المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الرابعة أن الله تعالى لا يكلف ما لا يطاق - إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات

[ابن الوزير]

الفصل: ‌المسألة الرابعة أن الله تعالى لا يكلف ما لا يطاق

‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة أَن الله تَعَالَى لَا يُكَلف مَا لَا يُطَاق

وَهُوَ قَول الجماهير من جَمِيع طوائف الْمُسلمين وَإِجْمَاع العترة والشيعة والمعتزلة وَرَوَاهُ ابْن بطال فِي شرح البُخَارِيّ عَن الْفُقَهَاء أَجْمَعِينَ وَنسب السُّبْكِيّ الْمَنْع مِنْهُ إِلَى الْغَزالِيّ وَالشَّيْخ أبي حَامِد وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين الشهير بِابْن دَقِيق الْعِيد وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ أبي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ والآمدي على تَفْصِيل ذكره فِي الْفرق بَين الْمحَال لذاته وَلغيره

وَاعْلَم أَن هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ وَلَا ريب وَإِنَّمَا يتعجب من وُقُوع الْخلاف الشاذ فِي ذَلِك وَأي شكّ فِي ذَلِك وَالله تَعَالَى قد نَص فِي كِتَابه الْكَرِيم على ذَلِك فِي غير مَوضِع كَقَوْلِه تَعَالَى {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} وَفِي آيَة أُخْرَى (لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا) بالنُّون وَفِي آيَة أُخْرَى {إِلَّا مَا آتاها} وَمِنْه {أم تَسْأَلهُمْ أجرا فهم من مغرم مثقلون} وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {مكناهم فِي الأَرْض} وَفِي آيَة {وَلَقَد مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ وَجَعَلنَا لَهُم سمعا وأبصارا وأفئدة} الْآيَة وأمثال ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى

وَالْمرَاد بالاحتجاج بِهَذِهِ الْآيَات وَنَحْوهَا أَنَّهَا شاهدة على اعْتِبَار مَا يُسمى حجَّة فِي عرف الْعُقَلَاء وَامْتِنَاع نقيض ذَلِك على أحكم الْحَاكِمين وَأَن هَذَا مَعْلُوم ضَرُورَة من كتب الله تَعَالَى وأديان رسله عليهم السلام وَنَصّ على مَا يسْتَلْزم ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى كَثْرَة من سَعَة رَحمته وَظُهُور عدله وعظيم فَضله وَعدل أَحْكَامه وَظُهُور حكمته وشمول نعْمَته وَقَوله من أَتَانِي يمشي أَتَيْته أسعى وَمن تقرب إِلَيّ شبْرًا تقربت اليه ذِرَاعا بل سمح سُبْحَانَهُ من الوسع الْمُمكن الْمَقْدُور مَا لَا يُحْصى وَنَصّ على ذَلِك فَقَالَ تَعَالَى {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} وَقَالَ {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر}

ص: 325

) فسمح سبحانه وتعالى مِمَّا يُطَاق الْكثير الَّذِي لَا يعلم مِقْدَاره إِلَّا هُوَ وَلم يبْق من التكاليف إِلَّا مَا جعله سَببا لِرَحْمَتِهِ وفضله وكرامته كَمَا جعل الْبذر فِي الدُّنْيَا سَببا للزَّرْع الَّذِي لَا ينميه ويتمه سواهُ وَبشر سُبْحَانَهُ وَيسر وَنهى عَن التعسير والتنفير وَجَاء على لِسَان نبيه نَبِي الرَّحْمَة صلى الله عليه وسلم أَنه الْمَبْعُوث بالحنيفية السمحة وتلقى ذَلِك عُلَمَاء الاسلام بالتصديق والاشاعة وَعمِلُوا فِي الاحكام بِحَسب ذَلِك وَاحْتَجُّوا بِهِ وشاع فِيمَا بَينهم وذاع وانعقد على عدم انكاره الاجماع وَلم يُعَارض ذَلِك عقل وَلَا شرع وَلَا نَص وَلَا ظَاهر وناسب هَذَا كُله تمدح أصدق الْقَائِلين بِأَنَّهُ أرْحم الرَّاحِمِينَ وَخير الرَّاحِمِينَ وَأكْرم الأكرمين وَلَا يخْتَص الْمُؤمنِينَ من رَحمته تَعَالَى إِلَّا كتَابَتهَا ووجوبها لَهُم وَنَحْو ذَلِك دون سعتها فانها لكل شَيْء كَمَا تبين فِي قَوْله تَعَالَى {ورحمتي وسعت كل شَيْء} الْآيَة وَمن حرمهَا فَذَلِك لاستحقاقه ولحكمه بَالِغَة وَهِي تَأْوِيل الْمُتَشَابه على مَا نَص على أَن الْخُصُوم جوزوا تَكْلِيف الْمُؤمنِينَ المرحومين بِمَا لَا يُطَاق عقلا وسمعا بل جوزوا عقلا عقابهم بذنوب أعدائهم الْمُشْركين بل جوزوا ذَلِك فِي حق الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وَالله تَعَالَى تمدح بضد ذَلِك وَبِأَن لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى وَله أعظم الْحَمد وَالْمجد وَالشُّكْر وَالثنَاء دع عَنْك الْعدْل فِي الحكم وَالْجَزَاء وعضد ذَلِك الثَّنَاء الْعَظِيم من رَسُوله الْكَرِيم بِأَنَّهُ لَا أحد أحب اليه الْعذر مِنْهُ سبحانه وتعالى من أجل ذَلِك أرسل رسله إِلَى الْعَالمين وَأنزل كتبه على الْمُرْسلين وَجعل رسله تترى إِلَى خلقه مبشرين ومنذرين ومعلمين ومحتجين وميسرين غير معسرين لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل

وَالْعجب مِمَّن يَدعِي الْفِقْه والفهم بل الامامة الْعُظْمَى فِي الْعلم كَيفَ لم يعلم أَن مُرَاد الله تَعَالَى هُوَ أطيب الثَّنَاء وَأحسن الْأَسْمَاء وأجمل الْحَمد وَأتم الْعدْل وَأحمد الْأُمُور كلهَا أَو قد فهم هَذَا كُله وَلَكِن ظن أَن تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَطلب تنجيزه من العَبْد الضَّعِيف وعقوبته عَلَيْهِ أَشد الْعقُوبَة وأدومها هُوَ أنسب بأطيب الثَّنَاء والممادح الربانية والمحامد الرحمانية من

ص: 326

عكس ذَلِك كَأَنَّهُ لم يعرف الْقُرْآن وَالسّنة قطّ قَالَ سبحانه وتعالى فِي ذَلِك {وَلَو أَنا أهلكناهم بِعَذَاب من قبله لقالوا رَبنَا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك من قبل أَن نذل ونخزى} وَقَالَ عز وجل {أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين} وَقَالَ فِي الزمر {أَن تَقول نفس يَا حسرتى على مَا فرطت فِي جنب الله وَإِن كنت} الْآيَات إِلَى قَوْله {بلَى قد جاءتك آياتي فَكَذبت بهَا واستكبرت وَكنت من الْكَافرين} وَقَالَ تَعَالَى {ذكرى وَمَا كُنَّا ظالمين} وَقَالَ تَعَالَى {شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وأولو الْعلم قَائِما بِالْقِسْطِ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} فَجعل الْقسْط الَّذِي هُوَ الْعدْل مِمَّا هُوَ لَازم لتوحيده فِي الالهية وَمِمَّا هُوَ قَائِم بِهِ وَمِمَّا شهد بِهِ لنَفسِهِ وَشهد لَهُ بِهِ خَواص خلقه وَأهل مَعْرفَته وَالْعدْل هُوَ ضد الْجور والعنف والعسف وَذَلِكَ كُله دون تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق فانه قد وصف بذلك كثير من مُلُوك الْجور وَلم يُوصف أحد مِنْهُم قطّ بتكليف مَا لَا يُطَاق كَمَا يَأْتِي تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا أَفلا يخَاف الْمُخَالف أَن لَا يكون من الْعلمَاء الَّذين شهدُوا لله بِهَذِهِ الشَّهَادَة إِلَى غير ذَلِك

وأوضح من ذَلِك أَنه سبحانه وتعالى كتب الاعمال فِي الْكتب وَأشْهد على خلقه مَلَائكَته الْكِرَام ثمَّ نصب الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة وأنطق الْجُلُود والاعضاء بعد شَهَادَة الْمَلَائِكَة وصالحي خلقه بعد رسله عليهم السلام كل ذَلِك ليقيم الْحجَّة حجَّة عدله وعظيم فَضله وَيقطع اعذار المعاندين والجاهلين والمتجاهلين وَكم احْتج الله تَعَالَى بذلك وتمدح بِهِ فِي كريم كِتَابه كَقَوْلِه تَعَالَى {ثمَّ السَّبِيل يسره} وَقَوله تَعَالَى {وهديناه النجدين} وَقَوله عز سُلْطَانه {إِنَّا هديناه السَّبِيل إِمَّا شاكرا وَإِمَّا كفورا} بل نفى سبحانه وتعالى مَا يسْتَلْزم ذَلِك أَو يُقَارِبه

ص: 327

كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى {أم تَسْأَلهُمْ أجرا فهم من مغرم مثقلون} فأوضح أَنه لم يبْق لَهُم عذرا يتعللون بِهِ إِذْ لَا معنى لنفي المغرم الثقيل مَعَ وجود التَّكْلِيف الْمُمْتَنع لذاته المستحيل ثمَّ تمدح سبحانه وتعالى بِالْقضَاءِ الْحق يَوْم الْقِيَامَة فِي غير آيَة

فالعجب مِمَّن لم يفهم أَن ذَلِك يُنَافِي تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق ويضاده مِمَّن يَدعِي الانصاف وَفهم الدقائق والغوص على غوامض الْحَقَائِق وَأَنه فِي رُتْبَة الذب عَن الاسلام وَنَحْو ذَلِك كثير جدا فِي كتاب الله تَعَالَى فَكيف يقدم على هَذَا كُله مَفْهُوم ظَنِّي مَرْجُوح مُخْتَلف فِي مَعْنَاهُ كَمَا ذكره الْغَزالِيّ فِي قَوْله تَعَالَى حاكيا عَن عباده {رَبنَا وَلَا تحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ} وَالله تَعَالَى يَقُول {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} وَيَقُول {فبشر عباد الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه أُولَئِكَ الَّذين هدَاهُم الله وَأُولَئِكَ هم أولُوا الْأَلْبَاب} وَلَا شكّ فِي وضوح الْآيَات فِي نفي ذَلِك وحسنها سمعا وعقلا وفضلا وعدلا

وَأما الْآيَة الَّتِي احْتج بهَا فقد ذكر الْبَغَوِيّ وَغَيره من هَل السّنة اخْتِلَاف الْمُفَسّرين فِي مَعْنَاهَا وفيهَا احْتِمَالَانِ لَا دَافع لَهما وَأيهمَا كَانَ تَفْسِيرهَا فَالثَّانِي تَفْسِير الَّتِي قبلهَا فَافْهَم أَحدهمَا أَن يكون المُرَاد التكاليف الشاقة مَعَ دُخُولهَا تَحت الْقُدْرَة وَقد دلّ على ذَلِك حَدِيث أبي قَتَادَة رضي الله عنه خرجه مُسلم فِي الصَّحِيح وَغير مُسلم وَفِيه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَمَّن يَصُوم الدَّهْر فَقَالَ لَا صَامَ وَلَا أفطر فَقيل كَيفَ بِمن يَصُوم يَوْمَيْنِ وَيفْطر يَوْمًا قَالَ أَو يُطيق ذَلِك أحد إِلَى قَوْله فِيمَن يَصُوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا وددت أَنِّي طوقت ذَلِك

