذَلِك يَنْبَغِي ترك التَّكْفِير الْمُخْتَلف فِيهِ حذرا من الْوُقُوع فِيهِ وَالله الْمُسلم

وَثَالِثهَا آن قد جَاءَ كفر دون كفر كَقَوْلِه تَعَالَى {وَمن لم}

ص: 389

يحكم بِمَا انْزِلْ الله فاولئك هم الْكَافِرُونَ) وَمِنْه أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله لما وصف النِّسَاء بالْكفْر قَالَ أَصْحَابه يَا رَسُول الله (يكفرن بِاللَّه تَعَالَى قَالَ لَا يكفرن العشير

أَي الزَّوْج وَهُوَ مُتَّفق على صِحَّته فَلم يحملوا الْكفْر على ظَاهره حِين سَمِعُوهُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم وَآله لاحْتِمَال مَعْنَاهُ وَوُجُود الْمعَارض وَهُوَ إِسْلَام النِّسَاء وإيمانهن وَلم يُنكر النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله عَلَيْهِم التثبت فِي معنى الْكفْر والبحث عَن مُرَاده بِهِ وَكَذَلِكَ تأولوا أَحَادِيث سباب الْمُؤمن فسوق وَقَتله كفر وَلَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض مَعَ الِاتِّفَاق على صِحَّتهَا وَكَثْرَتهَا وللاجماع الْمَعْلُوم وَالنَّص الْمَعْلُوم على وجوب الْقصاص وَلَو كَانَ كفرا على الْحَقِيقَة لأسقط الْقصاص وَكَذَلِكَ تَأَول كثير من عُلَمَاء الاسلام حَدِيث ترك الصَّلَاة كفر مَعَ مَا ورد فِيهِ من لفظ الشّرك فِي صَحِيح مُسلم وَغير ذَلِك وَكَذَلِكَ حَدِيث النِّيَاحَة كفر وَحَدِيث الانتساب إِلَى غير الْأَب كفر قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي شرح الْعُمْدَة فِي اللّعان فِي هَذَا بِخُصُوصِهِ إِنَّه مَتْرُوك الظَّاهِر عِنْد الْجُمْهُور وَفِيه إِشَارَة إِلَى وجود خلاف فِيهِ وَإِلَّا لقَالَ إِجْمَاعًا وَلم يقل كَذَا فِي تَكْفِير الْمُسلم أَخَاهُ فَدلَّ على أَن الْخلاف فِيهِ لَيْسَ بشاذ فاعرف ذَلِك

وَرَابِعهَا مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وأله أَنه قَالَ (إِذا قَالَ الرجل للرجل يَا يَهُودِيّ فَاضْرِبُوهُ عشْرين سَوْطًا) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من طَرِيق ابراهيم ابْن اسماعيل بن أبي حَبِيبَة عَن دَاوُد بن الْحصين عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس وَضَعفه التِّرْمِذِيّ بابراهيم هَذَا وَكَذَلِكَ ضعفه النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ بابراهيم وَبَعض الروَاة عَنهُ شكّ فِي رَفعه ذكره الذَّهَبِيّ فِي الْمِيزَان لَكِن وَثَّقَهُ أَحْمد وَكَانَ عابدا وَهَذَا الْجرْح فِيهِ أقوى وَيقدم على قَول من يقدم الْجرْح وَمن يَقُول بالترجيح خُصُوصا مَعَ تِلْكَ المعارضات المتواترة عِنْد أَئِمَّة الحَدِيث الصَّحِيحَة بِلَا ريب على أَن ابْن مَاجَه والذهبى جعلُوا متن الحَدِيث من قَالَ لرجل يَا مخنث زَاد ق بالوطي فَاضْرِبُوهُ عشْرين سَوْطًا وَلم يذكرُوا السب باليهودية وَقَالَ الْمزي رِوَايَة ق أتم رَوَاهُ ابْن مَاجَه من طَرِيق دُحَيْم الْحَافِظ واسْمه عبد الرَّحْمَن بن ابراهيم عَن ابْن أبي فديك وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن مُحَمَّد ابْن رَافع عَن ابْن أبي فديك وَكَانَت الْعِبَادَة أغلب على مُحَمَّد بن رَافع من الْحِفْظ فَالْبُخَارِي لذَلِك يتَخَيَّر من حَدِيثه

ص: 390

الْقَلِيل وَلَا يستوعبه وَمَعَ هَذَا الضعْف والاعلال لَا يُعَارض مَا صَحَّ وتواتر وَلَكِن سلك الْجُمْهُور مَسْلَك الِاحْتِيَاط فاقتد بهم فِي ذَلِك

فاذا ثَبت أَن النَّص على الْكفْر غير قَاطع فَمَا ظَنك بِغَيْرِهِ فلهذه الْوُجُوه الاربعة لم يعْمل الْجُمْهُور بِظَاهِر هَذِه الْأَحَادِيث

وَأما من كفر أَخَاهُ مُتَعَمدا غير متأول فَاخْتَلَفُوا فِيهِ من تقدم إِلَيّ كفره وَوَجهه الْغَزالِيّ بِأَنَّهُ لما كَانَ مُعْتَقد الاسلام أَخِيه كَانَ قَوْله إِنَّه كَافِر قولا بِأَن الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ كفر وَالَّذِي هُوَ عَلَيْهِ كفر دين الاسلام فَكَأَنَّهُ قَالَ إِن دين الاسلام كفر وَهَذَا القَوْل كفر من قَائِله وَإِن لم يعْتَقد ذَلِك على أَن أَبَا هَاشم وَأَصْحَابه من الْمُعْتَزلَة لَا يكفرون من تعمد النُّطْق بالْكفْر من غير إِكْرَاه عَلَيْهِ وَإِن كَانَا يفترقان فِي الاثم كَمَا تقدم وَهَذَا بعد كثير من التَّكْفِير فِي هَذِه الصُّورَة فَلَو طردوا الِاحْتِيَاط لتركوا التَّكْفِير بِالْقِيَاسِ ومآل الْمَذْهَب لكِنهمْ كفرُوا بهما وَهُوَ أَضْعَف من التَّكْفِير بتعمد النُّطْق بالْكفْر اخْتِيَارا بِلَا إِكْرَاه وَأما النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي شرح مُسلم فِي هَذَا الحَدِيث الَّذِي يَقْتَضِي كفر من كفر أَخَاهُ هَذَا الحَدِيث مِمَّا عده بعض الْعلمَاء من المشكلات فان مَذْهَب أهل الْحق أَن الْمُسلم لَا يكفر بِالْمَعَاصِي وَهَذَا مِنْهَا فَقيل فِي تَأْوِيله وُجُوه الاول أَنه مَحْمُول على المستحل لذَلِك وَبِهَذَا يكفر إِن الثَّانِي أَن الْمَعْنى رجعت عَلَيْهِ نقيصته لِأَخِيهِ ومعصية تكفيره الثَّالِث أَنه مَحْمُول على الْخَوَارِج وَرَوَاهُ ابْن بطال أَيْضا عَن مَالك قَالَ فَقيل لَهُ فيكفرون قَالَ لَا أَدْرِي اه كَلَام ابْن بطال قَالَ النَّوَوِيّ وَهُوَ ضَعِيف لمُخَالفَته الاكثرين والمحققين فِي كفر الْخَوَارِج قَالَ النَّوَوِيّ الرَّابِع أَنه مَحْمُول على أَنه يؤول بِهِ إِلَيّ الْكفْر فان الْمعاصِي بريد الْكفْر وَاحْتج عَلَيْهِ بِرِوَايَة أبي عوَانَة والاباء بالْكفْر وَفِي رِوَايَة فقد وَجب الْكفْر على أَحدهمَا اهـ وَالظَّاهِر أَن هَاتين الرِّوَايَتَيْنِ حجَّة عَلَيْهِ لَا لَهُ الْخَامِس أَن مَعْنَاهُ فقد رَجَعَ عَلَيْهِ تكفيره وَلَيْسَ الرَّاجِع عَلَيْهِ حَقِيقَة الْكفْر بل التَّكْفِير لكَونه جعل أَخَاهُ الْمُسلم كَافِرًا فَكَأَنَّهُ كفر نَفسه إِمَّا لِأَنَّهُ كفر من هُوَ مثله وَإِمَّا لِأَنَّهُ كفر من لَا يكفره إِلَّا كَافِر يعْتَقد بطلَان الاسلام وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذكره ابْن بطال فِي تَوْجِيه كَلَام البُخَارِيّ فِي الْفرق بَين الْعَامِد والمتأول

