المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في الجواب عما اغتروا به في ذلك - إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات

[ابن الوزير]

الفصل: ‌فصل في الجواب عما اغتروا به في ذلك

‌فصل فِي الْجَواب عَمَّا اغتروا بِهِ فِي ذَلِك

فَمن ذَلِك أَنه ورد فِي السّمع مَا يتَوَهَّم الْجُهَّال مِنْهُ إِن الله تَعَالَى يُرِيد الشَّرّ الْمَحْض لكَونه شرا لَا لحكمة فِيهِ وَلَا غَايَة محمودة وَهَذِه هِيَ مُعظم مَا جرأهم على ذَلِك بل لَيْسَ لَهُم كَبِير شَيْء سواهَا وَهِي شُبْهَة الْمَلَاحِدَة الَّتِي يصولون بهَا على السُّفَهَاء والضعفاء وَذَلِكَ مثل آلام الاطفال والبهائم وَعَذَاب الْآخِرَة الدَّائِم وَالْجَوَاب عَن ذَلِك يَتَّضِح بِذكر أُمُور

الامر الأول أَن الاستقباح الَّذِي يُوجد فِي الْعُقُول لذَلِك إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى من لَا يعلم تَأْوِيلهَا تَفْصِيلًا وَلَا جملَة لَكِن الله تَعَالَى قد أعلمنَا جملَة أَن لَهَا تَأْوِيلا أَو أَن لَهَا تَأْوِيلا لَا يُعلمهُ سواهُ وَهُوَ الصَّحِيح على مَا مضى تَقْرِيره فِي هَذَا الْمُخْتَصر فاذا ذَلِك الاستقباح الْمَوْجُود فِي عقول الْبشر صَحِيح بِالنّظرِ إِلَى علومهم القاصرة وعقولهم الحائرة لَكِن الراكن اليه غفل عَن كَون مَا أنكر صدر عَمَّن ثبتَتْ حكمته وَثَبت استبداده بِعلم الغيوب وَالْحكم وانه يعلم مَا لَا نعلم من الغيوب وَالْحكم وَقد أخبرنَا فِي كَلَامه الْحق أَن للمتشابه تَأْوِيلا لَا يُعلمهُ إِلَّا هُوَ وَلَو كَانَ مَا تشابه علينا حسنا فِي عقولنا لم يحْتَج إِلَى تَأْوِيل وَلَو لم تكن أَفعاله مَوْقُوفَة على الْحِكْمَة لم يرد بذلك التَّنْزِيل بل ورد السّمع بِمَا يدل على أَن الله تَعَالَى فعل ذَلِك للابتلاء كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي تَحْويل الْقبْلَة {وَمَا جعلنَا الْقبْلَة الَّتِي كنت عَلَيْهَا إِلَّا لنعلم من يتبع الرَّسُول مِمَّن يَنْقَلِب على عَقِبَيْهِ} إِلَى قَوْله {وَإِن كَانَت لكبيرة إِلَّا على الَّذين هدى الله} وَفِي نَحْو هَذَا يَقُول عز وجل {بل كذبُوا بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ وَلما يَأْتهمْ تَأْوِيله كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الظَّالِمين} فَبين سُبْحَانَهُ أَن التَّكْذِيب بِمَا لم

ص: 195

يعلم تَأْوِيله هُوَ عَادَة جَمِيع الْكَافرين الاولين والآخرين وان سَبَب كفرهم وتكذيبهم بِهِ إِنَّمَا هُوَ جهلهم وَعدم احاطتهم بِعِلْمِهِ فليحذر ذَلِك كل الحذر فان طباع الْخلق وَاحِدَة إِلَّا مَا سلم الله تَعَالَى نسْأَل الله الْهِدَايَة والسلامة

فعلى هَذَا يكون الايمان بِهِ أفضل الايمان بل محك أهل الْيَقِين والاحسان وَيكون الْخَوْف على المرتابين بِسَبَبِهِ من مكر الله خوفًا عَظِيما نسْأَل الله أَن يثبتنا وَلذَلِك خص الله الراسخين بالاستعاذة من الزيغ بعد ذكر إِيمَانهم بالمتشابه كَأَن ذكره ذكرهم ذَلِك فليطلب الْعَاقِل من طبعه اللجوج وَنَفسه الجاهلة المهلة الْيَسِيرَة حَتَّى ينْكَشف فِي الْآخِرَة ذَلِك التَّأْوِيل كَمَا انْكَشَفَ لمُوسَى تَأْوِيل الْخضر بعد الْقطع على بُطْلَانه أَلا ترى إِذا رَأَيْت رجلا مطيقا يضْرب ولدا ضَعِيفا ضربا مؤلما أَنه أول مَا يسْبق إِلَى طبعك رَحْمَة الصَّغِير والانكار على الْكَبِير حَتَّى تعلم أَن الْكَبِير أَبُو ذَلِك الْمَضْرُوب وَأَنه ساع فِي صَلَاحه وخبير بِهِ فيزول عَنْك مَا كَانَ سبق إِلَى طبعك

وَقد جود هَذَا الْوَجْه الشَّيْخ مُخْتَار المعتزلي فِي كِتَابه الْمُجْتَبى وَفِي الْبَحْث السَّادِس من مَسْأَلَة الارادة تَمام لهَذَا فِيهِ تَقْرِير وُرُود السّمع بِأَن الله تَعَالَى فِي جَزَاء الاشقياء حجَّتَيْنِ حجَّة ظَاهِرَة وَهِي الْعَمَل وَحجَّة خُفْيَة وَهِي الْحِكْمَة الباعثة على الْجَزَاء دون الْعَفو ثمَّ أَن تَأْوِيل الْخضر لمُوسَى دلّ على أَن تَأْوِيل الْمُتَشَابه يرجع إِلَى رده إِلَى الْمُحكم الَّذِي تُحسنهُ الْعُقُول وَلَا تنكره وَهُوَ جلب الْمَنَافِع والمصالح وَدفع المضار والمفاسد وَيدل على لُزُوم هَذَا فِي التَّأْوِيل أَنه لَو ورد بِخِلَافِهِ كَانَ متشابها آخر يحْتَاج إِلَى التَّأْوِيل وَلم يسْتَحق اسْم التَّأْوِيل وَهَذِه حجَّة قَاطِعَة وَللَّه الْحَمد

وَاعْلَم أَن الطَّبْع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة غَالب بقوته على من لم يُعَارضهُ بتذكر كَمَال الربوبية وَنقص الْعُبُودِيَّة ويتضرع إِلَى الله فِي امداده بهدايته أَلا ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى بعد ذكره لتحويل الْقبْلَة {وَإِن كَانَت لكبيرة إِلَّا على الَّذين هدى الله} نسْأَل الله هدايته وَإِن لَا يكلنا إِلَى نفوسنا طرفَة عين

ص: 196

الْوَجْه الثَّانِي أَن يتَذَكَّر الانسان مَا يُعلمهُ من نَفسه من شدَّة الْجَهْل وَقلة الْعلم وتردده فِي الامور وحيرته فِي أَشْيَاء سهلة ورجوعه عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مرَارًا ووجدانه للشَّيْء بعد الطّلب الشَّديد الطَّوِيل واليأس من وجدانه فان علم الانسان بأحوال نَفسه ضَرُورِيّ وَهُوَ حجَّة عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {بل الْإِنْسَان على نَفسه بَصِيرَة وَلَو ألْقى معاذيره} وَقد وَصفه ربه الْعَلِيم الْخَبِير بِأَنَّهُ ظلوم جهول فِي كِتَابه الْحق وَيعلم من التجربة المستمرة وَمن قصَّة مُوسَى وَالْخضر التَّفَاوُت الْعَظِيم بَين الْخلق فِي البلادة والذكاء وَمَعْرِفَة الدقائق وخفيات الحكم ومحكمات الآراء وحدس عواقب الامور فَكيف التَّفَاوُت بَين الْخلق وخالقهم سبحانه وتعالى وَلَو وهب الله عز وجل لبَعض خلقه نصف علمه سُبْحَانَهُ لجَاز أَن يكون ذَلِك التَّأْوِيل فِي النّصْف الآخر كَيفَ وَقد صَحَّ فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن الْخضر قَالَ لمُوسَى مَا علمي وعلمك وَعلم جَمِيع الْخَلَائق فِي علم الله إِلَّا مثل مَا أَخذ هَذَا العصفور من هَذَا الْبَحْر

وَالْفرق بَين هَذَا الْوَجْه وَالَّذِي قبله إِن هَذَا رَاجع إِلَى كَسره لعجبه بِنَفسِهِ فان الِاعْتِرَاض على الله سُبْحَانَهُ إِنَّمَا ينشأ من ذَلِك وَالْوَجْه الأول مَبْنِيّ على تَسْلِيم صِحَة إِنْكَاره فِي المتشابهات لَكِن بِالنِّسْبَةِ إِلَى عقولنا ومعارفنا وَالْغَرَض بِهِ اقناع الْخصم كَيْلا يعْتَقد فِينَا العناد بانكار المدارك الْعَقْلِيَّة فانا لَا ننكرها لَكِن ندعي أَنه قد ينْكَشف خلاف السَّابِق إِلَى الْوَهم الْعقلِيّ والحسي كَمَا أَن الانسان أول مَا يرى النُّجُوم يعْتَقد أَنَّهَا سَاكِنة حَتَّى تنكشف لَهُ حركتها بالبرهان لَا بالبصر وَقد يَرَاهَا متحركة حَرَكَة سريعة مَعَ حَرَكَة السَّحَاب الرَّقِيق وينكشف لَهُ بالبرهان عدم ذَلِك

الوجد الثَّالِث وَهُوَ القالع لآثار هَذِه الوساوس أَن يعلم الانسان أَنه مَا زَالَ الِاخْتِلَاف بَين أهل الفطن والعلوم من الْمُسلمين فِيمَا بَينهم والفلاسفة فِيمَا بَينهم وَسَائِر الْخَلَائق حَتَّى حكى الله تَعَالَى الِاخْتِلَاف الْيَسِير الَّذِي لَا يضر فِيمَا عَن الْمَلَائِكَة وَبَعض الْأَنْبِيَاء عليهم السلام فَقَالَ تَعَالَى {مَا كَانَ لي من علم بالملإ الْأَعْلَى إِذْ يختصمون}

ص: 197

) وَحكى سُبْحَانَهُ مَا جرى بَين دَاوُد وَسليمَان عليهما السلام من الِاخْتِلَاف فِي حكم الْغنم إِذْ نفشت فِي زرع قوم إِلَى قَوْله تَعَالَى {ففهمناها سُلَيْمَان وكلا آتَيْنَا حكما وعلما} وَحكى مَا جرى بَين مُوسَى وَهَارُون عليهما السلام حَتَّى حكى قَول هَارُون لمُوسَى {لَا تَأْخُذ بلحيتي وَلَا برأسي} و {فَلَا تشمت بِي الْأَعْدَاء} وَثَبت فِي الحَدِيث اختصام مَلَائِكَة الرَّحْمَة وملائكة الْعَذَاب فِي حكم الَّذِي قتل مائَة نفس ثمَّ تَابَ وَبعث الله ملكا يحكم بَينهم فَحكم لملائكة الرَّحْمَة وَثَبت أَيْضا مُحَاجَّة آدم ومُوسَى فِي الْخُرُوج من الْجنَّة لَا فِي الْمعْصِيَة كَمَا يَظُنّهُ كثير من النَّاس كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَصَارَ مَجْمُوع ذَلِك دَلِيلا قَاطعا على أَن الْعَادة قد استمرت على وجوب الِاخْتِلَاف فِي الاحكام عِنْد التَّفَاضُل فِي الْعلم وَالْحكمَة وَذَلِكَ يُوجب استقباح الْجَاهِل لبَعض أَفعَال الأعلم على قدر مَا بَينهمَا من التَّفَاوُت فَأولى وَأَحْرَى أَن يُوجب استقباح الْجَاهِل لبَعض أَفعَال الاعلم

وَلما كَانَ التَّفَاوُت بَين علم المخلوقين وَعلم خالقهم عز وجل لَا يقدر بِمِقْدَار وَلَا يتَوَهَّم بِقِيَاس وَجب أَن يكون بَينهم فِي التحسين والتقبيح لتفاصيل الاحكام أعظم الِاخْتِلَاف وجوبا عاديا يَسْتَحِيل خِلَافه حَتَّى لَو قَدرنَا مَا لَا يتَقَدَّر من موافقتهم لجَمِيع أَحْكَام الله تَعَالَى على جِهَة التَّفْصِيل لَكَانَ هَذَا محارة عظمى لعقول جَمِيع الْعُقَلَاء والأذكياء بل محالا مُمْتَنعا فِي معارف الفطناء وَالْعُلَمَاء ولكان ذَلِك الِاتِّفَاق أعظم شُبْهَة قادحة فِي زِيَادَة علم الله عَلَيْهِم وَمن أدق الْمُتَشَابه المحير لفطنائهم فَلَمَّا جَاءَ السّمع بالمتشابه عَلَيْهِم على الْقَاعِدَة المألوفة وَالْعَادَة الْمَعْرُوفَة فِي أَن الاعلم إِذا تميز شَيْئا قَلِيلا عَن أجناسه وأشباهه لم يكن بُد من أَن يَأْتِي بِمَا لَا يعْرفُونَ وَيفْعل مَا لَا يَقُولُونَ ويستحسن بعض مَا يستقبحون حَتَّى قيلت فِي هَذَا الاشعار وَضربت فِيهِ الامثال وَحَتَّى قيل أَن الِاجْتِمَاع فِي الخفيات محَال مِثْلَمَا أَن الِاخْتِلَاف فِي الجليات محَال وَقد أَجَاد فِي هَذَا الْمَعْنى من قَالَ

ص: 198

(تسل عَن الْوِفَاق فَمر بِنَا قد

حكى بَين الْمَلَائِكَة الخصاما)

(كَذَا الْخضر المكرم والوجيه المكلم

إِذْ ألم بِهِ لماما)

(تكدر صفو جَمعهمَا مرَارًا

وَعجل صَاحب السِّرّ الصراما)

