الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلم يحْتَج بِهِ على حسن ذَنبه أبدا وَهُوَ الَّذِي قَالَ {رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}
وَقد أجمع أهل الاسلام على أَن الْقدر يتعزى بِهِ أهل المصائب وَلَا يحْتَج بِهِ فِي المعائب فَهَذَا معنى الحَدِيث وَوَجهه وَقد بسط فِي مَوْضِعه وَحَدِيث الْقَدَرِيَّة مجوس هَذِه الْأمة ضَعِيف عِنْد الْمُؤَيد بِاللَّه عليه السلام وَعند الْمُحدثين وَقَول الْحَاكِم أَنه صَحِيح على شَرطهمَا إِن صَحَّ سَماع أبي حَازِم مَعَ ابْن عمر شَره فِي التَّصْحِيح فانه لم يَصح ذَلِك وَتَصْحِيح كل ضَعِيف على شُرُوطه مَعْدُوم وَإِن فسر الْقدر بِالْعلمِ وَنَحْوه فالمذموم من نَفَاهُ وَإِن فسر بالجبر والاكراه فالمذموم من أثْبته وَقد بسط هَذَا فِي مَوْضِعه
القَوْل فِي مَسْأَلَة الْأَفْعَال
وَهِي مَسْأَلَة خلية عَن الْآثَار وَإِنَّمَا خلت عَنْهَا لِأَن لَهَا طرفين أَحدهمَا جلي وَكَانُوا لَا يسْأَلُون عَن الْجَلِيّ لجلائه وَالْآخر خَفِي وَكَانُوا لَا يتعرضون لأمثاله تَارَة لعدم الْحَاجة اليه وَتارَة لعدم الْوُقُوف عَلَيْهِ وَلِأَن مَا لَا يُوقف عَلَيْهِ لَا يحْتَاج اليه وهما داخلان فِي الْبِدْعَة الَّتِي نهوا عَنْهَا وَكَانُوا أبعد النَّاس مِنْهَا وَلِأَن الِاشْتِغَال بتقرير قَوَاعِد الاسلام وَجِهَاد أعدائه الطغام وَعبادَة الْملك العلام وأمثال هَذِه الْمُهِمَّات الْعِظَام كَانَت قد استغرقت السّلف رضي الله عنهم وَأعَاد علينا من بركاتهم وردنا عَن الزيغ والغلو إِلَى الِاقْتِدَاء بهم
وَأَنا أذكر إِن شَاءَ الله تَعَالَى طرفا صَالحا من بَيَان هذَيْن الطَّرفَيْنِ وَبَيَان أَقْوَال النَّاس فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لفائدتين فِي الدّين احداهما معرفَة مَا ابتدع فِي ذَلِك من الْأَقْوَال حَتَّى يجْتَنب عَن بَصِيرَة فَرُبمَا ظن بعض النَّاس فِي بعض الْبدع أَنَّهَا سنة لعدم اهتمامه بتمييز السّنة من الْبِدْعَة وَعدم تفرغه أَو صلاحيته للبحث عَن ذَلِك وثانيتهما ليترك الْجَاهِل التَّكْفِير من غير بَصِيرَة حِين يعلم
أَنه لم يحط علما يَقِينا بماهية الاقوال أَو يحكم بِعلم حِين يتَحَقَّق ذَلِك وَالله الْمُوفق وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ أفضل النَّاس أفضلهم عملا إِذا فقهوا فِي دينهم وأعلمهم أبصرهم بِالْحَقِّ إِذا اخْتلف النَّاس وَإِن كَانَ مقصرا فِي الْعلم وَإِن كَانَ يزحف على أسته الحَدِيث خرجه النَّاس وَإِن كَانَ مقصرا فِي الْعَمَل وَإِن كَانَ يزحف على أسته الحَدِيث خرجه الْحَاكِم فِي التَّفْسِير فِي سُورَة الْحَدِيد وَقَالَ صَحِيح الاسناد وَهُوَ كَمَا قَالَ وَالله سُبْحَانَهُ أعلم
فَأَما الطّرف الْجَلِيّ الَّذِي لم يبحثوا عَنهُ لجلاله فَهُوَ أَن لنا أفعالا متوقفة على هَمنَا بهَا ودواعينا اليها واختيارنا لَهَا وَلذَلِك شَذَّ الْمُخَالف لذَلِك من الجبرية وَنسب إِلَى مُخَالفَة الضَّرُورَة وَلم يُخَالف فِي ذَلِك أحد من أهل السّنة وَلَا من طوائف الأشعرية بل نسب الرَّازِيّ الجبرية إِلَى الْبَرَاءَة من ذَلِك وانما أَرَادَ من تسمى باسم الجبرية من الاشعرية وَهُوَ شَيْء يخْتَص بِهِ الرَّازِيّ وَحده فِيمَا علمت فانه يصحح الْجَبْر فِي كثير من عباراته ويعنى بِهِ وجوب وُقُوع الرَّاجِح من الْفَاعِل الْمُخْتَار وَصرح بِبَقَاء الِاخْتِيَار مَعَ تَسْمِيَته جبرا
وَأما الْخَفي الَّذِي عظم فِيهِ الِاخْتِلَاف ودق وَكثر فَهُوَ معرفَة حَقِيقَة أَفعَال الْعباد على جِهَة التَّعْيِين والتمييز لَهَا عَن سَائِر الْحَقَائِق وَقد اخْتلف فِي ذَلِك على أَرْبَعَة عشر قولا أَو يزِيد للمعتزلة مِنْهَا ثَمَانِيَة وللسنية والاشعرية أَرْبَعَة وللجبرية قَولَانِ وَهِي هَذِه مسرودة
الأول من أَقْوَال الْمُعْتَزلَة أَن الذوات كلهَا ثَابِتَة فِي الْعَدَم أزلية غير مقدورة لله تَعَالَى وَلَا بخلقه الاجسام مِنْهَا والاعراض وَذَوَات أَفعَال الله تَعَالَى وَذَوَات أَفعَال الْعباد أَعنِي ذَوَات الحركات والسكنات وَأَنَّهَا فِي الْعَدَم وَالْأَزَلُ ثَابِتَة ثبوتا حَقِيقِيًّا فِي الْخَارِج ثبوتا يُوجب تماثلها فِيهِ واختلافها عَنهُ وَأَن الْمَقْدُور لله تَعَالَى ولعباده أَمر آخر غير الذَّات وَلَا وجودهَا وَلَا مجموعهما بل جعل الذَّات على صفة الْوُجُود وَقد ادّعى الرَّازِيّ وَغَيره من أَصْحَاب أبي الْحُسَيْن من الْمُعْتَزلَة أَنه غير مَعْقُول فانه لَا يتَصَوَّر إِلَّا برده إِلَى أحد الْأُمُور الثَّلَاثَة وَهُوَ أَيْضا يبتني على ثُبُوت الذوات فِي الازل والعدم وعَلى الْفرق بَين الثُّبُوت والوجود وعَلى ثُبُوت الدَّلِيل الْقَاطِع على أَن الْوُجُود أَمر
حَقِيقِيّ زَائِد على الْمَوْجُود وعَلى أَن الأكوان من الْحَرَكَة والسكون ذَوَات حَقِيقِيَّة لَا صِفَات اضافية فِي ذَلِك كُله نزاع طَوِيل كثير دَقِيق بَين الْعُقَلَاء جملَة تمّ بَين الْمُسلمين ثمَّ بَين الْمُعْتَزلَة وَقد جود أَبُو الْحُسَيْن مِنْهُم وَأَصْحَابه رد ذَلِك على أَصْحَابهم من البهاشمة فِي كتبهمْ