ص: 391

وَترك النَّوَوِيّ القَوْل السَّادِس وَهُوَ اخْتِيَار البُخَارِيّ وَالْغَزالِيّ والفقيه حميد فِي تَأْوِيل الحَدِيث بالعامد دون المتأول بِهَذَا التَّوْجِيه الْمَذْكُور وَترك أَيْضا القَوْل السَّابِع وَهُوَ أَن الحَدِيث على ظَاهره من غير تَأْوِيل وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي شرح الْعُمْدَة كَمَا سلف وَلَا حجَّة قَاطِعَة مَانِعَة من صِحَّته وَعدم الْحجَّة القاطعة الْمَانِعَة من صِحَة ظَاهره يُوجب الِاحْتِيَاط الْبَالِغ بِتَرْكِهِ احْتِيَاطًا للاسلام وتعظيما لَهُ عَن المخاطرة بِهِ وتعريضه لما لَا يُؤمن أَن يُبطلهُ ويسلب نعْمَته الْعُظْمَى وينظم صَاحبه فِي جمله أهل الْكفْر والعمى

تَنْبِيه وَذَلِكَ أَن هَذَا الْكَلَام فِي التحذير من تَكْفِير المبتدعة الَّذين لم نستيقن أَن بدعتهم كفر مَعَ قبحها وفحشها وكراهتنا لَهَا وَأمر تَكْفِير عوام الْمُسلمين لأَنهم لم يعرفوا الله تَعَالَى بِدَلِيل قَاطع على شُرُوط أهل علم الْكَلَام فانه يزْدَاد الامر قُوَّة فِي كفر من كفرهم لِأَن الحكم باسلامهم مَعْلُوم ضَرُورَة من الدّين وتكفيرهم جحد ذَلِك وَقد دلّ وَقد دلّ الْقُرْآن على صِحَة اسلامهم حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {قَالَت الْأَعْرَاب آمنا قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا وَلما يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبكُمْ وَإِن تطيعوا الله وَرَسُوله لَا يلتكم من أَعمالكُم شَيْئا إِن الله غَفُور رَحِيم} وَقد تقدّمت الْأَدِلَّة على هَذَا فِي أول الْكتاب هَذَا فَليُرَاجع وَهَذَا لجلائه لَا يحْتَاج إِلَى بسط وَبِهَذَا الْكَلَام تمّ الْكَلَام فِي الْوَجْه الاول من مرجحات ترك التَّكْفِير

الْوَجْه الثَّانِي من مرجحات ترك التَّكْفِير أَمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله بذلك فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بالنصوصية والخصوصية وَهَذَا من أوضح المرجحات وَفِي ذَلِك أَحَادِيث مِنْهَا حَدِيث أنس قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله ثَلَاث من أصل الايمان الْكَفّ عَمَّن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله لَا نكفره بذنب وَلَا نخرجهُ من الاسلام بِعَمَل الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي كتاب الْجِهَاد من السّنَن وَرَوَاهُ أَبُو يعلى من طَرِيق أُخْرَى وَلَيْسَ فِيهَا من ضعف إِلَّا يزِيد الرقاشِي العَبْد الصَّالح ضعف من قبل حفظه وَقد أثنى عَلَيْهِ الْحَافِظ ابْن عدي وَوَثَّقَهُ وَقَالَ عِنْده أَحَادِيث صَالِحَة عَن أنس أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ هَذَا مَعَ الثَّنَاء النَّبَوِيّ على عُمُوم التَّابِعين فَأَقل أَحْوَاله أَن يُقَوي طَرِيق أبي دَاوُد وَيشْهد لَهَا الحَدِيث الثَّانِي عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله نَحْو حَدِيث أنس

ص: 392

بِمَعْنَاهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الحَدِيث الثَّالِث عَن ابْن عمر عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله كفوا عَن أهل لَا إِلَه إِلَّا الله لَا تكفروهم بذنب من كفر أهل لَا إِلَه إِلَّا الله فَهُوَ إِلَى الْكفْر أقرب رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير من حَدِيث الضَّحَّاك ابْن حَمْزَة عَن عَليّ بن زيد وَحَمْزَة بِالْحَاء وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ بَينهمَا مِيم قَالَ الهيثمي مُخْتَلف فِي الِاحْتِجَاج بهما قلت لَكِن حَدِيثهمَا يصلح فِي الشواهد ويقوى بِمَا تقدم

وَفِي الْبَاب عَن عَليّ بن أبي طَالب عليه السلام وَأبي الدَّرْدَاء وَأبي أُمَامَة وَوَائِلَة وَجَابِر بن عبد الله وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَعَائِشَة رضي الله عنها وعنهم سبعتهم عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله بِمثل ذَلِك لَكِن فِي أسانيدها مجاريح لَكِن بمجموعها مَعَ مَا تقدم قُوَّة وَلِحَدِيث عَليّ عليه السلام شَوَاهِد عَنهُ وَهُوَ مَا تقدم من عدم تكفيره الْخَوَارِج من طرق وَمن رده لأموالهم من طرق ويعضد ذَلِك عمل الصَّحَابَة فَعَن جَابر أَنه قيل لَهُ هَل كُنْتُم تدعون أحدا من أهل الْقبْلَة مُشْركًا قَالَ معَاذ الله فَفَزعَ لذَلِك قَالَ هَل كُنْتُم تدعون أحدا مِنْهُم كَافِرًا قَالَ لَا رَوَاهُ أَبُو يعلي وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَرِجَاله رجال الصَّحِيح والْحَدِيث إِذا اشْتهر الْعَمَل بِهِ فِي الصحابه دلّ على قوته وَهَذِه الشواهد السَّبْعَة والْحَدِيث الَّذِي قبلهَا كلهَا فِي مجمع الزَّوَائِد فِي أَوَائِله

الْوَجْه الثَّالِث أَنَّهَا قد تكاثرت الْآيَات وَالْأَحَادِيث فِي الْعَفو عَن الْخَطَأ وَالظَّاهِر أَن أهل التَّأْوِيل أخطأوا وَلَا سَبِيل إِلَى الْعلم بتعمدهم لِأَنَّهُ من علم الْبَاطِن الَّذِي لَا يُعلمهُ إِلَّا الله تَعَالَى قَالَ الله تَعَالَى فِي خطاب أهل الاسلام خَاصَّة {وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ وَلَكِن مَا تَعَمّدت قُلُوبكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا} وَصَحَّ فِي تَفْسِيرهَا أَن الله تَعَالَى قَالَ قد فعلت فِي حديثين صَحِيحَيْنِ أَحدهمَا عَن ابْن عَبَّاس وَالْآخر عَن أبي هُرَيْرَة وَقَالَ تَعَالَى {وَلم يصروا على مَا فعلوا وهم يعلمُونَ} فقيد ذمهم بعلمهم وَقَالَ فِي