(ففارقه الكليم كليم قلب

وَقد ثَنَا على الْخضر الملاما)

(فَدلَّ على اتساع الامر فِيمَا الْكِرَام فِيهِ خَالَفت الكراما)

(وَمَا سَبَب الْخلاف سوى اخْتِلَاف الْعُلُوم هُنَاكَ بَعْضًا أَو تَمامًا)

(فَكَانَ من اللوازم أَن يكون الاله

مُخَالفا فِيهَا الاناما)

(فَلَو لم نجهل الاسرار عَنْهَا

بلغنَا مثله فِيهَا المراما)

(فَصَارَ تشابه الاحكام مِنْهُ

عَلَيْهِ شَاهدا وَلنَا لزاما)

(فَلَا تجْهَل لَهَا قدرا وخذها

شكُورًا للَّذي يحيى العظاما)

(وحاذر أَن تكون لَهَا نسيا

وَتنظر فِي المواقف أَو تراما)

(فَلَو لم ينسها مُوسَى عليه السلام قضى من الْخضر المراما)

(وَلَو لم تنسها الاملاك فِي آدم كَانُوا بهَا اعتصموا اعتصاما)

(وَإِن محارة قد حَار فِيهَا الملائك والكليم وَلنْ يسامى)

(لقاطعة الْقُلُوب حريَّة أَن

يكون الابتداع بهَا حَرَامًا)

(وَلَا تعجب بِفضل الله يَوْمًا

فان الْعجب يورثك السقاما)

(وَكن لنعال خلق الله تربا

إِذا مَا شِئْت للنعمى دواما)

الْوَجْه الرَّابِع

تدبر كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَلا ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى {إِن الَّذين كفرُوا بِآيَاتِنَا سَوف نصليهم نَارا كلما نَضِجَتْ جُلُودهمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيرهَا ليذوقوا الْعَذَاب إِن الله كَانَ عَزِيزًا حكيما} فعقب ذكر هَذَا الْعَذَاب الْعَظِيم بِذكر مُوجبه من عزته وحكمته الَّتِي هِيَ تَأْوِيل الْمُتَشَابه وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه ليبين لَهُم فيضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم}

ص: 199

وَكَذَلِكَ قَالَ عِيسَى عليه السلام {وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} وَلَا يخفى مَا فِي تَأْوِيل الْحَكِيم بالمحكم هُنَا من التعسف الْبَاطِل وَمَا فِي التَّأْوِيل من غير مُوجب من فتح أَبْوَاب الْبدع والمجاهل

وَفِي هَذِه الْآيَات وأمثالها نُكْتَة لَطِيفَة فِي جمعه بَين الْعِزَّة وَالْحكمَة وَذَلِكَ أَن اجْتِمَاعهمَا عَزِيز فِي المخلوقين فان أهل الْعِزَّة من مُلُوك الدُّنْيَا يغلب عَلَيْهِم العسف فِي الاحكام فَبين مُخَالفَته لَهُم فِي ذَلِك فان عَظِيم عزته لم يبطل لطيف حكمته وَرَحمته سُبْحَانَ من لَهُ الْكَمَال الْمُطلق وَالْمجد الْمُحَقق

وَبعد فان اثبات حِكْمَة الله تَعَالَى مَعْلُوم فِي كتاب الله وَسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بَين لَا يدْفع مَكْشُوف لَا يتقنع مدحا وثناء كَمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ النُّصُوص القرآنية والاسماء الْحسنى وأسئلة وجوابات كَمَا تبين فِي قصَّة مُوسَى وَالْخضر وآدَم وملائكة السَّمَوَات أَلا ترى أَنَّك إِذا تَأَمَّلت سُؤال الْمَلَائِكَة وَمَا أُجِيب عَلَيْهِم بِهِ عرفت فِيهِ مَا اتّفق عَلَيْهِ الْعُقَلَاء من تقبيح الشَّرّ الْمَحْض الَّذِي لَا خير فِيهِ وَلَا فِي عواقبه وغاياته دون الشَّرّ المُرَاد لاجل الْخَيْر وَذَلِكَ بَين فِي اظهار الله تَعَالَى لَهُم صَلَاح آدم عليه السلام وَعلمه وتقدمه فِي الْقرب من الله تَعَالَى أَلا ترَاهُ سبحانه وتعالى يَقُول لَهُم بعد بَيَان ذَلِك لَهُم {ألم أقل لكم إِنِّي أعلم غيب السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَأعلم مَا تبدون وَمَا كُنْتُم تكتمون} فَبين لَهُم أَن خلقا فيهم مثل هَذَا العَبْد الصَّالح وَالنَّبِيّ المكلم المقرب الْمُسْتَخْلف الْمعلم لَا يحكم عَلَيْهِ بِأَنَّهُ شَرّ مَحْض وَلَا حِكْمَة فِيهِ وَلَا خير يقْصد بِهِ وَإنَّهُ لَا نَكَارَة فِي شَرّ يكون للخير كالصف للدر والترب للبر والفصاد للعافية وَالْقصاص للحياة وأمثال ذَلِك مِمَّا هُوَ صَحِيح شهير فِي حِكْمَة الْحُكَمَاء وعقول الفطناء

وَلذَلِك قيل أَن الْعَالم كالشجرة وَأهل الْخَيْر مِنْهُم كالثمرة من تِلْكَ الشَّجَرَة وَهُوَ أحد الْوُجُوه فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} أَي ليعبدني العابدون مِنْهُم وَقد جَاءَ نَحْو

ص: 200

ذَلِك فِي حَدِيث الْخَلِيل عليه السلام حِين جعل يَدْعُو عَليّ من رَآهُ يَعْصِي الله فوحي الله اليه يَا إِبْرَاهِيم دع عبَادي فان قصر عبدى مني احدي ثَلَاث اما أَن يَتُوب فأتوب عَلَيْهِ أَو يستغفرني فَأغْفِر لَهُ أَو أخرج من صلبه من يعبدني رَوَاهُ الهيثمي فِي مجمع الزَّوَائِد وَالطَّبَرَانِيّ

فَثَبت أَن الانسان مَا يُؤْتِي فِي توهمه نفي حِكْمَة الله إِلَّا من جِهَة جَهله لقدر علمه وَقدر علم الله تعالي وَإِنَّمَا كره علم الْكَلَام لما يُؤَدِّي اليه الْخَوْض فِيهِ من المحارات وَمُخَالفَة الضرورات أَو المشهورات أَلا تري أَن الْمُتَكَلِّمين لما توغلوا فِي هَذِه المباحث أُدي ذَلِك طَائِفَة مِنْهُم إِلَيّ الْقدح فِي الْحِكْمَة وَطَائِفَة إِلَيّ الْقدح فِي الْقُدْرَة عَليّ هِدَايَة العصاة وَطَائِفَة إِلَيّ الْقدح فِي دوَام الْعَذَاب ورجحت كل طَائِفَة تَأْوِيلهَا

أما غلاة الأشعرية الَّذين قَدَحُوا فِي معني الْحِكْمَة فرجحوا ذَلِك لصعوبة النّظر فِي حِكْمَة الله تعالي فِي جَمِيع الشرور الدُّنْيَوِيَّة والأخروية وَعجز الْعُقُول عَن دَرك ذَلِك وَأما غلاة الْمُعْتَزلَة فرجحوا قدحهم فِي الْقُدْرَة على اللطف أَنه قد خَاضَ فِي أَمر معِين يحْتَمل أَنه محَال وَلَا بُد من اخراج الْمحَال من المقدورات بالاجماع وَإِلَّا أُدي إِلَيّ تجوير قلب الْقَدِيم حَادِثا والحادث قَدِيما وَغير ذَلِك مِمَّا يستقبح ذكره وَقد أَشَارَ الْغَزالِيّ إِلَيّ مثل كَلَامهم فِي شرح الرَّحْمَن الرَّحِيم من الْمَقْصد الأمني

وَأما الأشعرية فقدحوا فِي الْحِكْمَة بأسرها فَكَانَ مَا ذهبت اليه الْمُعْتَزلَة أَهْون من هَذِه الْجِهَة

وَأما ابْن تَيْمِية وَأَصْحَابه فَرَأَوْا أَن الْقدح فِي الْحِكْمَة وَالْقُدْرَة يتَطَرَّق إِلَيّ النَّقْص فِي كَمَال الربوبية وَذَلِكَ يحْتَمل الْكفْر ويضارعه أَو يقرب مِنْهُ وَأما دوَام الْعَذَاب فالقدح فِيهِ عِنْدهم سهل بعد وُرُود الِاسْتِثْنَاء فِي غير آيَة وَحَدِيث وَأثر ومنتهاه تَخْصِيص عُمُوم بِمَا يَقْتَضِي زِيَادَة الرَّحْمَة وَالْحكمَة وَالْعدْل وَالثنَاء

ولي عَليّ الْجَمِيع كَلَام طَوِيل وَقد أَشرت إِلَيّ أَقْوَالهم وشبههم فِي الإجادة بأقصر عبارَة فَقلت فِي ذَلِك شعرًا

ص: 201

(تحير أَرْبَاب النَّهْي مَا المُرَاد بالعصاة

من الْجِنّ وَأَوْلَاد آدم)

(أخيرا أَرَادَ الله بالخلق أَولا

أم الشَّرّ مَقْصُود لَا حكم حَاكم)

(فان كَانَ خيرا هَل يجوز فَوَاته

عَليّ مَالك مَا شَاءَ بِالْغَيْبِ عَالم)

(وَإِن كَانَ شرا هَل أُرِيد لنَفسِهِ

أم الْخَيْر مَقْصُود بِهِ باللوازم)

(وَهل سبق قصد الْخَيْر بِالشَّرِّ يَقْتَضِي

تطابق ذَاك الْقَصْد حكم الْخَوَاتِم)

(وَلما أُتِي ذكر الخلود بناره

عَليّ جوده فِي ذكره والجوازم)

(تعاظم شَأْن الْخلد فِي النَّار كل من

تفكر فِي أَسمَاء رب العوالم)

(فَلَا هُوَ مغلوب وَلَا هُوَ جَاهِل

وَلَا عابث قطعا وَلَا غير رَاحِم)

(فَعَاد إِلَيّ التَّسْلِيم كل مُحَقّق

لما قَالَه فِي الذّكر رب العوالم)

(سَوَاء قضي بالخلد بالنَّار أَو قضي

بِأَن عَذَاب الأشقياء غير دَائِم)

(وَلما أُتِي اسْتِثْنَاؤُهُ فِي كِتَابه

من الْخلد جَهرا فل حد التعاظم)

(وَعَاد مجَال القَوْل فِي ذَاك وَاسِعًا

وَقد كَانَ ضَاقَ الأمرضيق الْخَوَاتِم)

(ورد شكوك الْمُلْحِدِينَ خواسئا

وَمد بحار العارفين الاكارم)

(فَمن قَائِل بالخلد من أجل كَثْرَة

الْوَعيد بِهِ المنزلات القواصم)

(وَمن قَائِل أَن الْخُصُوم مقدم

وساعده أَسمَاء أحكم حَاكم)

(وَثَالِثهَا الْمَنْصُور يرجي لمُسلم

وَمن عاند الاسلام لَيْسَ بسالم)

(وَمن لائم من خَاضَ فِي ذَاك حائر

وَمن وَاقِف فِي ذَاك لَيْسَ بلائم)

(وَمن خائض فِيهِ يكفر خَصمه

عَليّ مثل مَا يَأْتِي فاليس بسالم)

(وَلَا كفر فِي الْأَقْوَال بعد تعَارض

الصوادع فِي تَنْزِيل أعلم عَالم)

(وَلكنه يخشي بتكفير غَيره

يبوء بِهِ أَو باقتراف المآثم)

(فلولا أَرَادَ الله توسيع حكمه

لما خصّه فِي ذكره غير كاتم)

(وَفِي الْجنَّة اسْتثْنِي وَعقبَة بِمَا

يدل عَليّ خلد الْجنان الدوائم)

(عَليّ أَن وصف الْجُود لله دَائِم

ومستلزم قطعا دوَام المكارم)

(وَكَيف يَدُوم الْملك والجود والثنا

وَيَنْقَطِع الْمَعْرُوف فِي قَول عَالم)

(وَجَاءَت أَحَادِيث الصِّحَاح توَافق

الْعُقُول بثنيا الرب أرْحم رَاحِم)

ص: 202

(إِذا وَردت بعد الثَّوَاب فانها

لما زَاد جودا فِي ثَوَاب الاكارم)

(وَإِن وَردت بعد الْوَعيد فانها

لعفو وصفح عَن عِقَاب الجرائم)

(ووافقها فِي الذّكر ذكر زِيَادَة

وَذكر مزِيد فِي النُّصُوص الجوازم)

(وَطول فِي الثَّانِي ايْنَ تيمة فقف

عَليّ علمه فِي كتبه والتراجم)

(وأسنده عَن سِتَّة نَص قَوْلهم

أكَابِر من صحب النَّبِي الاكارم)

(فَلَا تعتقد ان لم يَصح مقالهم

وَبَان ضَعِيفا سَاقِطا كفر عَالم)

(فَمَا هُوَ الا حسن ظن فان يجب

فَمَا ينقص الرَّحْمَن رجوى المراحم)

(وَقَول خَلِيل الله ثمَّ ابْن مَرْيَم

دَلِيل على بطلَان لوم اللوائم)

(وَقد كَاد جلّ الْخلق يكفر ضلة

بذلك لَوْلَا فضل أرْحم رَاحِم)

(فَمن قَاصد تنزيهه لَو رعى لَهُ

من الجبروت الْحق عز التعاظم)

(وَمن قَاصد تَعْظِيمه لَو رعى لَهُ

محامد ممدوح بِأَحْكَم حَاكم)

(وحافظ كل العارفين عَلَيْهِمَا

وَهَذَا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم لقائم)

(وَهَذَا مقَام لَا يخاطر عَاقل

بِهِ وَله قد كَانَ خلق العوالم)

(لتعليل خلق السَّبع والسبع كلهَا

بتعريف وَصفيه قدير وعالم)

(وَإِن مقَاما حَار فِيهِ كليمه

وَلم يسْتَطع صبرا لخير العوالم)