الثَّانِي لَهُم أَيْضا أَن فعل الله تَعَالَى وَفعل الْعباد هُوَ صفة الْوُجُود لَا ذَات الْمَوْجُود وَهَؤُلَاء مثل الْأَوَّلين إِلَّا أَنهم اشْتَركُوا فِي اثبات الامر الرَّابِع الَّذِي عده خصومهم محالا فعينوا مَقْدُور الْقَادِر وَبَقِي عَلَيْهِم سَائِر مَا يرد على أَصْحَابهم وَقد ألزموا جَمِيعًا أَن الله تَعَالَى لَا يخلق شَيْئا قطّ على أصولهم لِأَن الشَّيْء عِنْدهم هُوَ الثَّابِت فِي الْأَزَل والقدم وَصفَة الْوُجُود عِنْدهم لَيست شَيْئا لأَنهم قضوا بالأزلية فِي الْقدَم للشَّيْء وللذات ولصفاتها الذاتية وَلم يبْق إِلَّا صفاتها المقتضاة وَهِي التحيز ثمَّ اخْتلفُوا فِيهِ فَمنهمْ من قضى أَنه ثَابت فِي الْأَزَل أَيْضا حَكَاهُ مُخْتَار فِي الْمُجْتَبى وَابْن متويه فِي التَّذْكِرَة وَلم يقبحه على قَائِله مِنْهُم وَالْقَائِل بِهِ مِنْهُم جرى على مُقْتَضى دليلهم الْعقلِيّ وَذَلِكَ لِأَن الصّفة المقتضاة لَا تخلف عَن مقتضيها وتخلفها عَنهُ محَال أَلا ترى أَن صِفَات القادرية والعالمية وَنَحْوهَا لما كَانَت مقتضاة عِنْدهم من الصّفة الاخص لم تخلف عَنْهَا كَانَت غير حَادِثَة فَكَذَلِك هَذَا لكِنهمْ خَافُوا أَن يتفاحش الامر هُنَا بِلُزُوم قدم الْعَالم جهارا فاعتذروا بِأَن هَذَا التحيز لَا يظْهر إِلَّا بِشَرْط الْوُجُود والوجود بالفاعل وَهُوَ الله تَعَالَى فقد زَعَمُوا أَن التحيز فِي الاجسام لَيْسَ بِهِ تَعَالَى فَلذَلِك لَزِمَهُم أَن الله غير خَالق لشَيْء وَلَا مُؤثر فِيهِ
وَقد حاول ابْن متويه الْجَواب عَن هَذَا فِي تَذكرته بِأَن خلق الشَّيْء واحداثه هُوَ إيجاده وَالله هُوَ الَّذِي حصل لَهُ صفة الْوُجُود وَهَذَا الْجَواب غير مخلص لِأَن معنى الالزام ان اتصاف الشَّيْء عِنْدهم بِأَنَّهُ مُحدث ومخلوق على قواعدهم مجَاز لَا حَقِيقَة لِأَن الشَّيْء عِنْدهم ثَابت فِي الازل غير مَقْدُور لله عز وجل وَإِنَّمَا الْمَخْلُوق الْمَقْدُور حُدُوثه ووجوده وليسا بِشَيْء عِنْدهم لِأَنَّهُمَا لَو كَانَا شَيْئا كَانَا ثابتين فِي الازل وَذَلِكَ تَصْرِيح بقدم الْعَالم فَلذَلِك قضوا أَنَّهُمَا ليسَا بِشَيْء وَلذَلِك صرح الزَّمَخْشَرِيّ فِي أساس البلاغة أَن الله لَا يُسمى خَالِقًا إِلَّا مجَازًا وكل هَذَا مِمَّا يعترفون بِهِ ويذكرونه فِي مصنفاتهم
وَحكى هذَيْن الْقَوْلَيْنِ عَنْهُم ابْن المطهر الْحلِيّ فِي شرح مُخْتَصر مُنْتَهى السؤل فِي الْكَلَام على الِاشْتِقَاق لاسم الْفَاعِل مِمَّا لم يقم بِهِ وَأما قَوْلهم ان ثُبُوت الْأَشْيَاء فِي الْأَزَل حَقِيقِيّ فِي الْخَارِج لَا فِي الذِّهْن فَذكره مِنْهُم الشَّيْخ مُخْتَار المعتزلي فِي كِتَابه الْمُجْتَبى فِي الْفَصْل الرَّابِع من الصِّفَات الذاتية وَهُوَ عَنْهُم صَحِيح وكلماتهم توافقه لَكِن بِغَيْر هَذِه الْعبارَة
الثَّالِث لَهُم أَنه لَا فعل للْعَبد إِلَّا الارادة قَالَه الجاحظ وثمامة بن الأشرس
الرَّابِع لَهُم أَن أَفعَال الْعباد حوادث لَا مُحدث لَهَا وَهَذَا وَالَّذِي قبله مَعَ غرابتهما معروفان فِي كتب الْمُعْتَزلَة من روايتهم عَن شيوخهم لَا من رِوَايَة خصومهم
الْخَامِس أَن أَفعَال الْعباد لَا تتعدى مَحل الْقُدْرَة والمتعدي فعل الله تَعَالَى وَإِنَّهَا حركات كلهَا وَأَن السّكُون حَرَكَة اعْتِمَاد والعلوم والارادات حَرَكَة النَّفس حَكَاهُ الشهرستاني فِي الْملَل والنحل عَن النظام قَالَ وَلم يرد بالحركة النقلَة وَإِنَّمَا الْحَرَكَة عِنْده مُبْتَدأ كل تغير وَهُوَ قَول المطرفية من الزيدية دون الحركات
السَّادِس مثل الَّذِي قبله لَكِن قَالُوا أَن المتولدات أَفعَال لَا فَاعل لَهَا
السَّابِع مثل الثَّالِث أَنه لَا فعل للْعَبد إِلَّا الارادة لَكِن قَالُوا فِيمَا عدا الارادة أَنَّهَا حدث لَا مُحدث لَهَا وَأهل الثَّالِث نسبوا ذَلِك إِلَى الله تَعَالَى فهم كغلاة الاشعرية الَّذين يسميهم الرَّازِيّ جبرية أَعنِي أهل القَوْل الثَّالِث من الْمُعْتَزلَة وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ السَّادِس وَالسَّابِع حَكَاهُمَا الشهرستاني عَن ثُمَامَة أَيْضا فَكَانَ لَهُ أَقْوَال ثَلَاثَة
الثَّامِن قَول أبي الْحُسَيْن وَأَصْحَابه وَابْن تَيْمِية وَأَصْحَابه أَن أَفعَال الْعباد هِيَ الاكوان أَعنِي الْحَرَكَة والسكون والاجتماع والافتراق وَأَنَّهَا لَيست أَشْيَاء حَقِيقِيَّة وَأَنَّهَا لَا ثُبُوت لَهَا وَلَا لشَيْء من الاجسام فِي الازل والعدم وَإِن الثُّبُوت والوجود شَيْء وَاحِد وَكَذَلِكَ الازل والقدم وَهُوَ مَذْهَب أَكثر أهل الْبَيْت قَالَ الشَّيْخ مُخْتَار وَهُوَ مَذْهَب أَكثر الْمَشَايِخ وَمِمَّنْ نَص على
اخْتِيَاره من أهل الْبَيْت الامام يحيى بن حَمْزَة وَهُوَ الَّذِي فِي فطْرَة كل عَاقل لم تغير فطرته بتغيير الْمَشَايِخ وَالله أعلم