وَقد نَص ابْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة على أَنه صلى الله عليه وسلم لم يعجز عَن ذَلِك لضعف

ص: 328

وَأعظم من ذَلِك نفي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن يُطيق أحد على صَوْم يَوْمَيْنِ وَفطر يَوْم وَذَلِكَ وَاضح فِي أَنه صلى الله عليه وسلم فسر الطَّاقَة هُنَا بِمَا لَا مشقة فِيهِ وَلَا حرج فَدلَّ على أَن الشاق يُسمى غير مطاق فِي عرفهم وَلَا أصح من اثبات اللُّغَة بالسند الصَّحِيح بل الْمُتَّفق على صِحَّته من طَرِيق تلقتها الامة بِالْقبُولِ وَادّعى الاجماع على صِحَّتهَا بَاطِنا وظاهرا عدد كثير من أَئِمَّة الاسلام وَعَادَة اللغويين والمفسرين الِاكْتِفَاء فِي مثل ذَلِك بِرِوَايَة بعض أهل اللُّغَة بِغَيْر سَنَد وَلَا تَوْثِيق

الِاحْتِمَال الثَّانِي أَن يكون من تحميل عقوبات الذُّنُوب فِي الدَّاريْنِ مثل المصائب فِي الدُّنْيَا وَعَذَاب الْقَبْر فِي البرزخ وَعَذَاب النَّار فِي الْآخِرَة وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَإِن تدع مثقلة إِلَى حملهَا لَا يحمل مِنْهُ شَيْء وَلَو كَانَ ذَا قربى} وَهَذَا صَرِيح فِي هَذَا الْمَعْنى وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ولنحمل خطاياكم وَمَا هم بحاملين من خطاياهم من شَيْء}

وَمِنْه حَدِيث عبد الْملك فِي ابْن الزبير وددت أَنِّي تركته وَمَا يحمل من الاثم فِي هدمها وبنائها ذكره ابْن الْأَثِير فِي نِهَايَة الْغَرِيب فِي مَادَّة ح م ل وَهُوَ معنى صَحِيح فصيح وَقد فسر بِهَذَا الْمَعْنى الْعَلامَة الْمُتَّفق على علمه وجلالته عبد الْملك بن جريج فَقَالَ هُوَ مسخ القردة والخنازير رَوَاهُ الْبَغَوِيّ عَنهُ فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة فَجعله من قبيل مَا لَا يُطَاق من عقوبات الذُّنُوب وَجعله كثير من الْمُفَسّرين من الاول أَعنِي الشاق فَقَالَ مُجَاهِد هُوَ الغلمة وَقَالَ ابراهيم هُوَ الْحبّ وَقيل شماتة الْأَعْدَاء وَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الْعِشْق وَقيل هُوَ الْفرْقَة والقطيعة ذكر ذَلِك كُله الْبَغَوِيّ وَلم يذكر قطّ عَن أحد من الْمُفَسّرين أَنه تَكْلِيف الْمحَال وَهُوَ من أهل السّنة فَكيف يرى هَذَا الْمَعْنى المتسع لمثل هَذِه الِاحْتِمَالَات والمعاني الْمُخْتَلفَة يقدم على النَّص الْجَلِيّ الَّذِي أثنى الله تَعَالَى بِهِ على نَفسه وتمدح بِهِ من قَوْله {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَمَا فِي معنى ذَلِك من أَسمَاء الله الْحسنى وَمَا ذَكرْنَاهُ من الحَدِيث وَلَا سِيمَا ونزول قَوْله تَعَالَى {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} كل ذَلِك مَعَ قَوْله تَعَالَى {رَبنَا وَلَا تحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ}

ص: 329

) فِي آيَة وَاحِدَة وَفِي وَقت وَاحِد فَلَا يجوز أَن يتناقض فَيكون أَحدهمَا نَاسِخا وَالْآخر مَنْسُوخا وكونهما نزلا مَعًا أَمر ثَابت فِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما وَعَن أبي هُرَيْرَة كِلَاهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على أَنا لَو سلمنَا لمن احْتج بهَا مَا توهمه من أَن المُرَاد لَا تحملنا مَا لَا نطيقه من التكاليف الْمحَال وُقُوعهَا لما سلمنَا أَن الدُّعَاء بذلك يسْتَلْزم جَوَاز وُقُوعه من الله تَعَالَى فقد دلّ الدَّلِيل على جَوَاز الدُّعَاء بِمَا لَا يجوز على الله تَعَالَى خِلَافه كَقَوْلِه تَعَالَى {قَالَ رب احكم بِالْحَقِّ} فانه دُعَاء إِلَى الله تَعَالَى بِمَا لَا يَقع سواهُ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قل رب إِمَّا تريني مَا يوعدون رب فَلَا تجعلني فِي الْقَوْم الظَّالِمين} فانه مَعْلُوم أَن الله تَعَالَى لَا يَجْعَل رَسُوله الْكَرِيم عَلَيْهِ الحبيب اليه مَعَ خصومه المكذبين بِهِ المعاندين لَهُ فِيهِ وَكَذَلِكَ استغفاره صلى الله عليه وسلم من ذنُوبه فانه مَأْمُور بِهِ فِي سُورَة النَّصْر وَهِي نزلت بعد قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْفَتْح {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} فَهُوَ سُؤال لما لَا يَقع وَكَذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم لعَلي عليه السلام أَلا أعلمك كَلِمَات إِذا قلتهن غفر الله لَك مَعَ أَنه مغْفُور لَك رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة من حَدِيثه عليه السلام فَيكون الدُّعَاء حِينَئِذٍ عبَادَة يحصل بهَا الثَّوَاب والتشريف للْعَبد والتقريب وَتَحْصِيل المسؤول بسببين لما لله تَعَالَى فِي ذَلِك من الْحِكْمَة فَأولى وَأَحْرَى قَوْله تَعَالَى {رَبنَا وَلَا تحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ} وَهَذَا أَمر شهير كثير جدا وَمِنْه قَول الْقَائِل