(جدير بتحقيق عَظِيم وريبة

من الْوَهم عِنْد الْجَزْم من كل عَالم)

(ألم تَرَ مَا أدّى اليه الْكَلَام من

فريقيه لما لججوا فِي الخضارم)

(نفوا حِكْمَة الرَّحْمَن فِي الْعدْل والجزا

وَقدرته عَن هدى أَحْقَر ظَالِم)

(فوهى فريق عز أقدر قَادر

ووهى فريق قدس أحكم حَاكم)

(وَذَا عذرهمْ فِي ذِي الْأَقَاوِيل أَنَّهَا

لمنكرة فِي قَول جلّ الأكارم)

(كَأَنَّهُمْ راموا مساعدة النهى

وثلج نفوس بالغيوب هوائم)

(فَلم يَجدوا إِلَّا التأول مخرجا

لاحدى ثَلَاث فِي الْعُلُوم عظائم)

(لحكمة رب الْخلق أَو لاقتداره

على اللطف أَو تخليد أهل الجرائم)

(وَأحسن من ذَا الْوَقْف فِيهِ لقطعنا

جَمِيعًا بِحسن الحكم من خير حَاكم)

(وَذَلِكَ مغن إِذْ سَلامَة جارم

لَدَى الْخَوْف أولى من اصابة جَازَ)

ص: 203

(وأثن وَلَا تستثن شَيْئا من الثنا

ودع بدعا أضحت كأضغاث حالم)

(وَلَا تخش من عجز وَلَا جهل حِكْمَة

وَلَا غيظ مظلوم وَلَا عسف ظَالِم)

(وَلَا أَنه فِي بره غير قَادر

عَزِيز وَلَا فِي عزه غير رَاحِم)

(وَلَا أَنه فِي حكمه غير عَادل

حَكِيم لما لم يعلم الْخلق عَالم) انْتَهَت على الِاخْتِصَار فِي هَذَا الْمُخْتَصر

فَهَذِهِ نبذة مختصرة من أول الاجادة فِي الارادة وَهِي قدر ألف ومائتي بَيت أَو تزيد عَليّ ذَلِك قلتهَا أَيَّام النشاط إِلَيّ الْبَحْث استعظاما لخوف الْوُقُوع فِي الْخَطَأ أَو الْخطر فِي هَذِه الْمَسْأَلَة العظمي فاسأل الله التَّوْفِيق والعصمة مِمَّا خفت مِنْهُ انه حسبي وَنعم الْوَكِيل

وَقد أفردت هَذِه الْمَسْأَلَة فِي مصنفات حافلة مِنْهَا لِابْنِ تَيْمِية وَمِنْهَا لتلميذه شمس الدّين وَمِنْهَا للذهبي وَمِنْهَا لي فَمن أحب الِاسْتِقْصَاء فِي المباحث وقف عَلَيْهَا وَنظر فِيهَا هُنَالك وَالله الْمُوفق وَيَأْتِي فِي الارادة بضعَة عشر وَجها مِمَّا غالبه مَنْصُوص من الحكم الربانية فِي خلق الاشقياء وَكَانَ هَذَا الْموضع يَلِيق بهَا فَلْتنْظرْ هُنَالك فِي الْبَحْث السَّادِس من مبَاحث الارادة

فَهَذَا الْمُعظم المهم مِمَّا خدشت بِهِ الْمَلَاحِدَة فِي الاسلام والمبتدعة فِي حكمه الْملك الحميد الْحَكِيم العلام وَلم يبْق إِلَّا أُمُور يسيرَة مِنْهَا تعلقوا بآلام الاطفال والبهائم وَمن لَا ذَنْب لَهُ وكل مَا أُبِيح فِي الشَّرْع من ذبح الْبَهَائِم وتحميلها وَالْعَمَل بهَا

وَالْجَوَاب عَن ذَلِك كُله هُوَ مَا تقدم من الْبَرَاهِين الصَّحِيحَة على ان الله تَعَالَى حَكِيم عليم بل على انه سبحانه وتعالى أحكم الْحَاكِمين وأرحم الرَّاحِمِينَ

ولعلماء الاسلام فِي هَذَا الْمقَام أجوبة مُخْتَلفَة على حسب قواعدهم وعقائدهم وفطنهم وقرائحهم وَقد رَأَيْت أَن أقتصر هَهُنَا على كَلَام الْغَزالِيّ فِي الْمَقْصد الاسنى لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا ليعرف الاشعري ان جُمْهُور أَصْحَابه على القَوْل بحكمة الله تَعَالَى ان لم يكن ذَلِك اجماع الْمُسلمين وَثَانِيهمَا لحسن عبارَة الْغَزالِيّ فِي الِاسْتِدْلَال وَضرب الامثال فَأَقُول

ص: 204

قَالَ فِي شرح الرَّحْمَن الرَّحِيم من الاسماء الْحسنى مَا لَفظه (سُؤال وَجَوَابه) لَعَلَّك تَقول مَا معنى كَونه رحِيما وأرحم الرَّاحِمِينَ وَالدُّنْيَا طافحة بالامراض والمحن والبلايا وَهُوَ قَادر على ازالة جَمِيعهَا وتارك عباده ممتحنين فجوابك ان الطِّفْل الْمَرِيض قد ترثى لَهُ أمه فتمنعه من الْحجامَة وَالْأَب الْعَاقِل يحملهُ عَلَيْهَا قهرا وَالْجَاهِل يظنّ ان الرَّحِيم هُوَ الام دون الاب والعاقل يعلم ان ايلام الاب بالحجامة من كَمَال رَحمته وان الام عدوله فِي صُورَة صديق فان ألم الْحجامَة الْقَلِيل إِذا كَانَ سَببا للذة الْكَثِيرَة لم يكن شرا بل كَانَ خيرا والرحيم يُرِيد الْخَيْر بالمرحوم لَا محَالة وَلَيْسَ فِي الْوُجُود شَرّ إِلَّا وَفِي ضمنه خير وَلَو رفع ذَلِك الشَّرّ لبطل الْخَيْر الَّذِي فِي ضمنه وَحصل بِبُطْلَانِهِ شَرّ أعظم من الشَّرّ الَّذِي يتَضَمَّن ذَلِك الْخَيْر

قلت وَمَا أبين هَذَا الْمَعْنى فِي كتاب الله تَعَالَى وَلَو لم يرد فِيهِ إِلَّا قَوْله سبحانه وتعالى {وَلَو رحمناهم وكشفنا مَا بهم من ضرّ للجوا فِي طغيانهم يعمهون} وَقَوله تَعَالَى {وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم} وَقَوله تَعَالَى {وَلَو بسط الله الرزق لِعِبَادِهِ لبغوا فِي الأَرْض} وَقَوله تَعَالَى {كلا إِن الْإِنْسَان ليطْغى أَن رَآهُ اسْتغنى} وَقَوله تَعَالَى {ونبلوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْر فتْنَة} وَقَوله تَعَالَى {أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم وَيعلم الصابرين} وَقَوله تَعَالَى فِي تَعْلِيل أَفعاله بالحكم فِي الْآخِرَة {وَلَو ردوا لعادوا لما نهوا عَنهُ} افحاما لسائلي ذَلِك وَمرَّة أجَاب عَلَيْهِم بقوله تَعَالَى {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ}

ص: 205

وَلَا خَفَاء أَن قَوْله حق القَوْل وَاضح فِي مواقفه الْحِكْمَة والا لما كَانَ بَان يحِق أكمل فِي الثَّنَاء على الله تَعَالَى من أَن لَا يحِق فَتَأمل ذَلِك يُوضحهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين} الْآيَة إِلَى سَائِر مَا تقدم فِي هَذَا

قَالَ الْغَزالِيّ وَالْيَد المتأكلة قطعهَا فِي الظَّاهِر وَفِي ضمنه الْخَيْر الجزيل وَهُوَ سَلامَة الْبدن وَلَو ترك قطعهَا لحصل هَلَاك الْبدن وَلَكِن قطعهَا لِسَلَامَةِ الْبدن شَرّ وَفِي ضمنه الْخَيْر لَكِن المُرَاد الأول السَّابِق إِلَى نظر الْقَاطِع هُوَ السَّلامَة الَّتِي هِيَ خير مَحْض وَهِي مَطْلُوبَة لذاتها ابْتِدَاء وَالْقطع مَطْلُوب لغيره ثَانِيًا لَا لذاته فهما داخلان تَحت الارادة لَكِن أَحدهمَا يُرَاد لذاته وَالْآخر يُرَاد لغيره فَالْمُرَاد لذاته قبل المُرَاد لغيره ولاجل ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى {سبقت رَحْمَتي غَضَبي} فغضبه ارادته الشَّرّ وَالشَّر بارادته وَرَحمته ارادته الْخَيْر وَالْخَيْر بارادته وَلَكِن اراد الْخَيْر للخير نَفسه وَأَرَادَ الشَّرّ لَا لذاته فالخير مُقْتَضى بِالذَّاتِ وَالشَّر مُقْتَضى بِالْعرضِ وكل بِقدر وَلَيْسَ ذَلِك مِمَّا يُنَافِي الرَّحْمَة أصلا والآن ان خطر لَك نوع من الشَّرّ لَا ترى فِيهِ خيرا أَو خطر لَك انه كَانَ يُمكن حُصُول ذَلِك الْخَيْر لَا فِي ضمن ذَلِك الشَّرّ فاتهم عقلك الْقَاصِر فِي كلا الطَّرفَيْنِ

أما قَوْلك ان بعض الشَّرّ لَا خير تَحْتَهُ فان هَذَا مِمَّا تقصر الْعُقُول عَن مَعْرفَته مثل أم الصَّبِي الَّتِي ترى الْحجامَة شرا مَحْضا وَمثل الغبي الَّذِي يرى الْقَتْل قصاصا شرا مَحْضا لانه ينظر إِلَى خُصُوص شخص الْمَقْتُول وَأَن الْقَتْل فِي حَقه شَرّ مَحْض وَيذْهل عَن الْخَيْر الْعَام الْحَاصِل للنَّاس كَافَّة وَلَا يدْرِي ان التَّوَصُّل بِالشَّرِّ الْخَاص إِلَى الْخَيْر الْعَام خير مَحْض لَا يَنْبَغِي لحكيم ان يهمله فاتهم خاطرك

وَأما الثَّانِي وَهُوَ قَوْلك انه كَانَ يُمكن تَحْصِيل ذَلِك الْخَيْر لَا فِي ضمن ذَلِك الشَّرّ فان هَذَا أَيْضا دَقِيق فَلَيْسَ كل محَال وممكن مِمَّا يدْرك استحالته وامكانه بالبديهية وَلَا بِالنّظرِ الْقَرِيب بل يعرف ذَلِك بِنَظَر غامض دَقِيق يقصر عَنهُ الاكثرون فاتهم عقلك فِي هذَيْن الطَّرفَيْنِ وَلَا تشكن أصلا فِي

ص: 206

انه تَعَالَى أرْحم الرَّاحِمِينَ وانه تَعَالَى سبقت رَحمته غَضَبه وَلَا تستريبن فِي أَن مُرِيد الشَّرّ للشر أَي لكَونه شرا فَقَط لَا للخير غير مُسْتَحقّ اسْم الرَّحْمَة وَتَحْت هَذَا سر منع الشَّرْع من افشائه فَلَا تطمع فِي الافشاء وَلَقَد نبهت بالايماء وَالرَّمْز ان كنت من أَهله فَتَأمل ارشدك الله

(لقد أسمعت لَو ناديت حَيا

وَلَكِن لَا حَيَاة لمن تنادي) انْتهى كَلَامه

وللشيخ مُخْتَار قريب مِنْهُ فِي كتاب الْمُجْتَبى لَكِن بِغَيْر عِبَارَته بل للامام الْقَاسِم بن ابراهيم عليه السلام نَحْو هَذَا الْمَعْنى فِي الْجَواب على الملحد الْمَعْرُوف بِابْن المقفع فَهَذَا معنى حسن شهد لَهُ الْقُرْآن وَالْحكمَة وَفِي الحَدِيث النَّص أَن كل مَا قَضَاهُ الله تَعَالَى لِلْمُؤمنِ فَهُوَ خير لَهُ مِمَّا يحب أَو يكره رَوَاهُ أَحْمد وَمُسلم بِنَحْوِهِ واعتقاده هَذَا من حسن الظَّن بِاللَّه تَعَالَى وَفِي الحَدِيث ان حسن الظَّن بِاللَّه تَعَالَى هُوَ من حسن الْعِبَادَة وَفِي الصَّحِيح يَقُول الله تَعَالَى انا عِنْد ظن عَبدِي بِي فليظن بِي مَا شَاءَ وَذَلِكَ يُنَاسب قَوْله تَعَالَى {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم} وَهِي الْمُحكم هُنَا وَمَا فِيهِ الْمَدْح من غير ذمّ بالاجماع

وَأما السِّرّ الَّذِي ذكر أَن الشَّرْع منع من افشائه فَلَعَلَّهُ أَرَادَ سَعَة الرَّجَاء لرحمة الله تَعَالَى كَمَا جَاءَ عَن عَليّ عليه السلام لَوْلَا أَخَاف ان تتكلوا عَن الْعَمَل لاخبرتكم بِمَا لكم من الاجر فِي قَتلهمْ يَعْنِي الْجَوَارِح وَفِي حَدِيث معَاذ لاتخبرهم دعهم يعملوا وَقد تبين ان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بَين ذَلِك مرَارًا وَلم يَكْتُمهُ دَائِما وَكثير مِنْهُ فِي كتاب الله تَعَالَى وَاسْتقر الاجماع بعد على تدوينه فِي كتب الاسلام

ثمَّ ان ابْن تَيْمِية وتلميذه ابْن قيم الجوزية قد صنفا فِي هَذَا مصنفات ممتعة وللذهبي مُعَارضَة لَهُم ولي توَسط بَينهم وَالله تَعَالَى يمدنا بهدايته وتوفيقه ولي أَيْضا تَكْمِلَة على كَلَام الْغَزالِيّ هَذَا ومناقشة لَطِيفَة تتَعَلَّق بِآخِرهِ