التَّاسِع وَهُوَ أول أَقْوَال أهل السّنة والأشعرية مثل الَّذِي قبله سَوَاء إِلَّا أَن الأكوان عِنْدهم ذَوَات حَقِيقِيَّة وَهُوَ قَول الْجُوَيْنِيّ وَأَصْحَابه وَهُوَ أقرب فَوق الأشعرية إِلَى الْمُعْتَزلَة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة
الْعَاشِر القَوْل بمقدور بَين قَادِرين مَعَ عدم تَمْيِيزه إِلَّا بالوجوه والاعتبارات
الْحَادِي عشر قَول أهل الْكسْب أَن الأكوان ذَوَات ثبوتية هِيَ فعل الله تَعَالَى وَفعل العَبْد كسب يتَعَلَّق بهَا وَهِي متميزة مِنْهُ وَسَيَأْتِي تَحْقِيقه
الثَّانِي عشر أَنه لَا فعل للْعَبد إِلَّا الِاخْتِيَار فَمَتَى اخْتَار الطَّاعَة خلقهَا الله عقيب اخْتِيَاره وَكَذَلِكَ الْمعْصِيَة وَسَيَأْتِي بَيَانه أَيْضا
الثَّالِث عشر قَول الْجَهْمِية وهم الجبرية وحدهم فانهم زَعَمُوا أَن للْعَبد قدرَة غير أَنه لَا أثر لَهَا أَلْبَتَّة وأفعاله مخلوقة لله وَحده وَلم يثبتوا كسبا للْعَبد وَلَا مَقْدُورًا بَين قَادِرين
الرَّابِع عشر أَنه لَا قدرَة للْعَبد وَلَا فعل أَلْبَتَّة وَإِنَّمَا حركته منسوبة اليه مثل نِسْبَة حَرَكَة الشَّجَرَة اليها وَهَذَا مَا حَكَاهُ الشهرستاني فِي الْملَل والنحل عَن غلاة الجبرية وَأما الشَّيْخ مُخْتَار فِي الْمُجْتَبى فَأنْكر وجود من يَقُول بذلك
فَهَذِهِ الاقوال الَّتِي عرفت فِي تفاصيل هَذِه الْمَسْأَلَة لاهل الْملَّة وَسَيَأْتِي ذكر مَذْهَب الفلاسفة وَأهل القَوْل الْعَاشِر وَمن بعدهمْ يطلقون على أَفعَال الْعباد أَنَّهَا مخلوقات وَإِن اخْتلفُوا فِي تَفْسِير ذَلِك وتفصيله كَمَا يَأْتِي
وَقد ظهر أَن تَحْقِيق الْمَقَاصِد فِي أَكْثَرهَا يبتني على مسَائِل صعبة غامضة من مسَائِل علم اللَّطِيف كالفرق بَين الذوات وَالصِّفَات والاحوال وَبَين الْحَقَائِق والاضافات وَبَين الثُّبُوت والوجود وَمَا الَّذِي يَصح مِنْهُمَا فِي الْعَدَم الْفرق بَين الْوُجُود وَالْمَوْجُود وَبَين الارادة وَالِاخْتِيَار وَهُوَ يتَوَقَّف على
معرفَة الارادة وأقسامها وَمَعْرِفَة الاسباب والمسببات وَالْفرق بَين الْأَسْبَاب المؤثرة المولدة وَغَيرهمَا
فمدار الْخلاف وَأَصله فِي أَن الافعال هَل هِيَ ذَوَات أَو صِفَات أَو أَحْوَال أَو مَجْمُوع أَمريْن من ذَلِك أَو أَمر رَابِع غير ذَلِك أَو أَسبَاب فَقَط مُؤثرَة كَالْقَتْلِ أَو غير مُؤثرَة كالارادة وَهِي أَسبَاب ومسببات أَو متعدية أَو لَازِمَة أَو هِيَ تسمى مخلوقة أَولا وَإِذا كَانَت تسمى بذلك فَمن الْخَالِق لَهَا وَهل يَصح مَقْدُور بَين قَادِرين أَو هُوَ محَال وَإِذا كَانَ يَصح فَهَل أَفعَال الْعباد مِنْهُ أَو لَا وَإِذا كَانَت مِنْهُ فَهَل أحد الْفِعْلَيْنِ المقدورين متميز عَن الآخر فِي أَفعَال الْعباد وكسبهم مَعَ خلق الله تَعَالَى بِالذَّاتِ أَو بالوجود وَهل يَصح حَادث لَا مُحدث لَهُ أم لَا وَإِذا صَحَّ هَل الْمَوْصُوف بذلك أَفعَال الْعباد كلهَا غير الارادة أم المتولدات فَقَط أم جَمِيع أَفعَال الْعباد من غير اسْتثِْنَاء وَإِذا كَانَت ذَوَات فَمَا هِيَ هَل هِيَ حركات كلهَا أَو أكون مُخْتَلفَة وَإِن كَانَت صِفَات فَهَل هِيَ حَقِيقِيَّة أَو اضافية وَهل الْقُدْرَة مُتَقَدّمَة أَو مُقَارنَة وَتصْلح للضدين أم لَا
وَالْقَصْد بذكرها معرفَة الْبِدْعَة مِنْهَا وَمَعْرِفَة بُطْلَانهَا وَذَلِكَ لَا يَصح مِمَّن لم يعرف حقائق مقاصدهم وَمن لم يرسخ فِي علم اللَّطِيف لم يعرف ذَلِك وَمن لم يعرف ذَلِك كَيفَ يتَمَكَّن من معرفَة أَن هَذَا القَوْل كفر أَو غير كفر وَهُوَ لم يتَحَقَّق مَاهِيَّة القَوْل وَمَعْنَاهُ
القَوْل فِي بَيَان أَن مُرَاد من قَالَ أَن أَفعَال الْعباد مخلوقة لله تَعَالَى وانها مَعَ ذَلِك وَاقعَة على اخْتِيَار الْعباد جملَة ثمَّ بَيَان اخْتلَافهمْ فِي الْقدر الْمَخْلُوق مِنْهَا وَفِي تَفْسِير الْخلق وَبَيَان الاحوط فِي هَذِه الْمَسْأَلَة
أما مُرَادهم الاول الَّذِي اتَّفقُوا عَلَيْهِ جملَة فَهُوَ الايمان بِمُقْتَضى مَا تقدم فِي مَسْأَلَة الْمَشِيئَة من الْآيَات وَالْأَحَادِيث المصرحة بِأَن مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا شَاءَ أَن لَا يكون لم يكن وَإنَّهُ لَو شَاءَ مَا عصى وَإنَّهُ يهدي من يَشَاء باللطف وَالِاخْتِيَار
ثمَّ أَنه تعَارض عِنْد هَؤُلَاءِ السّمع فِي نِسْبَة كسب الافعال إِلَى الْعباد
وَنسبَة تقديرها إِلَى الله تَعَالَى هَذِه مُعَارضَة خَاصَّة من الْجَانِبَيْنِ ثمَّ مُعَارضَة أُخْرَى وَهِي نِسْبَة أَفعَال الْعباد بخصوصها اليهم ونسبتها إِلَى الله تَعَالَى مدرجة فِي عمومات أَن الله تَعَالَى خَالق كل شَيْء وَرُبمَا تتوهم بَعضهم النصوصية فِي قَوْله تَعَالَى {وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} وَلَيْسَ كَذَلِك كَمَا سَيَأْتِي فتعارضت عِنْدهم الدَّلَائِل السمعية وَكَذَلِكَ الأنظار الْعَقْلِيَّة فان وقُوف الافعال على الدَّوَاعِي مَعْلُوم صَحِيح الْبُرْهَان بل وفاقي على الصَّحِيح وَهُوَ دَلِيل الْمُعْتَزلَة على أَن الله تَعَالَى عدل لَا يفعل الْقَبِيح والدواعي هِيَ الْعُلُوم بالمصالح وَالْمَنَافِع والمضار والظنون لذَلِك والشهوة والنفرة والمرجع بهَا إِلَى فعل الله تَعَالَى تَارَة بِوَاسِطَة وَتارَة بِغَيْر وَاسِطَة