ص: 393

قتل الْمُؤمن مَعَ التغليط الْعَظِيم فِيهِ {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم} فقيد الْوَعيد فِيهِ بالتعمد وَقَالَ فِي الصَّيْد {وَمن قَتله مِنْكُم مُتَعَمدا} وَجَاءَت الاحاديث الْكَثِيرَة بِهَذَا الْمَعْنى كَحَدِيث سعد وَأبي ذَر وَأبي بكرَة مُتَّفق على صِحَّتهَا فِيمَن ادّعى أَبَا غير أَبِيه وَهُوَ يعلم أَنه غير أَبِيه فَشرط الْعلم فِي الْوَعيد وَمن أوضحها حجَّة حَدِيث الَّذِي أوصى لإسرافه أَن يحرق ثمَّ يذري فِي يَوْم شَدِيد الرِّيَاح نصفه فِي الْبر وَنصفه فِي الْبَحْر حتي لَا يقدر الله عَلَيْهِ ثمَّ يعذبه ثمَّ أَدْرَكته الرَّحْمَة لخوفه وَهُوَ حَدِيث مُتَّفق على صِحَّته عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم حُذَيْفَة وَأَبُو سعيد وَأَبُو هُرَيْرَة بل رُوَاته مِنْهُم قد بلغُوا عدد التَّوَاتُر كَمَا فِي جَامع الاصول وَمجمع الزَّوَائِد وَفِي حَدِيث حُذَيْفَة أَنه كَانَ نباشا وَإِنَّمَا أَدْرَكته الرَّحْمَة لجهله وإيمانه بِاللَّه والمعاد لذَلِك خَافَ الْعقَاب وَأما جَهله بقدرة الله تَعَالَى على مَا ظَنّه محالا فَلَا يكون كفرا إِلَّا لَو علم أَن الْأَنْبِيَاء جاؤا بذلك وَأَنه مُمكن مَقْدُور ثمَّ كذبهمْ أَو أحدا مِنْهُم لقَوْله تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} وَهَذَا أَرْجَى حَدِيث لأهل الْخَطَأ فِي التَّأْوِيل ويعضد مَا تقدم بِأَحَادِيث أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي فليظن بِي مَا شَاءَ وَهِي ثَلَاثَة أَحَادِيث صِحَاح وَلِهَذَا قَالَ جمَاعَة جلة من عُلَمَاء الاسلام أَنه لَا يكفر الْمُسلم بِمَا ينْدر مِنْهُ من أَلْفَاظ الْكفْر إِلَّا ان يعلم المتلفظ بهَا أَنَّهَا كفر قَالَ صَاحب الْمُحِيط وَهُوَ قَول أبي عَليّ الجبائي وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ قَالَ الشَّيْخ مجتبى وَبِه يُفْتى وَلَعَلَّ هَذَا الحَدِيث الصَّحِيح بل الْمُتَوَاتر حجتهم على ذَلِك وَهَذَا خلاف مُتَّجه بِخِلَاف قَول البهاشمة لَا يكفر وَإِن علم أَنه كفر حَتَّى يَعْتَقِدهُ

وَمِمَّا يُقَوي الْعَفو عَن أهل الْخَطَأ أَنه قد يكون فِي الْأَدِلَّة ومقدماتها وَلذَلِك كَانَ الْمَشْهُور فِي الْقَتْلَى فِي فتن الصَّحَابَة سُقُوط الْقصاص كَمَا هُوَ الْمَشْهُور فِي سيرة على عليه السلام كَمَا تقدم وَرُوِيَ الشَّافِعِي عَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ أدْركْت الْفِتْنَة الأولى فِي أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله وَكَانَت فِيهَا دِمَاء وأموال فَلم يقْتَصّ فِيهَا من دم وَلَا مَال وَلَا قدح أُصِيب بِوَجْه التَّأْوِيل إِلَّا أَن يُوجد مَال رجل بِعَيْنِه فَيدْفَع إِلَى صَاحبه

ص: 394

قَالَ ابْن كثير فِي ارشاده وَهُوَ ثَابت عَن الزُّهْرِيّ وَهُوَ عَام فِي أهل الْعدْل وَالْبَغي وَإِن وَاحِدًا من الْفَرِيقَيْنِ لَا يضمن للْآخر شَيْئا وَهُوَ الَّذِي صَححهُ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق من قولي الشَّافِعِي فَدلَّ على دُخُول الْخَطَأ فِي أَفعَال الْقُلُوب كأفعال الْخَوَارِج كَمَا هُوَ وَاضح فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ وَلَكِن مَا تَعَمّدت قُلُوبكُمْ} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة النَّحْل {إِنَّمَا يفتري الْكَذِب الَّذين لَا يُؤمنُونَ بآيَات الله وَأُولَئِكَ هم الْكَاذِبُونَ من كفر بِاللَّه من بعد إيمَانه إِلَّا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا فَعَلَيْهِم غضب من الله وَلَهُم عَذَاب عَظِيم} فَقَوله فِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة {وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا} يُؤَيّد أَن المتأولين غير كفار لِأَن صُدُورهمْ لم تَنْشَرِح بالْكفْر قطعا أَو ظنا أَو تجويزا أَو احْتِمَالا

وَقد يشْهد لَهُم بذلك كَلَام أَمِير الْمُؤمنِينَ عليه السلام وَهُوَ الصَّادِق المصدوق فِي الْمَشْهُور عَنهُ حَيْثُ سُئِلَ عَن كفر الْخَوَارِج فَقَالَ من الْكفْر فروا فَكَذَلِك جَمِيع أهل التَّأْوِيل من أهل الْملَّة وَإِن وَقَعُوا فِي أفحش الْبدع وَالْجهل فقد علم مِنْهُم أَن حَالهم فِي ذَلِك هِيَ حَال الْخَوَارِج وَقد بَالغ الشَّيْخ أَبُو هَاشم وَأَصْحَابه وَغَيرهم فَقَالُوا هَذِه الْآيَة تدل على أَن من لم يعْتَقد الْكفْر ونطق بِصَرِيح الْكفْر وبسب الرُّسُل أَجْمَعِينَ وبالبراءة مِنْهُم وبتكذيبهم من غير إِكْرَاه وَهُوَ يعلم أَن ذَلِك كفر لَا يكفر وَهُوَ ظَاهر اخْتِيَار الزَّمَخْشَرِيّ فِي كشافه فانه فسر شرح الصَّدْر بِطيب النَّفس بالْكفْر وباعتقاده مَعًا وَاخْتَارَهُ الامام يحيي عليه السلام والامير الْحُسَيْن بن مُحَمَّد

وَهَذَا كُله مَمْنُوع لأمرين أَحدهمَا مُعَارضَة قَوْلهم بقوله تَعَالَى {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة} فقضي بِكفْر من قَالَ ذَلِك بِغَيْر شَرط فَخرج الْمُكْره بِالنَّصِّ والاجماع وَبَقِي غَيره فَلَو قَالَ مُكَلّف مُخْتَار غير مكره بمقالة النصاري الَّتِي نَص الْقُرْآن على أَنَّهَا كفر وَلم يعْتَقد صِحَة