(وَهَذَا دُعَاء لَو سكت كفيته

لِأَنِّي سَأَلت الله مَا هُوَ فَاعل)

وأعجب من ذَلِك قَول الْغَزالِيّ فِي الاحياء أَن ذَلِك وَقع جَازِمًا بِهِ محتجا عَلَيْهِ بتكليف أبي لَهب بِالْإِيمَان مَعَ قَوْله تَعَالَى {سيصلى نَارا ذَات لَهب} وَقد رد هَذَا ابْن الْحَاجِب فِي مُخْتَصر الْمُنْتَهى بِأَنَّهُ مثل خبر قوم نوح {أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن} قلت بل هُوَ وَالْعلم السَّابِق سَوَاء وَالْكل مَسْأَلَة وَاحِدَة وَهِي الْمَعْرُوفَة فِي علم الْأُصُول بالممتنع لغيره لَا لذاته والتكليف بذلك جَائِز بالاجماع وَلَا يُسمى محالا وفَاقا

ص: 330

وَقد بَين الْحلِيّ المعتزلي الشيعي فِي مُخْتَصر الْمُنْتَهى أَن ذَلِك هُوَ الَّذِي جوزه الْغَزالِيّ وَابْن الْحَاجِب لَا الْمحَال لنَفسِهِ قلت بل ذَلِك جَائِز عِنْد الْمُعْتَزلَة وَجَمِيع الْمُسلمين أَجْمَعِينَ إِلَّا من زعم أَن الله تَعَالَى لَا يعلم الْغَيْب مِمَّن يَدعِي الاسلام من الغلاة فِي نفي الْقدر وَقد بَين ذَلِك الْعَلامَة ابْن أبي الْحَدِيد فِي شرح نهج البلاغة فِي شرح قَوْله عليه السلام اقْتُلُوهُ وَلنْ تقتلوه فَكيف أوهم الْغَزالِيّ فِي الاحياء أَنه يجوز التَّكْلِيف بالمحال مُطلقًا وأوهم أَن ذَلِك وَقع

وَقد قَالَ السُّبْكِيّ فِي جمع الْجَوَامِع وَالْحق وُقُوع الْمُمْتَنع بِالْغَيْر لَا بِالذَّاتِ وتسميتهم لهَذَا الْجِنْس بالممتنع من قبيل الْمجَاز وَهُوَ مِمَّا لَا يجوز إِلَّا مَعَ الْبَيَان لِأَن الْعلم غير مَانع بِنَفسِهِ عِنْد جَمِيع الْمُحَقِّقين

وَقد نَص الشهرستاني من كبار الأشعرية على أَن الْعلم غير مُؤثر بالاجماع وَصحح ذَلِك غير وَاحِد مِنْهُم دع عَنْك الْمُعْتَزلَة وَاحْتج الْجُوَيْنِيّ على ذَلِك بِأَنَّهُ لَو كَانَ الْعلم يُؤثر فِي الْمَعْلُوم لما تعلق الْعلم بالقديم نَفسه سبحانه وتعالى لِأَنَّهُ لَا يَصح أَن يُؤثر فِي الله تَعَالَى شَيْء

وَاحْتج الرَّازِيّ على ذَلِك بِوُجُوه كَثِيرَة مِنْهَا أَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى نفي قدرَة الله تَعَالَى وَذَلِكَ كفر بالاجماع وَإِنَّمَا كَانَ يُؤَدِّي إِلَى ذَلِك لِأَن علم الله تَعَالَى مُتَعَلق بِجَمِيعِ أَفعاله وتروكه فَكَانَ يلْزم أَن مَا علم الله أَنه يَفْعَله فِي وَقت لم يُوصف بِالْقُدْرَةِ على تَركه وَلَا تَقْدِيمه وَلَا تَأْخِيره وَمَا علم أَنه يتْركهُ لم يُوصف بِالْقُدْرَةِ على فعله وَذَلِكَ يسْتَلْزم اسْتِقْلَال الْعلم بالتأثير واستغناء الْعَالم عَن الْقُدْرَة وَذَلِكَ يسْتَلْزم انقلاب الْعلم قدرَة وانقلاب الْفَاعِل الْمُخْتَار غير مُخْتَار وَذَلِكَ محَال

وَذكر ابْن الْحَاجِب أَن مثل هَذَا يُؤَدِّي إِلَى أَن التكاليف كلهَا تَكْلِيف بالمحال قَالَ وَذَلِكَ خلاف الاجماع وَقَالَ أَيْضا أَن الْمُمكن لَا يخرج عَن امكانه بِخَبَر أَو علم انْتهى

ص: 331

وَاعْلَم أَنهم إِنَّمَا أَرَادوا أَن الْعلم لَا يُؤثر تَأْثِير الْقُدْرَة فِي إِيجَاد المعلومات وَفعل المأمورات وَلم يُرِيدُوا نفي كل تَأْثِير للْعلم مُطلقًا فان الْعلم يُؤثر تَأْثِير الدَّوَاعِي والصوارف مِثَاله أَن من علم أَن الْعقَاب يحصل على ترك الصَّلَوَات وَالثَّوَاب الْعَظِيم يحصل على فعلهَا كَانَ علمه ذَلِك مرجحا لفعلها على تَركهَا مؤثرا فِي وُقُوعهَا من الْعَالم بذلك أَلا ترَاهُ لَا يَتْرُكهَا مَعَ أَن تَركهَا أسهل مَا ذَاك إِلَّا لترجيح الْعلم نعم وَقد ذكرت فِي العواصم غير هَذِه الْوُجُوه فِي أَن الْعلم غير مُؤثر تَأْثِير الْقُدْرَة وَكَذَلِكَ الشَّيْخ مُخْتَار فِي الْمُجْتَبى جود الْكَلَام فِي ذَلِك وَذكرت فِي العواصم وَجها حسنا فِي افحام من يحْتَج على الله تَعَالَى بِالْعلمِ من المبتدعة والملاحدة وَذَلِكَ أَنا لَو سلمنَا تَسْلِيم جدل أَنه مُؤثر ومانع من خِلَافه منع اسْتِحَالَة لزم أَن تكون حجَّة الله تَعَالَى على عَذَاب العصاة لِأَن الْعلم بِأَفْعَال الله تَعَالَى كَمَا يتَعَلَّق بِأَفْعَال عباده إِجْمَاعًا فَكَمَا أَنهم لَا يستحسنون من الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة أَن يَقُول إِنَّمَا عذبتكم لسبق علمي بذلك فَكَذَلِك لَا يحسن مِنْهُم أَن يَقُولُوا إِنَّمَا عصيناك لسبق علمك بذلك وَإِن حسن ذَلِك مِنْهُم كَانَ من الله أحسن