ص: 207

فِي أَمر مُحْتَمل وَمَا أَظُنهُ أَرَادَ فِيهِ إِلَّا الصَّوَاب وَقد ذكرته فِي العواصم وَنَفسه فِي هَذَا الْمقَام نفس طيب قرآني أثري فَأَيْنَ هُوَ من قَول بعض الْمُتَأَخِّرين عَنهُ من الْمُتَكَلِّمين من أَصْحَابه وَمِمَّنْ كَانَ يظنّ انه أقرب إِلَى السّنة مِنْهُ حَيْثُ قَالَ فِي بعض كتبه مَا لَفظه

فان قَالَ بعض الأشقياء انما فعل ذَلِك ليثيبهم عَلَيْهِ يَعْنِي الآلام والمصائب الَّتِي تصيب الصّبيان وَمن لَا ذَنْب لَهُ

قُلْنَا لَهُ قد ضللت عَن سَوَاء السَّبِيل أما كَانَ فِي قدرَة رب الْعَالمين ان يحسن اليهم عوضا عَن تعذيبهم أه فَانْظُر إِلَى مَا فِي هَذَا الْكَلَام من الْبعد عَن الْقُرْآن وَالسّنة والْآثَار فَأول مَا بَدَأَ بِهِ أَنه سمي الْقَائِل بذلك بعض الأشقياء وَهُوَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تَوَاتَرَتْ عَنهُ بذلك الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الَّتِي لَا يجهل مثلهَا مُمَيّز وَالَّتِي اتّفق أهل الْبَصَر بِهَذَا الشَّأْن على صِحَة طرقها وتواترها ودونوها فِي الصِّحَاح وَالْمَسَانِيد وَكتب الزّهْد وَالرَّقَائِق وَلَيْسَ هِيَ من الْآحَاد بل هِيَ بَاب كَبِير من أَبْوَاب الدّين الَّذِي لم تزل الصَّحَابَة فَمن بعدهمْ من طَبَقَات الْمُسلمين يروونها قرنا بعد قرن يرْوى ذَلِك السّلف للخلف والاكابر للاصاغر ويعزى بِهِ الْعلمَاء أهل المصائب حَتَّى قَالَ الْعَلامَة أَبُو عمر ابْن عبد الْبر فِي هَذَا الْبَاب فِي كِتَابه التَّمْهِيد ان ذَلِك أَمر مجمع عَلَيْهِ وَهِي دَالَّة على حسن التَّعْلِيل بذلك وان لم يرد فِي الْمحل الَّذِي ذكره على انْفِرَاده أَعنِي الصّبيان والبهائم فان الْخصم انما أنكر حسن التَّعْلِيل بذلك وَمَتى صَحَّ التَّعْلِيل بِهِ فِي مَوضِع صَحَّ فِي غَيره وَبَطل قطعه بِبُطْلَانِهِ فَتَأمل ذَلِك فان الْعِلَل الْعَقْلِيَّة لَا تخصص وَلَا تُوجد غير مُؤثرَة مَعَ ان كثيرا من الْأَحَادِيث تعم الصغار والكبار والمكلفين وَغَيرهم ولنذكر من ذَلِك الْيَسِير تَنْبِيها على الْكثير ليعرف الْحَامِل على هَذَا النكير

فَمن ذَلِك مَا خرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَمَالك فِي الْمُوَطَّأ وَأحمد فِي الْمسند وَغَيرهم من حَدِيث عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

ص: 208

لَا تصيب الْمُؤمن شَوْكَة فَمَا فَوْقهَا إِلَّا رَفعه الله بهَا دَرَجَة وَخط عَنهُ بهَا خَطِيئَة هَذَا لفظ مُسلم وَفِيه رِوَايَات كَثِيرَة وروى البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث ابْن مَسْعُود قلت يَا رَسُول الله انك توعك وعكا شَدِيدا قَالَ أجل اني أوعك كَمَا يوعك رجلَانِ مِنْكُم قلت ذَلِك بَان لَك أَجْرَيْنِ قَالَ أجل مَا من مُسلم يُصِيبهُ أَذَى من مرض فَمَا سواهُ الا حط الله سيئاته كَمَا تحط الشَّجَرَة وَرقهَا وَلمُسلم نَحْو من ذَلِك من حَدِيث جَابر وللبخاري وَمُسلم هَذَا الْمَعْنى من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَأبي هُرَيْرَة ولمالك عَن يحيى بن سعيد وروى التِّرْمِذِيّ عَن أنس حديثين وَمتْن أَحدهمَا عَن انس ان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ ان عظم الْجَزَاء مَعَ عظم الْبلَاء وان الله اذا أحب قوما ابْتَلَاهُم فَمن رَضِي فَلهُ الرضى وَمن سخط فَلهُ السخط وَالْآخر لِلتِّرْمِذِي عَن جَابر وَلَفظه يود أهل الْعَافِيَة يَوْم الْقِيَامَة حِين يُعْطي أهل الْبلَاء ثوابهم لَو ان جُلُودهمْ كَانَت قرضت فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ وروى مَالك وَالتِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة وَأَبُو دَاوُد عَن مُحَمَّد بن خَالِد السّلمِيّ عَن أَبِيه عَن جده وَله صُحْبَة وَالتِّرْمِذِيّ عَن مُصعب بن سعيد وَلَفظه أَشد النَّاس بلَاء الانبياء ثمَّ الامثل فالامثل وَمَالك وَالْبُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة وَلَفظه من يرد الله بِهِ خيرا يصب مِنْهُ وَالْبُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة وَلَفظه مَا لعبدي الْمُؤمن عِنْدِي جَزَاء إِذا قبضت صَفيه من أهل الدُّنْيَا ثمَّ احتسبه الا الْجنَّة

وَلِهَذَا الْمَعْنى ثَلَاثَة شَوَاهِد فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {من يعْمل سوءا يجز بِهِ} عَن أبي بكر وَعَائِشَة وَأبي هُرَيْرَة وان كَانَت هَذِه تخْتَص بالمذنبين وَهَذَا فِي جنس الآلام كلهَا وَفِي أَنْوَاعهَا الْخَاصَّة أَحَادِيث كَثِيرَة مثل مَا جَاءَ فِيمَن مَاتَ لَهُ ثَلَاثَة أَوْلَاد لم يبلغُوا الْحِنْث أَو اثْنَان لم تمسه النَّار الا تَحِلَّة الْقسم رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث أَبى سعيدو أبي هُرَيْرَة مَعًا وَالتِّرْمِذِيّ عَن ابْن مَسْعُود وَالْبُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن انس وَالنَّسَائِيّ عَن أبي ذَر وَمَالك عَن النَّضر السّلمِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة وَالتِّرْمِذِيّ عَن ابْن عَبَّاس

فَهَذِهِ نَيف وَعِشْرُونَ حَدِيثا من دواوين الاسلام الْمَشْهُورَة وَفِي فضل الْفقر وأجره خَمْسَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا تركتهَا اختصارا وَفِي سِيَاق الْجَمِيع مَا

ص: 209

يشْهد بَان ذَلِك تَعْلِيل مُنَاسِب للعقول وَلذَلِك قبله أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَلم ينكروه وهم أوفر عقولا وَأَصَح اذهانا وَأسلم من تغير الْفطْرَة الَّتِي فطر الله خلقه عَلَيْهَا وَعند الْخصم ان ذَلِك التَّعْلِيل غير مُنَاسِب وَأَنه ونقيضه سَوَاء مثل أَن يؤلمهم الله فِي الدُّنْيَا ليعاقبهم على آلامهم فِي الْآخِرَة فان اعْترف بِالْفرقِ لزمَه مُنَاسبَة الأول الَّذِي جَاءَت بِهِ السّنة وَتَلَقَّتْهُ الصَّحَابَة بِالْقبُولِ وان ادّعى انهما سَوَاء فقد عاند وجنى على المسموع والمعقول فَكيف يتْرك النّظر فِي ذَلِك كُله عَالم من عُلَمَاء الاسلام ويعارضه بقوله أما كَانَ فِي قدرَة رب الْعَالمين ان يحسن اليهم عوضا عَن تعذيبهم

وَجَوَاب أهل الْحق على من ابتلى بِهَذِهِ الوساوس هُوَ قَوْله تَعَالَى {فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال إِن الله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ} وَذَلِكَ أَن الأنظار الْعَقْلِيَّة انما تورد على الْعِلَل الْعَقْلِيَّة وَأما الْعِلَل السمعية فانها صدرت عَمَّن يعلم مَا لَا نعلم وليت شعري اذا أنكر الْخُصُوم هَذَا الْمَعْنى مَا يكون تَفْسِير الْعلم الَّذِي خص الله تَعَالَى بِهِ الْخضر دون مُوسَى عليهما السلام وَقد أوضح الله تَعَالَى أَنه علم الْحِكْمَة الْخفية فِي مثل ذَلِك

وَقد أجَاب بعض الْمُتَكَلِّمين بِجَوَاب مُنَاسِب فَقَالَ ان الثَّوَاب على هَذِه الاشياء جُزْء من الْحِكْمَة الْمُسَمَّاة بِالْعِلَّةِ فِي عرف الْمُتَكَلِّمين وَلَيْسَ هُوَ كلهَا والجزء الثَّانِي هُوَ الِاعْتِبَار بذلك وَهَذَا معنى مُنَاسِب وَقد ورد مَا يدل عَلَيْهِ من الحَدِيث وَذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْحَافِظ ابْن كثير من طرق فِي خلق آدم من أول الْجُزْء الأول من الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة ان الله لما أخرج ذُرِّيَّة آدم ورآهم آدم رأى فيهم الْغنى وَالْفَقِير وَالصَّحِيح والسقيم فَقَالَ يَا رب هلا سويت بَين ذريتي فَقَالَ تَعَالَى اني أردْت أَن تشكر نعمتي الى غير ذَلِك وَكفى بقوله تَعَالَى {وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم} وَفِي آيَة أُخْرَى {فَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَيجْعَل الله فِيهِ خيرا كثيرا} وَهِي شاهدة لقَوْل أهل المعقولات انه لَا يكون فِي مخلوقات الله تَعَالَى مَا هُوَ شَرّ مَحْض من جَمِيع

ص: 210

الْوُجُوه لَان مَا كَانَ كَذَلِك لم يُمكن تَجْوِيز أَنه خير وَلَا أَن فِيهِ خيرا فَافْهَم ذَلِك

وَفِي الآلام مَا لَا يُحْصى من الالطاف بالمكلفين والتزهيد فِي دَار الْغرُور وَنَعِيمهَا الزائل وَالتَّرْغِيب فِي خير الْآخِرَة الْمَحْض الْخَالِص من المكدرات وتهذيب الاخلاق وَرَحْمَة أهل الْبلَاء والتدريب على الصَّبْر الَّذِي هُوَ أساس الْفَضَائِل وَمَعْرِفَة قدر النعم بالذوق وتخديد الشُّكْر عَلَيْهِ وحسبك فِي ذَلِك قَول الله تَعَالَى {أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم وَيعلم الصابرين} وَفِي ذَلِك من معرفَة الانسان بعجزه وذله وَجمع الْقلب على الله واقباله على الدُّعَاء واللجأ والتضرع ومعرفته باجابة الدُّعَاء وكشف الضّر وَزِيَادَة الْيَقِين بِهِ إِلَى أَمْثَال ذَلِك من الغايات المحمودة والمصالح الْمَقْصُودَة مَا عَرفته الْعُقُول الصَّحِيحَة وقضت بِهِ التجارب الدائمة حَتَّى ذكر صَاحب عوارف المعارف مَا مَعْنَاهُ ان العَبْد مَخْلُوق ليَكُون ملتجئا إِلَى الله سُبْحَانَهُ على الدَّوَام فَمَا دَامَ كَذَلِك فَهُوَ فِي عَافِيَة وَمَتى غفل عَن ذَلِك سَاقه الله إِلَى ذَلِك بِبَعْض المصائب وَذكر فِي مَوضِع آخر أَن سَبَب فَضِيلَة الْفُقَرَاء أَنهم يذوقون الافتقار إِلَى الله تَعَالَى بقلوبهم وان تِلْكَ من أقرب الْمنَازل إِلَى الله تَعَالَى

وروى ابْن قيم الجوزية فِي حادي الْأَرْوَاح ان نَبيا من الْأَنْبِيَاء عليهم السلام رأى مبتلى فَقَالَ اللَّهُمَّ ارحمه فَقَالَ الله تَعَالَى {كَيفَ أرحمه مِمَّا بِهِ أرحمه هم عبَادي ان أَحْسنُوا فَأَنا حبيبهم وان أساؤا فَأَنا طبيبهم ابتليتهم بالمصائب لاطهرهم من المعائب

وَمن ذَلِك الِابْتِلَاء بالايمان وبالثبات عَلَيْهِ عِنْد رُؤْيَة ذَلِك فان ذَلِك يمير الله بِهِ الْخَبيث من الطّيب كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي ابتلاء الْمُسلمين بتحويلهم من اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس إِلَى اسْتِقْبَال الْكَعْبَة وَنجم عَن ذَلِك نفاق بعض الْمُنَافِقين وَنزل قَوْله تَعَالَى} {سَيَقُولُ السُّفَهَاء من النَّاس مَا ولاهم عَن قبلتهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} الْآيَات وَكم عَسى أَن يكْتب الْكَاتِب ويحسب الحاسب من حكم الله سُبْحَانَهُ وفوائده وفوائد أَفعاله الحكيمة وتقديراته اللطيفة فَهَذَا يخرج عَن الْمَقْصُود وَيمْنَع مِمَّا قصدته من الِاخْتِصَار على ان الْمُعْتَرض