ص: 395

مَا قَالَ لم يكفره مَعَ أَنه لعلمه يقبح قَوْله يجب أَن يكون أعظم إِنَّمَا من بعض الْوُجُوه لقَوْله تَعَالَى {وهم يعلمُونَ} فعكسوا وَجعلُوا الْجَاهِل بِذَنبِهِ كَافِرًا والعالم الجاحد بِلِسَانِهِ مَعَ علمه مُسلما الامر الثَّانِي أَن حجتهم دَائِرَة بَين دلالتين ظنيتين قد اخْتلف فيهمَا فِي الْفُرُوع الظنية احداهما قِيَاس الْعَامِد على الْمُكْره وَالْقطع على أَن الاكراه وصف ملغى مثل كَون الْقَائِل بِالثَّلَاثَةِ نَصْرَانِيّا وَهَذَا نَازل جدا وَمثله لَا يقبل فِي الْفُرُوع الظنية وثانيتهما عُمُوم الْمَفْهُوم وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا فانه لَا حجَّة لَهُم فِي منطوقها قطعا وفَاقا وَفِي الْمَفْهُوم خلاف مَشْهُور هَل هُوَ حجَّة ظنية مَعَ الِاتِّفَاق على أَنه هُنَا لَيْسَ بِحجَّة قَطْعِيَّة ثمَّ فِي إِثْبَات عُمُوم لَهُ خلاف وحجتهم هُنَا من عُمُومه أَيْضا وَهُوَ أَضْعَف مِنْهُ

بَيَانه أَن مَفْهُوم الْآيَة وَمن لم يشْرَح بالْكفْر صَدرا فَهُوَ بِخِلَاف ذَلِك سَوَاء قَالَ كلمة الْكفْر بِغَيْر إِكْرَاه أَو قَالَهَا مَعَ إِكْرَاه فَاحْتمل أَن لَا يدْخل الْمُخْتَار بل رجح أَن لَا يدْخل لِأَن سَبَب النُّزُول فِي الْمُكْره والعموم الْمَنْطُوق يضعف شُمُوله بذلك وَيخْتَلف فِيهِ فضعف ذَلِك فِي الظنيات من ثَلَاث جِهَات من كَونه مفهوما وَكَونه عُمُوم مَفْهُوم وَكَونه على سَبَب مضاد لمقصودهم قَالَ قَتَادَة نزلت فى عمار بن يَاسر ذكره الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمته من النبلاء وَرَوَاهُ الواحدي عَن ابْن عَبَّاس فَكيف يقدم مَعَ ذَلِك كُله على مَنْطُوق {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة} وَإِذ قد فعلوا ذَلِك هُنَالك لما فِيهِ من أدني احْتِمَال لعدم شرح الصَّدْر من الْعَامِد الْمُخْتَار فِي كَلِمَات الْكفْر كلهَا من غير اكراه وَلَا جهل لَا خطأ وَلَا عذر أصلا فَكيف بِأَهْل التَّأْوِيل الَّذين علم مِنْهُم السَّعْي فِي تَعْمِيم شَعَائِر الاسلام والأنبياء ومحبتهم ومحبة مناصرتهم والمرء مَعَ من أحب وَتحمل المشاق الْعَظِيمَة لله تَعَالَى والاحتجاج الطَّوِيل على مخالفي الاسلام حَتَّى قَالَ الرَّازِيّ فِي وَصيته اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم إِنِّي آثرت هواي على الْحق فِيمَا صَنعته فَلَا كَذَا وَكَذَا ودعا بِعَدَمِ الْمَغْفِرَة أَو كَمَا قَالَ

وَلما ذكر الذَّهَبِيّ فِي النبلاء تجويد الجاحظ فِي كتاب النبوات ترحم عَلَيْهِ وَقَالَ فَكَذَلِك فَلْيَكُن الْمُسلم مَعَ أَنه من خصومه وَهَذَا شَيْء يُعلمهُ الْعَاقِل

ص: 396

من قَرَائِن أَحْوَال المتأولين وَأَقل الاحوال أَن يكون هَذَا مُحْتملا مُجَرّد احْتِمَال مَعَ سَعَة رَحْمَة الله سُبْحَانَهُ وعظيم عَفوه وغفرانه وَمَعَ مَا ورد فِي أَحَادِيث الشَّفَاعَة المتواترة كَمَا مضى بَيَانه فِي مَوْضِعه وَلذَلِك سَاوَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بَين الْخَطَأ وَالنِّسْيَان والاكراه فِي أَحَادِيث كَثِيرَة جدا مجتمعة على اأن الله تَعَالَى تجَاوز لأمته عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ وَقد تقصيت طرقها وشواهدها من الْقُرْآن فِي ديباجة كتاب العواصم

وَقد أَجمعت الْأمة على الْعَمَل بِمُقْتَضى النُّصُوص فِي الاكراه وَالنِّسْيَان فَكَذَلِك أخوهما وثالثهما وَهُوَ الْخَطَأ أَن شَاءَ الله تَعَالَى بل هُوَ أَكثر مِنْهُمَا ذكرا وشواهد فِي الْكتاب وَالسّنة والبلوى بِهِ أَشد والرخصة إِنَّمَا تكون على قدر شدَّة الْبلوى

واما كفار التَّصْرِيح فَلَا نسلم أَن كفرهم خطأ لوَجْهَيْنِ

أَحدهمَا أَن مرادنا بالْخَطَأ هُوَ خطأ مَخْصُوص وَهُوَ الْخَطَأ فِي تحري مُرَاد الله تَعَالَى وَرَسُوله فِيمَا ظَاهره التَّعَارُض والتشابه وكفار التَّصْرِيح تعمدوا تَكْذِيب الله تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَتَكْذيب رسله وَلم يقعوا فِي ذَلِك خطأ من غير اعْتِمَاد

وَثَانِيها أَن الله تَعَالَى قد أخبر رسله الْكِرَام بعنادهم واستحقاقهم الْعَدَاوَة وَالْعَذَاب الْعَظِيم وَلَو فِي أول مرّة كَمَا قَالَ فِي ذَلِك {كَمَا لم يُؤمنُوا بِهِ أول مرّة} وَقد تقدم ذكر ذَلِك وَكَلَام ابْن أبي الْحَدِيد فِيهِ فِي شرح قَول عَليّ عليه السلام الَّذِي شهِدت لَهُ أَعْلَام الْوُجُود على اقرار قلب ذِي الْجُحُود وَهَذَا تَصْرِيح بعناد كفار التَّصْرِيح حِين انكروا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا وَاجْتمعت عَلَيْهَا جَمِيع كتبه وَرُسُله وأتباعهم وَلم يَخْتَلِفُوا فِيهَا وليحذر من أَمن الْخَطَأ وَقطع على عدم مُسَامَحَة أَهله فِي العقائد من الْمُؤَاخَذَة لَهُ فِيمَا أَخطَأ فِيهِ وَعدم الْمُسَامحَة لَهُ كَمَا ذكرته فِي تحذير من قَالَ بتكليف مَا لَا يُطَاق أَن يحملهُ الله تَعَالَى من الْعُقُوبَات على قَوْلهَا مَا لَا يطيقه فان جَزَاء الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ من جنس أفعالهم وأقوالهم جَزَاء وفَاقا وكما تدين تدان وَقد مر مَا ورد فِي ذَلِك أَو بعضه فِي التحذير من تَجْوِيز التَّكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق على أعدل العادلين وَأكْرم الأكرمين وأرحم الرَّاحِمِينَ

ص: 397

الْوَجْه الرَّابِع أَن مُؤَاخذَة المخطيء لَا تَخْلُو إِمَّا أَن تكون من تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق أَو من أعظم المشاق فان كَانَت من الأول فَهُوَ لَا يجوز على الله تَعَالَى كَمَا تقدم القَوْل فِيهِ مَبْسُوطا بسطا شافيا وَإِن لم تكن مِنْهُ كَانَت من أعظم المشاق وَقد نفي الله تَعَالَى وجود ذَلِك فِي دينه

أما أَنه قد نفى ذَلِك فِي دينه فالمنصوص فِيهِ كَثِيرَة قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} وَقَالَ {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر} وتواتر هَذَا الْمَعْنى فِي السّنة وَقد جمعته فِي مؤلف مُفْرد ذكرت فِيهِ أَكثر من ثَلَاثِينَ آيَة من كتاب الله تَعَالَى وأزيد من مائَة وَثَمَانِينَ حَدِيثا فَلَا نطول بِذكرِهِ لوضوحه