ويعارض هَذَا أَن الْفرق بَين حَرَكَة الْمُخْتَار وحركة المفلوج والمسحوب على وَجهه فرق ضَرُورِيّ وَهُوَ يَقْتَضِي اخْتِيَار الْعباد وَبطلَان الْجَبْر بِالضَّرُورَةِ وَزَاد وضوحا أَن الْجَبْر فِي اللُّغَة هُوَ الاكراه الَّذِي يُنَافِي اللَّذَّة والشهوة وَالرِّضَا وَأهل الْمعاصِي يفعلونها متلذذين بهَا مشتهين لَهَا راضين مسرورين وَهَذَا كُله يضاد الْجَبْر والاكراه وينافيه بِالضَّرُورَةِ قَالَ الله تَعَالَى {ائتيا طَوْعًا أَو كرها} فَفرق بَينهمَا والجبر يُؤَدِّي إِلَى عدم ذَلِك
فَأَما الجبرية فتركوا الْجمع بَين الظَّوَاهِر وركبوا اللجاج الشَّديد والعناد الْبعيد وجحدوا الضرورات الْعَقْلِيَّة والبينات السمعية وَأجْمع أهل السّنة وَأهل الْكَلَام من الشِّيعَة والأشعرية والمعتزلة على ضلالهم وَالرَّدّ لقَولهم لأَنهم نفوا مَشِيئَة العَبْد وَالله تَعَالَى لم ينفها مُطلقًا لَكِن جعلهَا بعد مَشِيئَته فَقَالَ تَعَالَى {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله} والجبرية نفوها واطرحوا قَوْله إِلَّا أَن يَشَاء الله وَكَذَلِكَ قَوْلنَا مَا شَاءَ الله كَانَ يَقْتَضِي ذَلِك لِأَنَّهُ قد شَاءَ وَكَذَلِكَ نفوا أَن يكون المكلفون مختارين غير مجبورين فَكَانَ مَا شَاءَ من اختيارهم
وَأما الأشعرية فراموا الْجمع بَين هَذِه المتعارضات بِنِسْبَة الْفِعْل إِلَى الله تَعَالَى من وَجه وَإِلَى الْعباد من وَجه آخر كالمفسرين بذلك لما ورد السّمع بِهِ وَمن ذَلِك التَّعَارُض الْمُتَقَدّم وَأَمْثَاله مثل قَوْله تَعَالَى {إِنَّه من عبادنَا المخلصين}
) بِفَتْح اللَّام وَكسرهَا فالفتح نِسْبَة إِلَى الله تَعَالَى وَالْكَسْر نِسْبَة إِلَى العَبْد وَقَوله تَعَالَى {وَفِي ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم} وَقَوله {فأخرجناهم من جنَّات وعيون} مَعَ أَنَّهُمَا فعل قوم فِرْعَوْن حَقِيقَة وَقَوله تَعَالَى {ألم تَرَ إِلَى الَّذين يزكون أنفسهم بل الله يُزكي من يَشَاء} وَقَوله تَعَالَى {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكا مِنْكُم من أحد أبدا وَلَكِن الله يُزكي من يَشَاء} وَقَول الله تَعَالَى حاكيا عَن يُوسُف عليه السلام {وَإِلَّا تصرف عني كيدهن أصب إلَيْهِنَّ وأكن من الْجَاهِلين} مَعَ قَوْله {لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه} وَقَوله {قاتلوهم يعذبهم الله بِأَيْدِيكُمْ} وَقَوله تَعَالَى {وَنحن نتربص بكم أَن يُصِيبكُم الله بِعَذَاب من عِنْده أَو بِأَيْدِينَا} وَقَوله تَعَالَى {واصبر وَمَا صبرك إِلَّا بِاللَّه} وَقَوله تَعَالَى {وَقَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم وَالْإِيمَان} مَعَ نِسْبَة الايمان إِلَى فعل الْمُؤمنِينَ فِي آيَات كَثِيرَة وَهَذَا بَاب وَاسع فِي السّمع وَهُوَ صَرِيح فِي الطَّاعَات كَمَا تقدم تَحْقِيقه وَأما فِي الْمعاصِي فَالَّذِي تحقق فِي السّمع أَنه لَو شَاءَ مَا عصى على مَا مر مُلَخصا فِي الارادة وَإِضَافَة أَفعَال الْعباد اليهم أَكثر وأوضح فأرادوا الْجمع بِنِسْبَة مَا يسى خلقا إِلَى الله تَعَالَى وَنسبَة مَا يُسمى كسبا وَطَاعَة ومعصية إِلَى الْعباد وَلم يُرِيدُوا بِكَوْن الافعال خلق الله تَعَالَى نفي كَونهَا أَفعَال الْعباد كَمَا لم يُرِيدُوا بِكَوْنِهَا كسبا للعباد نفي أَنَّهَا خلق الله
وَبِالْجُمْلَةِ فَلم يُرِيدُوا نسبتها إِلَى الله تَعَالَى وَحده من كل جِهَة إِذْ لم تكن كسبا وَلَا طَاعَة وَلَا مَعْصِيّة فان الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة من الله تَعَالَى وَحده محالان وَلَا أَرَادوا نسبتها إِلَى الْعباد وحسم لاعتقادهم أَنَّهَا تسمى مخلوقة وَأَن الْخلق من الْعباد محَال
قَالَ الشَّيْخ مُخْتَار المعتزلي فِي كِتَابه الْمُجْتَبى قَالَ صَاحب الْمُعْتَمد يَعْنِي أَبَا الْحُسَيْن أَن الجهم بن صَفْوَان ذهب إِلَى أَن الله تَعَالَى خَالق لأفعال الْعباد فيهم وَلَيْسوا محدثين لَهَا وَلَا مكتسبين لَهَا وَذهب النجار والاشعري إِلَى أَنه خَالِقهَا وهم يكسبونها وَهُوَ الْمَشْهُور من مَذْهَبهم وَبِه قَالَ أَكثر أهل السّنة فنفرد لكل طَائِفَة من الجبرية الخالقية والكسبية مَسْأَلَة على حِدة
وَالْحَاصِل أَن الْمُخَالفين كلهم قَالُوا بقدرة العَبْد لَكِن الفلاسفة زَعَمُوا أَن الْقُدْرَة هِيَ عِلّة الْفِعْل مَعَ الدَّاعِي والاسفرايني زعم أَنَّهَا جُزْء من عِلّة الْفِعْل الْمَوْجُود بالقدرتين والباقلاني زعم أَنَّهَا عِلّة الْكسْب والجهم زعم أَنَّهَا معنى لَا تَأْثِير لَهُ فِي الْفِعْل أصلا لكنه يُوجد مُتَعَلقا بِهِ اه وَفِيه تَحْقِيق بَالغ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه وَمثله ذكر ابْن بطال فِي شرح البُخَارِيّ فانه يُسَمِّي الجبرية جهمية ويخص الْجَهْمِية بالجبر وَيُوجه الردود اليهم خَاصَّة كَمَا هُوَ مَعْرُوف فِي شَرحه لأبواب الْقدر