ص: 211

لمناسبة هَذِه الْعلَّة الشَّرْعِيَّة والاحاديث النَّبَوِيَّة أَتَى بِمَا يضْحك السامعين وَيُخَالف الاذكياء والبلداء من الْعُقَلَاء أَجْمَعِينَ فَزعم ان الله عذب من لَا ذَنْب لَهُ من الصغار والبهائم بِغَيْر عِلّة وَلَا سَبَب وَلَا حِكْمَة وَلَا دَاع فيا هَذَا الْمُغَفَّل اذا لم يحز على الله الاحسان الْعَظِيم الدَّائِم على سَبَب وَحِكْمَة لم تعقلهما كَيفَ أجزت عَلَيْهِ التعذيب الْعَظِيم بِغَيْر سَبَب وَحِكْمَة واذا أوجبت تَنْزِيه الله تَعَالَى من الاحسان الْعَظِيم الدَّائِم على سَبَب وَحِكْمَة كَيفَ قبحت على غَيْرك تنزيهه من التعذيب الْعَظِيم الدَّائِم بِغَيْر سَبَب وَحِكْمَة واذا اعْترفت ان من اعْترض على الله تَعَالَى فِي الْعَذَاب بِغَيْر ذَنْب فقد زَاد شقاؤه وَعظم بلاؤه فَمن أَبَاحَ لَك اعتراضه فِي أَسبَاب احسانه حِين لم توَافق فهمك الَّذِي اخْتَار نفي الْحِكْمَة عَن جَمِيع الْأَفْعَال الربانية وَجعل كَمَال الْحِكْمَة نقصا وعكسها عكسا فَجعل زينها شَيْئا وحمدها ذما فَكيف اتَّسع عقله لتجويز تَعْذِيب من لَا ذَنْب لَهُ فِي طَبَقَات النيرَان إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ من الْملك الْغَنِيّ الحميد الْمجِيد الْحَكِيم الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَلِيم ثمَّ مَا اتَّسع عقله أَن يعلم ان الله تَعَالَى فِي تَرْتِيب الثَّوَاب على المصائب وَجه حِكْمَة لم يعلمهَا هُوَ ومنتهى مَا فِي الْأَمر أَن تَرْتِيب ذَلِك الثَّوَاب على تِلْكَ المصائب قَبِيح فِي مُنْتَهى معارف الْعُقُول أَو عَبث لَا فِي علم الله تَعَالَى فَهَلا آمَنت بِهِ مَعَ صِحَّته فِي الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول مثل مَا آمَنت بتعذيب ذَنْب من لَا ذَنْب لَهُ مَعَ قبحه فِي الْمَعْقُول وَعدم صِحَّته فِي الْمَنْقُول

وَاعْلَم ان من عَادَة بعض الْمُخَالفين فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَن يوردوا صورا تحسن من الله تَعَالَى وتقبح من عباده ويوهمون بذلك ان هَذَا مَحل النزاع وَلَيْسَ كَذَلِك وَكفى حجَّة على من نَازع فِي هَذَا قصَّة الْخضر ومُوسَى عليهما السلام وَلِهَذَا تَجِد كثيرا من أهل السّنة يظنون ان هَذَا الْقدر هُوَ مَحل النزاع فيرجحون قَول من يَنْفِي التحسين الْعقلِيّ وَلَيْسَ مَحل النزاع الا فِي نفي الْحِكْمَة عَن علم الله تَعَالَى لَا عَن معارف عقول الْعُقَلَاء

وَمن الْخَطَأ الْبَين مَا يَفْعَله كثير من الْمُخَالفين من تَقْدِير صور فِي غَايَة الْقبْح فِي الشَّاهِد ثمَّ تَقْدِير أَن الله يَفْعَلهَا فَيجب تحسينها مِنْهُ لَو فعلهَا وَمَوْضِع الْقبْح بَين فِي وَجْهَيْن أَحدهمَا فِي ضرب الْأَمْثَال لله وَالله تَعَالَى يَقُول

ص: 212

{فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال} وَثَانِيهمَا فِي تَجْوِيز ان الله يفعل تِلْكَ الصُّور الشنيعة الْفَاحِشَة الشناعة وَأَنا أذكر من ذَلِك صُورَة وَاحِدَة قد ختم بهَا هَذَا الشَّيْخ المدقق كَلَامه فَجعل ثَوَاب الله الْعَظِيم على فقر عباده وبلائهم بِمَنْزِلَة رجل يقْلع عَيْني فَقير مِسْكين مجذوم مَقْطُوع الاطراف ليطعمه لقْمَة وَاحِدَة فاساء الْأَدَب وأبطل فِي الْمثل وَللَّه الْمثل الاعلى والأسماء الْحسنى وَالله تَعَالَى جعل ثَوَاب العَبْد على ذهَاب بَصَره الخلود الَّذِي لَا آخر لَهُ فِي نعيم الْجنان الَّذِي لَا مثل لَهُ بِحَيْثُ ان من غمس غمسة وَاحِدَة فِيهِ من أهل الْبلَاء يُقَال لَهُ هَل رَأَيْت بؤسا قطّ فَيَقُول مَا رَأَيْت بؤسا قطّ فَهَذَا فِي أول غمسة كَيفَ فِي الدَّوَام الابدي فِيمَا لَا عين رَأَتْ وَلَا اذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر فِي مقْعد صدق عِنْد مليك مقتدر مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا

وكل عَاقل يشترى هَذَا بَان يقطع إربا أربا فِي كل حِين وَلذَلِك قَالَ الله تَعَالَى {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة} الْآيَة وَورد فِي البُخَارِيّ وَمُسلم عَن أنس أَنه لَا يحب الرُّجُوع الى الدُّنْيَا أحد من أهل الْجنَّة الا الشَّهِيد فانه يحب أَن يعود فَيقْتل عشر مَرَّات لما رأى من عَظِيم الْأجر على الشَّهَادَة وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيث ولوددت أَنِّي أقتل فِي سَبِيل الله ثمَّ أَحْيَا ثمَّ أقتل ثمَّ أَحْيَا ثمَّ أقتل ثمَّ أَحْيَا ثمَّ أقتل رَوَاهُ البُخَارِيّ وَهَذَا لَفظه وَمُسلم وَمَالك وَغَيرهم وَفِي صَحِيح مُسلم ان الله ليغفر للْعَبد بالشربة يشْربهَا فيشكر عَلَيْهَا والأكلة يأكلها فيشكر عَلَيْهَا وَفِيه ان سُبْحَانَ الله نصف الْمِيزَان وَسُبْحَان الله وَالْحَمْد لله يملآن مَا مَا بَين السَّمَوَات والارض

فَهَذَا بعض مَا صَحَّ ويسير من كثير بل قَطْرَة من بحار فضل الله الْعَظِيم الَّذِي لَا يقدر بِمِقْدَار وَلَا تمده لَو كتب الانهار وَلَا الْبحار فَكيف بِقدر لقْمَة وَاحِدَة يطْعمهَا فَقير مِسْكين حيران لقلع عَيْنَيْهِ

وَقد أَجَاد الشَّيْخ مُخْتَار فِي الْمُجْتَبى حَيْثُ أَشَارَ الى الْفرق بَين الْجَزَاء

ص: 213

الْعَظِيم وَغَيره فِي تقبيح هَذِه الامور وتحسينها وَلَو كَانَ يقبل مثل ذَلِك الِاعْتِرَاض على الْعِلَل السمعية وَالْحكم الالهية لَو رد على قَوْله تَعَالَى {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة} وَقيل أما كَانَ فِي قدرَة رب الْعَالمين أَن يدخلهم الْجنَّة عوضا عَن بذلهم أنفسهم وَأَمْوَالهمْ الحقيرة مَعَ انها من مبادي مواهبه وَلَو كَانَ هَذَا من الْعلم الْمَحْمُود لسبق اليه السّلف الَّذين هم خير أمة أخرجت للنَّاس رضي الله عنهم

وَمن ذَلِك احْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون}

وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن أَحدهمَا ان هَذِه الْآيَة فِي اثبات عزة الله تَعَالَى وَهِي كلمة اجماع بَين الْمُسلمين وَالله أعز من أَن يسئل وَلَيْسَ ذَلِك يَقْتَضِي أَنه غير حَكِيم فقد تمدح بِالْعِزَّةِ بل تمدح بسؤاله وعده الصَّادِق لِلْمُتقين حَيْثُ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابه الْمُبين {قل أذلك خير أم جنَّة الْخلد الَّتِي وعد المتقون كَانَت لَهُم جَزَاء ومصيرا لَهُم فِيهَا مَا يشاؤون خَالِدين كَانَ على رَبك وَعدا مسؤولا} فَوَجَبَ الايمان بهما مَعًا فَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم كَمَا جَمعهمَا سبحانه وتعالى كثيرا فِي التمدح بهما معافي غير مَوضِع وَاحِد وَذَلِكَ اشارة الى انهما اخوان لَا يفترقان لَا ضدان لَا يَجْتَمِعَانِ وَلذَلِك بوب البُخَارِيّ عَلَيْهِمَا مجموعين بَابا فِي كتاب التَّوْحِيد من صَحِيحه وَثَانِيهمَا أَن هَذِه الْآيَة فِي الدّلَالَة على بطلَان الشُّرَكَاء الَّذين عبدهم الْمُشْركُونَ وَالْمرَاد انهم يسئلون يَوْم الْقِيَامَة عَن ذنوبهم ويعذبون عَلَيْهَا كَقَوْلِه {وَلَقَد علمت الْجنَّة إِنَّهُم لمحضرون} وَمن كَانَ كَذَلِك فَهُوَ مربوب لَا رب وانما الرب الْحق الَّذِي يسْأَل عباده يَوْم الْقِيَامَة فَيغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء لَا من يخَاف الْعَذَاب وَيُحَاسب أَشد الْحساب وَسِيَاق الْآيَة من أَولهَا وَاضح فِي ذَلِك فالاحتجاج بهَا على نفي الْحِكْمَة غَفلَة عَظِيمَة وانما هِيَ لنفي شريك مغالب يلْزم اظهار الْحِكْمَة ويعاقب على ترك الْبَيَان لَهَا وَنَحْو ذَلِك وَقد أَمر الله سبحانه وتعالى رَسُوله صلى الله عليه وسلم ان يسْأَله الزِّيَادَة من الْعلم وَلم يعلم مُوسَى

ص: 214

على طلب ذَلِك من الْخضر عليهما السلام وَالله يحب أَن يسئل وَمن لم يسْأَل الله يغْضب عَلَيْهِ فَمن سَأَلَ الله من أنبيائه عَن خَفِي حكمته لم يدْخل فِي الْآيَة كَمَا سَأَلَهُ آدم عليه السلام هلآ سويت بَين ذريتي فَقَالَ فعلت ذَلِك لتشكر نعمتي وانما يلام من سَأَلَ اعتراضا أوشكا أَو استبعادا وَالله سُبْحَانَهُ أعلم

وَمن ذَلِك شُبْهَة الثَّلَاثَة الاطفال الَّذين فرضوا أَن أحدهم مَاتَ صَغِيرا فَدخل الْجنَّة وأحدهم كبر ووحد الله وَعَبده وَدخل الْجنَّة وأحدهم كبر وَكفر وَدخل النَّار فَرَأى الصَّغِير منزلَة الْمُؤمن الْكَبِير فَوْقه فِي الْجنَّة فَقَالَ يَا رب هلا بلغتني منزلَة هَذَا فَيَقُول الله تَعَالَى لَهُ اني علمت انك لَو كَبرت كفرت وَدخلت النَّار فَيَقُول الَّذِي فِي النَّار فَهَلا أمتني صَغِيرا وَهَذِه هِيَ مَسْأَلَة خلق الاشقياء بِعَينهَا لَكِن غيروا الْعبارَة فِيهَا

وَالْجَوَاب ان هَذَا التَّقْدِير خطأ فَاحش فان الْعلَّة فِي امانة الصَّغِير لَيْسَ هِيَ علم الله بانه لَو كبر كفر وَلَو كَانَت هَذِه هِيَ الْعلَّة لأمات جَمِيع الْكَفَرَة والاشقياء كلهم صغَارًا بل لما خلقهمْ صغَارًا حَتَّى يميتهم فان ترك خلقهمْ أولى من اسْتِدْرَاك الْفساد بموتهم بعد خلقهمْ وَلَو كَانَت هَذِه هِيَ العلبة لصاحت الوحوش والطيور وَجَمِيع أَنْوَاع الدَّوَابّ وَقَالَت يَا رب هلا جعلتنا من بني آدم ولصاح الْمُؤْمِنُونَ كلهم وَقَالُوا رَبنَا هلآ عصمتنا وبلغتنا مَرَاتِب الْأَنْبِيَاء بل جعلتنا كلنا أَنْبيَاء يُوحى الي كل وَاحِد منا ويسري بِنَا الى السَّمَاء وَقَالُوا جَمِيعًا هلا جعلتنا مَلَائِكَة كراما ولقالت الْأَنْبِيَاء هلا ساويت بَيْننَا فانه نَص انه فضل بعض الرُّسُل على بعض ولقالت مثل ذَلِك الْمَلَائِكَة فانه فضل بَينهم وَلَو انْفَتح هَذَا الْبَاب لاعترض تَفْضِيل يَوْم الْجُمُعَة والعيد وَلَيْلَة الْقدر وَلم تكن هَذِه الْأَوْقَات المخصوصات اولى بذلك من غَيرهَا ولاعترض تَخْصِيص السَّمَوَات باماكنها والارضين بسكانها ولاعترض تَخْصِيص ايجاد الْعَالم وكل فَرد مِمَّن فِيهِ بِوَقْت دون وَقت وَتَخْصِيص جَمِيع مَا فِيهِ بِقدر دون قدر فِي جَمِيع أَفعَال الله تَعَالَى ومقادير الاعمال والاجساد والارزاق وَالنعَم والقوى والالوان والتقديم وَالتَّأْخِير والتقليل والتكثير وَلما انْتهى ذَلِك الى حد وَلَا وقف على مِقْدَار الا والاعتراض فِيهِ قَائِم وَالسُّؤَال عَلَيْهِ وَارِد ولقالت القباح هلا جعلتنا حسانا وَالنِّسَاء هلا جعلتنا رجَالًا وأمثال ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى وَذَلِكَ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى عَدو وجود