وَأما أَن ذَلِك من أعظم الْحَرج والمشاق فالأمرين

الْأَمر الأول أَن الْعَاقِل الْمُعظم لأمر الله تَعَالَى الْمُؤثر لمرضاته لَو خير بَين أَمريْن أَن يُكَلف الصَّبْر على الْقَتْل عِنْد الاكراه على كلمة الْكفْر أَو الِاحْتِرَاز من الْخَطَأ بعد تَقْرِير أَن الْخَطَأ كفر لَا يغْفر وَيُوجب الخلود فِي النَّار لاختار الصَّبْر على الْقَتْل لِأَنَّهُ يُفْضِي بِهِ إِلَى الْجنَّة وَإِنَّمَا هُوَ صَبر سَاعَة وَهُوَ لَا يَأْمَن أَن يَقع فِي الْخَطَأ الَّذِي يكفر بِهِ وَلَا يغْفر لَهُ مَعَ عدم الْعِصْمَة وَعدم الْمُسَامحَة لِأَن الْخَطَأ قد جربت كَثْرَة وُقُوعه من الأذكياء والافراد فِي المعارف الَّذين ضربت الْأَمْثَال بهم فِي الْعقل والذكاء والفهم وَالْعلم وَذَلِكَ عِنْد تعار ض الأنظار والآيات والْآثَار والمتشابهات والمحتملات وَتَخْصِيص أَكثر العمومات حَتَّى وَقع بعض الْأَنْبِيَاء فِي شَيْء من ذَلِك مَعَ الْعِصْمَة والتأييد الرباني هَذَا نوح عليه السلام ظن أَن ابْنه دَاخل فِي عُمُوم أَهله الَّذين وعده الله تَعَالَى بنجاتهم وَلم يعلم تَخْصِيص هَذَا الْعُمُوم وَلَو علمه مَا سَأَلَ وَقد قيل فِي الْوَجْه فِي ذَلِك أَن ابْنه كَانَ منافقا وَهَذَا مُوسَى عليه السلام راعه مَا وَقع من الْخضر عليه السلام من المتشابهات حَتَّى عيل صبره وأخلف وعده

الْأَمر الثَّانِي أَنه لم يتَحَقَّق وُرُود الشَّرْع بعقوبة المخطيء بعد الرَّغْبَة فِي معرفَة الصَّوَاب وَحسن النِّيَّة فِي تعرفه وَإِن لم يبلغ جَمِيع مَا يُمكن الْبشر فِي علم الله تَعَالَى أما مَعَ بُلُوغه ذَلِك فَلَا شكّ فِي الْعَفو عَنهُ وَأما المشاق

ص: 398

الْعَظِيمَة فقد يرد الشَّرْع بهَا نَادرا فِي هَذِه الشَّرِيعَة تَخْصِيصًا لعُمُوم الْمُسَامحَة فِيمَا شقّ حَيْثُ تَقْتَضِي ذَلِك الْحِكْمَة كَمَا فِي وجوب الصَّبْر للْقصَاص فِي الْقَتْل وَقطع الاعضاء وَالرَّجم فِي عُقُوبَة الزَّانِي وَكَانَ هَذَا أَكثر فِي شرائع من قبلنَا لقَوْله تَعَالَى {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم} وَمِنْه وجوب الْقَتْل فِي تَوْبَة بني إِسْرَائِيل وَنَحْو ذَلِك فَثَبت أَن المشاق الْعَظِيمَة قد تحقق وُرُودهَا فِي الشَّرَائِع نَادرا حَيْثُ يَقْتَضِي ذَلِك الْمصلحَة وَإِن عِقَاب المخطيء بِعَذَاب النَّار لم يتَحَقَّق وُرُوده فِي شَرِيعَة من الشَّرَائِع فَثَبت أَنه أَحَق المشاق بِأَن يسمحه اكرام الاكرمين وَخير الغافرين سبحانه وتعالى وَلَا برهَان قَاطع على أَن المكفرين من أهل التَّأْوِيل لَا يسمون مخطئين وَلَا على خُرُوجهمْ من الْأَدِلَّة الدَّالَّة على الْعَفو عَن المخطئين

االوجه الْخَامِس أَن أخوة يُوسُف لما قَالُوا {إِن أَبَانَا لفي ضلال مُبين} وَقَالُوا {تالله إِنَّك لفي ضلالك الْقَدِيم} لم يكفروا بذلك لما كَانُوا باقين على شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن يَعْقُوب رَسُول الله معتقدين مَعَ ذَلِك صِحَة نبوته وَدينه وَإِنَّمَا جوزوا عَلَيْهِ مَعَ ذَلِك الضلال فِي حب يُوسُف لِأَنَّهُ عِنْدهم من الضلال فِي الرَّأْي ومصالح الدُّنْيَا وَقد قاربوا الاستهانة وَعدم التوقير لَوْلَا جلالة بقائهم على الشَّهَادَتَيْنِ وَإِيمَانهمْ بِاللَّه تَعَالَى وَرُسُله فَثَبت أَن للبقاء على ذَلِك أثرا عَظِيما فان الامارات لَا تقاومه وَإِن الشَّرْع ورد بتعظيم ذَلِك وَطرح الْمعَارض لَهُ وَلذَلِك عظم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله على أُسَامَة بن زيد قتل الْكَافِر الَّذِي ضربه فَلَمَّا قدر عَلَيْهِ أسلم وَعظم على أَصْحَابه الْكَلَام فِي بعض من كَانُوا يعدونه من الْمُنَافِقين وَقَالَ أَلَيْسَ يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَإِنِّي رَسُول الله وَيُصلي قَالُوا بلَى وَلَا شَهَادَة لَهُ وَلَا صَلَاة قَالَ إِنِّي لم أومر أَن أفتش على قُلُوب النَّاس وأمثال ذَلِك كَثِيرَة صَحِيحَة

الْوَجْه السَّادِس أَن الْخَارِجِي الَّذِي قَالَ لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله اعْدِلْ يَا مُحَمَّد وَالله إِن هَذِه قسْمَة مَا أُرِيد بهَا وَجه الله تكلم بِكَلَام من أقبح الْكَلَام وَظن ظنا من أَسْوَأ الظنون وَلم يحكم النبى صلى الله عليه وسلم بِكُفْرِهِ مَعَ ذَلِك مَعَ أَنه لَو

ص: 399

كفر لوَجَبَ قَتله بِالرّدَّةِ إِلَّا أَن يَتُوب وَلم تنقل لَهُ تَوْبَة بل جَاءَ فِي الحَدِيث مَا مَعْنَاهُ أَنَّهَا تخرج من ضئضئة الْخَوَارِج وَإِنَّمَا لم يكفر وَالله أعلم لِأَنَّهُ بَقِي على شَهَادَة أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله وَإِنَّمَا جوز عَلَيْهِ أَن يُذنب كذنوب الانبياء كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَعصى آدم ربه فغوى} وَهَذَا يدل على تَعْظِيم حُرْمَة الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ عظم الْخَطَأ وَكَذَلِكَ لم يكفر حَاطِب ابْن أبي بلتعة مَعَ خيانته لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله وَمَا نزل فِيهِ أول سُورَة الممتحنة وَقَوله تَعَالَى فِيهِ {تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة} و {تسرون إِلَيْهِم بالمودة} وَقد قَالَ تَعَالَى {وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم} وَمَعَ ذَلِك وَصفه بالايمان فِي أول السُّورَة حَيْثُ قَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنه دَاخل فِيمَن خُوطِبَ بذلك لِأَن الْعُمُوم نَص فِي سَببه بالاجماع وَلذَلِك أدخلهُ الله مَعَ الْمُؤمنِينَ وخاطبه بأجمل الْخطاب حَيْثُ قَالَ {لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء} وَكَذَلِكَ ثَبت أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله قبل عذره وَذَلِكَ كُله يدل على مَا قَالَه الامام الْمهْدي مُحَمَّد بن المطهر عليه السلام أَن الْمُوَالَاة الْمُحرمَة بالاجماع هِيَ أَن تحب الْكَافِر لكفره والعاصي لمعصيته لَا لسَبَب آخر من جلب نفع أَو دفع ضَرَر أَو خصْلَة خير فِيهِ وَالله أعلم

الْوَجْه السَّابِع أَن الله تَعَالَى نَص على تَحْرِيم التَّفَرُّق فِي كِتَابه الْكَرِيم وَجَاء ذَلِك بعبارات كَثِيرَة فِي الْكتاب وَالسّنة وَلَا أفحش فِي التَّفَرُّق من التَّوَصُّل إل التَّكْفِير بأدلة مُحْتَملَة تمكن معارضتها بِمِثْلِهَا وَيُمكن التَّوَصُّل بهَا إِلَى عدم التَّكْفِير وَإِلَى جمع الْكَلِمَة وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنه لَا أفحش من ذَلِك فِي التَّفَرُّق الْمنْهِي عَنهُ لما فِيهِ من أعظم التعادي والتنافر والتباين وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله فِي حق الْمَحْدُود فِي الْخمر مرَارًا حَيْثُ لعنوه بِسَبَب ذَلِك لَا تعينُوا الشَّيْطَان على أخيكم أما أَنه يحب الله وَرَسُوله وَلَا شكّ أَن فِي التَّفَرُّق ضعف الاسلام وتقليل أَهله وتوهين أمره قَالَ الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله حق تُقَاته وَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ كُنْتُم أَعدَاء فألف بَين قُلُوبكُمْ فأصبحتم بنعمته إخْوَانًا} وَقَالَ بعْدهَا بِآيَة

ص: 400

وَاحِدَة {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا من بعد مَا جَاءَهُم الْبَينَات} وَقد تقدم فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود أَن الِاخْتِلَاف المنهى عَنهُ هُوَ التعادي لَا الِاخْتِلَاف فِي مُجَرّد الافعال والاقوال مَعَ عدم التعادي وَأَن بعض ذَلِك قد وَقع بَين الْمَلأ الاعلى وَبَين رسل الله الْكِرَام عَلَيْهِم أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام يُوضحهُ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تنازعوا فتفشلوا وَتذهب ريحكم} وَقَالَ تَعَالَى {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى أَن أقِيمُوا الدّين وَلَا تتفرقوا فِيهِ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَكُونُوا من الْمُشْركين من الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا اخْتلف الَّذين أُوتُوا الْكتاب إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم} وَفِي الحَدِيث أَن صَلَاح ذَات الْبَين أفضل من عَامَّة الصَّلَاة وَالصَّوْم وَفِيه أَن فَسَاد ذَات الْبَين هِيَ الحالقة اما اني لَا أَقُول تحلق الشّعْر وَلَكِن تحلق الدّين

وَقد تقدم فِي هَذَا الْبَاب مَا جَاءَ فِي المشاحنة والمهاجرة من الْوَعيد الشَّديد وَالْأَحَادِيث المتواترة مِنْهَا حَدِيث هِشَام بن عمار عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله لَا يحل لمُسلم أَن يهجر مُسلما فَوق ثَلَاث فانهما ناكبان عَن الْحق مَا داما على صرامهما وأولهما فيأ يكون سبقة بالفيء كَفَّارَة لَهُ وَإِن سلم وَلم يقبل ردَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَة وَإِن مَاتَا على صرامهما لم يدخلا الْجنَّة جَمِيعًا أبدا رَوَاهُ أَحْمد وَرِجَاله رجال الصَّحِيح وَقد مر فِي الْوَجْه الأول من هَذِه الْوُجُوه مَا لَهُ من الشواهد المتواترة الرائعة فِي تَحْرِيم ذَلِك وانه مقرون بالشرك فِي حرمَان صَاحبه الغفران وَهَذَا أَمر مجمع على تَحْرِيمه فِي الأَصْل فَيجب مُرَاعَاة أَسبَابه ومقوياته فَكلما كَانَ أقرب إِلَى الِاجْتِمَاع كَانَ أرجح وَكلما كَانَ أقرب إِلَى التَّفَرُّق وَادّعى اليه وَإِلَى اثارته كَانَ أفسد وأبطل وَكم بَين إِخْرَاج

ص: 401

عوام فرق الاسلام أَجْمَعِينَ وجماهير الْعلمَاء المنتسبين إِلَى الاسلام من الْملَّة الاسلامية وتكثير الْعدَد بهم وَبَين ادخالهم فِي الاسلام ونصرته بهم وتكثير أَهله وتقوية أمره فَلَا يحل الْجهد فِي التَّفَرُّق بتكلف التَّكْفِير لَهُم بالأدلة الْمُعَارضَة بِمَا هُوَ أقوى مِنْهَا أَو مثلهَا مِمَّا يجمع الْكَلِمَة وَيُقَوِّي الاسلام ويحقن الدِّمَاء ويسكن الدهماء حَتَّى ينضح كفر المبتدع اتضاح الصُّبْح الصَّادِق وتجتمع عَلَيْهِ الْكَلِمَة وَتحقّق إِلَيْهِ الضَّرُورَة مثل كفر الزَّنَادِقَة والملاحدة الَّذين أَنْكَرُوا الْبَعْث وَالْجَزَاء وَالْجنَّة وَالنَّار وتأولوا الرب جل جلاله وَجَمِيع أَسْمَائِهِ بامام الزَّمَان وسموه باسم الله تَعَالَى وفسروا لَا إِلَه إِلَّا الله أَي لَا إِمَام إِلَّا إِمَام الزَّمَان فِي زعمهم خذلهم الله تَعَالَى وتلعبوا بِجَمِيعِ آيَات كتاب الله عز وجل فِي تَأْوِيلهَا جَمِيعًا بالبواطن الَّتِي لم يدل على شَيْء مِنْهَا دلَالَة وَلَا امارة وَلَا لَهَا فِي عصر السّلف الصَّالح اشارة وَكَذَلِكَ من بلغ مبلغهم من غَيرهم فِي تعفية آثَار الشَّرِيعَة ورد الْعُلُوم الضرورية الَّتِي نقلتها الامة خلفهَا عَن سلفها وَالله يحب الانصاف قطعا