وَقَالَ الرَّازِيّ فِي تَفْسِيره مفاتح الْغَيْب ان اثبات الاله يلجئ الى القَوْل بالجبر واسال الرُّسُل يلجئ الى القَوْل بِالْقدرِ بل هَهُنَا سر آخر وَهُوَ فَوق الْكل وَهُوَ أَنا لما رَجعْنَا الى الْفطْرَة السليمة وَالْعقل الأول وجدنَا مَا اسْتَوَى الْوُجُود والعدم بِالنِّسْبَةِ اليه لَا يتَرَجَّح أَحدهمَا الا بمرجح وَهَذَا يَقْتَضِي الْجَبْر ونجد أَيْضا تفرقه بديهية بَين الحركات الاختيارية والاضطرارية وجزما بديهيا بِحسن الْمَدْح والذم والامر وَالنَّهْي وَذَلِكَ يَقْتَضِي مَذْهَب الْمُعْتَزلَة فَكَانَ هَذِه الْمَسْأَلَة وَقعت فِي حيّز التَّعَارُض بِحَسب الْعُلُوم الضرورية وبحسب الْعُلُوم النظرية وبحسب تَعْظِيم الله تَعَالَى نظرا الى قدرته وبحسب تَعْظِيمه سبحانه وتعالى نظرا الى حكمته وبحسب التَّوْحِيد والنبوة وبحسب الدَّلَائِل السمعية فَلهَذَا الَّذِي شرحناه والاسرار الَّتِي كشفنا حقائقها صعبت الْمَسْأَلَة وعظمت فنسأل الله الْعَظِيم أَن يوفقنا للحق
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ فِي كِتَابه طوالع الْأَنْوَار وَقد ذكر احتجاج الْمُعْتَزلَة
بِالْآيَاتِ الدالات على أَن أَفعَال الله تَعَالَى لَا تُوصَف بِصِفَات أَفعَال الْعباد من الظُّلم وَنَحْوه فَيجب الْفرق بَينهمَا ثمَّ قَالَ مَا لَفظه واجيب بَان كَونه ظلما اعْتِبَار يعرض فِي بعض الْأَحْوَال بِالنِّسْبَةِ الينا لقُصُور ملكنا واستحقاقنا وَذَلِكَ لَا يمْنَع صُدُور أصل الْفِعْل عَن الْبَارِي تَعَالَى مُجَردا عَن هَذَا الِاعْتِبَار
وَأعلم أَن أَصْحَابنَا لما وجدوا تَفْرِقَة بديهية بَين مَا نزاوله وَبَين مَا نحسه من الجمادات وَزَادَهُمْ قَائِم الْبُرْهَان عَن اضافة الْفِعْل الى العَبْد مُطلقًا جمعُوا بَينهمَا وَقَالُوا الْأَفْعَال وَاقعَة بقدرة الله تَعَالَى وَكسب العَبْد على معنى أَن العَبْد إِذا صمم الْعَزْم فَالله يخلق الْفِعْل فِيهِ وَهُوَ أَيْضا مُشكل ولصعوبة هَذَا الْمقَام أنكر السّلف على الناظرين فِيهِ اهـ بِحُرُوفِهِ
وَأعلم أَن تَسْمِيَة الرَّازِيّ لمَذْهَب الأشعرية جبرا شَيْء تفرد بِهِ دونهم وَدون غَيرهم وَهُوَ خلاف مِنْهُ فِي الْعبارَة فقد صرح فِي نِهَايَة الْعُقُول بِبَقَاء اخْتِيَار العَبْد مَعَ هَذَا الَّذِي يُسَمِّيه جبرا والمرجع بِهِ عِنْده إِلَى وُقُوع الرَّاجِح بالدواعي فانه فِي النِّهَايَة لما ذكر انه يلْزمهُم قبح الْمَدْح والذم والامر وَالنَّهْي أجَاب بَان مَذْهَبهم ان الِاخْتِيَار الى العَبْد فان اخْتَار الطَّاعَة خلقهَا الله فِيهِ عقيب اخْتِيَاره وَكَذَلِكَ الْمعْصِيَة كَمَا تَقول الْمُعْتَزلَة فِي المسببات كلون المداد وصبغ الثِّيَاب وازهاق الارواح وَالسحر وَنَحْو ذَلِك وَقد تطابق الرَّازِيّ والبيضاوي والشهرستاني على نِسْبَة هَذَا الى الاشعرية قَالَ الرَّازِيّ وَهُوَ الْوَجْه فِي تَوْجِيه الْأَمر وَالنَّهْي اليهم فقد أَجمعُوا بِنَقْل أَئِمَّة مَذْهَبهم هَؤُلَاءِ على ثُبُوت الِاخْتِيَار للْعَبد وان كَانَ الِاخْتِيَار وَاجِبا بالداعي قَالَ الرَّازِيّ مثل مَا أَجمعت الْمُعْتَزلَة على ثُبُوت الِاخْتِيَار لله تَعَالَى وان كَانَت أَفعاله وَاجِبَة بالدواعي فانه لَا يجوز عَلَيْهِ اخلال بِوَاجِب وَلَا فعل لقبيح قطعا مَعَ ثُبُوت الِاخْتِيَار مِنْهُ فِي ذَلِك
وَاعْلَم أَن هَذَا الْقدر كَاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة دون زِيَادَة عَلَيْهِ أَعنِي معرفَة اخْتِيَار الْعباد وتمكين الله تَعَالَى لَهُم وَقيام حجَّته بذلك عَلَيْهِم مَعَ سبق قَضَائِهِ وَقدره وَقدرته على هدايتهم أَجْمَعِينَ وحكمته فِي ذَلِك كُله
وَأما بَيَان أَقْوَالهم التفصيلية فِي ذَلِك فَاعْلَم انهم اخْتلفُوا فِي الْقدر الْمُقَابل بالجزاء وَالْقدر الْمَخْلُوق على قَوْلَيْنِ
القَوْل الأول ان فعل العَبْد الِاخْتِيَارِيّ كسب للْعَبد مَخْلُوق لله تَعَالَى
مَقْدُور بَين قَادِرين وَكَذَلِكَ اخْتِيَاره لذَلِك الْكسْب وَهُوَ مُخَاطب بالامر وَالنَّهْي مجازى على أَفعاله بالثواب وَالْعِقَاب لما لَهُ فِي فعله واختياره من الْكسْب الِاخْتِيَارِيّ لَا لما الله فيهمَا من الْخلق وَالتَّقْدِير السَّابِق من غير تَمْيِيز للقدر المكسوب من الْقدر الْمَخْلُوق الا بالوجوه والاعتبارات فان الْفرق بهَا ضَرُورِيّ لَان معنى ذَلِك ان العَبْد فعل مَا فعله من ذَلِك طَاعَة وعصيانا وَلَوْلَا انه اوقفه على ذَلِك بارادته لذَلِك وَنِيَّته لم يُوصف بذلك وَلَا تميزت الطَّاعَة من الْمعْصِيَة وَالله سُبْحَانَهُ فعل مَا فعل من ذَلِك امتنانا وامتحانا على مَا يَأْتِي وَلَو فعله على الْوَجْه الَّذِي فعله العَبْد لسمى مُطيعًا وعاصيا وَذَلِكَ محَال فِي حَقه وانما يُسمى بأفعاله خَالِقًا ومحسنا ومبتليا وحكيما وانما قَالُوا ذَلِك وَتركُوا التَّمْيِيز جمعا بَين الْأَدِلَّة المتعارضة الْمُتَقَدّمَة وفرارا من الْخَوْض فِيمَا لم يخض فِيهِ السّلف من الفروق الدقيقة بَين هَذِه الْمعَانِي على نَحْو قَول أبي عَليّ الجبائي فِي تلاوتنا لِلْقُرْآنِ انه كَلَام الله تَعَالَى حَقِيقَة وكلامنا حَقِيقَة وَأَن الله يتَكَلَّم مَعَ كل قَارِئ سَوَاء كَانَ صَادِق النِّيَّة مُطيعًا أَو مرائيا عَاصِيا قَالَ بذلك جمعا بَين الادلة أَدِلَّة الْعقل على ان التِّلَاوَة فعلنَا وكلامنا وَدلَالَة الاجماع على ان كَلَام الله تَعَالَى هُوَ المتلو فِي المحاريب الْمَكْتُوب فِي الْمَصَاحِف وَلذَلِك الْتزم أَن كَلَام الله فِي الْمَصَاحِف حَقِيقَة وان الصَّوْت كامن فِي الْحُرُوف كَمَا نَقله عَنهُ ابْن متوية فِي التَّذْكِرَة وَغَيره فَلم تلْزمهُ الْمُعْتَزلَة الْجَبْر بذلك وَلَا الضلال وَالْكفْر فَكَذَلِك كثير من أهل الحَدِيث والاثر اعتقدوا مثل ذَلِك فِي سَائِر أَفعَال الْعباد على جِهَة الايمان بِأَن الله خَالق كل شَيْء
وَاخْتَارَ هَذَا من متكلميهم جمَاعَة وَهُوَ ظَاهر عبارَة الْبَيْضَاوِيّ فِي الطوالع والسبكي فِي جمع الْجَوَامِع وَالْغَزالِيّ فِي الاحياء فانه نَص فِيهِ على بطلَان الْجَبْر بِالضَّرُورَةِ وعَلى خلق الِاخْتِيَار وَالْفِعْل وروى هَذَا صَاحب الْجَامِع الْكَافِي من عُلَمَاء أهل الْبَيْت الْمُتَقَدِّمين عَن الامام أَحْمد بن عِيسَى بن زيد بن عَليّ عليهم السلام وروى فِيهِ عَن أَحْمد بن عِيسَى انه روى عَن عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه ان رجلا سَأَلَهُ عَن أَفعَال الْعباد فَقَالَ هِيَ من الله خلق وَمن الْعباد فعل لَا تسْأَل عَنْهَا أحدا بعدِي قَالَ أَحْمد بن عِيسَى بعد رِوَايَته انما يعذب الله الْعباد على فعلهم لَا على خلقه
قلت رَوَاهُ مُنْقَطِعًا بِغَيْر اسناد وَلَو صَحَّ مثل هَذَا عَن عَليّ عليه السلام أَو عَن غَيره من الصَّحَابَة رضي الله عنهم مَا غفل عَن تدوينه أهل الحَدِيث قاطبة وَظَاهر كَلَام السَّيِّد أبي عبد الله الحسني فِي الْجَامِع الْكَافِي ان هَذَا مَذْهَب أهل ذَلِك الْعَصْر من أهل الْبَيْت وشيعتهم فانه ذكر ذَلِك عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن أَحْمد ابْن عِيسَى وَلم يذكر خلافًا لأحد
فاما الطَّاعَة وَالْخَيْر فَلَا نَكَارَة فِي مُشَاركَة الرب لعَبْدِهِ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكا مِنْكُم من أحد أبدا وَلَكِن الله يُزكي من يَشَاء} وَلَكِن لَا حجَّة لَهُم فِي ذَلِك على عدم تَمْيِيز فعل العَبْد من فعل الله أصلا بل ظَاهر الْآيَات يُعْطي التَّمْيِيز بَينهمَا وَأكْثر مَا يلتبس مثل قَول عِيسَى عليه السلام {وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الْمَوْتَى بِإِذن الله} وَلَا شكّ ان الَّذِي من عِيسَى عليه السلام انما هُوَ الدُّعَاء الى الله تَعَالَى أَو الْأَمر لَهُنَّ بذلك كَمَا قَالَ لابراهيم عليه السلام {ثمَّ ادعهن يأتينك سعيا} بل كَمَا قَالَ عِيسَى فانفخ فِيهِ طائرا باذن الله فميز فعله الَّذِي هُوَ النفخ فِي الصُّورَة فَقَط
وَأما فِي الْمعاصِي فَهُوَ الْمُشكل وَالَّذِي وجهوا فِيهِ انه يُمكن من طَرِيق الِابْتِلَاء ان يفعل الله من ذَلِك مَا يتم بِهِ تَمْكِين العَبْد من فعل الْقَبِيح كخلقه للقدرة عِنْد الْجَمِيع لَكِن عِنْد هَؤُلَاءِ انه لَا يتم التَّمْكِين بهَا وَحدهَا لِاسْتِحَالَة ذَلِك عِنْدهم عقلا وسمعا فلابد من أَمر زَائِد على خلق الْقُدْرَة لحكمة الله تَعَالَى فِي تَمام الِابْتِلَاء وَمِثَال ذَلِك قَوْله فِي السحر {فيتعلمون مِنْهُمَا مَا يفرقون بِهِ بَين الْمَرْء وزوجه وَمَا هم بضارين بِهِ من أحد إِلَّا بِإِذن الله} وَقَوله {وَفِي ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم} وَقَوله تَعَالَى {فأخرجناهم من جنَّات وعيون} وَتسَمى فِي الْمعاصِي ابتلاء وامتحانا وَفِي الطَّاعَات لطفا ومعونة وَمِثَال ذَلِك عِنْد الْجَمِيع فعل
السَّبَب بِالنّظرِ الى المسببات الَّتِي هِيَ غير مقدورة لنا كالمداد وَنَحْوه وَقد يكون عمله قبيحا كالمغصوب وَعَمله للظلمة وَسَيَأْتِي الْفرق بَين قَول هَؤُلَاءِ وَبَين قَول الاشعرية الكسبية فِي آخر الْمَذْهَب الثَّالِث من القَوْل الثَّانِي بعد هَذَا
وَهَذَا القَوْل على انه أقل أَفْوَاههم تكلفا لم يَصح فِيهِ نَص من كتاب وَلَا سنة وَلَا اجماع الصَّحَابَة وَلَا قَول وَاحِد مِنْهُم وَقد ادّعى فِيهِ اجماع الْمُتَأَخِّرين وَذَلِكَ أبعد فقد خالفهم أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ امام الْحَرَمَيْنِ وَأَصْحَابه وَالشَّيْخ أَبُو اسحاق وَكِلَاهُمَا من أجل ائمتهم فَكيف غَيرهم وَسَيَأْتِي كَلَام ابْن الْحَاجِب الدَّال على تفرد الاشعري بذلك وعَلى انه أول من قَالَ بِهِ فَلَا يسلم هَذَا الْمَذْهَب من تَسْمِيَته بِدعَة لانه لَا معنى للبدعة الا مَا حدث من العقائد بعد الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَلم يَصح عَنْهُم فِيهِ نَص