ص: 215

شَيْء من الموجودات بل الى اسْتِحَالَة وجود الممكنات من جَمِيع الْمَخْلُوقَات لعدم رُجْحَان وَقت على وَقت وَمَكَان على مَكَان وَقدر على قدر فَيلْحق الْقَادِر حِينَئِذٍ بالعاجز ويتعذر الِاخْتِيَار على جَمِيع المختارين وانتهينا الى مَسْأَلَة لَا تَنْتَهِي لتعارض الدَّوَاعِي المستدعية للْوَقْف وَترك جَمِيع الْأَفْعَال وَهَذَا خُرُوج من الْمَعْقُول فان العاطش الجيعان لَو حضر عِنْده كيزان كَثِيرَة ورغفان كَثِيرَة وَهُوَ لَا يَأْكُل معتذرا بَان الدَّوَاعِي الى تَخْصِيص كل كوز وكل رغيف تَعَارَضَت عَلَيْهِ حَتَّى لم يتَمَكَّن من الاكل وَالشرب وَدفع الضَّرَر الْعَظِيم لعد من المجانين

وَالْجَوَاب عَن هَذِه الوساوس ان الله يخْتَص برحمته من يَشَاء وانه فِي ذَلِك الْعَلِيم الْحَكِيم الْخَبِير الْبَصِير وَمَتى دعت الْحِكْمَة الى أحد الامرين المستويين بَادر جَمِيع الْعُقَلَاء الى تَخْصِيص أَحدهمَا محمودين على ذَلِك غير ملومين سَوَاء كَانَ ذَلِك التَّخْصِيص مُسْتَندا الى مُرَجّح خَفِي أم الى الْحِكْمَة الاولى

وَمن ذَلِك الحَدِيث المقلوب الَّذِي خرجه البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد فِي الْبَاب الْخَامِس وَالْعِشْرين فِي قَوْله عز وجل {إِن رَحْمَة الله قريب من الْمُحْسِنِينَ} فانه خرج فِيهِ عَن عبَادَة حَدِيثا مَرْفُوعا انما يرحم الله من عباده الرُّحَمَاء وَحَدِيث انس مَرْفُوعا ليصيبن أَقْوَامًا سفع من النَّار بذنوب أصابوها ثمَّ يدخلهم الله الْجنَّة بِفضل رَحمته ثمَّ أَرَادَ تَأْكِيد هذَيْن الْحَدِيثين فِي رَحْمَة الله تَعَالَى بِحَدِيث ثَالِث لابي هُرَيْرَة وَقد رَوَاهُ على الصَّوَاب قبل هَذَا الْموضع من طَرِيق اتّفق على صِحَّتهَا هُوَ وَمُسلم وَغَيرهمَا ثمَّ جَاءَ بِهِ فِي هَذَا الْموضع من طَرِيق أُخْرَى لم يُوَافقهُ عَلَيْهَا مُسلم وَلَا غَيره من أهل السّنَن وانما أَرَادَ تَقْوِيَة أصل الحَدِيث وَمَا فِيهِ من معنى الرَّحْمَة الْمُتَّفق عَلَيْهَا فَقَالَ حَدثنَا عبيد الله بن سعيد قَالَ حَدثنَا يَعْقُوب يَعْنِي ابْن ابراهيم بن سعد الزُّهْرِيّ قَالَ حَدثنَا أبي عَن صَالح بن كيسَان عَن الاعرج عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ اختصمت الْجنَّة وَالنَّار الى ربهما فَقَالَت الْجنَّة يَا رب مَالهَا لَا يدخلهَا الا ضعفاء النَّاس وَسَقَطهمْ وَقَالَت النَّار فَقَالَ للجنة أَنْت رَحْمَتي وَقَالَ للنار أَنْت عَذَابي أُصِيب بك من أَشَاء وَلكُل وَاحِدَة مِنْكُمَا ملؤُهَا

ص: 216

قَالَ فاما الْجنَّة فان الله لَا يظلم من خلقه أحدا وانه ينشئ للنار من يَشَاء فيلقون فِيهَا فَتَقول هَل من مزِيد ثَلَاثًا حَتَّى يضع قدمه فِيهَا فتمتلئ وَيرد بَعْضهَا الى بعض وَتقول قطّ قطّ قطّ فَهَذَا حَدِيث مقلوب انْقَلب على بعض رُوَاته كَمَا خرج مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي ذَلِك السَّبْعَة الَّذين يظلهم الله بِظِل عَرْشه يَوْم الْقِيَامَة يَوْم لَا ظلّ الا ظله فَذكر مِنْهُم رجلا تصدق بِصَدقَة فأخفاها حَتَّى لَا تعلم يَمِينه مَا تنْفق شِمَاله خرجه مُسلم وانما انْقَلب على بعض الروَاة وَصَوَابه مَا خرجاه مَعًا عَن أبي هُرَيْرَة فِي هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه وَرجل تصدق بِصَدقَة فأخفاها حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تنْفق يَمِينه فَحكم كل عَارِف بانقلابه لما اتفقَا عَلَيْهِ فِي ذَلِك ولانه الْمُنَاسب فان الْيَمين هِيَ المنفقة فخرجه مُسلم كَذَلِك لتقوى أصل الحَدِيث بِهَذَا الاسناد لَا لكَونه ظن صِحَة هَذَا الْمَتْن المقلوب مَعَ مُخَالفَته للمنقول والمعقول وَلم يتهم أحد مُسلما بِجَهْل ذَلِك

وَكَذَلِكَ حَدِيث الْجنَّة وَالنَّار فانهما اتفقَا على اخراجه على الصَّوَاب من حَدِيث عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن همام بن مُنَبّه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تَحَاجَّتْ النَّار وَالْجنَّة فَقَالَت النَّار أُوثِرت بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ وَقَالَت الْجنَّة مَا لي لَا يدخلني الا ضعفاء النَّاس وَسَقَطهمْ فَقَالَ الله تَعَالَى للجنة انت رَحْمَتي أرْحم بك من أَشَاء من عبَادي وَقَالَ للنار أَنْت عَذَابي أعذب بك من أَشَاء من عبَادي وَلكُل وَاحِدَة مِنْكُمَا ملؤُهَا فَأَما النَّار فَلَا تمتلئ حَتَّى يضع رجله فَتَقول قطّ قطّ قطّ فهنالك تمتلئ ويزوي بَعْضهَا الى بعض وَلَا يظلم الله من خلقه أحدا وَأما الْجنَّة فان الله ينشئ لَهَا خلقا خرجه البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير فِي تَفْسِير ق وَمُسلم فِي صفة النَّار نَعُوذ بِاللَّه مِنْهَا وَفِي صفتهَا خرج مُسلم حَدِيث أنس وَالْبُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد فِي الْبَاب السَّابِع مِنْهُ فِي قَول الله عز وجل {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} فَخرج مِنْهُ حَدِيث شُعْبَة وَسَعِيد بن أبي عرُوبَة كِلَاهُمَا عَن قَتَادَة عَن أنس قَالَ لَا يزَال يلقى فِيهَا وَهِي تَقول هَل من مزِيد حَتَّى يضع فِيهَا رب الْعَالمين قدمه فيزوي بَعْضهَا الى بعض ثمَّ تَقول قد قد بعزتك وكرمك وَلَا تزَال الْجنَّة تفضل حَتَّى ينشئ الله لَهَا خلقا فيسكنهم الله فضل الْجنَّة هَذَا لفظ البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد وَرَوَاهُ مُسلم من طَرِيق سعيد عَن قَتَادَة بِمثلِهِ الا

ص: 217

انه قَالَ قطّ قطّ ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق أُخْرَى فَقَالَ نازهير بن حَرْب ناعفان ناحماد يَعْنِي ابْن سَلمَة ناثابت قَالَ سَمِعت أنسا يَقُول عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ يبقي من الْجنَّة مَا شَاءَ الله ان يبْقى ثمَّ ينشئ الله لَهَا خلقا مِمَّا يَشَاء وَخرج مُسلم أصل الحَدِيث من طَرِيق أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي مُحَاجَّة الْجنَّة وَالنَّار الى قَوْله لكل وَاحِدَة مِنْكُمَا ملؤُهَا فَلم يذكر مَا بعده من الزِّيَادَة

فقد تبين بِهَذَا ان حَدِيث ابراهيم بن سعد عَن صَالح بن كيسَان عَن الاعرج عَن أبي هُرَيْرَة حَدِيث مُنْقَلب لم يُتَابع عَلَيْهِ فَأَما أَبُو هُرَيْرَة فقد تخلص من الْوَهم بِرِوَايَة الثِّقَات للْحَدِيث عَنهُ على الصَّوَاب وَكَذَلِكَ الاعرج قد خرجه عَنهُ مُسلم من طَرِيق أبي الزِّنَاد عَن أبي هُرَيْرَة بِغَيْر ذكره لتِلْك الزِّيَادَة الْمُنكرَة وَأَبُو الزِّنَاد فِي الْأَعْرَج من ابراهيم فانه رَاوِيه الْمَشْهُور وَفِي كتب الْجَمَاعَة السِّتَّة عَنهُ قدر ثَلَاثمِائَة حَدِيث وَلَيْسَ لابراهيم عَن صَالح عَنهُ الا سَبْعَة أَحَادِيث لم يتَّفقَا على وَاحِد مِنْهَا خرج البُخَارِيّ ثَلَاثَة مِنْهَا أَحدهَا فِي الابراد بِالصَّلَاةِ فِي شدَّة الْحر وَهُوَ مَعْرُوف من غير طَرِيقه وَالثَّانِي لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تقاتلوا التّرْك وَهُوَ كَذَلِك وَالثَّالِث هَذَا الحَدِيث وَغَيره فِيهِ أثبت مِنْهُ وأحفظ لَهُ كَمَا نبين لَك ان شَاءَ الله وَأما مُسلم فَلم يخرج لَهُ عَن صَالح عَن الاعرج الا فِي الْفَضَائِل ثَلَاثَة أَحَادِيث وَالسَّابِع من هَذِه التَّرْجَمَة خرجه ابْن ماجة فِي رفع الْيَدَيْنِ عِنْد التَّكْبِير وَهُوَ مَعْرُوف

وَقد ذكر ابْن حجر ابراهيم بن سعد فِيمَن اخْتلف فِيهِ من رجال البُخَارِيّ وَحكى بعد توثيقه عَن ابْن عدي انه رُوِيَ عَن عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل عَن أَبِيه انه ذكر ابراهيم بن سعد عِنْد يحيى بن سعيد فَجعل يَقُول ابراهيم بن سعد كَأَنَّهُ يُضعفهُ وَقَالَ ابْن عدي كَلَام من تكلم فِيهِ تحامل فَأفَاد انه قد تكلم فِيهِ وَقَالَ ابْن دارة كَانَ صَغِيرا حِين سمع من الزُّهْرِيّ فَهَذَا مَا ذكره ابْن حجر فِي تَرْجَمته وَلم يذكرهُ الذَّهَبِيّ فِي الْمِيزَان والاعلال وَالْحكم بالانقلاب والادراج وَنَحْو ذَلِك لَا يخْتَص بالضعفاء بل يجوز الحكم بِهِ بمخالفة الاوثق والاكثر مَعَ الْقَرَائِن وَقد اجْتمع ذَلِك كُله بل ذكر ابْن قيم الجوزية فِي حادي الارواح ان ذَلِك من المقلوب وان البُخَارِيّ قد نبه

ص: 218

على ذَلِك قَالَ وَالرِّوَايَات الصَّحِيحَة وَنَصّ الْقُرْآن يردهُ فان الله تَعَالَى أخبر أَنه يمْلَأ جَهَنَّم من إِبْلِيس وَأَتْبَاعه وَأَنه لَا يعذب الا من قَامَت عَلَيْهِ الْحجَّة وَكذب رسله قَالَ تَعَالَى {كلما ألقِي فِيهَا فَوْج سَأَلَهُمْ خزنتها ألم يأتكم نَذِير قَالُوا بلَى قد جَاءَنَا نَذِير فكذبنا وَقُلْنَا مَا نزل الله من شَيْء}

قلت وَيدل على هَذَا وُجُوه مِنْهَا ان رَاوِي هَذَا الحَدِيث المقلوب جعل تَنْزِيه الله تَعَالَى من الظُّلم عِنْد ذكره الْجنَّة فأوهم بذلك ان من أدخلهُ الله تَعَالَى الْجنَّة بِغَيْر عمل كَانَ ظلما وَهَذَا من أفحش الْخَطَأ فان الْحور الْعين فِي الْجنَّة والاطفال بِغَيْر عمل وَهَذَا هُوَ الْموضع الَّذِي لَا يُسمى ظلما عِنْد أحد من الْمُسلمين وَلَا من الْعُقَلَاء أَجْمَعِينَ وَلَا أَشَارَ الى ذَلِك شَيْء من الحَدِيث وَلَا من السّنة وَلَا من اللُّغَة وَلَا من الْعرف وانما ذكر هَذَا فِي النَّار اشارة الى أَن التعذيب بِغَيْر ذَنْب هُوَ شَأْن الظَّالِمين من الْخلق وَالله تَعَالَى حرم الظُّلم على نَفسه وَجعله بَين خلقه محرما كَمَا رَوَاهُ أَبُو ذَر عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن ربه عز وجل فِي الحَدِيث الصَّحِيح بل كَمَا تمدح بذلك رب الْعَالمين فِي كِتَابه الْمُبين

الْوَجْه الثَّانِي انه قصر فِي سِيَاقه الْمَتْن فَقَالَ وَقَالَت النَّار وَلم يذكر مَا قَالَت وَلَا سكت من قَوْله قَالَت قَالَ ابْن بطال فِي شَرحه وَهُوَ كَذَلِك فِي جَمِيع النّسخ وَذكر هَذَا الرَّاوِي قَول الله تَعَالَى للجنة أَنْت رَحْمَتي وَلم يتمم قَوْلهَا لَهَا أرْحم بك من أَشَاء من عبَادي وَالنَّقْص فِي الْحِفْظ والركة فِي الرِّوَايَة بَين على حَدِيثه