وَيلْحق بِهَذِهِ أُمُور يشْتَد تعجب الْعَاقِل مِنْهَا

أَحدهَا أَن مَذْهَب الْغَزالِيّ نَفسه أَن التَّكْلِيف بالمحال لذاته لَا يجوز على الله وَهُوَ مَشْهُور عَنهُ فِي شرح الْمُنْتَهى وَجمع الْجَوَامِع وَغَيرهمَا حَتَّى ذكرُوا أَن حجَّته على ذَلِك هِيَ حجَّة ابْن الْحَاجِب وَإِنَّمَا أَرَادَ الْغَزالِيّ بِالْوَصِيَّةِ بذلك فِي إحْيَاء عُلُوم الدّين الْمُوَافقَة لعقيدة الاشعرية على أَن ذَلِك لم يَصح قطّ عَن الاشعري وَلَا لذَلِك عَنهُ أصل صَحِيح كَمَا أوضحته فِي العواصم وَلذَلِك صدر ابْن الْحَاجِب الْمَسْأَلَة بِأَن التَّكْلِيف بالمحال لَا يجوز ثمَّ قَالَ وَنسب خِلَافه إِلَى الاشعري على صِيغَة مَا لم يسم فَاعله ثمَّ ذكر أَن ذَلِك نسب إِلَى الْأَشْعَرِيّ على جِهَة الالزام لَهُ لَا أَنه نَص على ذَلِك ثمَّ تعصب أَصْحَاب الاشعري لَهُ على توهم أَنه مذْهبه وقدموه على نُصُوص كتاب الله تَعَالَى ونصوص رَسُوله صلى الله عليه وسلم وعَلى الْبَرَاهِين الْعَقْلِيَّة فانا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون

وَثَانِيهمَا أَن الْغَزالِيّ ذكر فِي كِتَابه الاقتصاد فِي الِاعْتِقَاد تَأْوِيل ذَلِك بِمَا يُخرجهُ عَن مَحل النزاع وَيَقْتَضِي جمع الْكَلِمَة على نَفْيه عَن الله سُبْحَانَهُ

ص: 332

وَتَعَالَى فَللَّه الْحَمد وَذَلِكَ أَنه ذكر فِيهِ أَن المُرَاد بذلك مُجَرّد اعْتِقَاد الْمُكَلف أَنه مُخَاطب بذلك لَا أَنه مَطْلُوب مِنْهُ لَكِن خُوطِبَ بِهِ ليعتقد توجه الطّلب اللَّفْظِيّ اليه لَا أَنه أُرِيد مِنْهُ فعله وَلَا يجب عَلَيْهِ إِلَّا مُجَرّد ذَلِك الِاعْتِقَاد

قلت وَهَذَا على نَحْو قَول الله تَعَالَى للمصورين يَوْم الْقِيَامَة أحيوا مَا خلقْتُمْ للتعجيز لَا لطلب ذَلِك مِنْهُم وَمِنْه حَدِيث من كذب فِي حلمه كلف يَوْم الْقِيَامَة عقد شعيرَة وَقد أَشَارَ إِلَى هَذَا الْجُوَيْنِيّ فِي مُقَدمَات الْبُرْهَان فَقَالَ إِن كَانَ المُرَاد وُرُود صِيغَة الامر لَا حَقِيقَته فَذَلِك جَائِز كَقَوْلِه تَعَالَى {كونُوا قردة خَاسِئِينَ} فان مَعْنَاهُ كوناهم قردة فَكَانُوا كَمَا شِئْنَا وَإِن كَانَ المُرَاد تَحْصِيل الْمَأْمُور بِهِ فَذَلِك مُمْتَنع قلت قد صرح الْغَزالِيّ فِي الاقتصاد أَن الأول هُوَ المُرَاد وعَلى هَذَا فَلَا يكون اعلام أبي لَهب بِأَنَّهُ سيصلي نَارا ذَات لَهب بعد كفره الْعَظِيم مَحل النزاع لوجوه

الْوَجْه الأول إِن النزاع إِنَّمَا هُوَ فِي تَكْلِيف يَقع عَلَيْهِ الْجَزَاء والعقوبة وَحده كَمَا لَو كلف أعمى بنقط مصحف على الصَّوَاب وَلم يكلفه الله تَعَالَى بِغَيْر ذَلِك وَلَا عَاقِبَة على سواهُ وَكَانَ الاعمى يود أَنه تمكن من ذَلِك وامتثل ثمَّ يخلد فِي عَذَاب النَّار بترك ذَلِك فَهَذَا مَا لم ينْسبهُ أحد إِلَى معبوده من جَمِيع الْعُقَلَاء بل هَذَا مَا لم ينْسبهُ إِلَى أحد من رُؤَسَاء المخلوقين حَتَّى تفاحشت الْبدع ورذلت حَتَّى تكلم فِي مهمات قَوَاعِد الْإِسْلَام بالآراء والأوهام وَضربت فِيهَا المقاييس والأمثال وتجارى فِيهَا أهل الاهواء مجاراة المتنافسين وتجاروا على ذَلِك مجاراة المتعادين فَظن بَعضهم أَن هَذَا لَيْسَ بِصفة نقص عقلا مَعَ موافقتهم على أَن الْكَذِب صفة نقص عقلا وَالْكذب دون هَذَا النَّقْص بِكَثِير لَا سِيمَا الْكَذِب النافع ثمَّ تجاسروا بعد ذَلِك على تجويزه على الله تَعَالَى ثمَّ ادعوا وُقُوعه من الله تَعَالَى