الْوَجْه الثَّامِن أَن الْخَطَأ لما كَانَ منقسما إِلَيّ مغْفُور قطعا كالخطأ فِي الاجتهاديات على الصَّحِيح وَغير مغْفُور قطعا كالخطأ فِي نفي الْبَعْث وَالْجنَّة وَالنَّار وَتَسْمِيَة الامام بأسماء الله تَعَالَى إِلَيّ غير ذَلِك ومختلف فِيهِ مُحْتَمل للالحاق بِأحد الْقسمَيْنِ نَظرنَا لأنفسنا فِي الاقدام على تَكْفِير أهل التَّأْوِيل من أهل الْقبْلَة وَفِي الْوَقْف عَنهُ عِنْد الِاشْتِبَاه فَوَجَدنَا الْوَقْف عَنهُ حِينَئِذٍ مَعَ تقبيح بدع المبتدعة لَا يحْتَمل أَن يكون كفرا وَلَا خطأ غير مَعْفُو عَنهُ لِأَنَّهُ لَا يدل على ذَلِك برهَان قَاطع وَلَا دَلِيل ظَاهر بل الْأَدِلَّة وَاضِحَة فِي الْعَفو حِينَئِذٍ على تَقْدِير الْخَطَأ كَمَا تقدم بَيَانه فِي الْوَجْه الرَّابِع وَأما الاقدام على التَّكْفِير فعلى تَقْدِير الْخَطَأ فِيهِ لَا نَأْمَن أَن يكون كفرا أَو خطأ غير مَعْفُو عَنهُ كخطأ الْخَوَارِج لوُرُود النُّصُوص الصَّحِيحَة الْكَثِيرَة بذلك وَعدم الْإِجْمَاع على تَأْوِيلهَا كَمَا تقدم فِي الْوَجْه الأول فَوَجَدنَا الْوَقْف حِينَئِذٍ أحوط للدّين وَالدَّار الْآخِرَة حَتَّى لَو قَدرنَا وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى أَن الْخَطَأ فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا ذَنْب غير مغْفُور لَكَانَ الْخَطَأ فِي الْوَقْف أَهْون من الْخَطَأ فِي التَّكْفِير وَفِي الحَدِيث والعقول دَلَائِل على ذَلِك كَثِيرَة وَلذَلِك قيل أَن للشر خيارا وَمِنْه قَوْلهم حنانيك بعض الشَّرّ أَهْون من بعض

ص: 402

الْوَجْه التَّاسِع أَن الْوَقْف عَن التَّكْفِير عِنْد التَّعَارُض والاشتباه أولى وأحوط من طَرِيق أُخْرَى وَذَلِكَ أَن الْخَطَأ فِي الْوَقْف على تَقْدِيره تَقْصِير فِي حق من حُقُوق الْغَنِيّ الحميد الْعَفو الْوَاسِع أسمح الْغُرَمَاء وأرحم الرُّحَمَاء وَأحكم الْحُكَمَاء سبحانه وتعالى وَالْخَطَأ فِي التَّكْفِير على تَقْدِيره أعظم الْجِنَايَات على عباده الْمُسلمين الْمُؤمنِينَ وَذَلِكَ مضاد لما أوجب الله من حبهم ونصرهم والذب عَنْهُم

وَقد روى فِي ذَلِك من حَدِيث أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ عليه السلام وَمن حَدِيث عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رضي الله عنها كِلَاهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله أَنه قَالَ

(الدَّوَاوِين عِنْد الله ثَلَاثَة ديوَان لَا يغفره الله وَهُوَ الشّرك بِاللَّه تَعَالَى وديوان لَا يتْركهُ وَهُوَ حُقُوق المخلوقين وديوان لَا يُبَالِي بِهِ وَهُوَ مَا بَينه سبحانه وتعالى وَبَين عَبده فالتارك للتكفير إِن قَدرنَا خطأه فانما أخل بِحَق من حُقُوق الله تَعَالَى وَهُوَ إِجْرَاء الاحكام عَلَيْهِم وَهُوَ هَهُنَا لم يتْركهُ إِلَّا لعدم شَرط جَوَازه وَهُوَ تحقق الْمُوجب لَهُ وَأما للكفر إِن قَدرنَا خطأه فقد أخل بِحَق الْمَخْلُوق الْمُسلم بل تعدى عَلَيْهِ وظلمه أكبر الظُّلم وأفحشه فَأخْرجهُ من الاسلام وَهُوَ يشْهد أَن لَا أَله إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَأَن جَمِيع رسله وَكتبه وَمَا جَاءَ فِيهَا عَن الله عز وجل حق لَا شكّ فِيهِ وَلَا ريب فِي شَيْء مِنْهُ على الْجُمْلَة وَإِنَّمَا أَخطَأ فِي بعض التفاصيل وَقد صرح بالتأويل فِيمَا أَخطَأ فِيهِ فان وصف الله بِوَصْف نقص فلاعتقاده أَنه وصف كَمَال وان نسب إِلَيْهِ قبحا فلاعتقاده أَنه حسن وان تعمد الْقَبِيح فِي ذَلِك فَمحل التعمد هُوَ الْقلب المحجوب عَنَّا سرائره وَالْحَاكِم فِيهِ علام الغيوب وَقد عوقبت الْخَوَارِج أَشد الْعقُوبَة وذمت أقبح الذَّم على تكفيرهم لعصاة الْمُسلمين مَعَ تعظيمهم فِي ذَلِك لمعاصي الله تَعَالَى وتعظيمهم لله تَعَالَى بتكفير عاصية فَلَا يأمل الْمُكَفّر أَن يَقع فِي مثل ذنبهم وَهَذَا خطر فِي الدّين جليل فَيَنْبَغِي شدَّة الِاحْتِرَاز فِيهِ من كل حَلِيم نبيل وَلأَجل هَذَا الْخطر عذر المتوقف فِي التَّكْفِير وَكَانَ هَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الْمُحَقِّقين كَمَا ذكره الْفَقِيه حميد وَاخْتَارَهُ فِي عُمْدَة المسترشدين بل كَمَا قَامَت عَلَيْهِ الدَّلَائِل والبراهين

الْوَجْه الْعَاشِر أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب عليه السلام لم يكفر

ص: 403

أهل الْجمل وصفين لم يسر فيهم السِّيرَة فِي الْكَافرين مَعَ صِحَة قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله (لايحبك إِلَّا مُؤمن وَلَا يبغضك إِلَّا مُنَافِق) وَالْمُنَافِق إِذا أظهر النِّفَاق وَحَارب وَكَانَت لَهُ شَوْكَة جرت عَلَيْهِ أَحْكَام الْكفَّار بالاجماع بل قد صَحَّ أَن سباب الْمُؤمن فسوق وقتاله كفر فَكيف بِسَيِّد الْمُسلمين ومولاهم الامام بل خلاف بَينهم الْوَاجِب محبته وطاعته عَلَيْهِم

وَفِي مُسْند أَحْمد عَن أم سَلمَة أَنَّهَا قَالَت أيسب رَسُول الله فِيكُم قيل لَهَا معَاذ الله قَالَت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول من سبّ عليا فقد سبي رِجَاله رجال الْجَمَاعَة كلهم إِلَى أبي عبد الله الحدلي التَّابِعِيّ الرَّاوِي عَنْهَا وَهُوَ ثِقَة وَلم يكفرهم عليه السلام مَعَ هَذَا وَأَمْثَاله فَدلَّ ذَلِك على أَنه عليه السلام بعد عَن التَّكْفِير لأجل المعارضات الَّتِي أَشَرنَا اليها فِي حكم أهل الشَّهَادَتَيْنِ أَو فِيمَن قَامَ بأركان الاسلام ولجوازان يُرَاد كفر دون كفر ونفاق دون نفاق وَهَذَا الْوَجْه مفارق للْوَجْه الأول الْمُتَعَلّق بالحوارج لِأَن النزاع فِي كفر الْخَوَارِج مُمكن أَو مَشْهُور وَأما هَؤُلَاءِ فَلَا خلاف بَين أهل النَّقْل وَالْبَصَر وبالتواريخ أَنه عليه السلام سَار فيهم السِّيرَة فِي الْبُغَاة على إِمَام الْحق وَلم يسر فيهم السِّيرَة فِي أهل الْكفْر وَلِهَذَا قَالَ الامام أَبُو حنيفَة أَنه لَوْلَا سيرته عليه السلام فِي ذَلِك مَا عرفت أَحْكَام الْبُغَاة أَو كَمَا قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى وَإِنَّمَا كَانَ فعله فيهم حجَّة على الْبعد عَن التَّكْفِير لِأَنَّهُ تَركه مَعَ وجود النُّصُوص الصَّحِيحَة بكفرهم ونفاقهم كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي الْحَدِيثين الشهيرين وشواهدهما بل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} وَعدل إِلَى تَرْجِيح معارضتهما وَلَا معنى للْعَبد عَن التَّكْفِير إِلَّا ذَلِك