الْوَجْه الثَّالِث تجنب الْمُحدثين لاخراج هَذِه الرِّوَايَة مثل مُسلم وَالنَّسَائِيّ مَعَ روايتهما الحَدِيث وَمثل أَحْمد بن حَنْبَل فِي مُسْنده مَعَ توسعه فِيهِ وَكَذَلِكَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي جمعه أَحَادِيث البُخَارِيّ وَمُسلم ومسند أَحْمد وَكَذَلِكَ ابْن الاثير فِي جَامع الاصول وَهُوَ يعْتَمد الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ للحميدي والْحميدِي انما يتْرك مَا لَيْسَ على شَرط البُخَارِيّ مِمَّا ذكره فِي صَحِيحه مثل حَدِيث الْفَخْذ عَورَة فانه ترك ذكره لذَلِك كَمَا ذكر ابْن الصّلاح فِي عُلُوم

ص: 219

الحَدِيث والامر أوضح من أَن يطول فِي بَيَانه وانما ذكرت هَذَا لَان صَاحب الْقَوَاعِد احْتج بِهِ وَنسبه الى الصَّحِيح وَلم يذكر فِيهِ شَيْئا أصلا وَكَذَلِكَ الْمُهلب فَعرفت انهما قد غَلطا فِي ذَلِك كَيفَ من هُوَ أقل معرفَة مِنْهُمَا بِسَبَب ذكره فِي صَحِيح البُخَارِيّ وَقد رأى ذكره فِي صَحِيح البُخَارِيّ

وَقد ذكر ابْن الصّلاح وَغَيره ان فِي البُخَارِيّ أَحَادِيث كَثِيرَة على غير شَرطه وَلَا شَرط غَيره من أهل الصَّحِيح وان ذَلِك مَعْلُوم وَذكر من ذَلِك حَدِيث بهز بن حَكِيم فِي ان الْفَخْذ عَورَة وَقد ذكر غَيره من ذَلِك شَيْئا كثيرا فقد ذكر ابْن حجر فِي مُقَدّمَة شرح البُخَارِيّ بعض مَا اعْترض على البُخَارِيّ فَذكر مائَة حَدِيث وَعشرَة أَحَادِيث وانما قلت انه الْبَعْض لانه ذكر ان من ذَلِك عنعنة المدلسين الَّتِي فِي الصَّحِيح وَأَحَادِيث الرِّجَال الْمُخْتَلف فيهم وَذَلِكَ شئ كثير

الْوَجْه الرَّابِع انه قد ثَبت بالنصوص والاجماع ان سنة الله تَعَالَى انه لَا يعذب أحدا بِغَيْر ذَنْب وَلَا حجَّة كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} وَقَالَ {لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} وَقَالَ تَعَالَى {ذكرى وَمَا كُنَّا ظالمين} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ لَا أحد أحب اليه الْعذر من الله من أجل ذَلِك أرسل الرُّسُل وَأنزل الْكتب وَمن جحدان هَذِه سنة الله فقد جحد الضَّرُورَة وَإِذا تقرر أَنَّهَا سنة الله تَعَالَى فقد قَالَ تَعَالَى {وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا} {وَلنْ تَجِد لسنة الله تحويلا} وَقَالَ تَعَالَى {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} وَأحسن مَا أنزل الله الينا هُوَ الثَّنَاء عَلَيْهِ وتسبيحه وتقديس أَفعاله وأقواله من جَمِيع صِفَات النَّقْص فَكيف يعدل عَن هَذَا كُله مَعَ مُوَافقَة الرِّوَايَة الصَّحِيحَة لَهُ إِلَى رِوَايَة سَاقِطَة مغلوطة مَقْلُوبَة زل بهَا لِسَان بعض الروَاة كَمَا زل لِسَان الَّذِي اراد أَن يَقُول اللَّهُمَّ أَنْت رَبِّي وَأَنا عَبدك فغلط من شدَّة الْفَرح بِوُجُود رَاحِلَته عَلَيْهَا طَعَامه وَشَرَابه بعد الْيَأْس كَمَا ورد فِي الْأَحَادِيث الصِّحَاح وَلَو كَانَ

ص: 220

الْغَلَط يحكم بِهِ لوَجَبَ كفر ذَلِك الغالط وتكفيرنا لَهُ لأجل غلطه وَعَكسه مَا أَرَادَ ونجعله مذهبا لَهُ

الْوَجْه الْخَامِس أَنه لَو قدر مَا لَا يتَقَدَّر من وُرُود حَدِيث صَحِيح بذلك الْغَلَط لم يدل على مُخَالفَة جَمِيع مَا عَارضه من الْأَدِلَّة القاطعة والحجج الساطعة لِأَنَّهُ مُحْتَمل لموافقتها فانه لم يُصَرح فِيهِ بِأَنَّهُ ينشيء للنار خلقا لَا ذنُوب لَهُم وَلَا قَالَ فيدخلهم النَّار قبل أَن يذنبوا ويستحقوا الْعَذَاب وَإِذا لم ينص على ذَلِك وَجب تَقْدِير ذَلِك لموافقة سنة الله تَعَالَى الَّتِي لَا تَبْدِيل لَهَا وَلَا تَحْويل وَذَلِكَ على أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن يكون هَؤُلَاءِ الَّذين أنشأهم الله لَهَا هم قوم من كفار بني آدم الَّذين تقدم كفرهم وَقدم ادخارهم لَهَا بعد كفرهم وسمى اعادتهم لَهَا انشاء لِأَنَّهَا انشاء حَقِيقِيّ لصورهم وردهم على مَا كَانُوا أَو لِأَنَّهُ كَانَ قد أعدمهم وَهَذَا اخْتِيَار كثير من أهل السّنة بل من الأشعرية فقد نَص عَلَيْهِ ابْن بطال فِي شرح البُخَارِيّ فِي شرح هَذَا الحَدِيث فَأصَاب فِي وَجه وَأَخْطَأ فِي وَجه أما صَوَابه فَفِي تنزيهه الله تَعَالَى مِمَّا توهمه غَيره جَائِزا على الله سُبْحَانَهُ وَأما خطأه فَفِي إيهامه أَن الحَدِيث صَحِيح وَهُوَ مقلوب بِغَيْر شُبْهَة وَإِنَّمَا خَفِي ذَلِك عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يكن من أَئِمَّة الحَدِيث وَإِنَّمَا كَانَ من عُلَمَاء الْفِقْه وَالْكَلَام وَإِمَّا أَن يكون الله تَعَالَى خلق للنار خلقا مستأنفا فكلفهم بعد خلقهمْ فَكَفرُوا فاستحقوها كَمَا ورد فِي بعض أَحَادِيث الاطفال وَفِي هَذَا مبَاحث قد استوفيت هُنَالك وَإِمَّا أَن يكون خلق لَهَا خلقا لَا يتألم بهَا أَو يتلذذ بهَا أَو من الجمادات كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة} وَجَاء فِيهَا بضمير الْعُقَلَاء لأَنهم بدل مِنْهُم كَمَا قَالَ يُوسُف عليه الصلاة والسلام {إِنِّي رَأَيْت أحد عشر كوكبا وَالشَّمْس وَالْقَمَر رَأَيْتهمْ لي ساجدين} أَو لغير ذَلِك وَمَعَ الِاحْتِمَال بعض هَذِه الْوُجُوه فِي بَيَان غلط بعض الروَاة الَّذِي قَامَت الْأَدِلَّة على غلطه كَيفَ يعدل إِلَى ظَاهره وَيُسمى صَحِيحا ويحتج بِهِ مثل الْمُهلب وَصَاحب الْقَوَاعِد وَغَيرهمَا فَالله الْمُسْتَعَان

ص: 221

وَمن ذَلِك قَالُوا الاسباب والدواعي خلق الله فَلَو كَانَ الله لَا يفعل إِلَّا لَهَا لم يخلقها إِلَّا لمثلهَا دَاع وَسبب وَأدّى هَذَا إِلَى التسلسل أَو إِلَى تعجيز الله تَعَالَى من خلق شَيْء بِغَيْر دَاع

وَالْجَوَاب أَن هَذَا من أفحش الْوَهم والغلط فان الْمرجع بالأسباب والدواعي وَالْحكم إِلَى الله تَعَالَى بذلك وَمَا كَانَ من الْمَخْلُوقَات خيرا مَحْضا فانه يُرَاد خلقه لنَفسِهِ لَا لِمَعْنى آخر وَلَا لسَبَب ثَان وَمَا كَانَ شرا فانه يُرَاد لخير فِيهِ أَو خير يستلزمه أَو يتعقبه لما اجْتمعت عَلَيْهِ الْفطر وأقرته الشَّرَائِع من قبح ارادة الشَّرّ لكنه شرا وَأما تعجيز الرب عز وجل فأعظم فحشا فِي الْوَهم وَأَيْنَ نفى الْقُدْرَة من نفي الْفِعْل وَقد نبه الله تَعَالَى على ذَلِك بقوله تَعَالَى {بِيَدِهِ الْملك وَهُوَ على كل شَيْء قدير} وَلم يقل وَهُوَ لكل شَيْء فَاعل فَنحْن لم نقل أَن الله لَا يقدر على الْعَبَث وَلَا اللّعب وَلَا الظُّلم وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنه لَا يَفْعَلهَا ومدحناه بذلك كَمَا مدح بِهِ نَفسه فِي كِتَابه الْكَرِيم وَلَو لم يكن قَادِرًا على ذَلِك لم يكن ممدوحا بِتَرْكِهِ كَمَا أَن الجمادات غير ممدوحة بترك ذَلِك وَهِي لَا تَفْعَلهُ وَإِنَّمَا لم تمدح بِتَرْكِهِ مَعَ عدم فعلهَا لَهُ لعجزها عَن فعله وَتَركه وَهَذَا شَيْء تفهمه الْعَرَب فِي جَاهِلِيَّتهَا والعوام فِي أسواقها وباديتها وَالْعجب من قوم ادعوا كَمَال الْمعرفَة بالحقائق والغوص على لطائف الدقائق ثمَّ عموا أَو تعاموا عَن هَذِه الْأَحْكَام الظَّاهِرَة والأدلة الباهرة نسْأَل الله الْعَافِيَة لنا وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين

وَأما بَيَان أَن القَوْل بحكمة الله تَعَالَى أحوط فِي الدّين من النَّفْي لَهَا والتأويلات المتعسفة فَلَا شكّ فِيهِ لوجوه

الْوَجْه الأول أَن وصف الله تَعَالَى بالحكيم مَعْلُوم ضَرُورَة من الدّين متكرر النَّص عَلَيْهِ فِي كتاب الله تَعَالَى تَكْرَارا كثيرا وَمَعْلُوم أَن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه وَالسَّلَف الْمجمع عَلَيْهِم مَا تأولوه وَمَعْلُوم تمدحه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

ص: 222

بالحكمة كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَلَقَد جَاءَهُم من الأنباء مَا فِيهِ مزدجر حِكْمَة بَالِغَة فَمَا تغن النّذر} وأمثالها وَهِي مَانِعَة من تأويلهم الْحَكِيم بِأَنَّهُ ذُو الْأَحْكَام فِي الْمَخْلُوقَات لَا ذُو الْحِكْمَة فِيهَا وَلَا شكّ أَن إِثْبَات الْحَكِيم بِأَنَّهُ ذُو الْأَحْكَام فِي الْمَخْلُوقَات لَا ذُو الْحِكْمَة فِيهَا وَلَا شكّ أَن إِثْبَات الْأَحْكَام لَهَا وَالْحكمَة فِيهَا أَكثر مدحا وَأَنه تَعَالَى أولى بِكُل مدح

الْوَجْه الثَّانِي أَنه لَا بِدعَة فِي إِثْبَات الْحِكْمَة لله تَعَالَى وَعدم تَأْوِيل الْحَكِيم بالاجماع لِأَن الْبِدْعَة احداث مَا لم يعْهَد فِي عصر النُّبُوَّة وَالصَّحَابَة وَمَا كَانَ مَنْصُوصا فِي كتاب الله تعالي فَهُوَ مَوْجُود فِي عصرهم ضَرُورَة وَإِنَّمَا الَّذِي لم يُوجد فِي عصرهم نفي ذَلِك أَو تَأْوِيله وَالْقَوْل بِأَنَّهُ صفة ذمّ أَو يسْتَلْزم ذَلِك

الْوَجْه الثَّالِث أَنه يخَاف الْكفْر بجحد ذَلِك لما قَرَّرْنَاهُ من أَنه مَعْلُوم ضَرُورَة وَكَذَلِكَ يخَاف الْكفْر فِي تَأْوِيله وَإِن كُنَّا لَا نكفرهم احْتِيَاطًا للاسلام وَأَهله لما سَيَأْتِي ولمعارضة الْأَدِلَّة الْمُوجبَة لاسلامهم كَمَا تقدم وَلِأَن قصدهم إِنَّمَا هُوَ حسم مواد الِاعْتِرَاض عَليّ الله تعالي لكِنهمْ أساؤا النّظر بِالْتِزَام مثل مَا فروا مِنْهُ وَأما القَوْل بذلك فَلَا وَجه لخوف الْكفْر فِيهِ أبدا حتي عِنْد نفاة الْحِكْمَة لِأَن الْكفْر هُوَ جحد الضرورات من الدّين أَو تَأْوِيلهَا وَلم تأت فِي نَفيهَا آيَة قرآنية وَلَا حَدِيث آحادي فضلا عَن متواتر وَأما مُخَالفَة غلاة الْمُتَكَلِّمين فِي دقائقهم فَلم يقل أحد أَنَّهَا كفر وَإِلَّا لوَجَبَ تَكْفِير أَكثر أهل الاسلام بل خَيرهمْ

وَإِنَّمَا أوضحت هَذَا لأتي بنيت هَذَا الْكتاب عَليّ لُزُوم الْأَحْوَط فِي الدّين مهما وجدت اليه سَبِيلا وَترك كل مَا يخَاف من القَوْل بِهِ الْعَذَاب أجارنا الله تعالي مِنْهُ وَعلي تَقْدِيم عبارَة الْقُرْآن وَنَصه وَلَفظه لقَوْله تعالي {إِن هَذَا الْقُرْآن يهدي للَّتِي هِيَ أقوم} وَقَوله تعالي {اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء} وَلِأَنَّهُ {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد}