وَاعْلَم أَنه لَا استبعاد أَن يُعَاقب الله تَعَالَى بذلك فِي الْآخِرَة من جوز عَلَيْهِ التَّكْلِيف بالمحال الَّذِي لَا يُطَاق كَمَا صَحَّ أَن يُقَال للمصورين يَوْم

ص: 333

الْقِيَامَة أحيوا مَا خلقْتُمْ وَأَن الْكفَّار يؤمرون بِالسُّجُود ويحال بَينهم وَبَينه فَلَا يَسْتَطِيعُونَ بل مجوز ذَلِك على الله تَعَالَى فِي دَار التَّكْلِيف أولى بِهَذِهِ الْعقُوبَة لما ثَبت عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا أَن الله تَعَالَى يَقُول أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي فليظن بِي مَا يَشَاء وَلما ثَبت من مُنَاسبَة الْعُقُوبَات للمعاصي حَتَّى أَن من تردى من جبل فَهُوَ يتردى فِي النَّار من جبل وَمن طعن نَفسه بحديدة فَهُوَ يطعنها فِي النَّار بحديدة وَحَتَّى رأى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله امْرَأَة حبست هرة حَتَّى قتلتها والهرة تنهشها فِي النَّار وَحَتَّى ثَبت أَن الله تَعَالَى يَقُول أَلَيْسَ عدلا مني أَن أولى كلَاما تولى فَيَقُول الْخلق بلَى فَيرى كل عَابِد لغير الله معبوده ويأمره باتباعه حَتَّى يوردهم النَّار ويمثل لمن عبد عِيسَى صُورَة عِيسَى عليه السلام وَأَمْثَاله من الصَّالِحين كَذَلِك وَحَتَّى قيل للمصورين أحيوا مَا خلقْتُمْ وَحَتَّى يكفر من قَالَ الآخر يَا كَافِر وَلَيْسَ كَذَلِك ويعفى يَوْم الْخَمِيس والاثنين عَن كل مُسلم إِلَّا المتهاجرين حَتَّى يصطلحا لِأَنَّهُمَا أختارا عدم الْعَفو مذهبا وَنَحْو ذَلِك فليحذر من هَذِه الْعقُوبَة الْخَاصَّة مَعَ سَائِر أَنْوَاع الْعَذَاب صَاحب هَذَا الْمَذْهَب بل يحذر من أَهْون من هَذَا وَهُوَ أَن يناقشه الله تَعَالَى الْحساب على جَمِيع مَا أقدره عَلَيْهِ ومكنه مِنْهُ وَلَا يسامحه فِي قَلِيل وَلَا كثير وَيَقُول لَهُ أَنْت جوزت مني تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وظننت ذَلِك فِي فَلَا أقل من أَن أحاسبك على التَّكْلِيف الَّذِي لَا يُطَاق وَلَا أسامحك بِشَيْء مِنْهُ وَفِي ذَلِك هَلَاكه كَمَا ثَبت ذَلِك فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عَائِشَة رضي الله عنها عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَآله أَنه قَالَ (من نُوقِشَ الْحساب عذب وشواهده مَعْلُومَة) وَكفى بقول الله تَعَالَى {وَلَو يُؤَاخذ الله النَّاس بِمَا كسبوا مَا ترك على ظهرهَا من دَابَّة} وَفِي آيَة أُخْرَى {مَا ترك عَلَيْهَا}

الْوَجْه الثَّانِي أَن الله لم يعلم أَبَا لَهب بذلك بِالنَّصِّ وَلَا ظَاهر الْقُرْآن يَقْتَضِي ذَلِك أَيْضا وَإِنَّمَا أعلم رَسُوله صلى الله عليه وسلم وَآله بذلك فَمن أَيْن أَن أَبَا لَهب علم ذَلِك يَقِينا وَالله قَادر على أَن لَا يُعلمهُ ذَلِك لتزداد الْحجَّة عَلَيْهِ وَقد ذكر هَذَا ابْن الْحَاجِب وَقَالَ أَنه مثل إِعْلَام نوح عليه السلام أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن

ص: 334

الْوَجْه الثَّالِث أَنه وَإِن علم ذَلِك فانه خَارج مخرج الْوَعيد لَا مخرج الاخبار الْمَحْض وَالْفرق بَينهمَا وَاضح فان الْوَعيد مَشْرُوط بِعَدَمِ التَّوْبَة مثل وَعِيد جَمِيع الْكَافرين

الْوَجْه الرَّابِع أَنه لَا مَانع من أَن يكون الْخَبَر وَالْقَضَاء وَالْقدر وَالْكِتَابَة فِي مثل ذَلِك مَشْرُوطَة وَيكون مِمَّا يجوز أَن يدْخل فِي قَوْله تَعَالَى {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت وَعِنْده أم الْكتاب} وَيدل عَلَيْهِ حَدِيث لَا يرد الْقَضَاء إِلَّا الدُّعَاء رَوَاهُ الْحَاكِم وَفِي الْبَاب عَن معَاذ وَعَائِشَة وَأبي هُرَيْرَة ذكرهَا الهيثمي وَرُوِيَ عَن أبي قلَابَة عَن ابْن مَسْعُود رضي الله عنه أَنه كَانَ يَقُول اللَّهُمَّ إِن كنت كتبتني فِي أهل الشَّقَاء فامحني وأثبتني فِي أهل السَّعَادَة وَقَالَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَرِجَاله رجال الصَّحِيح إِلَّا أَن أَبَا قلَابَة لم يدْرك ابْن مَسْعُود وَهَذَا بَاب وَاسع وَقد ذكره الْغَزالِيّ وَغَيره فِي الْجَواب على مَا من قَالَ مَا فَائِدَة الدُّعَاء وَالْعَمَل مَعَ سبق الاقدار وجوده ابْن قيم الجوزية فِي الْجَواب الْكَافِي ونقلته فِي العواصم وزدت عَلَيْهِ زيادات مفيدة