الْوَجْه الْحَادِي عشر

أَنه قد يدق مُرَاد الْمُخَالف ويخفي جدا وَيحْتَمل الْوَقْف فيفسر بِمَا لم يَقْصِدهُ كَمَا تقدم فِي هَذَا الْمُخْتَصر فِي اخْتِلَاف النَّاس فِي تَحْقِيق فعل العَبْد إِلَى بضعَة عشر قولا أَكْثَرهَا غامضة وكما دق مَذْهَب الاشعرية فِي الرُّؤْيَة حَتَّى قَالَ الرَّازِيّ أَن مُرَادهم أَنه ينْكَشف لله تَعَالَى صفة فِي الْآخِرَة هِيَ بِالنِّسْبَةِ اليه كالرؤية بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيره وَقد ينْقل عَنهُ مَا لم يقل لتوهم أَنه لَازم لَهُ وَلَيْسَ بِلَازِم كَمَا نسب تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق إِلَى

ص: 404

الاشعري أَو لَازم وَلَكِن اللَّازِم الَّذِي لم يقل بِهِ بل تَبرأ مِنْهُ وَمن لُزُومه كَالَّذي قَالَه وَكم يخْتَلف أَتبَاع الْعَالم فِي كثير من مقاصده وَيلْزم مَا لم يَقْصِدهُ كَمَا يخْتَلف فِي كثير من الْآيَات وَالْأَحَادِيث وَقد تقدم هَذَا فِي سَبَب الابتداع فِي الدّين بتبديل الْعبارَات وَعَلِيهِ بنيت هَذَا الْمُخْتَصر فاذا تقرر هَذَا فَمن الْعجب تَكْفِير كثير مِمَّن لم يرسخ فِي الْعلم لكثير من الْعلمَاء وَمَا دروا حَقِيقَة مذاهبهم وَهَذِه هَذِه وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ

الْوَجْه الثَّانِي عشر

أَن فِي الحكم بتكفير الْمُخْتَلف فِي كفرهم مفْسدَة بَيِّنَة تخَالف الِاحْتِيَاط وَذَلِكَ اسقاط الْعِبَادَات عَنْهُم إِذا تَابُوا وَإِسْقَاط جَمِيع حُقُوق المخلوقين من الْأَمْوَال والدماء وَغَيرهمَا وَإِبَاحَة فروج نِسَائِهِم إِذا لم يتوبوا وَسَفك دِمَائِهِمْ مَعَ قيام الِاحْتِمَال بِشَهَادَة وجود الْمُخَالفين الجلة من أَئِمَّة الْملَّة وَوُجُود المعارضات الراجحة الْوَاضِحَة الادلة وَقد أَشَارَ إِلَى هَذَا الْوَجْه شيخ الاعتزال الْمَعْرُوف بمختار فِي الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشرَة من مسَائِل هَذَا الْبَاب فِي كِتَابه الْمُجْتَبى قَالَ فِيهِ وَعَن بعض السّلف أَنه كَانَ يكْتب فِي الْفَتْوَى فِي هَذَا لَا يكفر وغيري يخالفني

الْوَجْه الثَّالِث عشر

أَن الْخَطَأ فِي الْعَفو خير الْخَطَأ فِي الْعقُوبَة نَعُوذ بِاللَّه من الْخَطَأ فِي الْجَمِيع ونسأله الاصابة والسلامة والتوفيق وَالْهِدَايَة لَكنا وجدنَا الله تَعَالَى لم يذم من أَخطَأ فِي نَحْو ذَلِك أَلا ترَاهُ أثنى على خليه عليه السلام حِين جادله فِي قوم لوط فَقَالَ {إِن إِبْرَاهِيم لحليم أَواه منيب} وَقَالَ عز وجل فِيهِ بعد حكايته استغفاره لِأَبِيهِ {إِن إِبْرَاهِيم لأواه حَلِيم} وَإِنَّمَا كَانَ جداله واستغفاره فِيمَا يحْتَمل الْجَوَاز فِي شَرِيعَته لَا فِيمَا لَا يجوز بِالنَّصِّ فانه منزه عَن ذَلِك وَلَا فِيمَا يجوز بِالنَّصِّ فانه لَا يُعَاقب فِي ذَلِك وَلَا يحْتَاج إِلَى الِاعْتِذَار لَهُ فِيهِ وَنَحْو هَذَا من وَجه آخر قَوْله عليه السلام {وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم} وَقَول عِيسَى عليه السلام {وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} وَصَلَاة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله على عبد الله بن أبي بعد نزُول قَوْله تَعَالَى {اسْتغْفر لَهُم أَو لَا تستغفر لَهُم إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة فَلَنْ يغْفر الله لَهُم} وَقَوله فِي تَفْسِيرهَا ان الله خيرني وَلم ينهني وَلَو أعلم انه يغْفر لَهُم اذا زِدْت على السّبْعين لزدت

ص: 405

عَلَيْهَا وَثَبت انه عليه الصلاة والسلام مَا خير بَين أَمريْن الا اخْتَار أيسرهما مَا لم يكن اثما وتواتر ذَلِك من اخلاقه الْكَرِيمَة كَمَا جمع فِي مُصَنف مُفْرد وَيشْهد لَهُ بذلك الْقُرْآن الْكَرِيم حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} هَذَا مَعَ انا نقف فِيمَن تفاحشت بدعته وقاربت الْكفْر وَلَا نواليه وَلَا ندعوا لَهُ بِالرَّحْمَةِ والمغفر الا بِشَرْط ان يكون من الْمُسلمين محاذرة من ان نوالي من هُوَ عَدو لله فِي الْبَاطِن وَقد أَمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله بِنَحْوِ هَذَا فِي حَدِيث أهل الْكتاب لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تكذبوهم حذرا من تَكْذِيب الْحق وتصديق الْبَاطِل فنعوذ بِاللَّه من مُوالَاة أَعدَاء الله بل ننكر بدعهم وننهي عَنْهَا مَا استطعنا ونكرهها ونتبرأ مِنْهَا ونشهد الله تَعَالَى انا نعادي من عَادَاهُ علمناه أَو جهلناه فقد دلّ فِي الحَدِيث على نفع هَذَا الِاعْتِقَاد الْجملِي وَهُوَ حَدِيث زيد بن ثَابت عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله وَفِيه (اللَّهُمَّ مَا صليت من صَلَاة فعلى من صليت وَمَا لعنت من لعنة فعلى من لعنت) رَوَاهُ أَحْمد وَالْحَاكِم وقتال حَدِيث صَحِيح وَيشْهد لصِحَّته مَا تقدم عَن ابراهيم الْخَلِيل عليه السلام من الْجِدَال عَن قوم لوط وَالِاسْتِغْفَار مِنْهُ لابيه وَلم يكن مُوالَاة مِنْهُ لَهُم وَلَا رضى بِذُنُوبِهِمْ وَلَا ذمّ بِهِ بل بَين الله تَعَالَى عذره فِي بعض ذَلِك وعده من سَعَة حلمه فِي بعضه وَهَذَا كُله فِي حق الْكَافرين وَأما أهل الاسلام الْمُؤمنِينَ الخاطئين فَلَا نَص على تَحْرِيم ذَلِك فيهم فِيمَا علمت وَيَنْبَغِي الِاشْتِرَاط فِيمَا شكّ فِيهِ من الدُّعَاء لبَعْضهِم ان يكون مُوَافقا لمراد الله تَعَالَى فِي الشَّرِيعَة النَّبَوِيَّة

ص: 406