ص: 223

وَلِأَنَّهُ أشرف وأبرك وَأَصَح وأنجي وأولي وأحري وأعلي وأهدي بالاجماع

فان قبل تَجْوِيز بعض مَا يستقبح فِي عقول الْعُقَلَاء لحكمة لَا يعلمونها يسْتَلْزم تَجْوِيز بعثة الْكَذَّابين وَالْكذب وَالْخلف فِي الْوَعْد والوعيد وَنَحْو ذَلِك لحكمة لَا يعلمهَا إِلَّا الله تعالي

قُلْنَا هَذَا مَمْنُوع لوَجْهَيْنِ الْوَجْه الاول أَن تقبيح الْعُقُول يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ ضَرُورِيّ وظني وَنحن مَا جَوَّزنَا أَن يصدر من الله تَعَالَى كل قَبِيح على الاطلاق لحكمة خُفْيَة إِنَّمَا جَوَّزنَا ذَلِك فِي الْقسم الَّذِي التقبيح فِيهِ ظَنِّي يَقع فِي مثله الِاخْتِلَاف بَين الْجَاهِل والعالم وَبَين الْعَالم والاعلم وَلَا شكّ أَن اخْتِيَار الْكَذِب وَبَعثه الْكَذَّابين بالمعجزات وَالْخلف فِي الْوَعْد بِالْخَيرِ مِمَّن هُوَ على كل شَيْء قدير وَبِكُل غيب عليم وترجيحه على الصدْق وبعثة الصَّادِقين مَعَ أَن قدرته عَلَيْهِمَا على السوَاء قَبِيح قبحا ضَرُورِيًّا قبحا أَشد الْقبْح فِي عقول الْعُقَلَاء أما أَن لم يجوز فِي ذَلِك خير فَظَاهر وَأما أَن جوز فِيهِ شَيْء من الْخَيْر فَلَا شكّ أَن الصدْق وبعثة الصَّادِقين أَكثر خيرا ودفعا للْفَسَاد والمفاسد وجلبا للصلاح والمصالح وتجويز خلاف ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى أَن لَا يوثق لله تَعَالَى بِكَلَام وَلَا لأحد من رسله الْكِرَام فِي دين وَلَا دنيا وَلَا جد وَلَا هزل وَلَا حَلَال وَلَا حرَام وَلَا وعد وَلَا وَعِيد وَلَا عهد وَلَا عقد وَلَا أعظم فَسَادًا مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى هَذَا بِحَيْثُ أَن كثيرا من السُّفَهَاء والظلمة والمفسدين لَا يرضون لنفوسهم بِمثل ذَلِك

الْوَجْه الثَّانِي إِن الَّذِي يحسن حِينَئِذٍ لبَعض القبائح لبَعض الْعُقَلَاء إِنَّمَا هُوَ الِاضْطِرَار إِلَى عدم الْخَلَاص من أحد قبيحين فيختار حِينَئِذٍ الأهون مِنْهُمَا قبحا كَمَا قيل حنانيك بعض الشَّرّ أَهْون من بعض مِثَاله من لم يسْتَطع حقن دم مَعْصُوم أَو مُسلم مظلوم إِلَّا بكذب أَو خلف وعد أَو نَحْو ذَلِك حسن مِنْهُ دفع الشَّرّ الْأَعْظَم بِالشَّرِّ الْأَقَل وَمثل هَذَا لَا يتَصَوَّر فِي حق الرب جل جلاله لما ثَبت من أَنه على كل شَيْء قدير وَبِكُل شَيْء عليم وَأما الْخلف فِي الْوَعيد فَلَيْسَ هُوَ فِي مرتبَة الْقَبِيح الضَّرُورِيّ لشهرة الْخلاف فِيهِ بَين الْعُقَلَاء وَصِحَّة تَسْمِيَته فِي اللُّغَة عفوا لَا خلفا كَمَا قَالَ كَعْب بن زُهَيْر فِي قصيدته الْمَعْرُوفَة

ص: 224

(نبئت أَن رَسُول الله أوعدني

وَالْعَفو عِنْد رَسُول الله مأمول)

وَلم يقل وَالْخلف عِنْد رَسُول الله مأمول وَفِي الصَّحِيح من حَدِيث جمَاعَة من الصَّحَابَة ابْن عَبَّاس والخدري وَأبي ذَر وَأبي رزين الْعقيلِيّ لَكِن حَدِيثه عِنْد أَحْمد ولقيط بن صبرَة وَحَدِيثه عِنْد الطَّبَرَانِيّ وَعبد الله بن أَحْمد وَله مسندان مُسْند ومرسل وَرِجَال الْمسند ثِقَات ذكره الهيثمي فِي بَاب جَامع فِي الْبَعْث وَعَن سلمَان عِنْد الْبَزَّار بِرِجَال مُخْتَلف فِي بَعضهم ذكر فِي بَاب حسن الظَّن بِاللَّه تَعَالَى من مجمع الزَّوَائِد أَن الله تَعَالَى يَقُول الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا أَو أَزِيد والسيئة بِمِثْلِهَا أَو أعفو وَيشْهد لذَلِك حَدِيث معَاذ الَّذِي فِيهِ دعهم يعملوا

وَعَن عَليّ عليه السلام نَحوه فِي فضل قتال الْخَوَارِج وَمثل حَدِيث إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عليه السلام فِي التَّعَرُّض يَوْم الْقِيَامَة للشفاعة لِأَبِيهِ آزر وَقَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَقد سُئِلَ عَن أمه أَن رَبِّي وَعَدَني مقَاما مَحْمُودًا وأمثال ذَلِك مِمَّا قد جمع فِي غير هَذَا الْموضع

وَيشْهد لَهُ من كتاب الله تَعَالَى قَول الْخَلِيل {فَمن تَبِعنِي فَإِنَّهُ مني وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم} وَقَول عِيسَى عليه السلام {إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} لَكِن عَارض هَذِه الادلة قَوْله تَعَالَى {مَا يُبدل القَوْل لدي وَمَا أَنا بظلام للعبيد} وَقَوله تَعَالَى {وتمت كلمة رَبك صدقا وعدلا لَا مبدل لكلماته} وَللَّه تَعَالَى من كل حسن أحْسنه فَلَمَّا كَانَ الْعَفو بعد الْوَعيد حسنا كَانَ الْعَفو قبل الْوَعيد الْقَاطِع أحسن كَانَ الاحسن أولى بِاللَّه تَعَالَى من الْحسن لَكنا نقُول أَن الله تَعَالَى قد اشْترط عدم الْعَفو فِي الْوَعيد فِي آيَات كَثِيرَة وَفِي أَخْبَار كَثِيرَة وَالشّرط الْوَاحِد فِي آيَة وَاحِدَة وَحَدِيث وَاحِد كَاف فِي الْخُرُوج من ذَلِك مِثَاله قَوْله تَعَالَى {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} وَقَوله تَعَالَى {خَالِدين فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ الله} وَالْأَحَادِيث الْمُتَقَدّمَة وَكَلَام الْخَلِيل والمسيح عَلَيْهِمَا السَّلَام

ص: 225

وَأما المرجئة وَغَيرهم من أهل السّنة فقد أجابوا عَن قَوْله تَعَالَى {مَا يُبدل القَوْل لدي} بِأَنَّهَا عُمُوم مَخْصُوص بقوله تَعَالَى {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة} وأمثالها كَمَا أَن قَوْله تَعَالَى {لَا مبدل لكلماته} مَخْصُوص بهَا وعضدوا ذَلِك فِي قَوْله تَعَالَى {مَا يُبدل القَوْل لدي} بِأَنَّهَا فِي خطاب الْكفَّار كَمَا هُوَ مَعْلُوم من الْآيَات الَّتِي قبلهَا قَالُوا وتعدية مَا لَهُ سَبَب إِلَى غير سَببه ظنية بالاجماع لَكِن يُقَوي ويضعف على حسب الْقَرَائِن وَالْأَحَادِيث الْمُتَقَدّمَة وَكَلَام الْخَلِيل والمسيح قَرَائِن تقوى عدم التَّعْدِيَة وَالْجمع بذلك بَينهمَا أولى من الطرح وعضدوا ذَلِك بِأَن التبديل لم يقبح لذاته وَلَا لِأَنَّهُ تَبْدِيل قَول مُطلقًا لِأَنَّهُ تَبْدِيل قَول مَخْصُوص فقد قَالَ تَعَالَى {فَأُولَئِك يُبدل الله سيئاتهم حَسَنَات} وَقَالَ {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} والنسخ من تَبْدِيل القَوْل لقَوْله تَعَالَى {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة} وَقد بدل الله ذبح اسماعيل بالكبش وَضرب امْرَأَة أَيُّوب بالضغث وَبدل صُورَة عِيسَى بِمِثْلِهَا مرَّتَيْنِ فِي الدُّنْيَا وَفِي يَوْم الْقِيَامَة وَبدل اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس بِالْكَعْبَةِ وذم من قبح ذَلِك وَسَمَّاهُمْ سُفَهَاء حَيْثُ قَالَ {سَيَقُولُ السُّفَهَاء من النَّاس مَا ولاهم عَن قبلتهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}

يُوضحهُ النُّصُوص الْمُتَّفق على صِحَّتهَا والاجماع من أهل الْعلم الْمَشَاهِير من جَمِيع الْمذَاهب على أَن من حلف يَمِينا فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فالمستحب لَهُ أَن يفعل الَّذِي هُوَ خير وَيكفر عَن يَمِينه اسْتِحْبَابا لَا وجوبا وَهِي مَسْأَلَة اخلاف الْوَعيد بِعَينهَا فَتَأمل ذَلِك يُوضحهُ أَحَادِيث لم تمسه النَّار إِلَّا تَحِلَّة الْقسم وَقَوله صلى الله عليه وسلم فِيهَا وَاثْنَانِ بعد قَوْله ثَلَاثَة فَدلَّ على أَن التبديل المذموم تَبْدِيل مَخْصُوص لَا كل تَبْدِيل يُوضحهُ أَنه قد ثَبت أَن عَذَاب الْكفَّار رَاجِح قطعا للاجماع على عدم تَجْوِيز الْعَفو الْمُطلق عَنْهُم وَلما فِيهِ من حُقُوق الْأَنْبِيَاء وَالْمُؤمنِينَ ونصرهم عَلَيْهِم وشفاء غيظ قُلُوبهم مِنْهُم وَلم يثبت مثل ذَلِك فِي عَذَاب الْمُسلمين لقَوْله تَعَالَى {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء}

ص: 226

وللاحاديث المخصصة للعمومات المتواترة عِنْد أهل الحَدِيث وَلِأَن الْأَنْبِيَاء وَالْمُؤمنِينَ شفعاؤهم لَا خصماؤهم وَأما قصَّة قوم يُونُس فتأتي فِي مَسْأَلَة الْوَعيد

فان قيل إِنَّمَا يحسن الْخلف فِي الْوَعيد منا للْجَهْل بِالْغَيْبِ مَعَ نِيَّة الصدْق فاما عَالم الْغَيْب فَلَو أخلف لم يَصح ارادة الصدْق عِنْد الْوَعيد لعلمه بالعاقبة فَلَو أخلف كَانَ كذبا قبيحا وَهَذَا السُّؤَال قوي إِلَّا أَن قُوَّة التباسه بالانشاء هُوَ الَّذِي غرهم فَالْأولى ترك تَجْوِيز ذَلِك ولسنا نحتاج فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَى تجويزه لَا سِيمَا وَهَذَا الْكتاب مَبْنِيّ على الأسلم والأحوط فقس ذَلِك على هَذِه الْقَاعِدَة وَلَا تعدها فَمن نهج السَّلامَة نَالَ السَّلامَة وَكَثِيرًا مَا يلتبس التَّخْصِيص بالخلف على من بعد عَن تَأمل السّمع فأفرق بَينهمَا فَهُوَ وَاضح

وَالْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة طَوِيل وموضعه مَسْأَلَة الْوَعْد والوعيد وَهُوَ يَأْتِي فِي آخر هَذَا الْمُخْتَصر إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَمَعَ مَا قَدمته من وُقُوع الشَّرْط فِي الْوَعيد لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا وَلَا يُمكن تقبيح الْعَفو من أكْرم الأكرمين وأرحم الرَّاحِمِينَ عَن أحد من الْمُوَحِّدين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين لكنه لَا سَبِيل إِلَى الْأمان لِأَنَّهُ وَسِيلَة إِلَى الْفساد والطغيان وَالله أحكم من أَن يُؤمن المفسدين من تبوء الْجَزَاء فِي الْآخِرَة كَمَا لم يسمح لَهُم الْحُدُود فِي الدُّنْيَا بل أوجب قطع يَد السَّارِق فِي ربع الدِّينَار لحفظ الْأَمْوَال ومصلحة الْخلق فِي ذَلِك وَهُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم الحميد الْمجِيد الفعال لما يُرِيد

وَبِهَذَا السُّؤَال وَجَوَابه تعلم سَبَب الْخلاف فِي دوَام الْعَذَاب فَمن توهمه من المرجوحات الضرورية فِي عقول الْعُقَلَاء وَحِكْمَة الْحُكَمَاء رجح الْخُصُوص الَّذِي هُوَ قَوْله تَعَالَى {إِلَّا مَا شَاءَ رَبك} على عمومات الْوَعيد بالخلود وَمن ذهب إِلَى أَنه من المرجوحات الظنية المستندة إِلَى مُجَرّد الاستبعاد رجح العمومات وعضدها بتقرير أَكثر السّلف لَهَا على مَا تكَرر أَن مَا لم يتأولوه فتأويله بِدعَة وَلما كَانَ تأويلهم لذَلِك فِي حق الْمُسلمين متواترا عَنْهُم وأدلته متواترة عِنْد الْبَعْض صَحِيحَة شهيرة عِنْد الْجَمِيع كَانَ هُوَ الْمَنْصُور وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعه الْوَجْه فِي أَنه أحوط الْأَقْوَال وَالله سُبْحَانَهُ أعلم

ص: 227