الْوَجْه الْخَامِس أَنه لَيْسَ فِي الْخَبَر أَنه لَا يُؤمن فَيجوز أَبُو لَهب فِي نَفسه حِين يسمعهُ أَن يكون لَو آمن من الْمُؤمنِينَ العصاة وَأَن يدْخل النَّار بذلك ويطمع فِي الْعَفو بعد دُخُولهَا على الاصل فِي حسن ذَلِك عقلا أَو لسماعه أَن السّمع ورد بذلك فانه لَا مَانع من ذَلِك فاذا جوز أَبُو لَهب وَمن فِي حِكْمَة هَذِه الْأُمُور أَو بَعْضهَا قَامَت عَلَيْهِ الْحجَّة والعذر الْحق الَّذِي هُوَ سنة الله تَعَالَى فِي عدله وحكمته يَوْم الْقِيَامَة فَكيف مَعَ هَذِه الْأُمُور واحتمالها يجوز للعاقل أَن يقطع على أَن تَكْلِيف الْمحَال قد وَقع والتقول على الله بِمَا لم يقل كالكذب عَلَيْهِ والتوصل إِلَى ذَلِك بالشبه الواهيات صَنِيع المخذولين من أهل الضلالات فان الاجتراء على الابتداع فِي الدّين ذَنْب عَظِيم وَرُبمَا أدّى صَاحبه إِلَى الْكفْر وَالْعِيَاذ بِاللَّه وَهل ذَلِك إِلَّا كالاحتجاج على تَجْوِيز الْوَلَد بقوله تَعَالَى {قل إِن كَانَ للرحمن ولد فَأَنا أول العابدين} مَعَ وجود النُّصُوص الجمة على بطلَان ذَلِك وتعظيم تقبيحه بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى

ص: 335

{وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا لقد جئْتُمْ شَيْئا إدا تكَاد السَّمَاوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدا} الى آخر الْآيَات وَلَو سلمنَا أَن النُّصُوص تَعَارَضَت فِي مثل هَذِه الْمَسْأَلَة كَانَ الْوَاجِب على الْعَالم أَن يرجح مِنْهَا الْمُحكم الْمُوَافق الاكثر ثَنَاء على الله تَعَالَى ومدحا لله تَعَالَى ومناسبة لاسمائه الحميدة المحكمة الْحسنى لقَوْله تَعَالَى {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} وَقَوله تَعَالَى {الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه أُولَئِكَ الَّذين هدَاهُم الله وَأُولَئِكَ هم أولُوا الْأَلْبَاب} فَمَا الْمُوجب لترجيح تَشْبِيه أَفعَال أحكم الْحَاكِمين بِأَفْعَال المجانين والاطفال حِين لَاحَ لذَلِك أدنى خيال وَتَقْدِيم أَضْعَف الأوهام وَأبْعد الِاحْتِمَالَات والجزم بِوُقُوع ذَلِك دون نقيضه الَّذِي هُوَ مَنْطُوق بِهِ فِي نُصُوص الْقُرْآن الصادعة مَعْلُوم احكامه واثباته فِي الْبَرَاهِين القاطعة دَاخل فِي الْأَسْمَاء الْحسنى غرَّة فِي الْحَمد والمدح وَالثنَاء وأعجب من ذَلِك كُله الْمُحَافظَة من الْغَزالِيّ على الْوَصِيَّة باعتقاد ذَلِك لأهل الْجمل فِي الِاعْتِقَاد من المتعبدين والزهاد وَالَّذين لم يعرفوا الْخلاف فِي دقائق الْكَلَام مَعَ نهي الْغَزالِيّ عَن علم الْكَلَام وَذكر مساويه وَمَا يُؤَدِّي اليه الْخَوْض فِيهِ لِأَنَّهُ ذكر هَذَا فِي الرسَالَة القدسية من مُقَدمَات الاحياء الَّذِي بَالغ فِيهِ فِي ذمّ علم الْكَلَام لما جر اليه من الْبدع فاي بِدعَة بديعة ومحدثة شنيعة أبدع وأشنع من وَصِيَّة الزهاد وَالصَّالِحِينَ من عوام الْمُسلمين باعتقاد ذَلِك فِي أحكم الْحَاكِمين وأرحم الرَّاحِمِينَ وإيهامهم أَن اعْتِقَاده من الْفَرَائِض الْمُؤَكّدَة فِي دين الله تَعَالَى وان من لم يعْتَقد ذَلِك كَانَ على أعظم خطر من عَذَاب الله وَلَقَد مضى أَكثر عمر الدُّنْيَا على مَالا يُحْصى من الظلمَة والفجرة والفسقة والكفرة وَالْخُلَفَاء والسفهاء فَمَا علم أَن أحدا مِنْهُم فعل ذَلِك على الْوَجْه الَّذِي جوزه الْمُخَالف على الله تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَإِنَّمَا كَانُوا يعاقبون من لَا ذَنْب لَهُ لحاجتهم إِلَى تَحْصِيل الاموال أَو لدفع المضار أَو لمجموعهما أَو تشفيا من عَدو مُضر انتصافا مِنْهُ ونقما للثأر وَنَحْو ذَلِك مِمَّا ألف وَعرف من عادات الْفجار وَهَذَا أَيْضا غير تَكْلِيف الْمحَال إِنَّمَا هَذَا أنزل المضار مِمَّن لَا يَسْتَحِقهَا وَأما ان أحدا من جَمِيع مَا ذَكرْنَاهُ من أَنْوَاع الاشرار