وَأما الِاسْتِنَاد الى العمومات وَنَحْوهَا فَلَا يَكْفِي فِي ثُبُوت السّنَن والا لاكتفت الْمُعْتَزلَة بقوله {خَالق كل شَيْء} على ان الْقُرْآن مَخْلُوق وان القَوْل بذلك سنة فَافْهَم هَذِه النُّكْتَة فانها نفيسة جدا فان السّنة مَا اشْتهر عَن السّلف وَصَحَّ بطرِيق النصوصية وَلَوْلَا هَذَا لكَانَتْ الْبدع كلهَا من السّنَن لانه مَا من بِدعَة الا ولأهلها شبه من العمومات والمحتملات والاستخراجات الا ترى أَن الاتحادية أبعد المبتدعة من السّنة واشنعهم بِدعَة وافحشهم مقَالا وهم مَعَ ذَلِك يحتجون بقوله تَعَالَى {إِن الَّذين يُبَايعُونَك إِنَّمَا يبايعون الله} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} وَبقول النَّبِي صلى الله عليه وسلم ان أصدق كلمة قَالَهَا لبيد الشَّاعِر أَلا كل شَيْء مَا خلا الله بَاطِل مُتَّفق على صِحَّته وَنَحْو ذَلِك كثير وَلَو كَانَ فِي اعْتِقَاد خلق الافعال خير مَا سكت عَنهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله وَأَصْحَابه ولاسبقهم الْمُتَأَخّرُونَ الى اشاعته والزام الْمُسلمين باعتقاده وتعريفهم بِوُجُوبِهِ وَكَانَ معدودا فِي أَرْكَان الدّين والاسلام المعدودة المنصوصة وَالله يحب الانصاف وَسَيَأْتِي بَقِيَّة ادلتهم وَالْجَوَاب عَنْهَا قَرِيبا ان شَاءَ الله تَعَالَى
القَوْل الثَّانِي للاشعرية من أهل الْكَلَام ان فعل العَبْد الْمُقَابل بالجزاء متميز عَن الْقدر الْمَخْلُوق لله تَعَالَى ومغاير لَهُ وَهُوَ قَول الاشعرية وَأكْثر متكلميهم ذَكرُوهُ كَمَا ذكره الشَّيْخ مُخْتَار المعتزلي وَرَوَاهُ عَن شيخ الاعتزال ابي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فِي كَيْفيَّة تَمْيِيز كسب العَبْد عَن خلق الرب على مَذَاهِب
الْمَذْهَب الأول مُقَابل لِلْقَوْلِ الأول هُوَ مَا ذكره الشهرستاني فِي نِهَايَة الاقدام والرازي فِي نِهَايَة الْعُقُول وَغَيرهمَا عَن امام الْحَرَمَيْنِ أبي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ انه أثبت لقدرة العَبْد أثرا هُوَ الْوُجُود يَعْنِي ايجاد الْحَرَكَة والسكون مَعَ اعْتِقَاد الْجُوَيْنِيّ انهما شَيْء حَقِيقِيّ وَهَذَا لفظ الشَّهْر ستاني قَالَ وغلا امام الْحَرَمَيْنِ حَيْثُ أثبت للقدرة الْحَادِثَة أثرا هُوَ الْوُجُود الا انه لم يثبت للْعَبد اسْتِقْلَالا بالوجود مَا لم يسْتَند الى سَبَب آخر يَعْنِي الدَّوَاعِي قَالَ وانما حمله على تَقْدِير ذَلِك الِاحْتِرَاز عَن ركاكة الْجَبْر وَقَالَ الرَّازِيّ فِي نِهَايَة الْعُقُول ان الْجُوَيْنِيّ صرح بذلك فِي كِتَابَة النظامي وَنسبه الرَّازِيّ أَيْضا الى الشَّيْخ أبي اسحق
وَقَالَ أَبُو نصر السُّبْكِيّ فِي جمع الْجَوَامِع عَن الْجُوَيْنِيّ انه يَقُول الطَّاعَة مخلوقة وَالرِّوَايَة الاولى أصح وَأشهر وَهِي المنصوصة فِي مصنفاته فَفِي مُقَدمَات كِتَابه الْبُرْهَان التَّصْرِيح بَان الْكسْب تمويه لَان الْمُكَلف هُوَ المتمكن وان التَّكْلِيف لَا يكون الا بالممكن وان تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق بَاطِل وأمثال هَذَا والجويني مَعَ هَذَا لَا يُخَالف فِي ان أَفعَال الْعباد مخلوقة بِمَعْنى آخر أَي مقدرَة فان الْخلق بِمَعْنى التَّقْدِير حَقِيقَة لغوية صَحِيحَة وَمَعَ خلاف الْجُوَيْنِيّ هَذَا لم يكن خَارِجا من أهل السّنة وَكَذَلِكَ الشَّيْخ أَبُو اسحق بل هما معدودان من أجل أئمتهم والدعاة الى السّنة والحماة عَنْهَا وَذَلِكَ لما قدمت فِي مَسْأَلَة الارادة ان مدَار الْخلاف بَين الْمُعْتَزلَة وَأهل السّنة عَلَيْهَا فِي مَسْأَلَة الافعال فَمن قَالَ ان مَشِيئَة الله تَعَالَى نَافِذَة وَقدرته عَامَّة وَلَو شَاءَ لهدى النَّاس جَمِيعًا فَهُوَ على السّنة وان خَالف فِي مَسْأَلَة خلق الافعال لَان الْقدر الْمجمع عَلَيْهِ بَين أهل السّنة أَن العَبْد فَاعل مُخْتَار مستعين بِاللَّه غير مُسْتَقل بِنَفسِهِ طرفَة عين على مَا يَقْتَضِيهِ قَوْله تَعَالَى {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} وأمثالها كَمَا تقدم وتكرر ذكره
الْمَذْهَب الثَّانِي لأهل السّنة مَذْهَب شيخ الاسلام ومتكلم أهل الْآثَار أَحْمد بن تَيْمِية الْحَرَّانِي وَهُوَ مثل مَذْهَب الْجُوَيْنِيّ سَوَاء الا أَنه لَا يرى الاكوان أمورا حَقِيقِيَّة بل يَرَاهَا صِفَات اضافية كَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ والامام يحيى بن حَمْزَة عليه السلام على مَا مضى فِي أول الْمَسْأَلَة وَهَذَا أقوى من قَول الْجُوَيْنِيّ أَدِلَّة لما يرد على مثبتي الاكوان من الاشكالات الصعبة وَهُوَ أنسب لمَذْهَب أهل السّنة لَان صَاحبه لم يَجْعَل للقدرة الْحَادِثَة أثرا فِي اخراج شَيْء حَقِيقِيّ من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود وَالْقَوْل بَان الاكوان صِفَات اضافية قَول جمَاعَة من الْمُحَقِّقين وَعَزاهُ الشَّيْخ مُخْتَار فِي الْمُجْتَبى الى الْمُحَقِّقين وَهُوَ يُوَافق قَول الاشعرية كُله فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الا قَوْلهم ان الاكوان أَشْيَاء حَقِيقِيَّة وَهُوَ أقوى هَذِه التفاصيل وأقربها الى الْفطْرَة وأسلمها من الْبِدْعَة لانه لَا بِدعَة فِي اثبات الْحَرَكَة والسكون وَلَا فِي انهما صفتان للاجسام وَلَا فِي انهما فعلان للعباد مقدران لَهُم وَنَحْو ذَلِك وَلم يتَوَقَّف شئ من هَذَا على النّظر الدَّقِيق والبحث العميق