ص: 336

وجد مَرِيضا لَيْسَ بَينه وَبَينه عَدَاوَة وَلَا لَهُ فِي تعذيبه حَاجَة أَلْبَتَّة وَلَا غَرَض لَهُ وَلَا دَاعِي وَلَا لَهُ ذَنْب وَلَا عَلَيْهِ حجَّة فَأمر بتكليفه حمل الْجبَال أَو مَا لَا يُطيق من الاحمال ومسابقة الرِّيَاح والحيل السَّابِقَة فان لم يفعل مَا لَا يُطيق من ذَلِك عذب أَشد الْعَذَاب وعوقب أفحش الْعقَاب فَمَا كَانَ هَذَا من فَاجر وَلَا كَافِر وَلَا خليع وَلَا سخيف وَلَا يجوز أَن يكون مِنْهُم وَلَو فعل مَخْلُوق لَكَانَ الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي يشْتَد عَلَيْهِ غَضَبه وَسخطه ويتولى عُقُوبَته وملامته وإذاقته أعظم الخزي الهوان والمقت والفضوح فَكيف ينْسب جَوَاز ذَلِك بل وُقُوعه وتجويز أفحش مَا يكون من جَمِيع أَنْوَاعه الْفَاحِشَة إِلَى الْملك الْعلي الحميد الصَّمد الْمجِيد السبوح القدوس الَّذِي كره ذَلِك وَسخطه وَحرمه ويعادي على أقل مِنْهُ كل جَبَّار عنيد وَقَالَ فِي كِتَابه الْمجِيد {وَمَا رَبك بظلام للعبيد} وَقَالَ على لِسَان رَسُوله صلى الله عليه وسلم وَآله يَا عبَادي إِنِّي حرمت الظُّلم على نَفسِي وَجَعَلته محرما بَيْنكُم فَلَا تظلموا كَمَا رَوَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح عَن حَدِيث أبي ذَر الْغِفَارِيّ رضي الله عنه

وَمن الشّبَه فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَإِذا خفت عَلَيْهِ فألقيه فِي اليم وَلَا تخافي وَلَا تحزني} قَالُوا فَحرم عَلَيْهَا الْخَوْف والحزن فِي هَذِه الْحَال وكلفها اعدامهما عَن قَلبهَا وَهِي لَا تَسْتَطِيع ذَلِك

وَالْجَوَاب أَن النَّهْي هُنَا لم يرد للتَّحْرِيم فقد ذكر السُّبْكِيّ فِي جمع الْجَوَامِع للنَّهْي ثَمَانِيَة معَان أَحدهَا بَيَان الْعَاقِبَة كَمَا فِي هَذِه الْآيَة الشَّرِيفَة وَذَلِكَ أَن النَّهْي فِيهَا إِنَّمَا ورد للبشرى بِوُقُوع مَا لَا يَنْبَغِي عِنْده الْخَوْف والحزن فانه مقَام تكريم لَا مقَام تَكْلِيف وَلذَلِك عقبه بقوله {إِنَّا رادوه إِلَيْك وجاعلوه من الْمُرْسلين} وَهَاتَانِ بشارتان عظيمتان مِمَّن علمت صدقه فِي كل خبر وَقدرته على كل شَيْء واحاطة علمه بِكُل غيب فَهِيَ تقَابل مَا فِي طبعها البشري مَعَ مَا ذكره الله تَعَالَى بعد ذَلِك من ربطه على قَلبهَا

يُوضحهُ أَنه مقَام لطف وتشريف لَا مقَام تحريج وتعنيف وَلَو سلمنَا أَنه نهي تَحْرِيم لوَجَبَ فِي حِكْمَة الله تَعَالَى وعوائده مَعَ عباده الْمُؤمنِينَ

ص: 337

أَن يُمكنهَا من مفارقه مَا نهاها عَنهُ كَمَا ذكره وَابْن عَبَّاس رضي الله عنه فِي تَكْلِيف الْوَاحِد بِقِتَال عشرَة أَنهم لَو صَبَرُوا عَلَيْهَا لطوقوها رَوَاهُ البُخَارِيّ وَلَو سلمنَا أَن ظَاهر التَّحْرِيم توجه إِلَى مَا لَا يُطَاق لوَجَبَ تَأْوِيله لوضوحه لِأَنَّهُ متشابه على مَا يُوَافق الْمُحكم الَّذِي هُوَ أم الْكتاب كَمَا ثَبت فِي تَحْرِيم النِّيَاحَة أَنه لَا يُؤَاخذ بِمَا كَانَ من الْعين وَالْقلب فَثَبت أَن سلمنَا أَنه للتَّحْرِيم أَن المُرَاد النَّهْي عَن الاسترسال مَعَ الطبيعة البشرية ومقابلتها ومدافعتها بِمَا علمنَا الله تَعَالَى من نَحْو قَوْله {وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم} وتذكير عَظِيم ثَوَابه وخفي ألطافه وَصدق مواعيده وَأَنه كاشف الكروب علام الغيوب وَمَا يحصل بِهِ الرِّضَا لدوّنَ أم مُوسَى

وَقد ذكر بعض الْمُفَسّرين نَحْو هَذَا الْوَجْه الثَّالِث فِي تَفْسِير {خلق الْإِنْسَان من عجل سأريكم آياتي فَلَا تَسْتَعْجِلُون} فَقَالَ أَنهم أقدروا ومكنوا من مدافعه الطبيعة المخلوقة فَلذَلِك نهوا عَن الاستعجال وَقد خلقُوا على هَذِه الطبيعة كَمَا أَن الْمَخْلُوق على طبع الشُّح مَأْمُور باخراج الزَّكَاة مُمكن من ذَلِك فانه يتَصَرَّف فِي شهواته أضعافها

وَإِنَّمَا ذكرت مثل هَذِه الْأَشْيَاء على جِهَة التَّقَرُّب إِلَى الله وَإِلَّا فجوابها لَا يخفى على أهل الممارسة للْجمع بَين المتعارضات ورد الْفُرُوع الى الْأُصُول والمظنون إِلَى الْمَعْلُوم

ص: 338