الْمَذْهَب الثَّالِث قَول الأشعرية الكسبية وَقد اجْمَعُوا على ان الْقدر الْمُقَابل بالجزاء من فعل العَبْد غير مَخْلُوق لله تَعَالَى وَقد جود بَيَان هَذَا مِنْهُم الشهرستاني فِي نِهَايَة الاقدام ونقلت كَلَامه على طول الى العواصم لنفاسته وَحسن سِيَاقه وَبَيَانه وهم مَعَ هَذَا يطلقون القَوْل بَان أَفعَال الْعباد مخلوقة وانما يُرِيدُونَ ذَوَات الاكوان الَّتِي هِيَ الْحَرَكَة والسكون مجردين عَن الْوُجُوه والاعتبارات وَسَائِر الاحوال الَّتِي هِيَ أثر قدرَة الْعباد عِنْدهم والاحوال عبارَة عَمَّا تخْتَلف بِهِ الاكوان المتماثلة أَلا ترى أَن الحركات متماثلة من حَيْثُ أَنَّهَا حركات وحوادث ثمَّ هِيَ مُخْتَلفَة فِي الْحسن والقبح والاصابة وَالْخَطَأ والسرعة والبطئ متمايزة فِي أَنه بَعْضهَا حَرَكَة كِتَابَة وَبَعضهَا حَرَكَة صياغة وَبَعضهَا حَرَكَة غياصة ولاختلاف أحوالها وتمايزها كَانَ بَعْضهَا مجونا مضحكا وَبَعضهَا هائلا مفزعا وَبَعضهَا خارقا معجزا وَبَعضهَا محكما متقنا إِلَى غير ذَلِك وَلَا شكّ أَن الْقدر الَّذِي اخْتلفت فِيهِ غير الْقدر الَّذِي اتّفقت فِيهِ وَهُوَ مُجَرّد الِانْتِقَال والحدوث فاضافوا هَذِه الاحوال المقدورة للعباد اليهم وأضافوا ذَات الْحَرَكَة وحدوثها إِلَى الله تَعَالَى وَالَّذِي ألجأهم إِلَى ذَلِك أَن الْحَرَكَة
والسكون عِنْدهم من الاشياء الْحَقِيقِيَّة مثل الْأَجْسَام وَأَنه لَا يقدر على إِيجَاد الْأَشْيَاء الْحَقِيقِيَّة إِلَّا الله وتأولوا على ذَلِك قَوْله تَعَالَى {هَل من خَالق غير الله} أَي للاشياء الْحَقِيقِيَّة وَلم يجْعَلُوا من ذَلِك الْأَشْيَاء اللُّغَوِيَّة الْمُسَمَّاة فِي عرفهم بالاحوال وبالوجوه وبالاعتبارات وبالاضافات وبالمعاصي والطاعات
وَلَا خلاف بَين عُلَمَاء اللَّطِيف أَن الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة ليسَا بِشَيْء حَقِيقِيّ كالاجسام بل هما معقولان حَتَّى فِي التروك الَّتِي هِيَ عدم الافعال على الصَّحِيح فانا نعقل قبح التّرْك لقَضَاء الدّين وَترك رد الْوَدِيعَة وَترك الصَّلَاة ونعقل حسن ترك الْمَظَالِم وَترك الْعدوان على الْمَسَاكِين قبل أَن نعقل أَن التّرْك كف النَّفس عَن الْفِعْل أَو عدم مَحْض فالواقع عِنْدهم بقدرة الله تَعَالَى هُوَ الْحَرَكَة من حَيْثُ هِيَ حَرَكَة مُجَرّدَة وَلَا قبح فِيهَا من هَذِه الْجِهَة إِجْمَاعًا وَكَذَلِكَ لَا قبح فِيهَا من حَيْثُ هِيَ حَادِثَة فَلذَلِك نسبوا الْحَرَكَة وحدوثها إِلَى الله تَعَالَى وَالْوَاقِع بقدرة العَبْد هُوَ كَون الْحَرَكَة طَاعَة أَو مَعْصِيّة أَو حجا أَو صَلَاة أَو ظلما أَو قتلا أَو نَحْو ذَلِك من الْأَحْوَال
قَالُوا وَلذَلِك يشتق من هَذِه الْأَشْيَاء أَسمَاء الفاعلين لَهَا دون الله تَعَالَى فقد بَالغ الشهرستاني فِي نِهَايَة الاقدام فِي رد مَذْهَب الْمُعْتَزلَة الْمُتَقَدّم فِي حِكَايَة الْأَقْوَال فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وعارضهم بمعارضات جدلية مُعَارضَة عَارِف لمذهبهم مُحَقّق لمقاصدهم من ذَلِك قَالَ ان الْحُدُوث والوجود صفة غير مَطْلُوبَة من العَبْد وَلَا مَمْنُوعَة وَلَا محمودة وَلَا مذمومة من هَذِه الْجِهَة لِأَنَّهَا مُشْتَركَة بَين الْحسن والقبيح إِذْ كل مِنْهُمَا حَادث مَوْجُود قَالَ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يُضَاف إِلَى العَبْد مَا طلب مِنْهُ أَو نهي عَنهُ وَهُوَ أَمر أخص من ذَلِك وَهُوَ كَون ذَلِك الْحُدُوث طَاعَة أَو مَعْصِيّة وهما أثر قدرَة العَبْد عِنْد الأشعرية وهما المقابلان بالجزاء قَالَ وَعند الْمُعْتَزلَة أثر قدرَة العَبْد من أثر قدرَة الرب عز وجل عِنْد من يُطلق أَن أَفعَال الْعباد مخلوقة وَمن الْأَمْثِلَة الَّتِي يظْهر فِيهَا الْمَقْدُور بَين قَادِرين حمل الْعَرْش فان الله تَعَالَى قد نسبه إِلَى حَملته من الْمَلَائِكَة من أَن الله تَعَالَى حَامِل لَهُم وَلما استقروا عَلَيْهِ من سَمَاء وَأَرْض وَالْحَامِل للقرار حَامِل
لما عَلَيْهِ قطعا فَثَبت أَن الْعَرْش مَحْمُول لله تَعَالَى مَعَ أَنه مَحْمُول لحملته عليهم السلام
وَالْفرق بَين قَول هَؤُلَاءِ وَبَين أهل القَوْل الأول أَن هَؤُلَاءِ يجْعَلُونَ ذَات الْحَرَكَة خلقا لله تَعَالَى وَحده وَعِنْدهم تَأْثِير قدرَة العَبْد فِيهَا محَال مُطلقًا وَعند الطَّائِفَة الأولى أَن قدرَة العَبْد تُؤثر فِي ذَات الْحَرَكَة مَعَ خلق الله تَعَالَى للحركة لَا مُسْتقِلّا مُنْفَردا فَالْفرق أَن الَّذِي اخْتصَّ الله تَعَالَى بِهِ عِنْد هَؤُلَاءِ هُوَ عدم الِاسْتِقْلَال بالايجاد وَعند الأشعرية الكسبية هُوَ الايجاد مُطلقًا وَأما الْوُجُوه والاعتبارات فاتفقوا كلهم على أَنَّهَا من أثر قدرَة الْعباد فَلَا يُسمى العَبْد خَالِقًا عِنْد الْأَوَّلين لعدم استقلاله